لقاء مع الربّ

لقاء مع الربّ

سفر التكوين 28/1

الحلقة 50:

فدعا إسحق ابنه يعقوب وباركه وقال له... وكلّ ما يهبه لي أعطيه عشره.

ماذا بعد هذه البركة التي نالها يعقوب وما فعله عيسو كردّة فعل على البركة. هنا نرى ثلاثة أشخاص مع شخص يسيطر على الجميع هو الله. الشخص الأوّل هو إسحق يدعو يعقوب ويوصيه بعدما يئس من عيسو الذي تزوّج إبنتين حثّيّتين بانتظار أن يتزوّج محلى إبنة إسماعيل. الشخص الثاني هو عيسو أيضاً ستكون له ردّة فعل نكاية بأبيه ولكنّه في الواقع هو الذي يتمادى أوّلاً في الشرّ ثلاث نساء ثمّ أصبحن أربعة أو خمسة، يتمادى في الغرق في عالم كنعان وما فيه من عبادة أوثان وخصوصاً ما فيه من شرّ من عبادة ؟ الواحد. أمّا المشهد الثالث فهو مع يعقوب الذي كان في بئر سبع والذي مضى في كلّ أرض فلسطين حتّى وصل إلى بيت إيل وسيتابع الطريق. لكن يعقوب ستكون له خبرة جميلة جدٌّا. الخبرة الأولى مع الله قبل أن يترك فلسطين، قبل أن يترك أرض الموعد، ها هو الربّ عليه، سيظهر الربّ عليه. الربّ حاضر في البداية وهو حاضر في النهاية. حاضر معه حين ترك أرض الموعد أرض فلسطين، وحاضر معه حين يعود إلى أرض الموعد، إلى أرض فلسطين، فكأنّ هذه الأرض تخصّ الله وهو يعطيها لمن يريد، لمن يشاء. نحن هنا أحبّائي أمام نظرة تأمّليّة. في الواقع يعيش العبرانيّون في فلسطين فيعتبرون أنّ فلسطين هي عطيّة من الربّ لهم. إذًا على أيّ حال كلّ شعب يمكن أن يقول: »أنا في هذه الأرض، هذه الأرض هي عطيّة من الربّ إليّ. ونعود إلى المشاهد الثلاثة:

المشهد الأوّل يقول النصّ يبدأ هكذا: فدَعا إسحق ابنه يعقوب وباركه وأوصاه«. دعاه كأّني به يسلّمه الرسالة التي كانت بين يديه. تسلّم إسحق الرسالة من إبراهيم، رسالة عبادة الله الواحد، وهو يسلّمها إلى يعقوب، إنتهت مهمّته، شاخ ويقول له: ها أنا أباركك قبل أن أموت. فكأنّي بهذا الكلام الذي قاله إسحق لابنه يعقوب، كأنّي أمام وصيّة: دعاه، باركه، يعني إذ تنزل عليه خيرات الله، بركات الله، وأوصاه كأنّي به يرسله. ما الذي تضمّنته وصيّة ليعقوب، وصيّة واحد لا غير هي: لا تتزوّج من بنات كنعان. كان العبرانيّون يخافون جدٌّا من ممارسات العبادة في كنعان، هي أعياد فيها السكر، فيها الخمر، فيها البغاء المكرّس، فيها الزنى بجانب المعابد، تعبيرًا عن التقاء السماء والأرض، إذًا فيها العيد الذي كان يجتذب بني إسرائيل إلى أعياد الكنعانيّين مع الاحتفالات والزيّاحات والتطوافات والألوان المزركشة. أمّا العيد في الشعب العبراني، فكان مجرّد، فالله نفسه لا يرى، هو مخفيّ في قدس الأقداس، مع ستار وراء ستار، إذا كان بنو إسرائيل مجتذبين إلى بني كنعان، إلى أعياد أهل كنعان. وإن ذهبوا إلى عيد من أعيادهم فهم يريدون أن يجعلوا فيه بعضاً من عبارات كنعان. لهذا السبب يشدّد الكاتب عن أهميّة الابتعاد عن بنات كنعان، لماذالله لأنّ الأمّ هي التي تربّي ابنها، الأم هي التي تعلّم ابنها مبادئ ديانته، الأمّ هي التي تعطي ابنها اللغة، يسمّونها لغة الأمّ. إذا كان ليعقوب امرأة من بنات كنعان يعني يصبح أولاده متخلّقين بأخلاق أهل كنعان وخصوصاً هذه العبادات بما فيها من زنى وغيره من الأمور. إذا وصيّة واحدة فإن تبع يعقوب هذه الوصيّة، كانت له البركة. يباركك الله، يُنميك يُكثرك وتكون عدّة شعوب وهكذا يلتقي يعقوب من جهة ثانية بإبراهيم. على أيّ حال تقول الآية 4 ويعطيك بركة إبراهيم لك ولنسلك من بعدك. إذا ما أعطي لإبراهيم يعطي من جديد ليعقوب شرط أن يكون أمينًا. نتذكّر هنا إذا أردنا الإنجيل لمّا يقول يسوع: أنتم في هذا العالم ولستم من هذا العالم. هذا ما عاشه آباء الشعب العبراني منذ البداية. هم يعيشون في أرض كنعان وإن هم لا يتخلّقون بخلق كنعان وإن هم تخلّقوا بخلق كنعان صاروا كما المسيحيّ يتخلّق بأخلاق العالم. فيفضّل العنف على الوداعة والغنى على الفقر للروح وينسون محبّة السلام والجوع والعطش إلى البرّ إلخ... يباركك الله القدير وينمّيك ويكثرك وتكون عدّة شعوب. نستطيع أن نقول إنّ هذا كان موجّهًا إلى عيسو ولكنّ عيسو خسره. وأراد أن يزيد الخسارة خسارة فماذا فعل، بدل من أن يعود إلى نفسه ويتذكّر كلام أبيه الذي قاله ليعقوب وبالأكيد قاله له أيضاً. لمّا رأى عيسو كلّ ما حدث كيف أنّ أباه بارك إسحق، أرسل إسحق، أوصاه. وأن يعقوب سمع لأبيه وهذا أكبر خطأ عمله بنظر إسحق سمع لأبيه وأمّه. أدرك عيسو بأنّ والده لا يريد هذا ففعل غصبًا عن أبيه ونكاية بأبيه. أخذ امرأة ثلاثة من بنات الكنعانيّين. صوت الأهل، صوت الذين يهتمّون يلتقي مع صوت الله، مع صوت الله، فالله يحدّثنا مرّات عديدة من خلال أهلنا، ومن خلال الظروف. سمع يعقوب لأبيه وأمّه. وهذه فضيلة كبيرة وهذا مديح كبير، أراد عيسو أن يجعل منه مذمّة. هو سمع من أمّه وأبيه وكأنّه ما زال قاصرًا. ونصل إلى الشخص الثالث، إلى يعقوب. إنطلق من الجنوب، من بئر سبع، متوجّهًا إلى حاران يعني شمال العراق. اليوم حاران هي في تركيا. يقول الكتاب وصل عند غياب الشمس إلى موضع رأى أن يبيت فيه. فأخذ حجرًا من حجارة الموضع ووضعه تحت رأسه ونام هناك فحلم. نلاحظ مرّات عديدة أنّ الكتاب يريد أن يحدّثنا عن لقاء بني الإنسان وبني الله. ولكنّه لا يستطيع أن يجعل الإنسان والله وجهًا لوجه. ماذا يفعل يأخذ فنٌّا أدبيٌّا خاصّا وهو الملائكة. مثلاً بالبشارة أرسل الله جبرائيل الملاك إلى عذراء مخطوبة. عمليٌّا هو الله يطلب من مريم العذراء أن تكون أمّ ابنه. كذلك في الهيكل زكريّا رأى الملاك. وهناك صورة ثانية، هناك الحلم، يعني في الحلم نحسّ بحضور الله، ولا نراه بعيوننا ووعينا. لكن نفهم حقٌّا أنّ الربّ بهذه الطريقة يكلّمنا. هذا ما حدث بالنسبة ليوسف: »يا يوسف ابن داوود لا تخف في أن تأخذ مريم امرأتك«. فالربّ يحدّثنا من خلال ظلام الليل، عتمة الليل، صمت الليل، سكوت الليل. وهنا رأى يعقوب رؤيا وسمع كلامًا. ماذا كان في الرؤيا، سلّمًا منصوبًا على الأرض ورأسها إلى السماء. يعني تمّ الاتصال بين الإنسان وبين الله. بين يعقوب وبين الله. الملائكة تصعد وتنزل كأنّها تهيّئ الطريق ليلتقي يعقوب بالله والله بيعقوب. ويقول بأنّ الله بقي واقفًا على السلّم كأنّه يدعو يعقوب إلى أن يصعد السلّم ويكون معه. وكان من بعد هذه الرؤيا، كان الكلام: أنا الربّ إله إبراهيم أبيك وإله إسحق. سيقول يسوع في الإنجيل، ليس الربّ إله أموات بل إله أحياء، وإن ذكر إله إبراهيم وإله إسحق بيّن تواصل مشروع الله. ومشروع الله لا يتوقّف على مستوى أرض فلسطين، أرض الموعد، بل يذهب أبعد من ذلك. يقول: يكون نسلك كتراب الأرض، أبناء إبراهيم، أبناء داوود هم أبناء الإيمان. ولهذا يقول ينتشر هذا النسل غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا ويتبارك بك وبنسلك جميع قبائل الأرض. لا شكّ أنّ بركة يعقوب محدودة حتّى أولاده وحتّى أحفاده. أمّا البركة التي تصل إلى جميع قبائل الأرض والتي تنتشر غربًا وشرقًا وشمالاً وجنوبًا، هذه البركة لا يمكن إلاّ أن تأتي من يسوع المسيح الذي هو إبن إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسائر الآباء، وما هي العلاقة أنّ الله هو هنا، أنّ الله يرافق يعقوب قال آية 15: »أنا معك«. كلّ مرّة يدعو إنسانًا، يدعو الله إنسانًا في الناس يقول »أنا معك«. لا أتخلّى عنك، أحفظك لا شكّ نستطيع أن نقرأ في هذا النصّ ذهاب الشعب العبراني سنة 587 إلى المنفى. فالربّ يقول »أحفظك أينما اتّجهت وسأردّك إلى هذه الأرض فلا أتخلّى عنك حتّى أفي ك بكلّ ما وعدتك. أجل الشعب العبراني تشتّت في بلاد الرافدين ولكنّه عاد جماعة روحيّة حول الهيكل. إذًا من خلال مشهد فردي، من خلال رؤيا فرديّة وصلنا إلى الشعب العبراني الذي عاش جدّه إبراهيم ما سيعيشونه هم بعد ربّما ألف سنة ونيّف. سيعيشون هم ما عاشه هو. فأفاق يعقوب من نومه. هذا ما حدث أيضاً بالتلاميذ الثلاثة عند التجلّي. عند التجلّي أفاق بطرس ويعقوب ويوحنّا، حسن أن نصنع ثلاث مظال. بالوقت الحاضر لا يستطيع الإنسان أن يتّخذ موقفًا. كلّ مكان قال يعقوب بآية 17 فخاف وقال: ما أرهب هذا الموضع هو بيت الله، باب السماء، لهذا السبب سيسمّي هذا المكان بيت إيل يعني بيت الله. فهم يعقوب أنّ الربَّ هو الذي كان هناك وسيفهم مثله بطرس لمّا كان في السجن أعمال فصل 12 بعد أن نجا من السجن قال الآن علمت أنّ الربَّ أرسل ملاكَه فنجّاني من كلّ ما يتربّص بي اليهود. ويعقوب من بعد الرؤيا فهم أنّ الربّ هو الذي ظهر عليه، أنّ الربّ هو في هذا الموضع. لهذا اعتبر الموضع الذي هو فيه بيت الله وباب السماء. وماذا فعل يعقوب لكي يخلّد ذكرى هذا المكان، الحجر الذي كان تحت رأسه جعله عامودًا، صبّ عليه زيت، مسحه بالزيت ليكرّسه للربّ. ساعتئذٍ كلّ من يمرّ من جانب هذا العامود، يسأل فيُخبر بالخبرة الروحيّة التي عاشها يعقوب. يُخبر بهذا اللقاء الجميل الذي كان ليعقوب قبل أن يترك أرض فلسطين. هنا أيضاً نتذكّر ما قاله أشعيا قبل أن تسقط أورشليم 597 ويذهب الذاهبون إلى المنفى. قال: ترك حضور الربّ الهيكل، هيكل أورشليم، وقف على الجبل يعني جبل الزيتون شرقيّ أورشليم ولمّا مضى المنفيّون، مضى الربّ معهم. ونستطيع القول هنا، لمّا ترك يعقوب أرض فلسطين، ظهر إله الربّ ووعده بأنّه يرافقه: أنا أكون معك، أحفظك، أردّك لا أتخلّى عنك.

يا ليت لنا مثل هذا الإيمان، في مسيرتنا، في مشاريعنا، في صعوباتنا، فانتهى المشهد وقال يعقوب إن كان الربّ معي وحفظني في هذه الطريق التي أسلكها ورزقني خبزًا آكله وثيابًا ألبسها ورجعت سالمًا إلى بيت أبي، يكون لي الربّ إلهًا. هذا هو النذر الذي قدّمه يعقوب للربّ، النذر ليس شرطاً، النذر هو نوعًا ما استسلام بين يدي الله الذي سيفعل إذا نحن شئنا أن يفعل وكلّ ما يطلبه أوّلاً الحماية من أخطار الطريق، الطعام واللباس والعودة سالمًا. على كلّ حال كان الربّ قد قال في آية 15 أنا معك أحفظك أينما اتّجهت أردّك إلى هذه الأرض فلا أتخلّى عنك. وهكذا دخل يعقوب أيضاً في هذا العهد الذي بدأ مع إبراهيم في عهد مع الله وهذا الله هو الذي يوجّه حياته فيستسلم يعقوب إلى مشيئة الله إلى حضور الله، إلى بركة الله. هذا أحبّائي هو معنى اللقاء الأوّل بين الربّ وبين يعقوب. لقاء الأوّل قبل أن يذهب يعقوب إلى أرض حاران. هو سيترك الأرض. هل سيتركها بشكل نهائيّ فكأنّ وعد إبراهيم صار باطلاً، صار كلا شيء. كلاّ، فالربّ حاضر هنا وهو الذي ظهر له، وكأنّي به يقول أنت تمضي ولكن أنا أردّك إلى هذه الأرض. يبقى أنّ مسيرتنا مع الربّ هي عمل إثنين: الله أوّلاً فله كلّ مبادرة ثمّ نحن نتجاوب مع مبادرة الله. يا ليتنا في مشاريعنا ننطلق ببركة الله، نرفع صلاة إليه وهو يحضر معنا ويقول لنا: أنا معك أحفظك أينما اتّجهت، يا ليتنا نسمع له، نسلّمه أمورنا وهو يفعل. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM