لقاء يوسف وإخوته

لقاء يوسف وإخوته

الحلقة 63:

نتابع قراءة سفر التكوين ونتعرّف على اللقاء بين يوسف وإخوته، وكيف سيكون؟

هناك إمكانيات عديدة:

- الإمكانية الأولى والبشريّة المحضة: هي الإنتقام:

سيأتون إليه جائعين فينتقم منهم شرّ انتقام بعد أن أبغضوه وباعوه بيع العبيد.

- الإمكانية الثانية هي المغفرة والمغفرة تكون في خطين: إمّا أن يغفر حالاً فيعرّف نفسه إلى إخوته وتعود الأمور إلى ما كانت عليه. ولكنّ الملهم يتخذّ الخطّة الثانية. كما مرّ يوسف في الألم كذلك يجب على الإخوة أن يمرّوا في الألم. لن يكون الغفران »بكبسة زرّ«، كما نقول، فالغفران يمرّ في الألم، يمرّ في العذاب، يمرّ في الهمّ، يمرّ في الصعوبة، وخصوصاً يستعدّ كلّ أخٍ من الأخوة أن يضحّي بحياته من أجل إخوته. هكذا فعل يوسف هكذا سيفعل يهوذا بالنسبة إلى »بنيامين« وهكذا على جميع الإخوة أن يفعلوا وإلاّ لن يستطيعوا أن يصلوا إلى السعادة. فالمجد يمرّ في الألم. إذًا نقرأ 42/1: »اللقاء بين يوسف وإخوته«.

»فلما رأى يعقوب أنّ القمح موجودٌ في مصر قال لبنيه: ما بالكم تنظرون بعضكم إلى بعض، وقال سمعت أن القمح موجودٌ في مصر، فانزلوا إلى هناك واشتروا لنا فنحيا ولا نموت. فنزل عشرةً من إخوة يوسف ليشتروا قمحًا من مصر. أمّا »بنيامين« أخو يوسف فلم يرسله يعقوب مع إخوته لأنّه قال في نفسه ربّما أصابه أذى.

فجاء بنو إسرائيل من جملة من جاء ليشتروا قمحًا لأنّ الجوع كان في أرض كنعان. وكان يوسف هو الحاكم في أرض مصر. فكان يبيع القمح لجميع الشعوب. فأقبل إخوة يوسف وسجدوا له بوجوههم إلى الأرض. ولمّا رأى يوسف إخوته عرفهم فتنكّر لهم وكلّمهم بجفاء وقال لهم: »من أين جئتم؟ قالوا من أرض كنعان لنشتري طعامًا«.

في المقطع الأوّل الذي قرأناه، أحبّائي، نلاحظ موقف يعقوب الذي أرسل أولاده إلى هناك بسبب الجوع. هنا نفهم أنّ الجوع هو أحد الوسائل التي بها يخطط الله، أو ينفذ مخططه. لولا الجوع لما ذهب إخوة يوسف إلى مصر ولمّا التقوا هناك أخاهم. الشيء الذي نلاحظه في هذا المقطع وهو مهمّ جدٌّا هو أنّه يقول »يوسف هو الحاكم في أرض مصر«. وبما أنّه الحاكم سيأتي إخوته ويسجدون له بوجوههم إلى الأرض. هكذا كانوا يفعلون أمام الملوك. وهنا تبدأ أحلام يوسف تتحقّق. قال: »رأيت الشمس والقمر ساجدين لي والأحد عشر كوكبًا«. هنا بدأوا »فسجدوا له«. ونلاحظ طريقة يوسف هي طريقة الحكماء في أرض العبرانيّين، طريقة الحكماء في تربية الإنسان شيئًا فشيئًا. تربيته على الألم على الصعوبات قبل النجاة، قبل الرفعة والمجد. يقول النص في آية 7: »فلمّا رأى يوسف إخوته عرفهم«. لا شك هم لا يستطيعون أن يعرفوه، باعوه وهو صغير، كان في العبوديّة، كان في السجن، هو الآن ملك، مستحيل أن يكون هذا أخاهم، هو عرفهم ولكنّه لم يسمح لهم بأن يتعرّفوا إليه، بهذا يقول النص »تنكّر لهم«. أراد ألاّ يكون معروفًا لهم، أن يكون نكرة، ألاّ أبدًا يشكّوا ثانية واحدة أن هذا هو أخاهم. عرفهم يوسف ولهذا سوف يتصرّف شيئًا فشيئًا فيوجّه الأحداث للوقت المناسب، لكي يعرّفهم بنفسه.

فإذًا أوّلاً ما سمح لهم أن يعرفوه، وزاد على ذلك أنّه كلمهم بجفاء. فلا علاقة أخوّة، كلمهم كما يكلّم جميع الناس بل ربما زاد عليهم بعض جفائه. »من أين جئتم، قالوا من أرض كنعان لنشتري طعامًا«. وبدأت هذه المغامرة بين يوسف وبين إخوته، هل يستطيع أن يحوّلهم إلى ما يريده هو. »وعرف يوسف إخوته وأمّا هم فلم يعرفوه وتذكّر يوسف الأحلام التي حلمها بهم فقال لهم أنتم جواسيس جئتم لتعرفوا مواطن الضعف في البلاد. فقالوا له: لا يا سيدي جئنا نحن عبيدك لنشتري طعامًا. نحن كلّنا إخوة، نحن قومٌ شرفاء، لا جواسيس. فقال لهم كلاّ بل جئتم لتروا مواطن الضعف في البلاد. قالوا نحن يا سيدي إثنا عشر أخًا وبنوا رجل واحدٍ في أرض كنعان، أصغرنا اليوم عند أبينا والآخر مفقود«.

هنا 42 الآية 13 نقرأ فكرة سريعة عن هذه العائلة. إثنا عشر أخًا. أصغرنا اليوم عند أبينا هو »بنيامين« والآخر مفقود هو يوسف. نلاحظ أنّهم لا يقولون قد مات هو مفقود وسنلاحظ أنّ شخص يوسف سيبقى يشغل ضمير الإخوة، يوبّخ لهم ضميرهم لما فعلوا بأخيهم.

14. »فقال لهم يوسف بل مثل ما قلت لكم أنتم جواسيس وحياة فرعون لا خرجتم من هنا أو يجيء أخيكم الصغير إلى هنا. وبهذا أمتحمنك. فأرسلوا واحدًا منكم ليجيء بأخيكم وأنتم تحسبون حتّى نمتحن صدق كلامكم وألاّ فقسمًا بحياة فرعون أنتم جواسيس فحبسهم ثلاثة أيّام«. وهكذا كان السجن لهم كما كان له، سجنه طال سنوات ولكنّ سجنهم طال ثلاث سنوات. ولكنّهم قد يكونون عرفوا مرارة السجن بالنسبة إلى إنسانٍ يعيش في كنف والديه. وهنا الخبر يقفز قفزة ثانية يجب أن يأتي »بنيامين« إلى يوسف. وهكذا تجتمع العائلة كلّها.

42/18: »في اليوم الثالث قال لهم«. نلاحظ هنا في الكتاب المقدّس ثلاثة أيام، اليوم الثالث، اليوم الثالث، هو عادةً اللقاء بالربّ، اللّقاء بالربّ الذي سيكون أيضاً اللّقاء بالإخوة. هنا نتذكّر إبراهيم لمّا ذهب ليذبح إبنه إسحق، في سفر التكوين الفصل 22، في اليوم الثالث. وهنا في اليوم الثالث: »قال لهم يوسف أنا رجلٌ أخاف الله«. إذًا يوسف التقى بالربّ في صلاةٍ حميمة، وطلب منه ماذا يجب أن يفعل. أترى كانت ساعة صعفٍ في حياة يوسف فأراد أن يعاقب إخوته الذين باعوه، ربّما، والبشر هم خطأة، والبشر هم ضعفاء. وفكرة الإنتقام تسبق فكرة الصفح والغفران إذا لم يكن فينا روح الله، إذا لم نكن تعلّمنا ما صنعه يسوع من أجلنا ومن أجل خلاصنا نحن الخطأة، ربّما ما يكون هذا الأمر صحيحًا لا سيّما وأنّ يوسف يقول أنا رجلٌ أخاف الله. يعني أتصرّف لا تصرّف يستوحي البشر، بل تصرّف يستوحي الله. لا أريد أن أجعلكم في السجن لا أريد أن أنتقم، وسنعرف في ما بعد أن يوسف يلغي فكرة الإنتقام.

»أنا رجلٍ أخاف الله، إفعلوا ما أقوله لكم فتحيون«.

يعني تنجون من الموت. كأنّ يوسف أراد بوقتٍ من الأوقات أن يحكم عليهم بالإعدام بعد أن خطئوا خطأً كبيرًا بعد أن باعوا أخاهم وكأنّهم قتلوه. هم في شريعة البشر يستحقّون الموت، أمّا عند يوسف هذا الخائف الله فهو يجعلهم يمرّون في موتٍ من نوع آخر ليصلوا إلى حياةٍ من نوعٍ آخر. ويتابع النص فيقول: »إن كنتم شرفاء فواحدٌ يبقى في هذا الحبس، أمّا أنتم الآخرون فاذهبوا ومعكم قمحٌ يسدّ جوع أهل بيوتكم. وجيئوا بأخيكم الصغير إليّ ليتحقّق كلامكم ولا تموتون. فوافقوا على ذلك. وقال بعضهم لبعض: نعم أخطأنا إلى يوسف أخينا، رأيناه في ضيق ولمّا استرحمنا لم نسمع له، لذلك نزل بنا هذا الضيق«.

هذا المقطع مهمّ جدٌّا من أجل حياتنا. عادةً لما نصاب بضيقٍ، مرضٍ، موتٍ، خسارةٍ أو فشلٍ نبحث عن خطيئة في حياتنا، هذه الطريقة ليست الطريقة الفضلى، ليست جيّدة أبدًا، لأنّ الربّ لا يعاقب على كلّ شيءٍ نفعله، كلاّ. يقول القدّيس بطرس: يعطينا مهلة للتوبة. للعودة إلى الربّ. ولكن يبقى أن الألم، أنّ المرض يجعلاننا، نفهم أنّنا بشر، أننا ضعفاء، أننا خطأة، وأننا نحتاج أن نلتجىء إلى الربّ، إلى عونه، إلى حضوره، إلى مساعدته. وعندما نحسّ بخطأنا، نحسّ بضعفنا لا بدّ أن تظهر خطيئة كبيرة لتلك التي نقرأها هنا، كيف باع الإخوة أخاهم. »نحن أخطأنا إلى يوسف أخينا رأيناه في ضيق«. إذا هنا يصوّر الوضع الذي كان فيه يسف حين باعه الإخوة إلى الإسماعيليّين. »ولمّا استرحمنا لم نسمع له«. يعني نحن لا نستحق الرحمة. نتذكّر كلام الإنجيل إذا كنّا لا نغفر لا نستحقّ الغفران. وإخوة يوسف إسترحمهم أخوهم، طلب منهم الرحمة فرفضوها له. لذلك هم لا يستحقّون الرحمة، لذلك ينزل بهم هذا الضيق، هذا ما فعله يوسف فجعل إخوته يمرّون في الألم كما مرّ هو أيضاً.

الآية 22: »فأجابهم »رأوبين«: أما قلت لكم لا تخطأوا وتسيئوا إلى الولد؟، فلم تسمعوا. لذلك نحن الآن مطالبون بدمه«. لا شكّ كما قال سفر التكوين الفصل 4 حين قتل »قايين« »هابيل« الأرض تطالب بدم القاتل. وهنا العشرة هم قتلى، العشرة قتلوا أخاهم. لهذا الأرض، العدالة البشريّة تطالب بدم هذا الأخ، الذي قتلوه ولكن لسحن الحظ، هذا الأخ لم يَمُتْ. وهذا الأخ هو الحاكم المطلق ويستطيع أن يعاقب هؤلاء الإخوة بما يستحقّون ولكنّه لم يفعل. هذه عظمة الغفران. بعض المرات نغفر أو نجامل أن ننسى لأنّنا لا نستطيع أن ننتقم، لأنّنا أضعف من أن نستطيع الإنتقام. لكن العظمة هو أن نكون مقتدرين، أقوياء ونغفر، هنا العظمة، هنا حقيقةً نصبح على مستوى الله الذي يغفر دائمًا، قوّتنا ليس من أجل الإنتقام بل منم أجل الغفران. صدّقوني أحبائي، الغفران أصعب بكثير من الإنتقام، الإنتقام شيءٌ سهل، نترك الرغبة والشهوة والأندفاع البشري واللحم والدم، كلّ هذا يعمل ويكون الإنتقام وتكون الخسارة الكبيرة، نقتل نسرق... لكنّ يوسف مع قدرته ما أراد أن ينتقم. ويقول النص في الآية 23: »وما كانوا يعلمون أنّ يوسف يفهم لغتهم لأنّه كان يستعين بترجمان بينه وبينهم«. سبق وقلنا إنّ يوسف تنكَّر لهم، فأراد لهم أن يعرفوه، لهذا السبب، ماذا فعل؟ وضع فاصلاً، حاجزًا بينه وبينهم، هو حاجز اللّغة. كان بإمكانه أن يكلّمهم بلغتهم ولكنّه رفض، جعل الترجمان بينه وبينهم. عاملهم كما يعامل جميع الناس وما كانت له نظرة خاصّة إليهم. الآية 24: »فمال عنهم وبكى ثمّ عاد إليهم وكلّمهم«.

لماذا بكى يوسف؟ بكى يوسف بسبب عاطفته، عرف إخوته، هم لم يعرفوه أمّا هو فعرفهم. وبما أنّه عرفهم عملت فيه العاطفة ما عملت. ابتعد عنهم وبكى لألاّ يروا بكاءه ويحسبوه ضعفًا. بكاءه هو بكاء العاطفة، وبكى خصوصاً لأنهم بدأوا يفهمون الشر الكبير الذي عملوه. ويتابع النص: »وأخذ من بينهم شمعون وقيّده أمام عيونهم، وهكذا رأوا أخًا من إخوتهم يقيّد ويوضع في السجن«.

لا شكّ أنّ كلّ هذا سيساعدهم شيئًا فشيئًا على أن يفهموا ماذا فعلوا. كما يقول النص »إسترحمنا ولم نسمع له«، فلو كان الآن من استرحام ليكون هناك سماح. »وأمر يوسف رجاله أن يملؤوا أوعية إخوته قمحًا ويردّوا فضّة كلّ واحدٍ منهم إلى عدله. وأن يعطوهم زادًا للطريق ففعلوا«. لو أنّ قلوب الإخوة كانت نقيّة، كانت شفافة، كانت طاهرة، كانت قريبة من الربّ لتساءلوا لماذا كلّ هذه المعاملة؟ مُلِئَتْ الأوعية، رُدَّت الفضة، أعطوا زاد للطريق. ما الذي حصل؟ ويتابع النصّ: »وحمل إخوة يوسف قمحهم على حميرهم وساروا من هناك. فلمّا توقّفوا للمبيت فتح أحدهم عدله ليعطي علفًا لحماره فرأى فضة في عدله وقال لإخوته رُدَّت فضتي وها هي في عدلي فطارت قلوبهم فزغًا والتفت بعضهم إلى بعض فقالوا ماذا فعل الله بنا«. هنا نلاحظ كيف أنّ إخوة يوسف يختلفون عنه كلّ الإختلاف، هو رأى الخير الذي أعطى له من عند الربّ أمّا هم فلمّا تضايقوا مضايقة صغيرة »ماذا فعل الله بنالله«. وكان باستطاعتهم أن يقولوا ماذا فعلنا بالله؟ وكان الفزع لا الخوف من الله. هي محطّة أولى في هذه العودة إلى الله، ولكنها ما زالت بعيدة كأنّ الله كان غائبًا وبدأ يحضر، كأنّه هو الذي يعاقب لا ذاك الذي يحبّ. وهكذا أحبائي هذا اللّقاء بين يوسف وإخوته سيقود الإخوة شيئًا فشيئًا من فكرة الفزع إلى فكرة مخافة الله. من فكرة الظروف والبغض والحقد إلى فكرة عمل الله الذي يعمل بنا، يعمل بلساننا، يعمل بحياتنا. ما زالت الطريق طويلة بالنسبة إلى إخوة يوسف وسيكون لهم لقاءً ثانٍ مع يوسف عندئذٍ يعرّف نفسه إليهم، عندئذٍ يدعوهم لكي يأتوا بأبيهم إلى مصر، ولكن ما زال الوقت طويلاً. وعلى الإخوة أن يمرّوا في الألم لكي يفهموا المجد وهكذا يفهمون أنّ يوسف، مرّ في الذّل والسجن والعبوديّة والألم فوصل إلى هذه الرفعة وهذا المجد.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM