يعقوب يترك خاله لابان

يعقوب يترك خاله لابان

سفر التكوين فصل 31/1-23

الحلقة 53:

وسمع يعقوب أنّ بني لابان يقولون أخذ يعقوب... وتوجّه إلى جبل جلعاد.

بالمشهد الأول عواطف يعقوب ولابان، بالمشهد الثاني يعقوب مع امرأتيه راحيل وليئة. أمّا زلفة وبلهة فلا موضع لهما في هذا الحديث. وأخيرًا ما فعله يعقوب حين ترك بلاد ما بين النهرين وتوجّه إلى جبل جلعاد.

ما نلاحظ أوّلاً هو أنّ المال، الغنى، الثروة تبدّل نظرتنا بعضنا إلى بعض. في البدء تمسّك لابان بيعقوب وقال له كما يقول الصغير للكبير إن كنت راضيًا عنّا. جاء يعقوب ولا شيء معه وهو لابان يطلب رضى يعقوب: إن كنت راضيًا عنّا. وهذا الرضى سببه هو البركة التي رافقت يعقوب. اغتنى لابان فاعتبر أنّ هذا الغنى رافق حضور يعقوب، وجود يعقوب في هذه الأرض. ولكن بما أنّ يعقوب اغتنى هذا لا يعني أنّ لابان افتقر ولكن بما أنّ يعقوب اغتنى من أين جاءه هذا الغنى؟ قال أبناء لابان أخذ يعقوب كلّ ما كان لأبينا وممّا لأبينا جمع هذه الثروة. بالجملة الأولى يعني يعقوب سلب لابان وهذا ليس بصحيح. وبالجملة الثانية جمع الثروة انطلاقًا من ثروة لابان وهذا فيه بعض الصحّة. إذًا نلاحظ أنّ المال بدّل نظره أبناء لابان نو يعقوب مع أنّه قريبه. ومن جهة ثانية، من جهّة يعقوب رأى يعقوب أنّ وجه لابان تبدّل. غريب أحبّائي كيف أنّ المال يشوّه نظرتنا إلى الآخرين. عندما نجمعه ونكدّسه نرى الآخرين في نظرة وعندما نعطيه نراهم في نطرة أخرى. عندما يكون المال هو السيّد، هو الإله الذي نعبده نجعل حاجزًا، نجعل عائقًا بيننا وبين الآخرين، نرفض الآخرين. هذا المال نريده أن يكثر لنا لا لغيرنا. وننسى أنّ المال هو وسيلة، وسيلة السعادة لنا ولغيرنا وهو وسيلة سعاده لنا بقدر ما نعطيه لغيرنا. كم في أشخاص نعرفهم عندما تأخّروا عن العطيّة، عن العطاء، أحسّوا ببعض التعب في رأسهم، في قلبهم ولكن عندما أعطوا أحسّوا بالراحة. هنا نتذكّر شخص مثل فرنسيس الأسيزي هو أفقر الفقراء. كان يعطي الفقراء من متجر أبيه ولمّا أجبره أبوه على أن يعوّض، ترك الثوب الذي على جسده فأحسّ أنّه مرتاح كلّ الراحة وأن لا إله إلاّ الآب السماويّ الذي يمكن أن يدعوه بكلّ بساطة أبانا الذي في السماوات بعد أن جرّده أبوه الذي على الأرض من كلّ ما عنده. وهنا نحسّ بتدخّل الله، فيعقوب سيأخذ طريقًا جديدًا. يعقوب سيبدّل حياته. يشبه إلى حدّ بعيد موسى. هرب موسى من مصر، ترك إخوته المعذّبين، ترك إخوته في العبوديّة ودبّر حياته، نظّم حياته. هو في ميديان، تزوّج، عنده أولاد، عنده مواشي، حياته في راحة تامّة. ولكن الربّ لا ينظر إلى الأمور من هذا المنظار. الربّ يسوع قال لنا ما جئت ألقي على الأرض سلامًا. سلام من هذا النوع هو سلام الأنانيّة، سلام حبّ الذات، سلام الهرب من المسؤوليّة، سلام به نترك إخوتنا يتخبّطون مع أنّ الربّ أرسلنا، وسوف يتحرّك موسى. ونقول الشيء عينه عن يعقوب، تزوّج امرأة ثمّ امرأة ثانية وأعطيت له ساريتان، يكفي. وعنده الآن من الغنى فهو يكفي نفسه بنفسه. ولكن هنا مع يعقوب على العودة وقد يكون الله ألهمه في ذلك. والربّ سيقول ليعقوب: إرجع إلى أرض آباذك وعشيرتك وأنا أكون معك. هنا نفهم دومًا عندما نقرأ في الكتاب المقدّس قال الربّ. أوّلاً الربّ لا فم له مثل فمنا يكلّمنا به. هو يكلّمنا في أعماق قلوبنا، يلامس قلبنا، يلامس عقلنا، عواطفنا. وكيف نتعرّف إلى صوته من خلال الأشخاص الذين حوله. ربّما قالت له ليئة أو راحيل لا نستطيع أن نبقى هنا فأبوننا يأكل ثمننا، أبوننا يأكل خيراتنا. وشيء مهمّ جدٌّا، نتذكّر هنا لمّا قالت سارة لإبراهيم لا يجب أن يبقى إسماعيل مع إسحق. يجب أن يبتعد الواحد عن الآخر ففي نظرة تاريخيّة اقتربا من بعضهما فكات الحرب. هنا من قال ليعقوب أن يذهب؟ لا نعرف ولكن ما نعرف هو أنّ هذا الصوت الخارجيّ إلتقى بصوت الله في أعماق يعقوب فقرّر العودة إلى أرضه. إرجع إلى أرض آبائك وعشيرتك وأنا أكون معك. ما هي العلاقة؟ لا علاقة منظورة. كلمة الله وحدها تكفي حتى تدلّ على أنّ الربّ هو هنا. أنا أكون معك. لا شكّ أنّ حضور الربّ مع يعقوب ليس من هذه اللحظة. هو منذ بدأ طريقه إلى بلاد ما بين النهرين. نتذكّر كان بعده في بيت إيل، لم يخرج بعد من فلسطين حين نام ورأى في تلك الليلة السلّم المربوط بالسماء كأنّ الربّ هو هنا يقول له إذهب إلى أرض آرام وستعود. ففي ذهابك أنا معك وفي عودتك أنا معك. نلاحظ هنا في حياة يعقوب حضور الربّ رغم ما عند يعقوب من أخطاء، من خطايا، من كذب، من مراوغة. الربّ يبقى معنا. إن كنّا أخيار الربّ معنا، وإن كنّا أشرار الربّ معنا. يقول لنا يسوع في الإنجيل. أنا الكرمة وأنتم الأغصان إذا كنتم أغصانًا صالحة تعطون ثمرًا كثيرة أمّا إذا كنتم أغصانًا فيها بعد اليباس، الربّ ينقّيكم حتّى تعطوا ثمرًا أفضل. إذًا أنا أكون معك، إذًا هذا هو الكلام المهمّ الذي سيفهمه يعقوب ويقرّر العودة إلى أرض الآباء. بالمشهد الثاني نرى يعقوب مع امرأتيه راحيل وليئة. هم يضعون الخطّة وبدأ يعقوب فأقنع امرأتيه بأن وضعه لا يمكن أن يبقى على هذه الحال حتّى النهاية. بدأ ففسّر لهما كيف خدما أباهما أحسن خدمة. وفي محطّة ثانية أفهمهما أنّ الربّ كان معه. لا شكّ عاد يعقوب إلى وسائل بشريّة ولكنّه ربط كلّ هذا بالله الذي كان حاضرًا في حياته. نتذكّر هنا عندما أخذ البركة من أبيه إسحق. فقال له ما أسرع ما جئت بصيد، أجابه يعقوب: الربّ سهّل طريقي، وهنا أيضاً رغم ما فعله يعقوب مع خاله لابان لكي يكون له كلّ هذا الغنى. قال: الربّ هو الذي أوحى لي في الحلم. نقرأ هنا بآية 11: فقال لي ملاك الربّ في الحلم: »يا يعقوب« قلت له: »نعم ها أنا«. قال: إرفع عينيك وانظر جميع التيوس التي تشب على الغنم إلخ...

وعليك إذًا أن تختار هذه. مرّات عديدة يكون بعض الربح أو شيء آخر فنقول الله ألهمني. هذا ما اختبره أو ما أراد أن يشدّد عليه يعقوب. كانت هناك الأعمال البشريّة وكان الله من خلال هذه الأعمال. كما يقول الكثير من الناس إنّ الربّ يكتب حياتنا من خلال أعمالنا، إذا كانت هذه الأعمال صالحة، يكتب الله حياتنا في صلاحنا. ويذكّرنا القدّيس بولس كيف أنّ أعمالنا قد تكون من الذهب، من الفضّة، من الخشب، من القشّ، من التبن، وتمرّ بالنار. الرب كتب حياة يعقوب انطلاقًا من هذه الأمور التي عاشها مع خاله لابان، وإذا كان له كلّ هذا الغنى فلأنّ الربّ أراه هذا الغنى، جعل هذا الغنى أمامه، أفمهم ماذا يعمل. عندنا هنا خطّين في المسيحيّة: خطّ أوّل يعتبر أنّ الغنى هو بركة من الله. وخطّ ثاني يشدّد على الفقر. »طوبى للفقراء« يقول لوقا ويقول متّى: »طوبى للمساكين بالروح فإنّهم يرثون ملكوت السماء«. الفكرة الأولى كغنى يحدّثنا عنها القدّيس لوقا ويقول كلّ غنى إنّما هو مال حرام. يقول لنا يوحنّا فم الذهب كلّ غني إنّما هو سرقة أو وراثة عن سرقة. متى يتحوّل الغنى إلى بركة، متى يتحوّل الغنى إلى ارتباط مع الله، عندما نعطيه، يتحوّل إلى بركة، إلى حضور الله. نتذكّر هنا الفصل 16 من إنجيل لوقا يسمّوه الوكيل الخائن أفضل أن نقول الوكيل المبذّر. ذاك الذي لم يتعلّم إلاّ العطاء وبدأ يعطي ويعطي دون حساب ويعطي لمن لا يستحقّ. وفي النهاية لمّا هدّدوه لم يتراجع بل أعطى أيضاً وأيضاً. ويقول شرّاح عديدون إنّ هذا الوكيل المبذّر إنّما هو يسوع المسيح. هو يسوع المسيح الذي أعطى، وخصوصاً الذين يستحقّون، أعطى العشّارين أعطى الخطأة الذين يتهرّب منهم الأتقياء مثل الفرّيسيّين، أعطى وما زال يعطي. فالغنى الحقيقيّ هو الذي نعطيه، ويقول أحد آباء الكنيسة: الثوب الذي في خزائنك ليس لك. إذا كنت لا تلبسه فهو ليس لك. لكن المال الذي نعرف أن نوزّعه، أن نعطيه، هذا يكون لنا. يقول لنا القدّيس لوقا: إذا أنتم ساعدتم الفقراء يستقبلونكم في المظال الأبديّة. كأنّي بالربّ جعل الأغنياء على باب السماء وهم يستقبلون الناس. إذا كان يسوع يتعرّف إلى من أعطاه كأس ماء بارد، إلى من أطعمه وهو جائع، سقاه وهو عطشان، فالفقراء هم هنا مع يسوع يتذكّرون ويقولون له: يا ربّ هذا أطعمنا، هذا سقانا، هذا رافقنا في المرض، رافقنا في السجن. نظرتان لكن النظرة الأولى يجب أن ترافقها النظرة الثانية. فالمال يمكن أن يُعبد، لهذا يسمّونه مهمول يعني الثابت نستند إليه في هذه الحياة ولكن يمكن أيضاً أن يكون بركة، أن يكون عطاء فيُصبح علاقة الإنسان بأخيه الإنسان. ومن هذا الحديث بين يعقوب وامرأتيه، اقتنعت راحيل واقتنعت ليئة حين رأتا كيف عالمهما أبوهما. قالت: أيّ نصيب وميراث لنا في بيت أبينا، حسبنا كغريبتين، فباعنا وأكمل ثمننا. يعني عمل يعقوب سبع سنوات من أجل راحيل ومن أجل ليئة، كان هذا كالمهر بالنسبة لليئة ولراحيل. وهذا المهر يجب أن يعطي القسم الأكبر منه للابنة التي ستتزوّج ومع ذلك لم يعطِها لابان شيئًا. لهذا السبب تقول: كلّ الثروة التي أخذها الله من أبينا وأعطاك إيّاها هي لنا ولبنينا. كأنّي بهاتين المرأتين تقولان لزوجهما يعقوب: هذا حقّقك ويمكنك التعويض بكلّ بساطة. ما عملته هو عمل صالح. لهذا يقولون فاعمل بكلّ ما قاله الله لك. فإذا هنا صوت البشر يتلاقى مع صوت الله. بآية 3 قال الربّ ليعقوب إرجع إلى أرض آبائك وعشيرتك وأنا أكون معك وهنا قالت المرأتان ليعقوب: إعمل بكلّ ما قاله الله لك. وهكذا كان الاتفاق داخل العائلة، وتستطيع المسيرة أن تبدأ. يقول في آية 17: فقام يعقوب وحمل بنيه وزوجاته على الجمال... ونلاحظ شيئان: أوّلاً: راحيل سرقت أصنام أبيها. أتراها بعد متعلّق بالأصنام، أتراها لم تؤمن إيمان بزوجها الإله الواحد، أتراها لم تعتقد أنّ الربّ الذي قال ليعقوب أنا أكون معك هو أقوى من كلّ هذه الأصنام البكماء التي لا تستطيع أن تسمع ولا أن ترى ولا أن تتكلّم. في أيّة حال مرّات عديدة نتّكل على الله ونتّكل على أصنامنا. ربّما الله لا يلبيننا فالصنم هو هنا ونحن نستطيع أن نستند إليه ولكن هو كالقصبة المرضوضة. كيف نستند إليه. إذًا، كما أنّ امرأة لوط تطلّعت إلى الوراء وكأنّها تريد أن ترجع إلى سدوم هكذا راحيل أرادت أن تتعلّق بأصنام أبيها وسوف تبقى هذه الأصنام إلى أن يأمر يعقوب عندما تتركّز حياته في أرض فلسطين بأن تدفن كلّ هذه الأصنام وكأنّها غير موجودة. وهكذا مضى يعقوب وامرأتيه وكلّ ما له من غنى فعبر نهر الفرات، كما عبر الشعب العبراني البحر الأحمر فلا عودة إلى الوراء، وكما عبر الشعب العبراني نهر الأردن فلا عودة إلى الشرق كذلك يعقوب عبر نحو الفرات فلا عودة إلى هناك وتوجّه إلى الأمان، إلى جبل جلعاد، إلى فلسطين. وهناك ستكون له مغامرات ومغامرات، يذهب بعدها أبناؤه إلى مصر ولكنّهم يعودون إلى أرض الربّ، إلى أرض البركة، إلى الأرض التي تدرّ لبنًا وعسلاً. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM