إبراهيم وأبي مالك أو إبراهيم في جيرار

إبراهيم وأبي مالك  أو  إبراهيم في جيرار

سفر التكوين الفصل 20

الحلقة 36

وانتقل إبراهيم من هناك إلى أرض النقب... وكان الربّ قد أغلق كلّ رحم في بيت أبي مالك بسبب ساره امرأة إبراهيم.

ماذا نرى في هذا الفصل وما يتبعه من فصول؟

نرى هنا علاقة ابراهيم بالعالم الوثني، بالعالم الذي لا يعبد يهوه، الذي لا يعبد الله الواحد. والسؤال المطروح، هل من وجود لمخافة الله خارج شعب الله، خارج نسل ابراهيم؟

وجاء الجواب نعم وألف نعم، هناك موضع لمخافة الله خارج نسل ابراهيم، يعني كلّ إنسان يستطيع أن يخاف الربّ وأن يعمل بوصاياه. يقول لنا مار بولس: »الذي لهم شريقة يدانون بحسب هذه الشريعة وأمّا الذين لا شريعة لهم، فشريعتهم هي ضميرهم، والضمير هو صوت الله في كلّ إنسان« يكفي أن يولد الإنسان حتى يكون على صورة الله ومثاله.   وبما أنّ الإنسان على صورة الله ومثاله فلا يمكن إلاّ أن يكون عنده ضمير، أن يكون فيه صوت الله، أن يكون فيه مخافة الربّ. نلاحظ هنا أن شخص أبي مالك، ملك جيرار يتفوّق على شخص ابراهيم، على مستوى الحياة الخلقيّة. هنا نستطيع أن نفكّر نحن المؤمنين سواء كنّا مسيحيّين أو غير ذلك، نستطيع أن نفكّر أنّ أشخاص لا ينتمون إلى إبراهيم، ليسوا أبناء ابراهيم قد يعيشون الحياة الأخلاقيّة أفضل منّا، وهذا ما يحكم علينا حكمًا قاسيًا. نتذكّر هنا مار بولس الذي كلّم اليهود في الفصل الثاني من الرسالة إلى روما، تقول: لا تسرق، وأنت تسرق، تقول لا تزني وأنت تزني. إنّ اسم الله يُجدّف عليه بسببكم كما هو مكتوب. وهنا لو كنّا نحن محلّ ابراهيم وتصرّفنا بهذه الطريقة تجاه أبي مالك لكان قيل لنا أن اسم الله يجدّف عليه بسببكم. وإنّ ذلك الذي لا يؤمن إيمان إبراهيم قد تصرّف على مستوى عال من الخليقة. هذا ما نعنيه بمخافة الله. مخافة الله يعني نخاف أن نغيظ الله، نخاف أن نكون على مستوى الله، مخافة الله يعني الطاعة إلى الله وهنا يظهر أبي مالك إنّه إنسان طائع لربّنا فبالآية 8 لمّا طلب منه ربّنا أن يترك هذه المرأة. يقول: فبكّر أبي مالك بالغد. إذًا لم ينتظر يومين وثلاثة وخمسة وعشرة أيّام. كلاّ في الغد أخذ الإجراء اللازم. طلب منه الربّ أن يفعل، ففعل في الحال. هنا نتذكّر ابراهيم لمّا دعاه الربّ في سفر التكوين فصل 12 »أترك أرضك وعشيرتك...« وسوف نرى ابراهيم في الفصل 22 عندما يطلب من إبراهيم بأن يضحّي بابنه، فبكّر ابراهيم. هذا الكلام: »بكر«، »فبكر« يدلّ على استعداد كامل. على استعداد كبير للتجاوب مع نداء الله والعمل بمشيئة الله.

- أوّل فكرة إذا أبي مالك بكر في الحال فطاع الربّ.

- الفكرة الثانية هي نقرأها بالآية 5 يقول: بسلامة قلبي ونقاوة يديّ فعلت هذا. يعني أخذ أبي مالك سارة من ابراهيم يعني حسبها أخت ابراهيم. فقال أتزوّجها كما يتزوّج كلّ رجل امرأة. والكلمتان مهمّتان: سلامة القلب ونقاوة اليد. يعني كانت نيّة صالحة، نيّة صالحة، لم يكن عندي أي غش أو أي كذب، لا تجاه إبراهيم ولا تجاه سارة. ونقاوة يدي هنا أتذكّر المزمور: أغسل يدي وأطوف حول مذبحك يا ربّ. هذه النقاوة الذي تحدّث عنها المرتّل في المزامير هي موجودة عند أبي مالك ملك جيرار. بنقاوة يدي يعني لا قلبه، لا نواياه كانت سيّئة ولا يده فعلت شرٌّا. هذا الإنسان المستعدّ لأن يسمع صوت الله، هذا الإنسان المستعدّ أن يعمل بمشيئة الله، هذا الإنسان المستعدّ أن يعيش في خوف الله، قد كلّمه الله، كما كلّم يعقوب، كما كلّم ابراهيم، كما كلّم يوسف، كلّم هذا الرجل وإن لم يكن من نسل إبراهيم. قال له الله في الحلم: لا ننسى أيضًا أنّ يوسف خطيب مريم كلّمه الملاك في الحلم. أنا أعرف أنّك بسلامة قلبك فعلت ذلك.

نلاحظ أنّ الربّ نفسه يعترف، يقرّ بهذا القلب السليم وبهاتين اليدين النقيّتين، بسلامة القلب فعلت ذلك. ونفهم بشكل ثاني يقول: أنا منعتك بأن تمسّ سارة فتخطئ إليّ. يعني الربّ هو الذي يساعدنا، هو الذي يمنعنا إذا شئنا نحن من السقوط في الخطيئة. كلّنا ضعفاء ولكن الربّ الذي انتبه إلى أبي مالك فمنعه من الخطأ. يستطيع أن ينتبه إلى كلّ واحد منّا، قوّته، نعمته، حضوره، هو هنا. يكفي أن نتجاوب مع هذه القوّة، مع هذه النعمة، مع هذا الحضور. ولكن تسألون لماذا منع الربّ أبي مالك بأن يمس سارة؟ لأنّ سارة تخصّ الربّ، لأنّ سارة هي حاملة الموعد، حاملة اسحق ابن المومعد. فالربّ أمين لموعده، وعد ابراهيم بأن يكون له نسل، وعد ابراهيم بأنّ هذا النسل سيكون مثل الرمل على البحار والكواكب في السماء، لذلك سيحافظ الربّ على عهده مع إبراهيم، ومن خلال ذلك علىعهده لسارة، هو الذي يحافظ على سارة وإن كان إبراهيم لم يعرف أن يحافظ عليها. أراد أن ينجوَ بحياته نقول بالعاميّة (يخلّص بجلده). خاف على نفسه فباع امرأته واعتبرها أخته. هنا نستطيع القول أنّ ابراهيم قال نصف الحقيقة: هي أختي لا شك، ولكن بدرجة أهم هي زوجة إبراهيم. ونلاحظ أيضًا عظمة سارة التي أرادت أن تضحّي بذاتها إكرامًا لزوجها. هذه هي المحبّة الحقيقيّة التي تعرف أن تضحّي بذاتها من أجل الآخرين. إذًا الربّ حضر على أبي مالك في الليل، كلّمه في ظلام الليل، كلّمه من خلال الأحداث وسوف نرى أنّ الحدث الذي به كلّم الله أبي مالك هو أنّ امرأته ما عادت تحمل، وأعادت تعطيه أولاد، لا إمرأته ولا جواريه. رأى في ذلك نداء من عند الله، تنبّؤ من عند الله. ومع ذلك ودور أبي مالك هو الأهم، هو الوثني الذي يعيش بحسب وصايا الله دون أن يرفعها من خلال موسى والتوراة. هذا الوثني يشبه إلى حدّ بعيد كورنيليوس في أعمال الرسل فصل 10. كورنيليوس يقول له الملاك: رأى الربّ صلواتك وصدقاتك الربّ يرى، يرى جميع أعمال البشر وليس فقط أعمالنا، نحن المؤمنين، نحن أبناء إبراهيم، ولكنّه يرى جميع أعمال البشر. رأى ما فعل أبي مالك أو بالأحرى ما لم يفعله. ومع ذلك يبقى إبراهيم هو النبيّ. يقول في آية 7: »إبراهيم هو نبيّ، يصلّي لأجلك فتحيا«. إنّ النبيّ هو الذي تكلّم باسم الله. النبي هو الذي يدلّ على حضوره الله. النبي هو الذي يتصرّف بوحي من الله. وابراهيم هو في هذه الأرض الوثنيّة العلامة على حضور الله في العالم في العالم كلّه. هنا نتذكّر أنّ كلّ واحد منّا هو نبيّ. نبيّ يعني نبأ، أخرج الشيء من الظلمة إلى النور، من المستور إلى المنظور، من الخفي إلى الظاهر. إذا النبيّ هو الذي يجعل كلمة الله الخفيّة ظاهر، هو الذي يجعل وصايا الله ظاهرة في الكون. إذًا النبيّ يدلّ على الله بأقواله، بأعماله وبكلّ حياته وليس إبراهيم فقط هو النبيّ، كلّ واحد منّا هو نبيّ. هذا النبيّ يصلّي لأجلك، هذه الصلاة. النبيّ هو الذي يصلّي من أجل أيّ شعب.

هنا نحس أنّنا أمام نصّ كتب مؤخّرًا على ضوء الأنبياء، وسوف يسمّى أيضًا موسى نبيّ. النبيّ هو الذي يصلّي، هو الذي يتشفّع من أجل شعبه. وفي الواقع بنصٍّ سابق رأينا كييف تشفَّع، كيف صلّى إبراهيم من أجل مدينة سدوم فصل 19: »لو وجد فيها 50 بارٌّا، 40 بارٌّا، 10 أبرار« وأجابه الربّ: »كرامة لك وكرامة لهؤلاء الأبرار لن أهلك المدينة إذا وجد فيها بعض الأبرار«. هو نبيّ يصلّي لأجلك فتحيا، فتحيا. أحسّ أبي مالك أنّه مائت لا محالة. بآية 3 يقول: »فجاء الله إلى أبي مالك في حلم الليل وقال له ستموت. لماذا يموت؟ لأنّ من يقترف الخطيئة، عاقبته الموت. إن أكلت من الثمرة المحرّمة، إذا اقترفت الخطيئة موتًا تموت. ولكن هذا النبيّ سيصلّي من أجل أبي مالك فلا يموت بل يحيا فيستعيد الحياة. وهكذا نفهم أحبّائي هذا التناقض، هذا التعارض، نقع في الخطيئة، نذهب إلى الموت، نعود إلى الربّ، نتراجع عن خطيئتنا، نتوجّه إلى الحياة. ويتابع النصّ: وإن كنت لن تردّها فاعلم لا بدّ أنّك هالك أنت وجميع شعبك«.

تهديد كبير جدٌّا كما قلت: الربّ يدافع عن سارة حاملة الوعد. لا شكّ أنّ أبي مالك أساء إلى إبراهيم وفي الواقع أساء إلى الله من خلال إبراهيم.

والمقطع الثاني هو العتاب بين أبي مالك وبين إبراهيم. لماذا فعلت بنا ذلك؟ ماذا خطر لك حتّى فعلت بنا ذلك؟ هنا عندنا الخوف. أوّلاً الحوف، خوف إبراهيم من أن يقتله الناس بسبب امرأته، لا تنسوا بأنّ سارة هي الأميرة، هي جميلة، وهي من محفل رفيع. خاف من الناس من أن يقتلوه. ثانيًا: ظنَّ لا وجود لخوف الله في هذا المكان فأخطأ إبراهيم.

ثالثًا: الناس في جيرار، لمّا أخبرهم أبي مالك بالحلم الذي رآه وبنداء الربّ له، خافوا خوفًا شديدًا. وخوفهم بالدرجة الثانية أن يغيظوا الله. فعل أبي مالك ما أمره الربّ، ردّ سارة إلى زوجها، لا بل عوّض على هذا الزوج، أعطاه كما يقول النص بآية 14: الغنم والبقر والعبيد والجواري مع اعتذار. عند ذاك تقول آية 16: »فصلّى إبراهيم إلى الله فشفي الله أبي مالك وزوجته وجواريه. مهمّ جدٌّا إذًا أنّ الله لا يتراجع، إبراهيم هو نبيّ ويبقى نبيّ مهما كانت تصرّفاته. تصرّفات الله لا ترتبط بتصرّفاتنا، موقف الله لا يرتبط بموقفنا. هو هو، أمس واليوم وإلى الأبد، لا يتغيّر، لا يندم، لا يندم عن عطاياه. أعطى إبراهيم أن يكون ذاك النبيّ، أن يكون ذاك المصلّي، أن يكون ذاك المتشفّع، أعطاه والربّ لا يتراجع، فظلّ على عطائه. ففي آية 17 يقول النصّ، فصلّى ابراهيم إلى الله، فشفى الله أبي مالك. نعم شفى الله أبي مالك بناءً على صلاة إبراهيم. إذًا إبراهيم يبقى ذلك القريب من الله، كما يقول الكتاب، ذاك الخليل خليل الله. ولماذا يكون الربّ بشكل خاصّ بقرب إبراهيم. لا شكّ هنا وعد، قرأناه بفصل 12 ولكن خصوصًا أنّ ابراهيم هو ذلك الغريب. والغريب يهتمّ به الله، الربّ يهتم بالفئات الضعيفة، بالفقير، بالغريب، باليتيم، بالأرملة. يقول بالآية 13: »لمّا شرّدني الله من بيت أبي« هو المشرّد، هو الغريب، هو من ليس له من يسنده، من يدافع عنه، فدافع عنه بطرق ليست مقبولة في نظرنا، وقبلت سارة بأن ينجو زوجها وهي تعرّضت للخطر أو لأمر آخر.

هذا أحبّائي هو معنى الفصل 20 من سفر التكوين من ابراهيم وأبي مالك. إبراهيم المؤمن هو النبيّ الذي يبقى مرتبطًا بالله مهما فعل من أفعال لا تشرّف، وصيّة الله وكرامة الإنسان ولا كرامة امرأته. أمّا أبي مالك فهو الذي لا يعرف إله إبراهيم، ليس من أبناء الإيمان، ليس من نسل إبراهيم، ومع ذلك تصرّف بسلامة القلب ونقاوة اليدين، عرف خوف الله، هو وشعبه وما أراد أن يخطأ. وهنا نلاحظ بأنّ الخطيئة في النهاية هي إغاظة ؟ وليس فقط إغاظة لشخص غريب، لشخص فقير، لأرملة، ويتيم، هي إغاظة لشخص الله والله هو الذي يدافع عن هؤلاء الضعفاء عن الغريب، عن اليتيم، عن الفقير، عن الأرملة. ونحن أيضًا أنبياء نتكلّم باسم الله ننظر إلى الأمور بعين الله، يا ليتنا نعرف مخافة الله كما يعرفها جميع البشر.   آمين

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM