افتراق ابراهيم ولوط

افتراق ابراهيم ولوط

الفصل 13

الحلقة 28

فصعد أبرام من مصر إلى صحراء النقب... فأقام في بلوط ممرا لاتي بحبرون وبنى هناك مذبحًا للربّ.

نحن هنا أمام خبر بسيط من حياة إبراهيم أو إبرام العائليّة مع ابن أخيه لوط. يربط الكاتب بين هذا الخبر العائليّ وما سبق وحدث لأبرام حين كان في مصر وكيف أخطأ من جهة إلى امرأته وإلى العهد مع الربّ حين تخلّى عن حاملة الوعد، عن حاملة العهد سارة. يقول الكاتب إنّ ابراهيم كان غنيٌّا جدٌّا. هذا الغنى له معنيين: معنى أوّل كما قلنا يرتبط بما فعله أبرام في مصر فاقتنى الغنم والبقر والحمير...إلخ. والمعنى الثاني هو أن الغنى علامة من عند الربّ. كانوا يقولون إذا بارك الربّ إنسانًا من الناس أعطاه المال الكثير والأبناء العديدين والعمر الطويل. وهكذا ورغم ما يمكن أن يفعل ابراهيم ويكون خائنًا بعض الخيانة لنداء الربّ، فالربّ يحافظ على البركة التي ترافق إبراهيم ويقول الشيء عينه عن لوط. لوط يرافق أبرام، إذًا تصل إليه البركة التي اعطيت لأبرام، لإبراهيم. هذا ما حدث بالنسبة إلى نوح. نوح كان مباركًا من قبل الربّ وتبارك أولاده سام وحام ويافث. هذا هو الوضع الذي يعيشه إبراهيم ولوط في أرض كنعان التي ستصبح فيما بعد أرض فلسطين.

وما هو الحدث الذي حصل في هذه الأرض، صار خلاف بين ماشية أبرام، بين رعاة ماشية أبرام ورعاة ماشية لوط ويعطي الكاتب قاطعة صعغيرة فيما الكنعانيّون والفرزيّون مقيمون في الأرض، هذا يعني أنّه لا يليق بالإخوة أن يتخاصما. يقول الكاتب: »نحن رجلان اخوان«. لا يليق بالإخوة أن يتخاصما على أرض والأرض واسعة، والأرض مفتوحة أمامهما ونتذكّر أنّنا في عكس قايين وهابيل. قايين وهابيل كانت لهما الأرض كلّها ولم يعرفا أن يعيشا معًا. ابن الزراعة قايين، ابن المدينة قايين وهابيل ابن البدو وصاحب الماشية لم يعرفا أن يعيشا معًا. فقتل قايين وهابيل وكانت الحرب بين قبيلة وقبيلة. أمّا هنا نلاحظ رفض ابراهيم أن تكون خصومة بينه وبين لوط، بين رعاته وبين رعاة لوط. قال: »الأرض كلّها بين يديك، تستطيع أن تذهب حيثما تشاء« هنا نتذكّر أيضًا خلاف حدث بين رحبعام الملك الذي خلف سليمان ويربعام والعشر قبائل التي تخلّت عن مملكة يهوذا وأورشليم. سيأتي نبيّ وينبّه الشعب أن يبعد عنه الخصومة، لا حاجة للخصومة، لا حاجة للقتال وإراقة الدماء بين الأخوة. وها نبتعد أكثر من البيت، من القبيلة، من شعب من الشعوب، من ديانة من الديانات، البشريّة كلّها أخوة. فكيف يحقّ لها أن تعرف الخصومة والقتال والحرب والموت والذبح وغيره كما تعيش بلدان عديدة اليوم. يقتل الأخ أخاه والأب ابنه وأبناء هذه القبيلة ابناء تلك القبيلة. البشريّة كلّها أخوة، كلّهم مولودون على صورة الله ومثاله، كلّهم في هذه البشريّة الواحدة، فكيف يسمح الإنسان لنفسه أن يقتل أخاه الإنسان؟ الأرض كلّها بين يديك، لماذا الخصومة؟ لماذا القتال؟ وسوف نعرف في شعب الله أنّه كنت قسمةالأرض فلا يكون خلاف بين أخ وأخ، بين قبيلة وقبيلة. ودلّ أبرام على رحابة صدره، وعلى تجرّد تام، فترك لوط يختار ما يريد أن يختار من الأرض.

إذًا في فكره أوّلاً يشدّد الكاتب على أنّ الخصومة ممنوعة بين الأخوة، والبشريّة كلّها أخوة، وعلىالتجرّد، تجرّد ابراهيم وهو مستعدّ أن يتخلّى عن المال، أن يتخلّى عن الماشية، أن يتخلّى عن الأرض لئلاّ تكون خصومة بينه وبين ابن أخيه لوط.

والفكرة الثانية: ماذا اختار لوط؟ كان يمكن للوط أن يختار أرض المرعى والصحراء وهو الموضع المهم للقاء الربّ بالإنسان. لوط إختار الأرض الغنيّة، إختار صوعر، إختار ما يسمّيه الكتاب جنّة الربّ، أراد أن يكون قرب سدوم وعمورة، إختار وادي الأردن.

نلاحظ هنا أنّ الكتاب سوف يفهمنا أنّ اختيار لوط لم يكن الإختيار الأفضل. وفي الفصل 14 سوف نرى ماذا سيحدث للوط، ولولا تدخّل ابراهيم لكان لوط عبدًا بين العبيد. ماذا اختار لوط؟ اختار الغنى، اختار الأرض المزروعة، اختار وادي الأردن ولكنّه حين اختار ما سيقول الكتاب في حاشية: قبل أن دمّر الربّ سدوم وعمورة. سدوم وعمورة هاتان المدينتان اللّتان ستدمّران كما تقول التقاليد القديمة والتي استعادها الكتاب المقدّس بسبب زلزال أو بسبب بركان حلّ على سكّان هاتين المدينتين. اختار لوط الأرض الفضلى، أفضل الأراضي، وادي الأردن وانفصل عن عمّه أبرام، عن إبراهيم، أمّا أبرام فأقام في أرض كنعان حيث الفقر وحيث الحياة الصعبة في غياب الماء والكلأ. وينهي الكتاب هذا المقطع الثاني وكان أهل سدوم أشرارًا خاطئين جدٌّا أمام الربّ، فكأنّي بهذه الحاشية القصيرة يحكم على لوط الذي فضّل أن يقيم مع الأشرار والخاطئين شرط ان تكون له الخيرات، شرط أن يكون له الغنى ونتذكّر المزمور الأوّل: طوبى للذي لا يسير في طريق الخاطئين، لا يقف مع الأشرار، لا يجلس مع الخطأة«. هذا المزمور الأوّل الذي يعطي نفحة هامّة لطريق، لسلوك نعيشه مع الربّ. ويقابل بين أصحاب الطريق، لسلوك نعيشه مع الرب. ويقابل بين أصحاب الطريق المستقيم الذين يعيشون مع الربّ. ويقابل بين أصحاب الطريق المستقيم الذين يعيشون بحسب وصايا الربّ، هؤلاء هم كأرض مغروسة، المياه دائمًا فيها، وبين الأشرار الخطأة الذين تصل بهم الأمور إلى الهلاك، إلى الدمار. من كان مع الربّ، كانت له خيرات الربّ. من كان مع الخطأة كانت له ما يكون للخطأة. أهل سدوم وعمورة هم أشرار خاطئون جدٌّا أمام الربّ. هذا يعني أنّ الربّ لم يرضَ عنهم وحين أراد لوط ان يقيم بينهم، كنت له الحالة نفسها التي هي لأهل سدوم وعمورة، وحين ستسقط هاتان المدينتان في حرب سيكون لوط أوّل الذاهبين إلى المنفى. هنا نتذكّر أيضًا أورشليم التي عرفت الإزدهار والغنى والبزخ وسيأتي يوم، يأتي البابليّون، هؤلاء الآتون من الشمال يأخذون المدينة، يقتلون الملك، يسبون الناس أبعد من أورشليم. صارت أورشليم كما يقول أشعيا قريبة من سدوم، قريبة من عمورة لأنّها ارادت أن تعيش عيش الخطيئة. هذا هو معنى النقطة الثانية: اختار لوط الأرض الغنيّة، الأرض المرويّة التي شبّهها بجنّة الربّ ولكنّها بالواقع قرب سدوم وعمورة، قرب الارض التي تعرف الخطيئة والتي ستعرف الدمار والخراب.

في المقطع الثالث قال الربّ لأبرام: »إرفع عينيك وانظر من الموضع«. لماذا كلّم الربّ أبرام، كلّمه لكي يكافأه، كلّمه لأنّه ما اختار أفضل أرض، بل ترك ابن أخيه يختار، كلّمه لأنّه تجرّد من كلّ شيء وتمسّك بأرض كنعان، فرغم فقرها هي أرض الربّ ونفهم كم مرّة يتوقّف ابراهيم حتّى يدلّ على عبادته، على تعلّقه بالربّ. بـ 13/4 يقول: ابنِ مذبحًا وهناك دعا أبرام باسم الربّ كما فعل الآباء الأوّلون (شيت وآنوش). وسوف أيضًا بآية 18 سيقيم مذبحًا للربّ في بلوطة ممرا في بحبرون. فالعلاقة بين ابرام والله هي علاقة صديق لصديقه، والحبيب بحبيبه، إذا ظهر الربّ، تراءى لأبرام وأراه الغنى الذي سيحصل عليه بعد أن تجرّد من غنى ماديّ. وحده الذي يعطي، يعرف فرح الآخر، وحده الذي يضحّي ويتجرّد، يعرف الغنى الذي يمكن أن يمنحنا الله إيَّاه. نتذكّر هنا كلام يسوع المسيح، كلام بولس عن يسوع المسيح، يسوع كان الغني وصار فقيرًا من أجلنا لكي نغتني بفقره. وأبرام الذي تجرّد، صار غنيٌّا في نظر الربّ وهكذا قال له الربّ: »إرفع عينيك وانظر«. ووسّع الربّ أرض أبرام شمالاً وجنوبًا، شرقًا وغربًا. وربط هذه الأرض بنسل إبراهيم. يقول هذه الأرض أهبها كلّها لك ولنسلك إلى الابد. وأجعل نسلك كتراب الأرض. لا شكّ في معنى أوّل يتحدّث الكتاب عن قبيلة إبراهيم. وفي معنى ثان، قد يتحدّث عن أبناء ابراهيم، الشعب العبراني شعب الله. ولكن المعنى الأهمّ والمعنى الأوسع هو أنّ نسل ابراهيم سيكون كبيرًا جدٌّا. وكلمة أرض تأخذ معنين. في معنى أوّل هي فلسطين أو كنعان وفي معنى ثانٍ هي الأرض كلّها من الشرق إلى الغرب، ومن الشمال إلى الجنوب. نسل إبراهيم سيكون كتراب الأرض. ومن هو نسل إبراهيم؟ هو جميع المؤمنين، أوّلاً من الديانات التوحيديّة، من اليهود، والمسيحيّين والمسلمين. كلّ هؤلاء يرتبطون بإبراهيم، كل هؤلاء هم نسل إبراهيم ولكن بالإضافة إلى ذلك نسل إبراهيم هو كلّ من يؤمن بالربّ، كلّ من سلّم حياته للربّ، كلّ من يعيش وصايا الربّ هو من نسل إبراهيم. وسيقول يوحنّا المعمدان للشعب اليهودي: الآتي ليعتمد لا تقولوا نحن ابناء إبراهيم، فالله قادر أن يخرج من هذه الحجارة ابناء لإبراهيم. ليس التعلّق بابراهيم بحسب الجسد هو الذي يجعلنا ابناء ابراهيم وليس في أن نكون من اليهود أو المسيحيّين أو المسلمين يجعلنا أن نكون أبناء ابراهيم. فحياتنا وأعمالنا وتعلّقنا بالربّ وبوصاياه يجعل منّا أبناء ابراهيم. هذا ما سيفهمه ابراهيم خصوصًا بعد لقائه بالربّ وتقدمته ابنه اسحق ولكن منذ الآن نفهم نحن أنّنا نسل ابراهيم، نسل ابرام بقدر ما نكون عائشين بحسب وصيّة الله، بحسب ما يطلبه الله منّا. قال الربّ: قم وامشِ في الأرض طولاً وعرضًا لأنّي لك أهبها. وهنا نتذكّر بالفصل 3 بسفر التكوين قال الكتاب وكان الربّ يتمشّى عند برودة المساء، يتمشّى مع آدم وهنا لماذا نقول أنّ الربّ يتمشّى عند برودة المساء، يتمشّى مع آدم وهنا لماذا نقول أنّ الربّ يتمشّى مع ابراهيم، يسير مع ابراهيم في الأرض، في طول الأرض وعرضها، هو حاضر معه هو رفيق دربه، في سفر الخروج نفهم أنّ الربّ كان حاضرًا لشعبه بشكل غمامة في النهار يقيه من الشمس ونو في الليل يقيه من العتمة والليل والدجى. أمّا هنا: قم وامشِ ابراهيم سيمشي والربّ يمشي معه. كان قد قال موسى للربّ نحن لا نمشي إن كنت لا تمشي معنا. ولكن إن قال هنا الربّ لأبرام: »قم وامشِ« هذا يعني أنّ الربّ سيمشي معه. وفي الإنجيل عندما يأتي المخلّع: »قم احمل سريرك واذهب إلى بيتك، امشِ، فالربّ يدعونا، وحين يدعونا يعطينا القوّة أنّنا نستطيع أن نمشي معه في طول الأرض وعرضها. أحبّائي هذا هو معنى الفصل 13 من سفر التكوين ابراهيم ولوط. حادث من الحياة العائليّة استخلصنا منه ثلاثة أفكار:

أوّلاً: لا خصومة بيننا، نحن رجلان أخوان لماذا الخصامات والقتل والحرب والحقد والبغض.

ثانيًا: حين اختار لوط الأرض الغنيّة، تجرّد أبرام حتّى لا تكون خصومة بينه وبين ابن أخيه.

ثالثًا: ولما تجرّد، أعطاه الربّ أكثر من الماء، أكثر من الكلأ، أكثر من المواشي، أعطاه لأن يكون معه قم وامشِ والربّ سيكون رفيق ابرام في طول الأرض وعرضها. عند ذاك يقول النصّ، انتقل ابرام بخيامه حتى بلّوط ممرا في بحبرون فأقام هناك وبنى مذبحًا للربّ.

وهكذا ينتهي هذا الفصل كما بدأ في 13/4 دعا ابراهيم باسم الرب وانتهى: »بنى مذبحًا للربّ« فما احلى حياة ترافقها هذه الصلاة، ترافقها الذبيحة، ما أحلى الحياة نسير فيها والربّ يسير معنا كما يسير مع الأبرار. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM