إبراهيم في مصر

سفر التكوين 12/10-20:

إبراهيم في مصر

الحلقة 27

وكان جوع في أرض كنعان..... وكلّ ما يملك.

ماذا نجد في هذا المقطع؟ أوّلاً هناك موضعين. موضع أوّل أرض كنعان، موضع ثانٍ أرض مصر. أبرام هو في كنعان وسينطلق إلى مصر وبين الإثنين نجد صحراء النقب التي سار إليها أبرام شيئًا فشيئًا طلبًا للماء والمراعي. ونجد شيئًا آخر: علاقة بين أرض فلسطين وأرض مصر. العلاقة هي على المستوى الزراعي. كانت فلسطين تعيش من الزراعة أو من المواشي وهي تنتظر المطر. فإن كان مطر حلّت البركة بالأرض وإلاّ كان الجوع كما يقول النصّ هنا في الآية 10: »لأنّ الجوع كان شديدًا« هي علاقة على مستوى الطعم والشراب، على مستوى الزواج. لا ننسى أنّ سليمان تزوّج أميرة مصريّة، فكأنّي به يعيد ما فعله إبراهيم حين أعطى إمرأته لملك مصر. والفكرة الثالثة نجد علاقة مباشرة بين إبراهيم والفرعون مع أن الواحد ليس على مستوى الآخر. إبراهيم هو رئيس عشيرة بسيطة وأمّا فرعون فهو أعظم ملك في ذلك الزمان، وسيكون الأمر كذلك مع موسى الذي سيجعله الكاتب الملهم وجهًا لوجه أمام فرعون. نلاحظ أنّ الكاتب لا يجعلنا على مستوى التاريخ ولا على المستوى السياسيّ والإقتصاديّ والوطنيّ بل يجعل نظرتين الواحدة تجاه الأخرى. فمصر بفرعونها تعبد الآلهة الوثنيّة وإبراهيم وعشيرته يعبدون الإله الواحد. وسوف نرى في الفصل 14 أنّ إبراهيم سوف يتغلّب على أربعة ملوك، على ملوك العالم كلّه، لا بسلاحه وإن تحدّث النصّ عن السلاح بل بإيمانه. غير أنّنا نلاحظ هنا أنّ إبراهيم وإن كان الله قد اختاره فهو سيخون هذا الإختيار، سيخون هذا الإختيار مرّتين: مرّة أولى حين يترك أرض كنعان فيقول: فنظر أبرام إلى مصر ليتغرّب هناك ليكون غريبًا هناك، مع أنّ الله فكان قد قال له في 12/7 »لنسلك سأهب هذه الأرض. كان في فلسطين في أرض الربّ في أرضه فصار غريبًا في أرض مصر. فضّل الغربة على الإقامة في أرض الربّ، وكانت تلك خيانته الأولى. ذهب إلى مصر حيث تعبد الأوثان ونسي أنّ الربّ هو الذي يعطي المطر، هو الذي يعطي البركة. والخيانة الثانية هي حين تخلّى عن إمرأته التي هي حاملة الموعد. إذا كان الربّ جعل من نسل إبراهيم نسل البركة، فإن هو تخلّى عن امرأته، إن هو سلّم امرأته إلى ملك مصر فهذا يعني أنّه تخلّى عن العهد. خيانتان عاشهما إبراهيم ولكن الربّ لا يتخلّى، لا يندم على ما فعله، وعد إبراهيم وظلّ أمينًا على وعده رغم ما فعله إبراهيم حين ترك أرض كنعان متغرّبًا في مصر وحين ترك امرأته بل باعها لملك مصر. وحين يقف أبرام بوجه ملك مصر، يبدو ملك مصر أكثر صدقًا من أبرام أو إبراهيم. إبراهيم باع إمرأته، كذب، قال أنّها أختي، أمّا فرعون فتخلّى عنها اعتبرها أخت إبراهيم أخذها زوجة له ولكنّه تخلّى عنها. والشيء الثاني والمهمّ هو أنّ إبراهيم حين قدّم امرأته زوجة لفرعون نال الغنى الكثير بسببها. نقرأ في آية 16 »وأحسن فرعون إلى أبرام بسببها... وجمالها« يعني صار غنيٌّا جدٌّا بسبب امرأته التي باعها للمصريّين. هذا الكنز الذي هو بيته بادله ببعض الخيرات وشعبه شعب إبراهيم الذين سيكونون في مصر، يحاولون أن يبدّلوا الحياة في البريّة مع الله تجاه الحياة في العبوديّة في مصر مع الطعام والشراب. ونتابع كلامنا في هذا النصّ الذي عنوانه إبراهيم في مصر. يحدّثنا الكاتب عن ساراي يعني هي الأميرة ساراي امرأة أبرام. يقول أوّلاً ساراي هي امرأة جميلة المنظر، الجمال الخارجيّ هو رمز إلى جمال آخر. دائمًا الكتاب المقدّس حين يحدّثنا عن شخص من الأشخاص سواء كان رجلاً مثل يوسف أو امرأة مثل سارة فهو يقول لنا أنّه جميل وهذا الجمال يدلّ على ثمرة البركة التي أعطيت لهذا الشخص أو ذاك وهذا الجمال يدلّ على ثمرة البركة التي أعطيت لهذا الشخص أو ذاك وهذا الجمال يلفت نظر الآخرين. امرأة أبرام لفتت نظر الآخرين، يوسف لفت نظر امرأة فوطيفار وحاولت أن تغويه وسيكلّفه جماله أن يعاقب، أن يوضع في السجن. لن يكون الجمال يومًا من لذّة شهواتنا وملذّاتنا بل يكلّفنا غاليًا. هكذا كلّف يوسف الكثير أحبّته إمرأة فوطيفار ولمّا رفضت أن يجاريها اشتكته إلى زوجها فجعله في السجن. وجمال إمرأة إبراهيم ساراي سيكلّفها أن تكون في خدمة الفرعون. أبرام حاول أن يتهرّب من المسؤوليّة، حاول أن ينجح على حساب امرأته: »فيقتلونني ويطبّقون عليك«. أمّا إذا قلت أنّك أختي فيحسنون معاملتي ويبقون على حياتي لأجلك. ولكن من دفع الثمن: المرأة. الرجل نجا بحياته، نال الخير الكثير. أمّا المرأة دفعت الثمن. هنا أحبّائي لا نتوقّف عند حرفيّة النصّ ونعتبر أنّ سارة ذهبت حالاً إلى الفرعون. نستطيع أن نتخيّل أحد الشيوخ في القرى أو في المدينة أو أحد الأغنياء، قد رأى سارة أو أخبر عن سارة وعن جمالها وطلبها من إبراهيم. لا شكّ في أنّ تصرّف أبرام لا يجعلنا على مستوى رفيع جدٌّا، كلاّ ثمّ كلاّ. هو ما دافع عن امرأته بل تركها لقمة سائغة في يد المصريّين، أحد الشيوخ الذين يجعلهم الكاتب وكأنّه الفرعون، مدحوها عند فرعون وأخذوها إلى بيته.نلاحظ هنا أنّ الكاتب لم يكن موافقًا على ما فعله أبرام. وهذا ما نفهمه بآية 16 »وأحسن فرعون إلى أبرام...« أي أعطاه الشيء الكثير وما الذي دفع فرعون إلى الإحسان إلى أبرام: »إمرأته« يقول: »بسببها« ولكن بسببها لا كرامة لها. نستطيع القول بل بعني أنّه باعها ويقول الكاتب ببعض السخرية تجاه أبرام وإبراهيم صار له غنم وبقر... وجمال. كلّ هذا الغنى جاء لأبرام لأنّه باع إمرأته للفرعون نعم، ليس من وليّ بدون خطيئة ليس من نبيّ بدون خطيئة كما يقول المزمور: »ليكن الله صادقًا وكلّ إنسان كاذب« لا لن نجد الخلود على مستوى البشر، لن نجد كلّ الطهارة والقداسة على مستوى البشر وحده، هو الله هو قدّوس، قدّوس، قدّوس ربّ الصباؤوت وإبراهيم هو شخص خاطئ وسوف نراه في أكثر من موقع وسوف نرى يعقوب أيضًا أنّه خاطئ، يكذّب على خاله يسرق خاله. فالإنسان هو في الواقع، هو ابن الخطيئة، فالخطيئة حبلت بي أمّي. ولكن الإنسان يرتفع شيئًا فشيئًا ليكون على قدر المهمّة التي سلّمه إيّاه الربّ. ولنا بحياة القدّيسين الأمثلة العديدة. أعسطينوس معلّم أفريقيا العظيم كانت حياته مليئة بالخطايا من زنا، من سرقة وغيرها. ولكن حين دعاه الربّ سلّم حياته بيد الربّ. ونقول الشيء عينه عن أغناطيوس مؤسّس الرهبنة اليسوعيّة، عن فرنسيس مؤسّس الرهبنة الفرنسيسكانيّة وعن قدّيسين عديدين انطلقوا من عالم الخطيئة، انطلقوا من بشاعة حياتهم ونستطيع أيضًا أن نتذكّر ذلك الذي التقاه الربّ على طريق الشام: »شاوول، شاوول لماذا تضطهدني وهو يقتل ويلاحق في أيّ مكان تلاميذ الربّ، ولكن الربّ دخل في حياته وحوّلها شيئًا فشيئًا ولكن البداية هي دومًا بداية الخطيئة. لهذا السبب نقول للربّ: »أغفر لنا خطايانا«. ويقول لنا القدّيس يوحنا في رسالته الأولى: »من قال أنا بلا خطيئة فهذا كاذب، أمّا إذا أقررنا بخطايانا، إذا اعترفنا بخطايانا، فالربّ رحوم. وهكذا يبدو أبرام أبو المؤمنين يبدو ابن الخطيئة وبخطيئته فستكون له الخيرات الماديّة التي لم يرضَ عنها أبدًا الكاتب الملهم. ويبيّن لنا أنّ أبرام وإن أخطأ وهو الذي دعاه الربّ، وهو الذي آمن كما سنرى فيما بعد ونحن أيضًا معرّضون للخطيئة، معرّضون للكذب معرّضون للتخلّي عن أصدقائنا وقد يعرّض الرجل لأن يترك امرأته ويترك أولاده من أجل راحته، من أجل سعادته، من أجل الخلاص من الموت. هكذا تصرّف الإنسان تصرّفًا محدودًا، ولكن الربّ هو هنا وهو يعرف كيف يحافظ على العهد، كيف يحافظ على النداء. أبرام باع العهد، تخلّى عن النداء، باع العهد لمّا ترك الأرض وتخلّى عن امرأته ولكن الربّ لا يتخلّى. لهذا يقول الكاتب أنّ الربّ فضرب فرعون وأهل بيته ضربات عظيمة. لا يقول النصّ كيف ضرب الله فرعون وأهل بيته ولكن النصوص المنحولة تقول إنّه لم يستطع أن يعرف سارة وهكذا ظلّت سارة كلّها لعهد الربّ، ظلّت سارة بكليّتها لزوجها، وأهل بيته ضربات يعني منعهم بأن يكون لهم أولاد. وكلّ هذا بسبب ساراي امرأة أبرام. أوّلاً نلاحظ أنّ الربّ يدافع عن الضعيف، عن المرأة، عن ساراي، دافع عنها، مرّات كثيرة، نحسب أن الله مع الأقوياء، كلاّ ثمّ كلاّ، هو الذي يهتمّ بالغريب، بالأرملة، باليتيم، يهتم بالمضايق، بالمظلوم. ومن جهّة ثانية، ساراي امرأة أبرام هو يدافع عن مشروعه الذي كاد يضيع بسبب ابراهيم. ضرب فرعون وأهل بيته ضربات. الربّ هو الذي يفعل ساعة يرفض الإنسان أن يفعل. الربّ هو الذي يفعل ومشروعه يجب أن يتابع مسيرته. وما نلاحظه هنا هو أنّ إبرام نسي صوت الربّ، نسي نداء الربّ، لم ينتبه إلى مشروع الربّ. أمّا فرعون وهو الوثني وهو المفروض فيه أن يعبد الأوثان، ففرعون فهم أن هذه الضربة هي من عند الربّ، إنّها تنبيه، إنّها تأديب من عند الربّ. لن يكون ابنه فرعون في زمن موسى على شاكلته فهو سوف يقسّي قلبه ويرفض أن يطلق الشعب كما طلب موسى. أمّا فرعون هذا فهو ذاك الذي يفهم سريعًا أنّ هذه الضربة هي من الله وأنّه خطئ خطأً كبيرًا، فهم أنّ كلّ ذلك حدث بسبب ساراي فاستدعى فرعون أبرام وقال له ماذا فعلت بي فكتمت عنّي أنّها امرأتك لا شكّ في أنّ فرعون استعلم عن السبب وجاء كلامه بشكل عتاب لإبراهيم، إبراهيم الذي كذب عليه وقال له هذه أختي وتصرّف معها فرعون بنيّة طيّبة، بنيّة صالحة »ماذا فعلت بي فكذبت عنّي أنّها امرأتك«. فهم فرعون إنّه أخطأ فيما فعل وماذا كان ردّة الفعل عنده لم  يعاقب ابراهيم فقد يكون فهم بعض الشيء أنّ ابراهيم مبارك من الربّ نال خمس بركات لم يعاقبه بل قال له »خذ امرأتك واذهب يعني طرده من البلاد وكأنّه خاف من أنّ تنجّس خطيئته تلك البلاد. وأمر فرعون رجاله أن يطردوه من البلاد مع امرأته وكلّ ما يملك. ونلاحظ هنا أنّ هذا الطرد من البلاد هو ردّ على ما فعله ابراهيم. فالربّ يتابع مشروعه بواسطة فرعون ورجاله. تخلّى أبرام عن العهد وذهب إلى مصر يطلب الطعام والشراب تخلّى أبرام عن العهد وباع امرأته. نسي أنّ الربّ هو الحاضر في حياتنا وجاء فرعون ورجاله فردّوا إبراهيم إلى أرض كنعان، إلى الأرض التي قال له الربّ »لنسلك أهب هذه الأرض«. وهكذا توسّل الربّ الوسائل البشريّة لكي يجعل إبراهيم يعود إلى الأرض التي أعطاها إيّاها. وهكذا نفهم أحبّائي كيف أنّ الله يأخذ بالوسائل البشريّة، بصوت البشر، بالظروف الماديّة، بأمور عاديّة حتّى يجعلنا في خط ارسالة التي يريدها لنا. هذا ما فعله ابراهيم، هذا ما فعله أيضًا ببولس بأعمال الرسل فصل 16. ما أراد بولس أن يذهب إلى أوروبا، ماذا فعل الروح؟ أغلق بوجهه كلّ الأبواب، أراد أن يذهب إلى الشرق فمُنع، غلى الغرب فمُنع، وانفتحت الطريق أمامه فمضى إلى فيليبّي ثم تسالونيكي، إلى أرض اليونان، إلى أرض أوروبا ليحمل الإنجيل إلى هناك. وهكذا تكون الأمور في حياتنا، قد تخون الرسالة، تخون المهمة التي جعلها الله لنا. نحاول أن نتهرّب متذرّعين بأمور بشريّة، بأمور ماديّة على مثال ما في الإنجيل: اتبعك يا ربّ ولكن دعني أوّلاً أدفن أبي، أتبعك يا ربّ ولكن... ونضع اللكن بعد اللكن. ولكن الربّ يدعونا ونداءه جذريّ. من وضع يده على المحراث ونظر إلى الوراء، لا ننظر إلى الوراء بل نعرف أن نتعلّق بنداء الربّ ومواعيد الربّ، نداء الربّ ليس ابن ساعة أو دقيقة. نداء الربّ يطول طول حياتنا وهو يطلب منّا الإيمان والأمان والثبات حتّى النهاية، وقد يكون ابراهيم تعلّم من خبرة مصر أنّ الربّ إن دعا فدعوته دائمة، وإن نادى فنداءه لا رجوع عنه، وإن أعطى فإنّ عطيّته باقية وإن بارك فإنّ مباركته بركته تصل بنا إلى المسيح.  آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM