مولد إسماعيل

الحلقة 31 - الفصل 16:

مولد إسماعيل

الآية الأولى: وأمّا ساراي إمرأة إبرام فلم تلد لهُ، وكانت لها جارية مصريّة إسمُها هاجر. فقالت ساراي لأبرام: الربُّ منع عنّي الولادة فاعرِف جاريتي لعلَّ الربّ يرزقني منها بنين.

فسمع إبرام لكلام ساراي، فأخذت ساراي إمرأة أبرام هاجر المصريّة جاريتها، وأعطتها لأبرام لتكون له زوجة. وذلك بعدما أقام أبرام بأرض كنعان عشر سنين. فعرف أبرام هاجر فحبلت، فلمّا رأت أنّها حبلت صغُرَتْ سيّدتها في عينيها. فقالت ساراي لأبرام: غضبي عليك. دفعتُ جاريتي إلى حضنكَ فلمّا رأت أنّها حبلت، صغُرتُ في عينيها. الربُّ يحكمُ بيني وبينك.

فقال أبرام لساراي: هذه جاريتُك في يدِكِ فافعلي بها ما يحلو لك. فأخذت ساراي تذلّها حتّى هربت من وجهها.

وَوَجَدَ ملاكُ الربِّ هاجر على عين ماء في الصحراء، على عين الماء التي في طريق شور، فقال لها:يا هاجر جارية ساراي، من أين جئت وإلى أين تذهبين؟ فقالت: أنا هاربةٌ من وجه سيّدتي ساراي.

فقال لها ملاكُ الربّ: إرجعي إلى سيّدتك وأخضعي لها. ثمّ قال لها: كثيرًا أجعلُ نسلك حتّى لا يُحصى لكثرته، وقال: أنت حبلى وستلدين ابنًا فتسمّينه إسماعيل لأنّ الربَّ سمع صُراخُ عنائك ويكون رجلاً كحمار الوحش، يدُه مرفوعة على الجميع. ويدُ الجميع مرفوعة عليه ويعيش في مواجهة جميع أخوته.

فنادت هاجر الربّ الذي خاطبها: أنت الله الذي يراني، لأنّها قالت هنا حقٌّا رأيتُ الذي يراني لذلك سُمّيت البئر بئر الحيّ الرائي. وهو بنى قادش وبارذ. وولدت هاجر لأبرام ابنًا فسمّاهُ إسماعيل، وكان إبرام ابن ستّ وثمانين سنة حتّى ولدت له هاجر إسماعيل.

نلاحظ أوّلاً: أنّ الأسماء لها معنىً، فالإسم يدلّ على الشخص.

ساراي معناها الأميرة.

أبرام معناه الأب رفيع.

إسماعيل معناه الله سمع.

اسماء وكل إسم يرتبط برسالة.

ساراي هي الأميرة تجاه الجارية.

أبرام هو الرفيع تُجاه ربيبِ بثينة أليعازر.

وهناك إسماعيل يعني الربُّ سَمع لهاجر من عنائها من ضيقها.

هاجر هي جارية مصريّة، هي عبدة جاء بها إبراهيم من مصر لمّا كان هناك.

جارية، عبدة، يعني تُشرى وتُباع. وهذه الجارية، هذه العبدة هي في خدمة سيّدتها، وفي خدمة سيِّدها، إذا شاءت سيّدُتها كما هو الأمر هنا. حين نقرأ هذا الفصل نرى أنّنا في نظرتنا المسيحيّة أمام زنى، فأبرام لم يكن أمينًا لسارة، لساراي بل ضاجَعَ »عرف« كما نقول في الكتاب المقدّس. ضاجضعَ هاجر المصريّة هنا لا نحكُم على الأمور بمنظار الإنجيل.

في الماضي، في العالم القديم، كانت عطيَّةُ الأولاد أهم عطيّة. ومن أجل هذه العطيّة، يُضحّي الرجل وتضحّي المرأة بكلّ ما يملكون...

يُضحّي الرجل بكلّ ما يملك، والمرأة بكلِّ ما تملك. فالإبن، فالولد، هو بركة من عند الربّ. لهذا السبب يفعلُ الرجل المستحيل، وتفعلُ المرأة المستحيل حتّى يكون لهما أولاد. وهذا ما فعلته ساراي، ما فعلته سارة. قبلت أن يذهب زوجها إلى جاريتها، والكاتب واضح يقول: أخذت ساراي هاجر وأعطتها لأبرام لتكون له زوجة وافقت سارة كلّ الموافقة. المهمّ أن يكون لزوجها أبرام نسل. أن يكون له أولاد.

والأمثال كثيرة في الكتاب المقدّس.

سوف نقرأ بالفصل 19، كيف أنّ ابنتي لوط ضاجعتا الوالد ليكون لهما نسل - هم العمدنيّون والمؤابيّون - وثمار كنة يهوذا سوف تتصرّف كأنّها زانية مع يهوذا، ليكون لها أولاد من نسل يهوذا. والأمثلة عديدة في التاريخ القديم.

تقولون ما هذا الكتاب المقدَّس؟ وما هذا الذي يُعلِّمنا إيّاه؟ - كلاّ - هو لا يعلِّمنا هذا. هو لم يزل في طور التربية، يُربِّي البشريّة شيئًا فشيئًا، إلى وقتٍ تعيشُ الحياة الزوجيّة التامّة، حيثُ جسم الرجل ليس ملكه بل مُلك إمرأته. وجسم المرأة ليس لها بل هو مُلكُ زوجها.

هذا ما يقول القدّيس بولس في الرسالة الأولى إلى أهل قورنتس الفصل 7.

إذًا لا نحكمُ هنا على هذا النصّ بمنظار الإنجيل بل نحكم على النصّ إنطلاقًا من ذلك العصر. حيث نضحّي بعظمة الزواج، سرّ الزواج من أجل الأولاد. هذا ما نسمّيه في اللاّهوت الأدبي الشرّ الأقلّ.

هناك شرّان = أن لا يكون لأبرام ولد أو أن يترك إمرأته ويتّخذها هاجر زوجةً له. كلّ هذا يفهمُنا أنّ العهد القديم هو مسيرة، مسيرة يحاول الربّ أن يُربّي البشريّة يومًا بعد يوم.

في المشهد الثاني عرف إبرام هاجر فحبلت. هنا نحسُّ بأمور عديدة =

أوّلاً: الحسد من قبل سارة. حسدت سارة هاجر جاريتها لأنّ الربّ كما تقول منع عنّي الولادة. ونحن نعرف بهذا الشرق أنّ الربّ هو الذي يُعطي »بتقول المرة عنّا »ربّنا ما عطاني ولد« أو »ربّنا ما عطاني ولاد«« هنا الحسد.

وفكرة ثانية: هذه الجارية التي حبلت من إبرام، هذا الأب الرفيع رأت نفسها كبيرة جدٌّا، بل رأت نفسها اكبر من سيّدتها، لهذا تقول صُغرَت سيّدتُها في عينيها - بدت سيّدَتُها صغيرة - ماذا تستطيعُ أن تفعل ساراي. هي لا تستطيع شيئًا ضدّ الجارية وفيها الولد الذي انتظره إبراهيم. فغضبت على أبرام، ولكن أبرام ما أراد أن يتدخّل بني النساء - فقال لها: أنت السيّدة وهي الجارية، وهي العبدة فافعلي بها ما يحلو لك، نلاحظ هنا أنّه من الصعب جدٌّا أن يكون للرّجل أكثر من إمرأة ويبقى السلام في البيت.

سنلاحظ أيضًا مع يعقوب، عنده إمرأتان أختان راحيل وليئا. ومع ذلك كان الخلاف وكان الحسد. والرجل يُميّز إمرأة عن أخرى وهذا هو الوضع بالنسبة إلى ليئا وراحيل. فيعقوب فضّل راحيل على ليئا. وسارت ليئا المرذولة مع أنّها أعطت يعقوب أكثر من ولد.

وهنا مع أنّ سارة هي الأميرة، هي السيّدة، هي التي لا يفعلُ أبرام شيئًا دون أن يسألها، ساراي حسدت هاجر - أحسّت انّها صغيرة بقرب هاجر - ولهذا يقول الكتاب أخذت ساراي تُذلُّ هاجر حتّى هربت من وجهها. هذا الإذلال يتّخذُ أشكال عديدة من الضرب أو من العمل المضنيّ أو غيره من الأمور.

وماذا كانت النتيجة: هربت هاجر من وجه سيّدتها.

هنا أحبّائي نقرأ بالفصل 70:

ووجد ملاكُ الربّ هاجر.

كلمة ملاك ترجع إلى العربيّة لأك - أرسل. ملاك الربّ هو رسول الربّ - قد يكون أوذلاً إنسان من الناس عنده بعض الحكمة، وبعض الفهم، كان عند تلك العين فكلَّم هاجر، رأى إمرأة وجدها هنا بعيدة عن كلّ القبائل، بعيدة عن كلّ الخيامن فأعطاها النصيحة. وسوف تفهم هاجر فيما بعد أنّ هذه النصيحة أُرسِلت من عند الله. حملها ملاك الربّ، حمَلها رسولُ الربّ.

هذا ما نجده مرّاتٍ عديدة. مثلاً: بأعمال الرُسُل الفصل 12: لمّا نجا بُطرس من السجن، لمّا خرجَ بطرس من السجن لسببٍ من الأسباب لا يقولُه لوقا في أعمال الرُسل. حين نجا من السجن وصار حرٌّا طليقًا، وكاد يصل إلى بيت مريم أم يوحنّا مرقس في أورشليم قال:

الآنَ فهمتُ أنّ الربّ أرسل ملاكُهُ. إذًا الملاك يدلّ على حضور الله. الملاك يدُلَّ على عمل الله، وهنا نستطيع أن نفهم أنّ الربّ كلَّم هاجر في أعماق قلبها كما يكلِّمُ كلَّ واحد فينا، وأرسل شخصًا من الأشخاص، شيخًا من الشيوخ، أو رُبّما إمرأة من النساء جاءت تستقي ماء، قالت لها: ماذا تفعلين هنالله أنت وحدك؟

وسألتها عن قبيلتها، قبيلة بعيدة جدٌّا، كيف تركت البيت؟ كيف تركت زوجك؟ وأخبرتها هاجر بحالها.

ملاكُ الربّ كما قلت وأُعيد هو أوّلاً صوت الربّ في الأعماق، وهو ثانيًا صوتُ البشر الذي يتجاوب في قلبنا مع صوت الربّ. هنيئًا لنا إن عرفنا أن نميّز من خلال صوتٍ بشريٍّ صوتَ الربّ، أن نرى في هذا الصوت رسول الربّ، ملاك الربّ، وهذا ما كان بالنسبة إلى هاجر. وكا لهاجر أن تفتَح قلبها لذلك الملاك، لذلك الرسول.

قالت: أنا هاربة من وجه سيّدتي ساراي. كان بإمكان هاجر أن ترفض الحديث مع ذلك الرسول أو الرسولة، كان بإمكانها أن تكذب عليها، كان بإمكانها أن لا تقول شيئًا، أن لا تفتح قلبها، كلُّ هذا كان ممكن، عند ذاك لكانتِ انطلقت، ولمّا كانت وجدت الجواب، ولمّا كان تجسَّدَ صوتُ الربّ في حياتها، صوتُ الربّ الذي لا يُسمع، يُصبح مسموعًا من خلال أصواتِ البشر.

وهنا نستطيع أن نشدِّد من جهة على هاجر التي فتحت قلبها على ذلك الشخص، على تلك المرأة التي جاءت تستقي ماءًا، ومن جهة ثانية، نستطيعُ أن نتطلَّع إلى هذه المرأة التي رات في عين هاجر الحزن، الألم، الوجع، العُزبة، كلان باستطاعتها أن تقول لا يهمَّني أمر هذه المرأة - هي وشأنُها - »وتتركها تدبِّر حالها بحالها«. كلاَّ تدخَّلت في أمرها. أرادت أن تدخُل في حياتها، في صعوباتها، أرادت أن تدخُل في هذا الجو الصعب المليء بالألم، المليء بالحزن، المليء باليأس. فهاجر لمّا ذهبت إلى الصحراء، حيث لا ماء ولا طعام، فكأنّي بها تذهب إلى الموت، فكأنّي بها تنتحر. ولكن ملاك الربّ، ولكن رسول الربّ، جعلها تعي ذاتها، تعي المستقبل الذي ينتظرُها، ماذا كان الجواب؟ إرجعي إلى سيّدتك واخضعي لها. هذا ما قالت لها هذه الرسولة ملاك الربّ إلى هاجر.

وسمعت هاجر في ذلك الملاك، من ذاك الرسول. طلبت الموت فكان لها الحياة.

هذا هو وضع أيضًا إيليّا النبي لمّا هدّدته إيزابيل زوجة آخاب ملك إسرائيل، طلب الموت لنفسه وراح في الصحراء.

ولكن الربّ كان ينتظره في حوريب فقال له: إرجع، إرجع عليك مهمّة وعلى هاجر أيضًا أن ترجع فعليها مهمّة. إرجعي إلى سيّدتك واخضعي لها، هنا نفهم هذا الوضع الإجتماعيّ حيث السيّد والعبد، حيثُ الأميرة والجارية.

هذا لا يعني أنّ الكتاب رضي بهذا الوضع. كلاَّ ثمَّ كلاَّ. وسيقول لنا بولس في الرسالة إلى فيلمون كيف يُعامَل العبيد. قال لفيلمون الذي كان له عبد إسمه أونيسيموس وهرب من وجهه. عامِلْهُ مثل أخ لكّ لا مثل عبد لكَ.

وصَلنا إلى مستوى الأخوة. وكما قلت طلبت هاجر الموت فوضع الله أمامها الحياة.

قال لها: كثيرًا أجعل نسلك حتّى لا يُحصى لكثرته. هنا الكاتب بعد يمكن 200 أو 500 سنة أو 1000 سنة يعود إلى الوراء، ويتطلّع إلى نسل هاجر، إلى إسماعيل، إلى الإسماعليّين الذين صاروا شعبًا كثيرًا.

وكلّ هذا بسبب هاجر.

هاجر تحملُ الحياة في بطنها، الأمّ تدلُّ علىالشعب. ودائمًا في الكتاب المقدّس، الأمّ، المرأة تدلُّ على الشعب، وهاجر هي هنا تحملُ في أحشائها نسلاً كبيرًا.

فإذا ماتت هي، مات هذا الطفل ومات هذا النسلُ كلّه.

وهكذا فهمت هاجر أنّ عليها أن تعود مهما كانت الأمور التي تنتظرها. مهما كان العناء والنقب والذلّ الذي ينتظرها.

وأعطانا الربّ في لوحة تاريخيّة، في لوحةٍ واقعيّةٍ بعد الأحداث بمئات السنينن أعطانا لوحًا عن شعب بعيدًا عن البشر. نداءٌ من السماء، نداءٌ من الأرض، فهمت هاجر أنّ عليها أن تعود.

فنادت هاجر الربّ الذي خاطبها: أنت الله الذي يراني.

جميلٌ جدٌّا: الله يراني.

يرى »يقول فوق بالنصّ الآية 11: الربُّ سمع صراخ غبائك. وتقول الآن الربّ يراني، نتذكّر هنا الشعب العبراني في مصر، صرخ الربّ فسمع الربّ صراخه، كلُّ متألّم، كلُّ معذّب، كلُّ مضايق الربّ يراه. الربّ يسمع صوته، يسمع آلامَه، يُحاول أن يفعل له - فالربّ ليس الحاضر الذي لا يفعل شيئًا.

الربّ هو الذي يقول، هو ليس كالأصنام، البُكم التي لا تسمع، التي لا تفعل، قالت هنا حقٌّا رأيتُ الذي يراني.

تراءى الربّ لهاجر، فأحسّت أنّ الربّ هو هنا وهو الذي أمسك بيدها.

هاجر فهمت من خلال حوارها مع هذا الرسول الذي رأت فيه الملاك، اكتشفت أنّ الربّ هو هنا، هو حاضرٌ هنا - لهذا السبب سُمِّي البئر بئر الحيّ الرائي - الله هو الحيّ ليس كالآلهة الميتة. الله هو الذي يرى وليس بذلك الأعمى القابع في سمائه لا يرى آلام البشر. وولدت هاجر لأبرام ابنًا فسمّاه اسماعيل. وكان إبرام إبن ستٍّ وثمانين سنة حين ولدت له هاجر إسماعيل.

نلاحظ أنّ هذا العمر ليس العمر الحقيقيّ بل نتذكّر أنّ الأربعين هي جيل - إذًا ثمانين يعني جيلين. يمكن إبراهيم كان عمره في هذا الوقت أربعين سنة.

وهكذا قرأنا الفصل - 16 - من سفر التكوين مولد اسماعيل، وتعرّفنا بشكلٍ خاصّ إلى هذه العلاقة بين ساراي وهاج، بين المرأتين داخل البيت الواحد وما فيها من صعوبات. وتعرَّفنا إلى مسيرة هاجر، فهي شأنها شأن إبراهيم يحقّ لها أن ترى الله، أن تسمع الله وأن يسمعها الله.

سمع لها وكثَّر نسلها كما كثَّر نسل إبراهيم. فالبركة لا تكون قط للرجال بل هي للنساء، البركة هي للجميع.

وكما نال أبرام بركة من عند الربّ كذلك نالت هاجر، وكما تراءى الربّ لأبرام، تراءى لهاجر، لهذا السبب هتفت، نادت أنت الله الذي يراني.

الربُّ يرانا، الربُّ يسمع لنا - يا ليتنا نعي حضوره، نسمع صوته ونراه بعيوننا وقلوبنا، آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM