الحلقة 21 نظام جديد للعالم

الحلقة 21 نظام جديد للعالم

تكوين 9/1-7

بعد الطوفان ماذا يهيّء الربّ للعالم:

- الفاعل هو الله، هو الذي يبارك، الله هو الذي يتكلّم، كلّ مبادرة إنّما هي من الله، وعلى كلّ إنسان أن يتقبّل بركة الله، أوامر الله، عطايا الله بروح الإيمان والرجاء والمحبّة.

- باركَ عني أعطاهُ الخبز، أعطاهُ كلّ خير. هنا نعود فنسمع ما قيل في تكوين -1- كيف أنّ الله، بعدَ خلق العائلة الأولى الرجل والمرأة باركهم يعني وضع أمامهم جميع خيراته، لكي تساعد هذه الخيرات الإنسان، لكي يرتفع إلى الله.

وبارك الله نوحًا وبنيه، هذه البركة تصل إلى ذاك الذي نجا من الطوفان، نجا من الموت، إعتبر أنّ نجاته من الموت، نجاته من الغرق هي إمكانيّة جديدة. نعمة جديدة أعطاهُ الله إيّاها وهذا ما يمكن أن يحصل لنا. مثلاً: إذا كانت هناك حادثة سيارة مات واحد وظلّ الآخر حيٌّا، يجب أن يعرف أن هذه الحياة التي أُعطيت له هي مناسبة لبركة ولعمل جديد ينتظره الله منه. وهنا في النصّ الكتابي الله ينتظر من نوح، إنطلاقة جديدة، حياة جديدة. بارك الله نوح وبنيه، هم جميعًا في البركة نفسها، كانوا في السفينة التي تدلّ على الخلاص، كانت تدلّ علىشكل هيكل أورشليم، تدلّ علىحضور الله وحضور الله لا يمكن إلاّ أن يكون النجاة والخلاص. بارك الله نوحًا وبنيه، حمل إليهم الخلاص، حمل النجاة، حمل الحياة.

- نلاحظ في الكتاب المقدّس تكرار كلمة »قال الله«، كلّنا يعرف أنّ الله روح وأن لا فم له مثل أفواهنا، هو لا يتكلّم كما يتكلّم البشر، إنّما يوصّل كلامه من خلال صوت داخليّ لكن نحن نحاول أن نعبّر عنه، أن نجسّده. يوصل الله كلامه بواسطة نبيّ، بواسطة أحداث. سيعرف نوح وبنوّه أنّهم إن نجوا من الطوفان، إن نجوا من الغرق فلأنّ الربّ يهيّء لهم حياة »جديدة«.

قال الربّ هو يحدّثنا من خلال الأحداث، ونحن لن نكتشف صوته بهدوء إلاّ بعد مرور الحدث وبعد أن ننهي العمل الذي قمنا به، ننظر إلى الوراء فنرى المسيرة التي سرناها مع الله هكذا كان الوضع بالنسبة لنوح، لمّا رأى نسله يتكاثر، فهم أنّ هذه هي بركة الله ونستطيع أن نقول الشيء نفسه بالنسبة للقدّيس بولس الذي التقى الربّ على طريق الشاه، كلّمهُ الربّ فلم يفهم كلام الربّ إلاّ من خلال الرسالة، فهم الطريق الذي هيّأهُ الربّ له.

وماذا قال الربّ لنوح وبنيه: »انموا وتكاثروا واملأوا الأرض. ما قاله في البداية مع أوّل رجل وامرأة هو يقوله بعد الطوفان، بعد أن كاد العالم يعود إلى العدم. بركة الله لا تراجع عنها، عطايا الله لا ندامة فيها، رغم خطيئة البشر والعنف الذي به ملأوا الكون، ما زال الربّ يقول لهم أنموا وتكاثروا واملأوا الأرض وهذا هو الواقع الذي رآه الكاتب الملهم حين كتب هذا النصّ، هذا النصّ كُتب تقريبًا بعد الجلاء، يعني في القرن السادس أو القرن الخامس وفي الواقع كان هناك بشر في أماكن عديدة من الأرض وقد يكون الكاتب الملهم زار مثلاً: بلاد الراقدين، أو مصر أو أرض كنعان أو شرق الأردن أو الأراميين في سوريا وغيرها من الأماكن. إذا كانت البشريّة نمت وتكاثرت وملأت الأرض فهذا يعود لأنّ الربّ بارك. بدون بركة الله، الأرض لا تعطي ثمر الحيوان لا يعطي صغار والبشر لا يتكاثرون ويتابع النص فيقول سيخافكم ويرهبكم جميع حيوانات الأرض وطيور السماء وكلّ ما يدبّ على الأرض وجميع أسماك البحر. المخافة تدل على الإحترام وكذلك الرهبة. عادة »الإنسان ينتابه شعورٌ من الخوف، من الرهبة، يحسّ بنفسه صغيرًا أمام الله الكبير، يحسّ بنفسه خاطئ أمام الله أمام الله القدّوس، يحسُّ بنفسه بعيدًا عن الله الذي يريد أن يقترب منه والحيوان يعامل الإنسان وكأنّ الإنسان هو بالنسبة إليه الله. لا شكّ سلطة الإنسان على الحيوان تأتيه من عند الله لذلك يقول النصّ، فهذه كلّها اجعلها في أيديكم، كلّ الحيوانات، طيور السماء، ما يدبّ على الأرض، أسماك البحر هي في يد الإنسان،يعني يتصرّف بها من أجل سعادته، من أجل غيره. ويتابع النصّ فيقول كلّ حيٍّ يدبّ فهو لكم طعامًا كالباقون من النبات فيعود فيقول أعطيكم كلّ شيء. عطيّة الله هي عطيّة تامّة، هي عطيّة لا حدود لها، كلّ ما على الأرض، كلّ من الكواكب، في المشتري وعلى القمر، في عطارد، في المرّيخ، كلّ هذا إنّما هو في خدمة الإنسان. هنا نتذكّر كلام القدّيس بولس: كلّ شيء لنا تحمله إلى المسيح والمسيح يحمله إلى الله. وهكذا تنتهي الدورة، كلّ شيء يأتي من الله وكلّ شيء يعود إلى الله. ذاك كان الوضع بالنسبة ليسوع المسيح لمّا قال أتيتُ من الآب إلى العالم وأترك العالم وأعود إلى الآب.

وهكذا نقول عن الخليقة، الربّ أعطانا الخليقة كلّها ونحن نحملها له ونرفعها إليه فتعود إليه. كلّ شيء لكم وأنتم للمسيح والمسيح ؟ وهكذا تكون الخليقة قد وصلت إلى الهدف الذي لأجله خُلقت. ليس فقط الإنسان يجب أن يعود إلىالله بل الخليقة كلّها يجب أن تعود إلى الله، فتصبح الأرض أرضًا جديدة والسّماء سماءً جديدة.

يقول إذًا كلّ حيٍّ يدبّ فهو لكم يكون طعامًا كالباقون من النبات. هنا نتذكّر في الماضي أنّهم كانوا يعتبرون أنّ الإنسان لم يكن يأكل الحيوان. في أوائل حياته، لم يكن للإنسان قوّة حتّى يسيطر علىالحيوان لهذا كان يلتقي بالنبات والبقول، بالثمار، يعني إذا أسميناها هي حضارة القطاف التي منها يعيش الإنسان على مستوى. إذًا من البقول والحشائش والثمار وغيرها من الأمور ولكن بعد الطوفان وكانت خطوة ثانية وهو أن الحيوان يمكن أن يكون في خدمة الإنسان، يمكن أن يأكله الإنسان كما هو الحال اليوم، نأكل لحم البقور والغنم وهذا ما لم يكن في الماضي. إذا عدنا في الفصل الأوّل من سفر التكوين نفهم أنّ الوحوش كانت تأكل الحشائش والبقول، كأنّه كان يُمنع على الحيوان الوحشيّ والإنسان أن يأكل، كما هي أمور قديمة جدٌّا، لأنّها كانت تعتبر أنّ حياة الإنسان هي في دمه، حياة الحيوان هي في دمه. الحياة هي أبعد من الدمّ هي ما يربط الإنسان بالله، هي ما يربط الحيوان بالله. نتذكّر حين خُلق الإنسان ماذا يقول الكتاب المقدّس في سفر التكوين الفصل الثاني »أخذ ترابًا« من الأرض ونفخ فيه نسمة حياة«. الحياة تأتي من الله وتعود إلى الله، لا شكّ أنّ الحياة ترتبط بالإنسان، ترتبط بدمه. لكن هذا لا يعني أنّ الدمّ يساوي حياة كما في عمليّة حسابيّة. الحياة هي أبعد من الدمّ، والدليل على ذلك بعد الموت تبقى على الحياة، حياة من نوع آخر، حياة ليست على مستوى اللّحم الدمّ، على مستوى الجسد الفاني بل على مستوى الجسد الممجّد. هنا نفهم في بعض الديانات التي ترفض أن تأكل اللّحم بدمّ أو خصوصًا في عالم الشرق الأقصى الذين يمتنعون حتّى عن أكل البقول، مثلاً يمتنعون عن أكل ما هو تحت الأرض كالفجل والبصل واللفت وغيره، بل يأكلون ما ينزل من فوق إلى تحت يعني الثمار التي تنزل من الشجرة. يقول سفر التكوين الفصل 4: »ولكن لحم من دمه لا تأكل...« اعتادت بعض الديانات أن تصفّي دم الذبيحة قبل أن تأكل من لحمها، هذه عادات قديمة جدٌّا جدٌّا ونحن نحترمها لكن إذا كان الربّ قد قال كلّ شيء لكم إذن لا يُمنع أن نأكل الحياة واللّحم والدمّ والعظام وغيرها ممّا نجده في الحيوان، على أيّ حال كلّ إنسان له عاداته نحترمها دون أن نقول مستبعدين لها. وهكذا انتقلت البشريّة من عهد البقول والأعشاب وثمار الشجر إلى عهد أكل لحم الحيوان ولا ضيرَ في ذلك ولا خوف في ذلك. وهنا في المسيحيّة نفهم أنّنا أحرار في أن نأكل من أيّ حيوان، ليس هناك لحم نجس ولحم طاهر. كل ما خلقه الله إنّما خلقه حسن، نحبّه أو لا نحبّه هو أمرٌ آخر، ولكنّنا نستطيع أن نأكل من كلّ شيء، كلّ حيّ يدبّ هو لكم يقول النصّ، سواء حيوان الأرض، سواء طير السّماء، سواء جميع أسماك البحر، هي شريعة أولى أعطاها الله لنوح حالاً بعد الطوفان والشريعة الثانية تتعلّق بالقتل، هنا عندنا شريعة لا تقتل كما سنقرأها في الوصيّة في سفر الخروج فصل -2- ممنوع القتل آية -5- أي يمكن أن نقتل الحيوان لنأكله، يمكن أن نسفك دم حيوان، لكن يُمنع كلّ المنع أن نقتل إنسان، أن نسفك دمه، ممنوع كلّ الممنوع، والربّ هو الذي يعاقبه. وهنا واضح، »أطلب حسابًا عنها حتّى من الحيوان«. الحيوان الذي لا مسؤوليّة عنده، الحيوان الذي يقتل الإنسان كما يقتل الحيوان ليأكل ومع ذلك الربّ يحافظ على حياة الإنسان، ونفهم هذه الوصيّة المطلقة التي لا تحمل أي استثناء، ممنوع سفك دم الإنسان، ممنوع قتل الإنسان لأيّ سبب كان ويتابع فيقول عن دم أيّ إنسان أطلبُ حسابًا من أخيه الإنسان، هذا ما كان بالنسبة لقايين، قايين قتل أخاه هابيل، الربّ جاء يطالبه أين أخوك هابيل وهو لا يزال اليوم يطالب البشريّة يطالب حتّى الحكّام عندما يسفكون الدمّ سواء كان بريئًا أو غير بريء، عن دم كلّ إنسان، أطلب حسابًا من أخيه الإنسان«.

وهنا نتذكّر السلطة التي تأمر بعض الأحيان بالإعدام ولكن حتّى الجلاّدون الذين يصبح لهم قلب شبيه بالحجر، بالصخر أو الذين يعذّبون الناس أو يقتلون فيهم كلّ شخصيّة أو يدمّرونهم، هؤلاء صنيعوا كلّ إنسانيّة فيهم، ما عادوا بشر بل ما عادوا على مستوى الحيوان، صاروا على مستوى الحجر، على مستوى الشيء والصخر ويتابع النصّ فيقول من سفك دم الإنسان يسفك الإنسان دمه. وهنا يعطينا الكاتب نظرة عن هذا العالم، عالم الإنتقام، »أسفك دم الآخرين فيأتي من يسفك دمي«، هي نظرة بعيدة جدٌّا، »بشّر القاتل بالقتل«، والزاني بخراب الديار، كأنّ شريعة المثل تلاحق الإنسان. يُمنع أن يسفك دم الإنسان؟. »فعلى صورة الله صنع الله الإنسان« الإنسان هو على صورة الله فلا يحقّ لنا أن نلغي هذه الصورة، أن نشوّه هذه الصورة مثلاً: »صورة لأبي ولأمّي في المنزل، وأتى أحدهم وكسّرها أو مزّقها، فنغضب عليه مع أنّه لم يلمس شخص أبي أو أمّي«. من احترم الصورة احترم الإنسان. وكذلك نقول من احترم صورة الله احترم الله نفسه ومن جدّف ومن عمل شرٌّا بصورة الله بالإنسان كأنّه جدّف واحتقر الله نفسه بالذات. لهذا يقول يسوع بالإنجيل »كل ما تفعلونه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي تفعلونه، سواء كان الفعل خيرًا أو شرٌّا. فهذا الفعل يعود إلى الله مباشرةً والله لا يمكن أن يرضى عنه إطلاقًا، وكما بدأ النصّ بالآية 1 »إنموا وتكاثروا واملأوا الأرض« إنتهى النصّ بالآية 7 »إنموا وتكاثروا وتوالدوا في الأرض وللحشائش، للأثمار، للحجارة، إلى جميع الحيوان. سيطروا عليها، قدرة الإنسان من قدرة الله. والله جعل الإنسان سيّد الخليقة وهنا نتذكّر آدم لمّا مرّت أمامه كلّ الحيوانات، هو الذي أعطاها إسمها، هو الذي دلّ على أنّهُ سيّدها، هو الذي دلّ على أنّهُ سيطر عليها. وهكذا بعد الطوفان ودمار البشريّة نحن أمام بشريّة جديدة. وكما أعطى الله وصيّة لآدم وحوّاء أوّل إنسان على الأرض، هو يعطي الوصيّة لنوح وبنيه، وصيّة إيجابيّة إنموا واكثروا توالدوا على هذه الأرض. إجعلوا هذه الأرض تمجّد الخالق بجمالها، بخصبها، بعظمتها، وأعطاهم سلطة لا على الأعشاب فقط بل على الحيوان، ولكنّه لم يعطهم السلطة على أخيهم الإنسان، لا يحقّ للإنسان أن يسفك دم أخيه الإنسان وذكّرهم بالمبدأ على صورة الله. صنع الله الإنسان. إذا كان الإنسان على صورة الله، كم يجب أن نحبّه، كم يجب أن نحترمه، أن نكون بقربه، أن نساعده. إذًا كلّ إنسان على صورة الله، فنحن كلّنا على صورة الله ونحن إخوة وأبناء هذا الآب الذي نقول له أبانا الذي في السماوات. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM