سفر التكوين تكملة 2 / 4-17 (2)

سفر التكوين تكملة 2 / 4-17 (2)

نتابع الحديث عن خلق الإنسان ونتابع الحديث عن خلق الجنّة. نلاحظ أوّلاً: أن المبادرة هي من الله كما يقول المزمور: »إن لم يبنِ الربّ البيت معبثًا يتعب البنّاؤون. وإن لم يحرس الربّ المدينة فعبثًا يتعب الحارس«. الربّ هو الذي بدأ وغرس وحتّى اليوم نقول الربّ أعطى. تثمر الأشجار نقول الربّ أعطى. تعطي السنابل غلّةً وفيرة الربّ أعطى لأنّنا متأكّدون أنّ الإنسان لا يعمل وحده هو يعمل مع الله. يده بيد الله »قال يسوع: بدوني لا تستطيعون شيئًا«. ليس فقط على المستوى الروحيّ بل حتّى على المستوى المادّي. الربّ يعمل ونحن نعمل معه. هذا لا يعني أن الربّ يحلّ محلّنا، كلاّ. لمّا نكتّف أيدينا وننتظر أن يعمل الربّ محلّها. ولكن الربّ يعمل من جهّته ونحن نعمل من جهّتنا وعملنا هو إمتداد لعمل الربّ. عملنا هو قبول وتقبّل لعمل الربّ. ماذا فعل الربّ هنالله تترك التقليد السابق تقليد كلمة الله »وقال الله« تذكر بالمرّات السابقة وقال الله... هنا الله يعمل »وغرس الربّ الإله جنّة في عدن غرس... زرع... كأنّني بالله هو الفلاّح أيضًا. نحن هنا أمام صورة انتروبوموفية يعني تشبيهيّة نشبّه الله بالإنسان: غرس الربّ كأنّي به يريد أن يُعلّم الإنسان كيف يفعل - غرس الربّ وكأنّي به يريد أن يُعلّم الإنسان كل شيءٍ، فهيّأ له غرس جنة: الجنّة هي كلمة بالعالم الشرق وتعود ربّما إلى عالم إيران. الجنّة هي وسنسمّيها لاحقًا الفردوس يعني مكان مُحاط بسور حتّى يحفظ ويحافظ على الذين هم في الداخل.

جنّة في عدن: عدن: لا ننتظر أن نسمّي عدن هي المنطقة التي جنوبي الأرض العربيّة، الجزيرة العربيّة، كلا. ولا عدن كما قال بعضهم مثلاً إهدن أو غيرها. كلّها أشياء تجعلنا نبتسم ولا تصل بنا إلى حقيقة. لكن الكاتب الملهم يُريد أن يبيّن لنا في عدن: الخصب، الفن، السعادة، الرفاهية. الله عندما يعطي، يعطي بوفرة. سيقول لنا كيف إنّ هذه الوفرة وهذه الرفاهية وهذا الفن سيظهر في المياه التي تملأ الجنّة. هذه المياه التي تنبع وتصبح أربعة أنهار. إذًا كلمة عدن عندنا بالعربي »الغدن« يعني الرفاهية، الغنى، العظاء الوفير وعندنا أيضًا بالسريانيّة وفي العربيّة هذه الجنّة هي في عدن شرقًا. لماذا الشرق: الشرق من هناك تشرق الشمس. الشرق من هناك يأتي كل خير ونحن اليوم على مستوى العهد الجديد نقول يسوع هو الشمس المشرقة وحتّى اليوم بطقوس المعموديّة نتطلّع إلى الشرق من حيث يأتي الله. والغرب من حيث يأتي الشيطان يأتي الشرّ. لماذا هذه النظرة؟. لأنّ الغرب بالنسبة لأبناء فلسطين وسوريا والعراق، الغرب يعني هو البحر والبحر والمياه تدلّ دومًا على الموت، علىالشرّ، على القتل. الشرقي إبن الصحراء كان يغرق، يموت في البحر ولهذا إعتبر أن الغرب، أن البحر هو موطن الشرّ. أما الشرق فهو موطن الخير، موطن البركة، لهذا السبب، الكاتب الملهم لمّا تحدّث عن الجنّة جعلها غنيّة، جعلها إزدهارًا وبركة وجعلها في الشرق من حيث يأتي الله.

إذا نتذكّر بحفلة المعموديّة، عندما يعمّد الولد أو الشاب يتطلّع إلى الشرق هو وعرابوه ويقول: أنا أؤمن بالله ويتطلّع إلى الغرب ويقول أنا أنكر الشيطان.

لمّا غرس الربّ هذه الجنّة وجعلها في أفضل مكان، مكان البركة يقول الكاتب وأسكن هناك آدم الذي جبله، يعني منذ البداية جعل الربّ الإنسان في مكان جميل، مكان صالح، مكان الغنى، مكان الوفرة والبركة ويتمنّى الربّ ونتمنّى نحن أن يستفيد جميع البشر من هذا الوفر وهذه البركة. عندما نعرف إنّه في بلدان أوروبا وأميركا الشماليّة، هناك سياسة لئلا تكثر الخيرات. سياسة حدّ من أن تعطي الأرض خيراتها. عندها يموت أناس عديدون من الجوع. نفهم أن الربّ أعطى وأعطى كثيرًا ولكن الإنسان لا يعرف أن يشارك الله في العطاء. مبدئيٌّا في العهد القديم وزّعت الأرض حسب السكّان ليكون هناك التساوي، كما قيل مع المن في البريّة الذي أخذ الكثير ولم يفضل عنه والذي أخذ القليل لم ينقصه. أمّا اليوم في مجتمعنا، هناك متخمون وهناك جائعون مع أن الربّ ملأ الأرض بالبركة. ملأها بالوفر، ملأها بالإزدهار، ملأها بالغنى. جعل آدم يعني جعل الإنسان، كلّ الإنسان على هذه الأرض. والأرض أعطيت لجميع لابشر ويعطينا الكاتب في آية 9 أوّلاً يعطينا الكاتب صورة عن هذا الفن. عن هذا الوفر في جنّة عدن على مستوين: مستوى الأرض والمستوى السماوي، مستوى الطعام والشراب ومستوى الحياة مع الله.

أمّا مستوى الطعام والشراب يقول الكاتب: »أنبت الربّ الإله في الأرض كلّ شجرة حسنة المنظر«. هنا نتخيّل إنسان زرع في بستانه قرب بيته أشجار من الخوخ والدرّاق والتفاح والكرز وغيرها من الأثمار، غرس كلّ هذا. يتمشّى كلّها جميلة. كلّها تحمل أطيب الثمار، تحمل أجمل الأزهار، حسنة المنظر، طيّبة المأكل. فأشجار الربّ وكلّ ما عنده هو جميل إذا لا ينقص شيئًا في هذه الجنّة على المستوى الماديّ، على مستوى الطعام، على مستوى الشراب، يعني هذه الأرض التي جعلها الربّ جنّة تحمل كلّ الفن من أجل الإنسان. هو لا يحتاج إلى شيء أبدًا. فإذا كان الله أب لجميع البشر فكيف يسمح بأن ينقصهم أي شيء. وقد قال لنا في الإنجيل لا تهتموا وتقولوا، ماذا نأكل؟ وماذا نشرب؟ هذا يفكّر فيه الأمم أمّا أنتم فأبوكم السماويّ يعرف ما تحتاجون إليه«. لذلك يسوع علّمنا نقول »أعطنا خبزنا كفاف يومنا«. نحن نطلب والربّ يعطي أو بالأحرى عطاء الربّ يسبق طلباتنا.

إذًا أولاً على المستوى الماديّ، أنبت الربّ الإله من الأرض كل شجرة حسنة المنظر، طيّبة المأكل. ونشدّد على هذا التشبيه الله بالإنسان. هو الذي أنبت يعني كأن به زرع، فلح، شذب، قطف وقال للإنسان خذ كل من أجمل شيء. وقطف له من الزهر أجمله ومن الثمار أطيبها.

وعلى المستوى الأخلاقيّ: على المستوى الروحيّ.

تكلّم الكاتب الملهم عن شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشرّ في وسط الجنّة. هنا كلمة شجرة هي سندة لفكرة لاهوتيّة عميقة جدٌّا.

يقول أن الله أعطى الإنسان الحياة ويقول إن الله أعطى الإنسان الوصايا هذه معناها شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشرّ. يعني مثلاً معنى كلمة شجرة: إذا كان عندنا لوحة جميلة وجعلناها في إيطار، المهمّ هو الإيطار أم اللوحة أو إذا كنّا ندلّ على السماء على النجوم على شيء جميل. المهم هو الإصبع الذي به ندُل عليه وكذا نقول عن الشجرة. الشجرة هي كأنّها خشبة تُسنِد باقة من الجمال، باقة من الزهر. الكاتب أخذ كلمة شجرة لتصبح الحياة قريبة منّا. كما إنّ الحياة تخرج من الشجرة. كذلك الحياة السماويّة هي عطيّة من عند الله. إذًا لمّا نقرأ وكانت شجرة الحياة. وشجرة معرفة الخير والشرّ في وسط الجنّة. فكأنّ بالكاتب الملهم يقول، بل الحياة الإلهيّة لا ننسى »نفخ في أنفنا نسمة حياة، فصار آدم نفسًا حيّة«. أعطانا الحياة وأعطانا الوصايا الوصايا نسمّيها شجرة معرفة الخير والشرّ، يعني بالوصايا نعرف الخير ونعرف الشرّ. نعرف حياة البرارة وحياة الخطيئة وهل الشجرتين هما في وسط الجنّة. هما في قلب الجنّة لماذا. لماذا جعل لشجرتين في قلب الجنّة؟ لأنّه وذلك مهم جدٌّا الحياة الروحيّة هي الأساس، الحياة مع الله هي الأساس، الحياة بحسب وصايا الله هي الأساس. إذًا كان الإنسان فقط أكلاً وشربًا، هذا ليس بمهم يقول لنا مار بولس: هو برّ وسلام وفرح بالرّوح القدس. الجاهل يهتمّ فقط بالأكل والشرب: »لنأكل ونشرب فإنّنا غدًا نموت. أمّا المؤمن فيعرف أن الطعام والشراب هما صورة عن طعام وشراب من نوع آخر. هنا نتذكّر عموص النبيّ الذي قال »سأجعل في الأرض جوعًا إلى الطعام« أي طعام؟ لا إلى طعام وإلى شراب بل إلى كلمة الله ويقول لنا يسوع في الإنجيل: »طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ (وليس إلى الطعام) إلى البرّ والبرّ هو الحياة بحسب مشيئة الله. الحياة بحسب مخطّط الله. يعني نحن نجوع حتّى نفعل، نتعرّف إلى كلمة الله. هنا نأكلها بحياتنا ويسوع كان يقول لنا بإنجيل يوحنا: »طعامي هو أن أعمل بمشيئة أبي الذي أرسلني«. الجوع الذي فينا هو جوع إلى الله إلى كلمة الله إلى حياة الله. لهذا السبب كانت شجرة الحياة وشجرة معرفة الخير والشرّ في وسط الجنّة، يعني أعطانا الربّ الحياة الماديّة حين أعطانا كل شجرة حسنة المنظر طيّبة المأكل. وأعطانا الحياة الروحيّة. الحياة الأخلاقيّة لمّا أعطانا شجرة الحياة يعني أعطانا حياته وأعطانا شجرة معرفة الخير والشرّ يعني الوصايا التي هي الحياة. هننا نتذكّر سفر التثنية بفصل 15 يقول لنا موسى: وضعت أمامك الحياة والموت وأنت تعرف ما تختار. فإذا سرت بحب الوصايا تحيا حياةً وإذا تركت الوصايا وإبتعدت عن الربّ تهلك هلاكًا. هذا ما حدث للإنسان وليس فقط للإنسان الأوّل ولكن كلّ إنسان، كلّ إنسان ربّنا وضع أمامه الحياة والموت، الخير والشرّ، السعادة والشفاء، وهو يختار وهو الذي وضعه. وضعه في وسط في وسط الجنّة شو معناها حتّى يراه الجميع يعني الجميع يعرفون وصايا الله. وتقولوا كيف يعرفون إذا كان موسى تأخّر ويسوع جاء بعد موسى بـ 1200 سنة وأكثر، كيف يعرفون؟ هنا مار بولس يقول لنا »الذين عندهم شريعة يدانون بحسب الشريعة. الشعب اليهوديّ أو غير شعوب كان عندها شرائع والذين ليس عندهم شريعة، هناك ضميره شريعةٌ والضمير هو صوت الله فينا. كلّ إنسان عنده شريعته مطبوعة في قلبه، مطبوعة في حياته. مطبوعة في أعماله، هي الضمير صوت الله فينا مهما كانت ديانتنا، إذا كنّا على مستوى عبادة الأوثان في الماضي أو العائشين في مجاهل إفريقيا، أو المتقدّمين على مستوى الحياة اليوميّة أو على مستوى الحضارة أو بناء الديانات السماويّة، كلّنا عندنا الضمير يعني صوت الله فينا. وهذا الصوت هو في وسط الجنّة، ظاهر للعيان وسيقول لنا إرميا إنّه في ذلك اليوم لن يعلم أحد أخاه، ولا يقول الواحد لأخيه أعرف الربّ فسيعرفونني جميعًا من كبيرهم إلى صغيرهم. أجل معرفة الله واضحة وحاضرة. لهذا شجرة معرفة الخير والشرّ تعني الوصايا معروفة ومكتوبة في قلب كلّ إنسان، في ضمير كلّ إنسان. إن عشنا بحسب هذه الوصايا كانت لنا شجرة الحياة، كانت لنا الحياة وإلاّ إذا تعلّقنا بالشرّ وزاغ قلبنا عن الوصايا كانت آخرتنا الموت.

ويتابع الكاتب، فيبيّن الوفر والغنى والإزدهار في هذه الجنّة. ما هي علامة هذا الإزدهار:

- العلامة هي الماء: لا ننسى، إن كان أرض فلسطين وأرض سوريا وأرض الأردن وأرض السعوديّة وأرض العراق، كلّها صحراء، لا بل الدنيا كلّها صحراء إذا ما كانت فيها مياه والمطر قد يكون كثيرًا قد يكون قليلاً فلا نستطيع أن نستند إليه، لهذا السبب قال الكاتب آية 10: »وكان يخرج من عدن نهر فيسقي الجنّة. من أين يخرج النهر من عدن؟ يعني عدن موضع الوفر والغنى، يعني نهر غزير وغزير جدٌّا حين كتب الكاتب، فكّر أن عدن هي الموضع الذي يخرج منه الفرات ودجلة وسيقول لنا حزقيال من أين ينبع هذا النهر؟ هو ينبع من الهيكل، من موضع حضور الله، من موضع إقامة الله، هذا النهر يجري فيسقي الجنّة، فيسقي الجنّة لئلاّ تيبس يقول الكاتب ما هو الإنسان. الإنسان مثل العشب الذي يبس ولماذا يبس؟ لأنّه لا يوجد مياه. أمّا هنا فهذا النهر يسقي الجنّة يسقيها فتبقى خضراء طوال السنة ويقول لنا سفر الرؤيا 12 سنة يوجد ثمار على الأشجار وليس ثمر مرّة واحدة في السنة، بل 12 مرّة في السنة. كلّ شهر في أثمار لأنّ المياه دائمة والله خضرة دائبة لا يباس فيه أبدًا ليس من صيف ولا من شتاء، هو ربيع دائم. والخضرة دائمًا ومن عدن نهر يسقي الجنّة ويتابع يقول ويتشعّب من هناك فيصير أربعة أنهار وهكذا تصبح الأرض كلّها (ما ننسى الرقم 4 يدلّ على الأرض الشمال، الجنوب، الشرق والغرب) هذه الأرض كلّها سيصل إليها النهر. ستصل إليها بركة الله، ستصبح كلّها جنّة ستصبح كلّها فردوس ولكن هي فردوس إذا سيطرت عليه شجرة معرفة الخير والشرّ. إذا كانت في وسطه شجرة معرفة الخير والشرّ يعني إذا كانت فيه وصايا الله، وصايا الله تجعل من الحياة على الأرض، جنّة يعيش الناس فيها، يعضهم مع بعض وهكذا تعرّفنا إلى الإنسان الذي جبله الربّ ترابًا من الأرض وتعرّفنا إلى الجنّة بوجهها الماديّ وفيها أطيب الأشجار وأجمل الثمار وتعرّفنا إلى الوجه الروحيّ بالحياة التي تحمل وبالوصايا التي تعطيها للإنسان. فيا ليت الإنسان عرف أن يعيش بحسب الوصايا فتكون له لا الحياة الماديّة وحسب بل الحياة الأبديّة مع الربّ. آمين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM