في البدء خلق الله

في البدء خلق الله

»في البدء، خلق الله السماوات والأرض« (تك 1:1). هكذا يبدأ الكتاب المقدّس مع سفرِ التكوين، أول أسفاره.

قبل التوقّف عند تفاصيل نشدّد على عدّة أمور:

1 - خبرُ الخلق خبرٌ دينيّ

لسنا هنا أمام خبر الخلق، وكأن الكاتب كان يعيش منذ مليون أو مليار سنة فرأى وكتب ما رآه أو ما سمعه. كلاّ ثمّ كلاّ. نحن هنا أمام نشيد الخلق، هذا النشيد وجد مثله في كل حضارات الشرق القديم في بلاد الرافدين (العراق اليوم)، في بلاد مصر، في بلاد فينيقية. كانت هناك أناشيدُ الله الخالق. مثلاً أخناتون ملك مصر أو أمينوفيس الرابع أنشد نشيدًا لقرص الشمس الذي نجد بعضًا فيه في المزمور 104. إذا، نحن هنا أمام نشيد. وهذا النشيد يتمّ في الهيكل. لماذا؟ لأنّ الهيكل هو صورة مصغّرة عن الكون. كانوا يعتبرون أنّ الكون مبنيّ على أربعة أعمدة مغروسة في المياه وفوق هذه الأعمدة، هناك القبّة ولما بنى الفينيقيّون هيكلَ أورشليم، صنعوه على مثال الكون. أربعة عواميد والقبّة فوقها. وهكذا كان العالمُ هيكلاً صغيرًا والهيكل صار كأنّه عالم كبير. عندما تكون في الهيكل، كأنّك في الكون. وعندما تكون في الكون كأنّك تكون في الهيكل. لهذا قال المزمور »السموات تنطق بمجد الله، والجلد يُخبر بعمل يديه« (مز 19:2) كما أن الناس يمجّدون الله في الهيكل، كذلك تمجّد الخليقة الله في الكون الفسيح.

وكيف نتخيّل الناس في الهيكل؟ هناك جوقتان مع الإمام أو قائد الصلاة أو قائد المجموعة. مثلاً قال قائد المجموعة: وقال الله: »لتجتمع المياه تحت السّماء«. فأعلنت الجوقةُ الأولى: »ورأى الله أنّ ذلك حسن«. الجوقة الثانية: »وكان مساء وكان صباح« يوم ثالث جوقتان تنشدان عظمة الله، تصوران كلّ ما عمله. الله في هذا العالم، في التاريخ، في حياة الكون، في حياة البشر. إذًا هذا مهم$ جدٌّا.

لسنا أمام خبر الخلق، أمام قصّة تاريخيّة، أمام قضايا علميّة. نحن بعيدون كلّ البعد عن العلم. نحن أمام نشيد نعظّم فيه الله الخالق. هذه الصورة مهمّة جدٌّا. لماذا؟ لأنّ بعض الأشخاص حاولوا أن يوفّقوا بين العلم وبين الكتاب المقدّس. فجعلوا الكاتب الذي كتب تقريبًا في القرن الخامس ق. م. جعلوا الكاتب الملهم يتحدّث عن حقبات في تكوين العالم. الحقبة الأولى برزت لمّا برزت الشمس. ثم أتت حقبات متلاحقة حتّى الحقبة الرابعة وذوبان الثلوج. هذه أمور لم يكن الكاتب الملهم يعرفها أبدًا. والعلماء تحدّثوا مرّة عن حقبات، فتقابلت صدفة مع أيّام الخلق الستّة. ولكن اليوم، العلماء يقولون أربع حقبات. فكيف نوفِّق؟

هنا نقول مبدأ سوف نراه في قراءتنا للعهد القديم، مبدأً مهمٌّا جدٌّا. لا نربط كلام الله بالعلم. العلم يتبدّل، يتطوّر، أمّا الله فهو الله، الخالق هو الخالق، والله المحبّة هو الله المحبّة. لا يتغيّر ويصبح إله بغض. كلاّ. كلّ مرّة نحاول أن نفرضَ النظريات العلمية والتاريخيّة والثقافيّة والحضاريّة على كلام الله، نكون بعيدين عن كلام الله. هذا ما يدفعنا لكي نفهم أنّ كلمة الله نقرأها أوّلاً في الإطار الذي كتبت فيه، في القرن الرابع أو الخامس قبل المسيح، ونحاول أن نطبّقها على حياتنا...

2 - خلق الكون والإنسان

التكوين يعني كوَّنَ العالم، كوَّنّ الإنسان. الله هو الذي يكوِّن الإنسان، يخلقُ الإنسان. يكونِّن العالم، يخلقُ العالم.

سفر التكوين يُقسم إلى قسمين:

- القسم الأول: تاريخ البدايات

- القسم الثاني: تاريخ آباء الشعب العبراني (يعني ابراهيم واسحق ويعقوب).

الفصل الأوّل يبدأ بتاريخ البدايات و ينتهي بالفصل الحادي عشر.

ونبدأ بالفصل الأوَّل من سفر التكوين.

المعنى العام: في البدء خلق الله السماوات والأرض. هذا هو العنوان.

العنوان هو الخلق. متى تمَّ الخلق. في البدء، يعني ساعة خُلق الكون، ساعة خُلق العالم، بدأ التاريخ. وحين ينتهي العالم، حين ينتهي الكون ينتهي التاريخ. من الزمان والمكان يمشيان معًا بعضهم في البدء. من قرّر هذا البدء؟ الله هو الذي قرّر هذا البدء. هو الموجود منذ الأزل. لا بداية له ولا نهاية. نقول من الأزل فنعني من لا بداية له، وإلى الأبد أي لا نهاية له. ونسمّي له بكلمة لاهوتيّة: السرمدي في البدء الذي قرّره الله، في البدء الذي فيه تبدأ الخليقة، يبدأ الكون، يبدأ التاريخ.

هنا نتذكّر كلمة ثانية »في البدء« في إنجيل يوحنا (يو 1:1): »في البدء كان الكلمة، وكان الكلمة لدى الله والكلمة هو الله«. ما الفرق بين البدئين؟ هنا في البدء خلق الله، صار عمل الخلق. أمّا في إنجيل يوحنّا: لمّا بدأ الكون، لمّا بدأ التاريخ. قبل ذلك الزمان، الابنُ كان موجودًا، كان في حضن الآب، كان أزليٌّا مثل الآب. هو كأبيه، من الأزل إلى الأبد، لا بداية له ولا نهاية. هناك بداية أولى على مستوى الخلق. وأراد يوحنا أن يبيّن لنا هذه الكلمة. مع الابن الذي كان منذ البدء مع الآب، بدأت بداية جديدة، بدأت خليقة جديدة، تلك التي تتمّ مع يسوع المسيح الذي هو بكر جميع الخلائق.

في البدء خلق: في العربيّة الفصحى برأ. ثمّ البرايا، البريّة. الخلق. وحده الله يخلق من العدم. نقول في أحاديثنا اليوم: هذا الكاتب خلاّق، هذا الرسّام خلاّق يعني ينتج أشياء جديدة، أشياء جميلة ولكن الإنسان »يخلق« أو يُنتج أشياء جديدة إنطلاقًا من مادة جعلها الله على الأرض. إذا عمل تمثالاً من الحجر، إذا كتب على ورقة، فهو يحتاج إلى الحجر، إلى الورق، إلى آخره... أمّا الله، فخلق كلّ شيء من العدم. لم يكن شيء، فخلق من العدم. لم يكن شيء وصارت أشياء وهي السماوات والأرض. بهاتين الكلمتين جمع الكاتبُ كلّ الخلائق. السّماء والأرض يعني الدنيا كلّها، ما يُرى وما لا يُرى، ما هو من عالم البشر وما يتعدّى عالم البشر. وإذا بنا نسمّي السماوات القبّة التي فوقنا... هذا يعني أنّ الله خلق الشمس، والنجوم، والقمرن كما خلقَ الأرض.

3 - كيف كان الخلق

أراد الربّ أن يجعل من هذا الخلق تحفةٍ. كانت الأرض خالية خاوية، وعلى وجه الغمر ظلام. فإذًا قبل أن يخلق الله، هناك الظلام على وجه الغمر. يعني على وجه المياه، المياه العميقة. والأرض لا يُوجد فيها شيء أبدًا، كأنّها صحراء قاحلة لا مياه فيها ولا نسمة ولا أي شيء آخر.

وكيف بدأ الخلق؟ بدأ مع روح الله، يقول النصّ. وروح الله يرف على وجه المياه... الروح روح الله، يعني حياة الله، نسمة الله. ولكن إذا رحنا إلى العهد الجديد، روح الله هو الروح القدس، هو أساس كلّ حياة على الأرض. وهنا يصوَّر لنا هذا الروح مثل الطير الذي ينام على البيض ليُخرج منها الحياة. صارت المياه مليئة بالحياة والروح هو الذي يُخرج من هذه المياه كل هذه الحياة. فإذا في البدء، خلق الله السماوات والأرض، نستطيع أن نقول هو الله الآب. الروح يرفّ على المياه ليُخرج منها كلّ حياة. وقال الله. هي كلمة الله في البداية، يسوعُ المسيح. نحن في وجهة ثالوثيّة، لم يعرف بها أهل العهد القديم ولكن نحن أبناء الإنجيل نعرف هذا الروح، روح الله، يرفّ على المياه. يعني منه تبدأ الخليقة، منه تبدأ كل المخلوقات التي في السموات والتي على الأرض. نُذَكَّر بمشهد الإنجيل في وقت عماد يسوع. يقول النصُّ: »وكان الروح عليه بشكل حمامة. هو كالطير أيضًا يرفّ على مياه الأردن ليُخرج منها الخليقة الجديدة«. في البداية رفّ الرّوح على وجه الغمر، على وجه المياه، على وجه البحار، أخرج منها الحياة بحسب الجسد. ولكن مع نهر الاردن ومعموديّة يسوع، رفّ على النهر، رفّ على المياه، ليخلق منها الحياة بحسب الروح. بالمعموديّة، نصبح نحن خلائق جديدة، نصبح أبناء الله بالمعموديّة، تصبح هذه المياه حُشًا تلد جميع المؤمنين، جميع المسيحيّين، بفعل الروح القدس، بروح الله. وهكذا ارتبط البدء مع يسوع المسيح الذي كان في البدء مع عمل الروح. كما أخرج هذا الرّوح الحياة الطبيعيّة من المياه، من وجه الغمر، هو يُخرج الآن الحياة الفائقة الطبيعة من نهر الأردن. ويسوع كان الأوّل. في البدء يسوع هو باكورة جميع الخلائق. وهنا المسيح، على نهر الأردن، هو باكورة جميع أبناء الله. هو الإبن الوحيد ونحن أبناء معالابن يبدأ عمل الخليقة.

4 - النورُ الظلام

وقال الله: »ليكن نور«! سوف نقرأ في هذا الفصل الأوّل عشر مرّات: وقال الله. قال الله، يعني أنَّ الله يخلق بكلمته. ومن هو كلمة الله؛ هو يسوع المسيح. وهنا نتذكّر. أنَّ الله خلق أيضًا الشعب، شعبه بالوصايا العشر، وكما أنّ الله يخلق من كل واحد منّا المؤمن الحقيقيّ بالوصايا العشر: »أنا هو الربّ إلهك لا يكن لك إله غيري، لا تحلف، قدّس يوم الربّ إلى آخره... خلق الطبيعة، خلق الكون بعشر مرّات: وقال الله....

وقال الله: ليكن نور، فكان نور. هنا عندنا مقابلة مهمّة جدٌّا بين الظلام وبين النور.

الظلام هو عالم الموت في الماضي. إذا فتحنا مثلاً القاموس العربي نعرف أنَّ اليوم يقابلُ ضوء النهار. ما كان في اليوم 24 ساعة، بل كان اليوم 12 ساعة فقط كأنَّ الظلام أو الليل ليسا بشيء أبدًا. الظلام يمحو كلّ شيء. كأن لا وجود لأيّ شيء. الظلام هو الموت. كان يعتبر الإنسان الله ذاك الذي لا يموت. الذي ينام كأنه مات، وفي الصباح الله يقيمه من جديد. لذلك نقول قام من النوم، وكأنّه كان ميتًا وقام. وهنا إذا كان الظلام يسيطر على الأرض، فهذه علامة أنَّ لا وجودَ لحياة هناك الموت، هناك العدم، هناك لا وجود لأي شيء. لهذا السبب، الظلام يقابله النور. ولما جاء النور، بدأ كل شيء.

قال الله: ليكن نور فكان نور. تكفي كلمة من لدنِ الله لكي يخلق النور. وهنا نتذكّر أنّ كلمة النور التي تبدأ الخلق، تعني أنَّ الكاتب يتطلّع إلى النهار من المساء. في الليتورجيا، في الأعياد لا يبدأ النهار في الصباح، بل يبدأ في المساء. إذا كنّا نعيّد أي عيد، مثلاً العيد الكبير نبدأ من المساء. عيد الميلاد نبدأ من المساء، أيّ قدّيس من القدّيسين نقدّس مساء العيد. لماذا؟ لأنّ في الليتورجيا في الخدمة الإلهيّة، الكونُ في الصلوات والعبادات، لا يبدأ النهار في الصباح. ولكنّه يبدأ في المساء . واليوم عند اليهود، نهار السبت يبدأ مساء الجمعة. ومساء السبت، يبدأ الأحد وهنا بدأ الظلام. وقال الله: ليكن نور فكان نور. النور قبل طلوع الشمس هو ضوء الصباح الباكر. يأتي النور قبل أن تظهر الشمس. وسوف يحدّثنا الكاتب عن الشمس فيما بعد.

ورأى الله أن النور حسن. أوّلاً نفهم منذ البداية أنّ الله خلق كلّ شيء حسن. وسيقول لنا أكثر من مرّة إنَّ الله رأى كل ما عمل وهو حسن. ولمّا خلق الإنسان، قال الله إن ذلك حسن جدٌّا. هو جميل، هو صالح. كلّ ما خلقه الله هو صالح، هو جميل، هو عظيم. الله الصالح لا يخرج منهُ إلاّ الصلاح. الله الجميل لا يخرج منه إلاّ الجمال، الله العظيم لا يخرج منه إلاّ العظمة. فكلُّ الأشخاص الذين يقولون نحن لا شيء، فهؤلاء لم يفهموا أبدًا أنّ ربّنا هو عظيم وخلقنا عظماء. لايرضَ أبدًا ولا مرّة واحدة أن نكون محتقرين. ورأى الله النور أنّه حسن. وسوف يرى كلّ مخلوقاته حسناء ونحن مثل ما يقول الشاعر »كن جميلاً ترى الوجود جميلا.

إذا كنتَ أنتَ حسن يقول لنا الإنجيل، وإن كانت عينك شريرة، ترى كلّ شيء شريرًا وإذا كانت عينك نيّرة، يتغيّر كلُّ شيء وهنا الفرق. فالإنسان الذي يضع نظارات سوداء على عينيه، يرى الدنيا كلّها سوداء. لكن نحن ننظر إلى الأمور، لا بعيوننا السوداء ولا بنظاراتنا السوداء، ننظر إلى كلّ شيء من خلال عين الله على ضوء نور الله.

ويقول الكاتب: »فصل الله بين النور والظلام«. يعني فصل بين النهار والليل، وسمّى الله النور نهارًا والظلام ليلاً. هذا يعني أنَّ الله هو الذي يسيطر على النور، هو الذي يسيطر على النهار، هو الذي يسيطر على الليل. من يسمِّي شيئًا من الأشياء يدلُّ أنّه هو سيّد الأشياء. كما أهلنا مثلاً سمّونا لأنّهم أباءنا. الربّ لأنّه أب الخليقة كلّها، هو الذي سمّى النّور نهارًا والظلام ليلاً. هنا لا ننسى: نحن سميناهم هكذا. لكن بنور إلهي، ولا نفكّر حين نقول: الله فعل، الله يفعل مع الإنسان، يجعل الإنسان يكتشف شيئًا فشيئًا، جمال الطبيعة. وكان مساءً وكان صباح. يبدأ النهار الليتورجي، تبدأ الصلاة بالعيد عند المساء. وكان مساء وكان صباح يوم أوّل.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM