الفصل 14: الموعظة الخامسة الانتخاب والرذل

الموعظة الخامسة الانتخاب والرذل

تمهيد... وأوَّل البطاركة

إنَّ الذين يحبّون ا؟ يُعينهم في كلِّ شيء لخير الذين تقدَّم فدعاهم وعرفهم من قبل ووسمهم بشبه صورة ابنه... والذين وسمهم من قبلُ فإيّاهم دعا، والذين دعاهم برَّرهم والذين برَّرهم مجَّدهم.

إنَّ كنيستنا المارونيَّة تجعلُ لنا في هذا النهار عيدًا لأبينا القدّيس يوحنّا مارون. أوَّل بطاركة طائفتنا على الكرسيّ الأنطاكيّ، وقد أوردت ترجمة هذا القدّيس المعظَّم من على هذا المنبر يوم عيده 72، وأبنت سموَّ فضائله وجهاده. ولذا أكتفي الآن بالقول إنَّه خيرُ من صدق عليهم قول الرسول »إنَّ الذين يحبّون ا؟ يُعينهم في كلِّ شيء للخير«. فإنَّ زيادة محبَّته ؟ التي تنطبق على مجموع الفضائل جعلته تعالى يُعين هذا القدّيس العظيم في الانتصار للدين القويم خلافًا للمبدعين في عصره، وفي ضمِّ شتات شعب البطريركيَّة الأنطاكيَّة الذي كانت الأرطقات الشرقيَّة قسَّمته إلى مذاهب مختلفة، إذ كان في سورية نساطرة وأوطاخيّون ومونوطيليتيّون أي من قالوا بمشيئة واحدة وفعل واحد في المخلِّص. فبإلهام ا؟ انتخب الأساقفة الذين استمرُّوا على الإيمان الكاثوليكيّ في هذه البطركيَّة القدّيس يوحنّا مارون بطريركًا عليهم ليكون بمنزلة قائد جيش باسل في محاربة أعداء الإيمان هؤلاء، وفي تشديد السريان الكاثوليكيّين وتثبيتهم في الإيمان القويم، رغمًا عن ملوك القسطنطينيَّة أيضًا الذين كان أكثرهم في ذلك العصر يحامون البدع والمتبدعين. وهكذا أعان ا؟ القدّيس يوحنّا مارون في كلِّ شيء لخير الشعب الكاثوليكيّ في البطركيَّة الأنطاكيَّة مذ كان أخصَّ من تقدَّم فدعاهم عزَّ وعلا وبرَّرهم ومجَّدهم ويمجِّدهم إلى الأبد في ملكوته السماويّ حيث قدّيسنا هذا يشفع بشعبه ويعاونه بتوسُّلاته أمام ا؟ حتّى بقي هذا الشعب المارونيّ بنعمة ا؟ متمسِّكًا في الإيمان الكاثوليكيّ منذ ذلك الحين إلى الآن، بل من أيّام إنذار الرسل كما شهد له بذلك كثير من الأحبار الأعظمين والعلماء والمؤرِّخين المحقِّقين. ونسأله تعالى أن يحفظ هذا الشعب المبارك متمسِّكًا أبدًا بعرى الإيمان الكاثوليكيّ المقدَّس بشفاعة القدّيس مارون والقدّيس يوحنّا مارون.

هذا ولكي نعود إلى سياق خطبنا الماضية نقول إنَّ كلامنا السابق في النعمة ولزومها ومجّانيَّتها وشرحنا النعمة الكافية والفعّالة يسوقنا إلى الكلام في الانتخاب المعبَّر عنه بقول الرسول الذي استهللنا به وحيث إنَّ وسمَ البعض ينتج منه تركُ غيرِهم دونَ وسم، وهذا ما يعبَّر عنه الرذل، فلهذا نتكلَّم هنا بالرذل أيضًا فيكون كلامنا مقسومًا إلى ثلاثة أقسام: الأوَّل في الانتخاب، والثاني في الرذل، والثالث ينطوي على تحريضات أدبيَّة وروحيَّة لتحقيق انتخابنا بأعمالنا الصالحة. وحيث إنَّ هذه الموضوعات دقيقة أيضًا فاصغوا على حميدِ عادتكم واستمدُّوا لي ولكم التنوير من أبي الأنوار مستشفعين بالقدّيس يوحنّا مارون صاحب العيد.

أوَّلاً: الانتخاب

لمّا كان ا؟ بكلِّ شيءٍ عليمًا ولم يكن عنده في أزليَّته ماضٍ ومستقبل بل كلُّ شيء حاضر، كان يرى منذُ الأزل النعمَ التي يهبها لكلِّ إنسان وكيفيَّة تصرُّفه بها بسعيٍ معها أو مقاومة لها، وكيفيَّة انتهاء أمره عنده آخر حياته. فمن علمه بعلمه الأزليّ أنَّه يثبت في البرِّ ويبقى ساعيًا مع النعمة إلى وفاته كان يعرفه منتخبًا، ومن يُقاوم النعمةَ ويصرّ على آثامه إلى أن يتوفّاهُ كان بعلمه مرذولاً. وعلمُ ا؟ ومعرفته أزليّان لا يتغيَّران ولا يمسّان حرِّيَّة الإنسان بشيء. فهذا هو الأساس والأصل لما يسمّيه اللاهوتيّون انتخابًا ورذلاً. ولكي نخصَّ كلامنا أوَّلاً بالانتخاب نقولُ قد عرَّفه اللاهوتيّون تعاريف مختلفة، ونكتفي بذكر تعريف القدّيس أوغسطينوس لهُ في كتابه في انتخاب القدّيسين: إنَّ الانتخاب »هو إعداد النعمة« وقد أسهب في تعريفه في كتابه في هبة الثبات قال: »ليس الانتخاب إلاَّ العلم السابق وإعداد إحسانات ا؟ التي يخلص بها بلا ريب كلُّ من يخلص«.

ويقسم الانتخاب إلى ما هو للنعمة فقط وما هو للمجد فقط وما هو للنعمة والمجد معًا. فالأوَّل هو إعداد ا؟ نعمًا لبعض الناس فيقاومونها أو يسعون معها أحيانًا فقط، ويموتون بحال الخطيَّة فيهلكون فيكون انتخابهم للنعمة فقط. وأمّا الانتخاب للمجد فقط فلا يوجد حقيقةً إذ لا يصل إلى المجد إلاّ من كان فائزًا بالنعمة. ولكنَّ الكتاب ذكر أحيانًا المجد بمنزلة أجرة كقوله تعالى: إن شئت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا، وقوله: كلُّ من يترك لأجلي بيوتًا أو إخوة أو أخوات ينال عوض الواحد مائة، ويرثُ حياة الأبد. فالنعمة مضمرة إذ لا يمكن الخلاص دونها. وأمّا الانتخاب للنعمة والمجد معًا فهو منحُ ا؟ نعمَه لمن خلصوا ليستسيروا بها ويبلغوا المجد الأبديّ. ووجود الانتخاب للنعمة دون الانتخاب للمجد بيِّنٌ وتُثبته آيات كثيرة منها قوله تعالى: »ما أكثر المدعوّين وأقلَّ المنتخبين«، ونأخذ الآنَ في إثبات الانتخاب بعمومه.

إنَّ الانتخاب موجود ولا شكَّ به. ومتى سلَّمنا بعلم ا؟ السابق لزمنا التسليم في الانتخاب على أنَّ لا شيء أثبتُ من سابق علمه تعالى بكلِّ ما كان، ويكون في المخلوقات كلِّها. وقد أوردنا الشواهد والبراهين المثبتة علم ا؟ في خطبة أخرى. فإذًا ما يفعله ا؟ في الزمان قد حتَّم به منذ الأزل لأنَّه منزَّه عن التغيُّر وعن أن يطرأ عليه ما لم يكن قبلاً، والحال أنَّه يعطي النعمة والمجد في الزمان. فإذًا قد حتّم بذلك وأعدَّه منذ الأزل، وهذا هو الانتخاب. فهذا البرهان موجز لكنَّه سديد واضح يكفي وحده مؤونة الإثبات.

وهوذا بعض الآيات الكريمة المثبتة الانتخابَ فمنها قوله: »تعالوا يا مباركي أبي رثوا المُلكَ المعدَّ لكم من قبل إنشاء العالم«. فهذا نص$ صريح في إثبات الانتخاب من قبل إنشاء العالم أي منذُ الأزل، ومن هذه الآيات أيضًا قوله لتلاميذه: »افرحوا إنَّ أسماءكم مكتوبة في سفر الحياة«. فكتابة الاسم في سفر الحياة إنَّما هي عبارة عن الانتخاب للحياة الخالدة أي المجد الأبديّ ومنها قول مار يوحنّا: »ومن لم يوجد اسمه مكتوبًا في سفر الحياة ألقي إلى وهدة النار«. ونكتفي من أقوال مار بولس الرسول بآية الاستهلال التي ذكرناها التي هي نصّ صريح في الدعوة إلى الإيمان والتبرير والمجد وبقوله أيضًا »انتخبنا به قبل إنشاء العالم لنكون مقدَّسين«. فإذًا لا ريبةَ بالانتخاب من قبل البرهان العقليّ المستند إلى الوحي ومن قبل الوحي بنفسه.

إلاَّ أنَّ هذا الانتخاب مؤكَّد من جهة ا؟ وغيرُ مؤكَّد من جهة الإنسان. فتوكيده من جهة ا؟ بيِّنٌ من أنَّ علمه الإلهيّ لا يغشّ ولا يغلط، ولنا في ذلك أيضًا آيات كثيرة منها قوله تعالى: »هذه إرادة ا؟ الذي أرسلني بأنَّ كلَّ من أعطانيه لا يهلك بل أقيمه في اليوم الأخير«. وقوله: »إنَّ خرافي تسمع صوتي وأنا أعرفها وهي تتبعني فأعطيها حياة الأبد ولا تهلك إلى الأبد ولا يخطفها أحد من يدي«. ومنها قول الرسول: »إنَّ أساس ا؟ ثابتٌ وله هذا الختم والربُّ يعرف خاصَّته«. فلا مرية إذًا في توكيد الانتخاب من جهة ا؟.

وأمّا عدم توكيده من قبل الإنسان فلأنَّه لا يقدر أن يعلم ما يصيبه وهل يستمرُّ في نعمة ا؟ أو يفقدها أو يسعى من النعمة أو يقاومها. وهذا يشعر به كل$ منّا بنفسه. ومن الآيات الكريمة المثبتة قوله تعالى: »لا يعلم الإنسان هل يستحقُّ المحبَّة أو البغضة«. وقال الرسول: »وأنت القائم بالإيمان لا تشأ أن تفتخر بل خف«. وقوله: »ومن كان يظنُّ أنَّه قائم فليحذر أنَّه يسقط«. وقوله: »اعملوا عمل خلاصكم بالخوف والرعدة«.

وأمّا سبب الانتخاب أو علَّته فقد جعلها الأراطقة المانيّون تبعًا لمبدئهم بكون الناس إمّا صالحين طبعًا أو طالحين طبعًا. فالصالحون هم المنتخبون والطالحون هم المرذولون. وزعم أوريجانوس أنَّ الانتخاب أو الرذل معلَّق على استحقاق النفوس الثواب أو العقاب قبل حلولها في الأجساد، بحسب مبدئه أنَّ النفوس البشريَّة وجدت قبل الأجساد واستحقَّت في هذه الحالة ثوابًا أو عقابًا. وهذان المذهبان أراتيكيّان يخالفان التعليم الكاثوليكيّ. وللاهوتيّين الكاثوليكيّين في الانتخاب مذهبان:

الأوَّل أنَّ الناس بالخطيَّة الأصليَّة أضحوا جمعًا مشجوبًا ينظر إليه تعالى بعين السخط، ومن هذا الجمع اختار ا؟ عددَ المنتخبين فيوليهم نِعمًا تبلغُ بهم إلى الخلاص، ويترك الآخرين يفوزون بالنعمة الكافية فقط، فيكون الانتخاب للمجد على مذهبهم هذا مقدَّمًا على الانتخاب للنعمة، ومجرَّدًا عن النظر السابق إلى أعمال الناس؛ كما يكونُ مجّانيٌّا بكلِّيَّته. وهذا المذهب ردَّهُ كثيرٌ من اللاهوتيّين لأوجه كثيرة. منها إنهاجه سبيلاً لاعتراضات جمَّة. ومنها ما إن استشهده له أصحابه من الآيات الكريمة يرجعُ إلى الانتخاب للنعمة الذي لا مرية بمجّانيَّته.

والمذهب الثاني الذي قال به وصحَّحه أكثر اللاهوتيّين هو أنَّ ا؟ يريد حقيقة (بعد الخطيَّة الأصليَّة أيضًا) خلاصَ جميع الناس، وأنَّ المسيح مات وتألَّم عن جميعهم، ولذا أعدَّ لجميع البالغين نعمًا إذا سعوا معها حسنًا وعاشوا مستقيمًا أدركوا الخلاص بالنظر إلى استحقاق المسيح ورحمة ا؟ المجّانيَّة. وحيث إنَّ كلَّ شيء حاضر لديه تعالى انتخب للمجد من تقدَّم، فعلم أنَّهم يسعون مع نعمته ويستحقّون السعادة الأبديَّة ويموتون فائزين بالنعمة، ورذل من علم أنَّه يقاومُ نعمته ويصنعُ الإثمَ ويموت أثيمًا. وعليه فأعمال الناس مقدِّمة رتبة على رسمِ الانتخاب والرذل، وإنَّ تقدُّمها زمانًا، وهذه الأعمال هي علَّة للانتخاب وليس الانتخاب أو الرذل علَّة لها. والانتخاب للنعمة مقدَّم على الانتخاب للمجد، وعليه فالانتخاب تابع وشرطيّ لا متقدَّم ومطلق، والانتخاب للمجد ليس مجّانيٌّا محضًا كالنعمة الأولى إذ علَّمنا الكتاب متواترًا أنَّ هذا المجد أي الحياة الأبديَّة يعطاها الأبرار بمنزلة أجر لأعمالهم الصالحة في هذه الحياة.

وقد أورد اللاهوتيّون المشار إليهم أدلَّة وبراهين عديدة تأييدًا لمذهبهم هذا فقالوا:

أوَّلاً: إنَّنا لم نرَ في الكتاب المقدَّس آية واحدة تشير إلى كون الانتخاب إلى المجد الأبديّ برسم مطلق مجرَّد عن العلم بأعمال الناس، بل نرى آيات لا تُحصى تصرِّح بأنَّ المجد الأبديّ يُعطاه من يستحقُّه بالأعمال الصالحة. فإذًا هذا الانتخاب للمجد معلَّق على أعمال الناس الحسنة، وليس على مجرَّد مرضاة ا؟ بانتخابه بعضَ الناس وتركه بعضهم، كما يقول أصحاب المذهب الأوَّل.

ثانيًا: إنَّ هذا الانتخاب الذي يدَّعيه أصحاب المذهب الأوَّل لم يقل به أحد من آباء الكنيسة في أجيالها الأربعة الأولى، بل تصوَّروا جميعهم الانتخاب إلى المجد الأبديّ مؤسَّسًا على علم ا؟ السابق بأعمال الناس الصالحة التي يصنعونها بنعمته تعالى.

ثالثًا: إنَّه لا يطابق روحَ الكتاب المقدَّس أن يحتِّم ا؟ حتمًا مطلقًا بالانتخاب دون تعلُّق على علمه السابق بأعمال الناس. فالكتاب يعلِّمنا أنَّ ا؟ حتَّم أن يفتديَ بالمسيح العالم والطبعَ البشريّ، وبالتالي جميع الناس دون استثناء، وأنَّه يريدُ خلاصَ جميعهم ويمنحُ الجميعَ بالمسيح الوسائلَ المبلِّغة إلى الخلاص، إلاَّ أنَّه تعالى سبق فرأى ما يصنعه كلّ من الناس بنعمه، فجزم أن يولي السعادة لمن يطاوعُ نعمه وأن يُنكرها على من يرفضها، ومن سقط من ذلك الانتخاب سقط بذنبه على أنَّه لو كان ا؟ أعدَّ البعض فقط للسعادة ونوالِ الغاية بأمرٍ مطلق غيرِ متعلِّق على أعمالهم لما صدق القول إنَّ المسيح مات فداء عن الجميع، أو إنَّه أصلح الجميع، ولما استطاع الناسُ جميعًا البلوغ إلى غايتهم، بل يكون ا؟ أعدَّ كثيرين منهم للهلاك!

رابعًا: إنَّه لو كان الانتخاب بأمرٍ مطلق لما بقيَ رجاء لمن لم يكن منتخَبًا لأنَّ الرجاء مؤسَّسٌ على رحمة ا؟ ووعده من يسعى مع نعمه بالخلاص. فإذا لم يكن منتخبًا ولا موعودًا فكيف يترجّى السعادة ، وعلامَ يتأسَّس رجاؤه؟

خامسًا: إنَّ أصحاب المذهب الأوَّل يقولون إنَّ الرذل لا يكون إلاّ بعد علم ا؟ السابق بآثام الناس، فلمَ يكون الانتخاب دونَ هذا العلم؟

سادسًا: إنَّ الكتاب المقدَّس يعلِّمنا أنْ ليس عندَ ا؟ محاباة ولا أخذٌ بالوجوه، والحالُ أنَّه لو كان أعدَّ بعض الناس بأمر مطلق دونَ تعلُّق على أعمالهم للمجد السماويّ وتركَ بعضهم دونَ هذا الانتخاب لكان عنده محاباة تنزَّه ا؟ عن ذلك.

فبهذه البرهانات وغيرِها يُثبت أصحاب المذهب الثاني رأيهم بأنَّ الانتخابَ للمجد معلَّق على أعمال الناس بعلم ا؟ السابق.

وقد استشهدوا لرأيهم هذا بآيات كثيرة من الكتاب المقدَّس فنكتفي بذكر بعضها فمنها قوله تعالى: »تعالوا يا مباركي أبي رثوا المُلك المعدَّ لكم من قبل إنشاء العالم لأنّي جعت فأطعمتموني إلخ...«. فلاحظْ قولَه »المعدَّ لكم من قبل إنشاء العالم« يعني الذي انتخبتم له لأنّي رأيتكم منذ الأزل تصنعون أفعال الرحمة كإطعام الجياع وإسقاء العطاش وإكساء العراة إلخ... وينتسق في هذا السلك مثل الفعلة الذين أرسلهم ربُّ الكرم إلى كرمه وشارطهم على أجرة المراد بهِ الملكوت السماويّ المكتسب بالأعمال الصالحة، فلم يدفع لهم الأجرة برسم مطلق بل مقيَّدٍ على أجرة شارطهم عليها بذل اشتغالهم في كرمه. ومن هذه الآيات قول الرسول: »لم ترَه عين ولم تسمع به أذن ولم يخطرْ على قلبِ بشر ما أعدَّه ا؟ للذين يحبّونه«. فلاحظْ قوله »للّذين يحبّونه« ولم يقل للّذين أحبَّهم، أي إنَّ ما أعدَّه إنَّما هو جزاء لمن سبق فعلم أنَّهم يحبّونه ويستحقّون هذا المجد الذي لم تره عينٌ إلخ. ومنها أيضًا قوله: »كمَّلت سعيي وحفظت إيماني وقد حفظ لي منذ الآن إكليل البرِّ الذي يجازيني به في ذلك اليوم سيِّدي الحاكم العادل ليس لي فقط بل للّذين أحبّوا ظهورَه أيضًا«. فكأنَّه يقول إنَّ إكمال سعيي وحفظ إيماني جعلَ سيِّدي يجازيني بعدله بإكليل البرّ، ويُجازي نظيري من أحبُّوا ظهوره واستعدُّوا له بأعمالهم الحسنة، فذاك جزاء وليس برسم مطلق دون تعلُّق على الأعمال. ومنها أيضًا قول مار بطرس الرسول: »اجتهدوا يا إخوتي أن تحقِّقوا دعوتكم وانتخابكم بالأعمال الصالحة«. فهذا نص$ صريح على أنَّ الانتخاب للمجد إنَّما يتحقَّق بالأعمال الصالحة. ويُضاف إلى هذه الآيات جميع الآيات التي ينسب بها المجد والملكوت السماويّ إلى الأعمال الصالحة بمنزلة أجرة وجزاء كقوله: »طوبى للمساكين بالروح فإنَّ لهم ملكوت السماء«. وكقوله: »كلُّ من ترك لأجلي بيوتًا وإخوة أو أخوات... ينالُ عوض الواحد مائة«. إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي تُشبه هذه. وأمّا أقوال الآباء المؤيِّدة ما نحن له مثبتون فأكثر من أن تحصى أو تذكر في خطبة كهذه. فقد ثبتَ إذًا أنَّ الانتخاب للمجد إنَّما هو معلَّق بعلم ا؟ السابق بأعمال الناس الصالحة، وأنَّ هذه الأعمال والانتخاب المعلَّق عليها هي علَّة لعلم ا؟ لا علم ا؟ علَّة لها، وأنَّ تقدُّمها بالأزليَّة التي بها يرى ا؟ كلَّ شيء حاضرًا دون فارق بين الماضي والمستقبل.

ثانيًا: الرذل

عرف معلِّم الآراء الرذل بأنَّه علمُ ا؟ السابق بإثمِ بعض الناس وإعداد الهلاك لهم. لذلك فكما أنَّ علم ا؟ السابق بأعمال بعض الناس الصالحة هو أصلُ الانتخاب هكذا علمه تعالى السابق بآثام بعضهم الآخر هو أصلُ الرذل وسببه. فالرذل إذًا موجود إذا وجد من هلك ويهلك بإثمه، والحال أنَّ الكتاب المقدَّس موعبٌ في العهدين القديم والحديث من الآيات والأمثلة المثبتة ذلك. فإذًا لا ريب في وجود الرذل. ولمّا كان كلُّ ما يعلمه ا؟ في الزمان يكون محتومًا منذ الأزل، فالرذل إذًا بهذا المعنى أزليّ مسنود إلى علمه تعالى منذ الأزل بما يصنعه الأثمة من الإثم واستمرارهم عليه إلى حين وفاتهم. وهذا لا يضادُّ إرادته بتخليص جميع الناس لأنَّ هذه الإرادة مشروطة على ما إذا أراد كل$ منهم أن يخلص كما أنَّه لا يضادّ موت المسيح فداءً عن جميع الناس لأنَّ هذا الفداء مشروط أيضًا على اشتراك الناس به، بأعمالهم الصالحة وسعيهم مع النعمة التي كسبها لهم المخلِّص بهذا الفداء.

ثمَّ إنَّ هذا الرذل يقوم بشيئين: الأوَّل النفي عن مشاهدة ا؟، والثاني العذاب في جهنَّم. وقد أشار تعالى إلى ذلك بقوله في بشارة متّى: »اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار المؤبَّدة«. فأشار إلى الأوَّل بقوله اذهبوا عنّي وإلى الثاني بقوله إلى النار المؤبَّدة.

زعم كلوينوس ومن تبعه أنَّ الرذل لمجرَّد مسرَّة ا؟ لا للنظر السابق إلى إثم الناس. وكذا زعم كلُّ من قالوا إنَّ الإنسان خسر الحرِّيَّة بالخطيَّة الأصليَّة. أمّا اللاهوتيّون والعلماء الكاثوليكيّون فيجمعون دون خلاف على أنَّ أصل الرذل وسببه علمُ ا؟ السابق بإثم الناس، ولهم في ذلك برهاناتٌ لاهوتيَّة كثيرة، واستشهدوا بآيات من الكتاب لا تحصى تأييدًا للتعليم الكاثوليكيّ. أمّا نحن فنكتفي بالإشارة إلى شيء من تلك البرهانات، وبذكر بعض تلك الآيات المقدَّسة. ففي البرهانات اللاهوتيَّة نقول:

أوَّلاً: إنَّ ا؟ صالحٌ طبعًا بل هو ينبوع الصلاح الذي لا يمكن فصله عنه، وكلُّ صلاح في الناس إنَّما هو بمنزلة ظلٍّ لصلاح ا؟. وصفةُ الصلاح في ا؟ هي ذاتيَّة فيه حتّى يستحيل على من يكون إلهًا أن لا يكون صالحًا. وبهذا المعنى قال في الإنجيل ليس الصالح إلاّ ا؟، وحيث ذلك فكيف يمكنه تعالى مع صلاحه أن يحكم بهلاك إنسان خلقه على صورته ومثاله، وافتداه بابنه الحبيب وأتحفه بنعمٍ لا توصف، وأعدَّه للتنعُّم بمشاهدته بملكه الأبديّ دون أن يكون هذا الحكمُ بالهلاك مؤسَّسًا على ذنب أو إثم من قبل الإنسان. لعمري إنَّه تعالى يكون خاليًا على هذه الفرضيَّة والعياذُ به من كلِّ صلاح.

ثانيًا: إنَّ ا؟ عادل والعدل ملازم لذاته المقدَّسة لا ينفكُّ عنها، فكيف يمكنه مع عدله أن يحكم على إنسانٍ بعقاب أبديّ دون جريمة أو زلَّة، ودون أن يكون لذلك الإنسان مفرّ من ذلك الهلاك. فإذا كان كلوينوس ومن تبعه لهم إله ينزلونه منزلة نيرون أو غيره من الملوك البرابرة القساة، فإلهنا عادلٌ منزَّهٌ عن الجورِ والحيف ولا يعامل أحدًا منّا إلاّ بالعدل. ولنا الكتاب المقدَّس حجَّةً بيدنا تصرِّحُ بعدله، كانه في كلِّ صفحة، ولنا إرشاد عقلنا المستقيم بأنَّه تعالى عادل بل ينبوع العدالة. ومن كان كذلك لا يمكن أن يُهلك من خلقَه وافتداه بلا إثم ولا حرج.

ثالثًا: إنَّه تعالى جوّاد لا ينفكُّ عن الجود طبعًا، فأيُّ جود اتَّصف به إله كلوينوس ومن تبعه، وهو يعذِّبُ بعض مخلوقاته مؤبَّدًا لمجرَّد مسرَّته دون أن يستحقَّ العذاب بعلمهم، ودون نظرٍ أو علم سابق إلى آثامهم أو إغاظتهم له.

رابعًا: إنَّ الخلاص والهلاك في تدبير العناية الصمدانيَّة هما إغراء واقتياد وسوق إلى عمل الفضيلة ومجانبة الرذيلة. فلو سلَّمنا أنَّ الرذل من المجد لمجرَّد مسرَّة ا؟ دون علمٍ سابق بإثمٍ للمرذولين، وأنّ الانتخاب كذلك دون علم سابق بعمل صالح للمنتخبين، فأين يبقى الإغراء بالفضيلة أو الاقتياد إلى مجانبة الرذيلة. وما تكون المنفعةُ على ذلك من الأوامر والنواهي والوصايا والزواجر المحشوّ بها الكتاب المقدَّس فكيف يمكن تأييدها وإجبار الناس على العمل بها إذا كان لا نفعَ ولا ضرَّ منها للخلاص أو الهلاك، بل كلاهما متعلِّق بمسرَّة ا؟ لا غير؛ فكلُّ ما تقدَّم واضحٌ ساطع لا سبيلَ لإنكاره أو التردُّد به إلاّ ممَّن لم يكن عقله سليمًا أو بُلي بداء الارتياب في كلِّ شيء.

فلنشر الآن إشارة عامَّة إلى الآيات المقدَّسة التي تُثبت لنا ذلك. فمن هذه الآيات التي تشير إلى أنَّ ا؟ يريد خلاص الجميع، وقد تقدَّم ذكرُ كثيرٍ منها، ومنها الآيات التي تُشير إلى أنَّ المخلِّص قدَّم نفسه فداء عن جميع الناس، كقوله: الذي لم يشفق على ابنه الوحيد بل بذله عن جميعنا، وكقوله: فإذًا الجميع ماتوا ومات المسيح عن الجميع. ومنها الآيات التي يستدعي بها الجميع إليه كقوله: »تعالوا إليّ يا جميع التعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم«. ومنها الآيات التي يستدعي بها الجميع إلى التوبة ويوضح أنَّه لا يريد أن يهلكَ أحد الأثمة، فإذا كان ا؟ يريد خلاص الجميع وكان المسيح مات عن الجميع، وكان يستدعي الجميع إليه ليمحوا آثامهم بالتوبة، وقد ورد ذلك في ألوف من الآيات فكيف نجسر أن نقول إنَّه يُهلكُ بعض الناس ويرذهلهم لمجرَّد مسرَّته دون نظر سابق إلى آثامهم؟ وكيف يتَّفق ذلك مع قوله: »إنَّه لم يصنع الموت ولا يسرُّ بهلاك الأحياء«. ومع قوله: »تحبُّ كلَّ موجود ولا تبغض شيئًا ممّا صنعته«. ومع الآيات العديدة الي يقول فيها إنَّه يجازي كلَّ إنسان بأعماله ومع قوله: »إنَّ هلاكك منك يا إسرائيل، وفيَّ معونتك فقط«.

فيقول البعض إذا كان ا؟ انتخب بعضًا إلى الخلاص، وبعضًا للهلاك بسابق علمه الذي هو أزليّ وغير متغيِّر، فإذًا من انتخبه ا؟ إلى الخلاص يخلص ضرورة، ومن رذله وأعاده للهلاك يهلك ضرورة. فأين تبقى الحرّيَّة في الإنسان وكيف يمكنه أن يغيِّر سابق علم ا؟ بحاله؟ والجواب... قدَّمنا مرّات أنَّ علم ا؟ السابق وإن تقدَّم من حيث الزمان (أو الأصحّ أن نقول من حيث الأزليَّة) على أعمال الناس وخلاصهم، أو هلاكهم، إلاَّ أنَّه متأخِّرٌ رتبة عن هذه الأعمال التي سواء كانت صالحة أم طالحة، فهي علَّة لعلم ا؟ لا علم ا؟ علَّة لها. وإذا تصوَّرتم إنَّه ليس في علم ا؟ الأزليّ ماضٍ ومستقبل، بل كلُّ شيء حاضر، يسهل لكم فهم هذه الحقيقة، ونزيد ذلك إيضاحًا، بقولنا كما أنَّ عالمنا الآن بخطيَّة آدم، لم يجعل في آدم شيئًا من الأضرار ولم يمسَّ حرِّيَّته شيء. هكذا علم ا؟ السابق بخطيَّة آدم مستقبلة كعالمنا بها ماضية، وكذا قال في خطيَّة كلُّ إنسان أثيم وهلاكه بسببها، وفي برارة كلِّ صالح وخلاصه بسببها. فتقولون ولكن مع وجود علم ا؟ السابق بأنَّ آدم سيخطأ وأنَّ بطرس سيجحده، أو أنَّ يهوذا سيسلِّمه فما عاد ممكنًا لآدم أن لا يخطئ ولا لبطرس أن لا يجحد ولا ليهوذا أن لا يسلِّم معلِّمه. وإلاّ فيغشُّ علم ا؟ وهذا مستحيل. فأجيب أنَّك تقيسون ذلك على أفكار الناس لا كما يجب أن نتصوَّر علم ا؟ الأزليّ الذي يكون فيه كلُّ شيء حاضرًا والذي يشبه معرفتنا الماضية. فلو لم يكن آدم مزمعًا أن يخطئ أو بطرس أن يجحد المخلَّص أو يهوذا أن يسلِّمه لما علم ذلك بل علم العكس أي ما كان مزمعًا أن يحصل بنوع أن يبقى علم ا؟ غير متغيِّر وحرِّيَّة الإنسان غير منثلمة، وكما أنَّ معرفتنا بتسليم يهوذا للمسيح ما عاد ممكنًا أن تغيِّر الواقع أو أن تضطرَّ يهوذا إلى تسليم معلِّمه فهكذا علم ا؟ بهذا الأمر مستقبلاً فكأنَّه تعالى يرى هذا الأمر بعد وقوعه. وكذا قال في جميع المرذولين، فإنَّ ا؟ يراهم بسابق علمهم يموتون في الخطيئة ويهلكون. كما نعلم نحن هلاكهم ماضيًا ولو كانوا مزمعين أن يتوبوا عن إثمهم ويخلصوا لرأى ا؟ ذلك وعلمه بخلاصهم لا بهلاكهم. وبهذا المعنى قال القدّيس أمبروسيوس: »يعرف ا؟ أن يغيِّر رأيه إذا عرفت أنت أن تصلح الإثم«. وقد تكلَّم هذا القدّيس هنا بما يطابق نوع التصوّر البشريّ بقبوله أنَّ ا؟ يغيِّر رأيه فا؟ غير متغيِّر. ما يراه كذلك لكنَّه منذ الأزل يرى ما سوف يقع بما أنَّه وقع حقيقة والحاصل من ذلك جميعه أنَّ علم ا؟ السابق لا يتغيّر لكنَّه معلَّق على ما يصنعه الإنسان في الزمان إن خيرًا أو شرٌّا، وإنَّ ذلك لا يمسُّ حرِّيَّة الإنسان من وجه بل يصنع باختياره كأنَّ هذا العلم غير موجود. وعليه فإن هلك وكان مرذولاً كان ذلك بإثمه ولا تأثير العلم الإلهيّ به. وإن خلص وكان من المنتخبين كان ذلك بسعيه مع نعمة ا؟ وتحقيق انتخابه بأعماله الصالحة.

فيتفلسف بعض الجهلة بقولهم تسويغًا بشرِّهم إن كنت منتخبًا فأخلص ولو أخطأت وإن كنت مرذولاً فأهلك ولو مهما صنعت من المبرّات. فقد ردَّدت هذا القول السفسطيّ في خطبة سابقة على مسامعكم وبرهنتُ فساده بأمثلة عديدة منها، أنَّه لو صحَّ هذا البرهان يصحُّ كلُّ ما ماثله. مثلاً، كان يمكن التاجر أن يبرهن هكذا: إمّا أنَّ ا؟ علم بأنّي أكون غنيٌّا أو لا، فإن كان الأوَّل فأغتني، ولو لم أتّجر بشيء، وإن كان الثاني فلا أكون غنيٌّا، ولو مهما تاجرت أو ربحت. وهكذا كان يمكن الزارع أن يبرهن: إمّا أنَّ ا؟ علم بأنّي أحصل على غلاّت أو لا، فإن كان الأوَّل فأحصل عليها ولو لم أزرع، وإن كان الثاني فلا أحصل عليها ولو مهما زرعت. إلى غير ذلك ممّا يفضي إلى بطلان الحركة في العمران وإلى التوصُّل إلى الغاية دون وسائطها. وأزيد على ذلك الآن أنَّه لو صحَّ هذا البرهان، لأدركه الشيطان قبلنا لأنَّه أعلم من الناس، فإنَّه كان يبرهن هكذا، أنَّ الإنسان معدّ إمّا للخلاص وإمّا للهلاك. فإن كان معدٌّا للخلاص، فعبثًا أتعب في تجريبي، وإن كان معدٌّا للهلاك فلا حاجة إلى تعب، أرأيتم. أولادي ما أبطل هذا البرهان! فحذارِ من الاعتماد عليه ولو في عمق أفكاركم.

فبقي علينا ردُّ الاعتراض ببعض الآيات المقدَّسة، كقوله: »أحببت يعقوب، وأبغضتُ عيسو«. وكقوله: »إنّي أرحم من أرحم، وأتحنَّن من أتحنَّن«، إلى غير ذلك من الآيات المشبَّهة هذه. وقد قدَّمت في إحدى خطبي السابقة هذه السنة، أنَّ الكلام في هذه الآيات الكريمة إنَّما هو على الدعوة المجّانيَّة إلى الإيمان وإلى نعمة التبرير، وبالتالي هذه الآيات تلاحظ الانتخاب إلى النعمة لا الانتخاب إلى المجد. ولا تلاحظ الرذل من السعادة والملكوت، فإنَّ الانتخاب إلى المجد يعطى بمنزلة أجرة عن الأعمال الصالحة المصنوعة بنعمة ا؟، والرذل يحصل انتقامًا من الآثام بعلم ا؟ السابق.

ثالثًا: نهجنا والعاقبة

قد اتَّضح لكم أولادي الأعزّاء، أنَّ الانتخاب والرذل معلَّقان على أعمال كلٍّ منّا دون أن يؤثِّر رسم ا؟ بشيء من حرِّيَّتنا، بل كما يكون علمنا صالحًا أو سيِّئًا يراه ا؟ بسابق علمه منذ الأزل، ويعلم ما تكون نهاية كلٍّ منّا، فيكون هذا سببًا لإعداده المجد الخالد أو العذاب الأبديّ لكلٍّ بحسب استحقاقه، ولكن استعمل بعض الناس حقيقة الانتخاب للطمع برحمة ا؟ سندًا إلى أنَّهم منتخبون، وبعضهم حقيقة الرذل لليأس سندًا إلى أنَّهم مرذولون، وإن لم يصرِّحوا في ذلك، فيخالجهم فكر عميق به يسهّل لهم الشرّ. وقد برهنت ما أكثر بطلان هذا السند، وأنَّهم بئس ما يصنعون. فمن عقائد إيماننا أنَّ خلاصنا معلَّق على نعمة ا؟ وأعمالنا الصالحة. فهذا هو المبدأ الصحيح الذي يلزمه أن نجعله أساسًا لخلاصنا. فلنا الحقّ بأن نتَّكلَ على ا؟ ونرجو نعمه، ونثق بأنَّه لا يبخل علينا بكلِّ ما هو ضروريّ لخلاصنا. ولكن علينا الالتزام بأن نتعب لأجل ا؟ ونحفظ وصاياه المقدَّسة ونسلك في طريق الفضيلة. نعم، إنَّ ا؟ انتخبنا وأعدَّنا، إمّا للسماء، وإمّا لجهنَّم، لكنَّه علَّق ذلك على عملنا الذي هو علَّة لعلمه دون أن يؤثِّر علمه بنا، أكثر من تأثير علمنا بسقوط آدم أو جحود بطرس أو هلاك يهوذا كما قدَّمت. قال القدّيس أوغسطينوس إنَّ من خلقنا بدوننا لا يخلِّصنا بدوننا، أي أنَّه أوجدنا من العدم إلى الوجود بمجرَّد تفضُّل منه وتفضيلنا على مليونات من الناس، لم تزل مطروحة في لجَّة الإمكان. لكنَّه لا يريد أن يخلِّصنا دون أن نستحقَّ الخلاص بسعينا مع نعمه. إنَّ ا؟ مع كونه على كلِّ شيء قدير، وحكمته غير متناهية فلا يمكنه أن يجعلنا نرتجع عن آثامنا ونقبل إليه بالتوبة دون أن نريد ذلك. نعم، إنَّه يستطيع أن يعمل إرادتنا على التوبة، ولكنَّه لا يستطيع صنع ذلك دون إرادتنا بعد أن حتَّم بأن لا يكون الخلاص دونها. ولنا على ذلك أمثال كثيرة في الكتاب المقدَّس والإنجيل خاصَّة. فإنَّا نرى المخلِّص سأل الأعمى: »ماذا تشاء؟« وكان يعلم أنَّه يطلب أن يبصر. وكذا سأل المخلَّع على بركة الضأن هل تريد أن تشفى؟ وكان يعلم أنَّه يريد ذلك. فما هذا، إلا ليوضح لنا أنَّه لا بدَّ لإرادتنا من اشتراك ما بما يريد أن يمنَّ علينا به. قال القدّيس أوغسطينوس أيضًا إنَّ ا؟ بمقدار ما يهان بدعوانا أن نرجع من دونه بمقدار ذلك تكون قلَّة النفع لنا، بدعوانا بأنَّه يرجعنا إلى التوبة دوننا. نعم، إنَّ نعمة ا؟ تفعل أوَّلاً، ولكن يلزمنا أن نفعل ثانيًا بسعينا معها والحاصل أنَّنا كيفما تصوَّرنا هذا الأمر، فلا بدَّ لخلاصنا من اشتراكنا مع نعمة ا؟ بالسعي به. ولا يفيدنا شيئًا اعتمادنا على كوننا منتخبين. ويضرُّ بنا كثيرًا تصوُّرنا بأنَّنا من المرذولين. إنَّنا نرى كثيرًا من الناس يقولون بطالع السعد أو النحس وينسبون توفيق كثير من الناس إلى الأوَّل. وتقهقر غيرهم أو عدم توفيقهم إلى الثاني. إلاّ أنَّهم لا يعتمدون على هذا المبدأ بشيء، من أعمالهم العالميَّة فلا يتأخَّرون عن السعي في طلب مغنم ولا عن الفرار من خطر مفاجئ، بل يبذلون كلَّ ما في طاقتهم للتوصُّل إلى ما يرغبون أو للفرار ممّا يكرهون. فلا أعلم ما السبب الذي يجعلهم يعتمدون على مبدأ كذا في الانتخاب والرذل في أمر الخلاص الذي يغنينا عنه العالم بكلِّ ما فيه من مقتنًى وملاذ. ولو جمع كلّ ما فيه لواحد وحده وإذا كان لنا الحجَّة في ذلك من جهة الانتخاب والرذل فتكون تلك الحجَّة إمّا بكوننا منتخبين وإمّا بكوننا مرذولين. فإن كان الأوَّل فليس من علامات الانتخاب، ارتكاب المآثم والتوحُّل بالرذائل والإصرار عليها، فلا حقَّ لنا وحالتنا هذه أن نحتجَّ بأنَّنا منتخبون. وإن كان الثاني فبأيِّ برهان تحصى نفوسنا بين المرذولين على كوننا نرى كثيرًا من الناس كانوا أكثر إثمًا منّا، وأدركوا أخيرًا الخلاص. فهل نحن أكثر إثمًا من اللصّ الذي صلب من عن يمين المخلِّص؟ أو من مريم المجدليَّة أو غيرها من الخطأة المشهورين الذين خلَّصهم ا؟ بنعمته، فيبقى الإغفال والتهامل في أمر خلاصنا، وتركُ هذا الأمر الذي هو أهمُّ من كلِّ ما سواه، دون اهتمام به أبهذا يكون الإغفال وألهذا يكون الإهمال؟ فتقولون كلاّ لكنَّنا نريد الخلاص إلاّ أنَّه علينا أن نفحص بأيِّة إرادة تريدونه، وعلى ما أرى في كثيرين منّا، وليتني غير صادق، أنَّهم يريدون ذلك إرادة بإرادة. إرادة دون تعب، إرادة دون قهر أميال. أهكذا يريدون كبار الأمور؟ أهكذا يريدون البرء من مرض عضال؟ أهكذا يريدون ربح دعوة كبيرة؟ لا لعمري، بل يريدون ذلك بإرادة فعّالة. وأمّا أمر الخلاص، فيريدونه بإرادة هيهات أن تسمّى إرادة. إنَّ بيلاطس كان يريد إطلاق المسيح ولكن هل كان يكفيه القول أريد أطلاقه؟ لا لعمري، بل كان يلزمه أن يرسم بمقتضى حقِّه بإطلاقه من بين أيدي اليهود. وهيرودس أيضًا لم يكن يريد أن يقطع رأس يوحنّا المعمدان، وقد غصَّ عليه ذلك، ولكن هل كان يكفيه أن يريده باطنه فقط وقد أرسل سيّافًا فأتى برأسه بطبق ودفعه إلى الصبيَّة؟ فلو أراد استيحاء يوحنّا للزمه أن ينتهر تلك الصبيَّة ويبيِّن لها فظاعة طلبها. كما أنَّ ذلك الشابّ الغنيّ كان يريد أن يخلص، ولكنَّه لمّا قال له المخلِّص: »اذهب فبعْ مقتناك وأعطِه للمساكين، فرجع حزينًا، فلم تكفِه تلك الإرادة للخلاص«. وهكذا إرادة من يقولون إنَّهم يرغبون في الخلاص ولكنَّه يريدون الفوز به من غير ما تعب، بل مع ارتكابهم كلَّ ما ينافي الخلاص ويجلب الهلاك، بإسخاطه ا؟ بفعل الكبائر.

فلنؤقننَّ أولادي، بأنَّ الانتخاب والرذل من جهة ا؟ هما من نظام أعلى منّا. ولا يتعلَّق بنا ولا يمسُّ حرِّيَّتنا بشيء. وأمّا من جهتنا، فهما معلَّقان على أعمالنا. فليس لنا في سفرنا في هذه الحياة إلى الآخرة، إلاّ طريقان. طريق الانتخاب أي جعل نفوسنا منتخبين، وطريق الرذل أي جعل نفوسنا مرذولين. وإذا تصوَّرنا الطريقين وجدنا طريق الانتخاب المؤدّي إلى الخلاص، وإن كان ضيِّقًا في مدخله فإنَّما هو رحب ملذّ بعد الدخول فيه. وبعكسه طريق الرذل المؤدّي إلى الهلاك، فإنَّه وإن كان واسع الباب إلاّ أنَّه ضيِّق المسلك، وعر معذِّب، ولنتبصَّرنَّ قليلاً في كلٍّ من الطريقين.

فطريق الانتخاب ضيِّق لقوله تعالى: »أدخلوا في الباب الضيِّق«. لكنَّه رحب بعد ذلك. يسار به بين رياض الفضائل ورياحين التعزية السماويَّة، كقول المرتِّل: »على المرج الخصب أحلَّني«. وهذا ما يشعر به كلّ منّا بنفسه عندما يصنع خيرًا أو يقمع نفسه عن رذيلة أو عندما يعترف اعترافًا نقيٌّا. نعم، إنَّ طريق الانتخاب هذا يظهر عسرًا ولكن على من تشبَّث في الرذيلة. وبهذا المعنى قال المخلِّص: »إنَّ ملكوت ا؟ يُغصب«، أي لا بدَّ من قهر الأميال النفسانيَّة، وقمع الأهواء إلاّ أنَّ ذلك يستعاض عنه بالعذوبة والتعزيات السماويَّة. فتأمَّلوا حال جنديّ نزل إلى معركة وخرج منها سالمًا منتصرًا. فلذّة انتصاره تحجب تصوُّر الخطر الذي كان فيه، فيعوَّض تعبه بفرحه مضاعفًا. أيضًا إنَّ السالكين في طريق الانتخاب تصيبهم أحيانًا مصائب لأنَّ الربَّ يجرِّب خائفيه. لكنَّهم يتحمَّلون تلك المصائب بفرح كأنَّها بارزة من يد ا؟. تأمَّلوا بهذا الشأن بحالة أمٍّ تربّي ولدها بأسهارها وأتعابها ولطمه لها أحيانًا. وكلُّ ذلك يسرُّها بعكس ما لو كانت مسخرة بتربية ولد أجنبيّ. فهكذا هو الفرق في المصائب بين السائرين بطريق الانتخاب وطريق الرذل.

في طريق الانتخاب ثمار شهيَّة، تجنى من الصلوات والتأمُّل: »ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ!«. زاد هذه الطريق المنُّ الذي نزل من السماء لا كالمنِّ الذي أكله اليهود وماتوا. شريعة ا؟ نوره الذي لا يطفأ. كقول المرتِّل: »شريعتك سراج لرجليّ ونور لعيني«. المخلِّص يتقدَّم المنتخبين في هذه الطريق كقوله: »إنَّ من أراد أن يكون لي تلميذًا، فليحمل صليبه ويتبعني«. وإذا تعب من الصليب أي من مشقَّة الفضيلة، رأى المسيح واقفًا يقول: »تعالوا إليَّ يا جميع التعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم«. وإن صادفته صعوبة خفَّفها عليه، ولم يدعه يتحمَّل فوق طاقته كقول الرسول: »لا يدعكم أن تتجرَّبوا فوق طاقتكم«. رفقاؤه في هذه الطريق الملائكة يقونه العثار كقول المرتِّل: »إنَّه يوصي ملائكته بك ليحفظوك في طرقك وعلى ذراعيهم يحملونك لئلاّ تعثر بحجر رجلك«. لا يخشى فيه المصائب ولا الموت لأنَّ قائده يقول: »لا تخافوا ممَّن يقتل الجسد«. وكلَّما تقدَّم في هذه الطريق، ازداد لذَّة وسرورًا وقوَّة كقول المرتِّل: »ويجدِّد مثل النسر شبابك«. وإذا اقترب من المعبر أي من نهاية هذه الطريق طار فرحًا واشتاق إلى الانحلال والاتِّحاد مع المسيح، كما يقول المرتِّل: »من يعطيني جناحين كالحمامة فأطير وأستريح«، »واشتاقت نفسي يا ا؟ كاشتياق الأيِّل إلى المياه«. أو كقول الرسول: »من يعطيني أن أنحلَّ من هذا الجسد وأصير مع المسيح«.

وأمّا ما تؤدّي إليه هذه الطريق فمهما قلتُ فيه أو بالغتُ كان كلامي أقلَّ من الحقيقة. »فإنَّه لم تره عين ولم تسمع به أذن ولم يخطر على قلب بشر، ما أعدَّه ؟ للذين يحبّونه«. وليس محلّ الآن لأعدِّد بقدر الطاقة البشريَّة ما تبلغ إليه هذه الطريق، أي السعادة الأبديَّة إلى المساء. ويكفيني القول بأنَّ السائر في طريق الانتخاب ينهي سفره بامتلاك ا؟ مصدر كلِّ خير ولذّة وسرور، كقوله: »من يغلب أعطه أن يجلس معي في ملكي«، وهو تعالى بقدرته القادرة على كلِّ شيء، ينعم منتخبيه ويشدُّ وسطه ويتردَّد في خدمتهم، وهم يضيئون كالشمس في ملكوت أبيهم، حتّى عبَّر عن ذلك لا بأنَّ الفرح يدخل في النفس بل بأنَّ النفس تدخل إلى الفرح كقوله: »أدخل إلى فرح سيِّدك«. وهذه الحال السعيدة تكون دائمة مخلَّدة ما دام ا؟ إلهًا. فهذه هي طريق الانتخاب وما تؤدّي إليه.

وأمّا طريق الرذل فنعم إنَّ بابها واسع كقوله: »ما أوسع الباب المؤدّي إلى الهلاك والداخلون فيه كثيرون«. وأمّا الطريق بنفسها فضيِّقة مكربة ولا يراها رحبة إلاّ من أظلم الإثم عقله فمشى في الظلام، لأنَّ من يمشي في الظلام، لا يدري أين يمضي لأنَّ الظلمة أعمت عينيه. كقول مار يوحنّا الحبيب في رسالته. ونعم إنَّه يظهر في هذه الطريق ما يغري الحواسّ ويلذّها. لكنَّ ذلك منظور بمرآة مكبِّرة، أو نظّارة معظِّمة. فميلنا الجسدي وإبليس يريانا ملاذّ الجسد بهذه النظّارة مع أنَّ الحكم على أحد الإجرام أو على أحد الأمور يكون أصحَّ وأحقَّ بمقدار ما يكون القرب إليه. وبعد وقوع التجربة عليه لا قبلها. فأسألكم أن تحكموا على ملاذّ الجسد ومطامعه بعد أن تكونوا اتَّبعتم أميالكم بها. بل فليلاحظ كلّ من الأثمة ما يراه في آثامه الماضية إلى اليوم، وأيُّ نفع بقي له منها. وهل كان له راحة بها بمقدار ما كانت له لو كان سلك طريق الانتخاب؟ فإذا طريق الإثم والرذل في نفس الحياة مضنك متعب معذّب مغروس بشوك حادَّة ومسيَّج به كقوله: »سيَّجت طريقي بالشوك«. المراد به هنا، مناخس الضمير. الطعام في هذه الطريق الخرّوب وقلَّما يتمكَّن منه كما قال المخلِّص في الابن الشاطر: »إنَّه كان يشتهي أن يملأ جوفه من الخرّوب الذي تأكله الخنازير ولا يمكِّنه منه أحد«. فالخرّوب يهيِّج الشهيِّة ولا يُشبِع. وهكذا ملاذّ العالم. رفقاء المرذول في هذه الطريق الشياطين الذي يزأرون طالبين من يبتلعونه ولا سلام للسائرين فيها كقوله: »لا سلام للمنافقين«. وإن أصابتهم مصيبة بلغت منه كلَّ مبلغ إذ ليس ما يعزّيه كما يتعزّى الأبرار بتصوُّرهم أنَّ ذلك بارز من يد ا؟. وكلَّ ما تقدَّم الإنسان في هذه الطريق ازداد عماءً كمن يبتعد عن النور، فكلَّما ما بعُد قلَّ ضوؤه حتّى يختفي. ومتى بلغ المعبر فهيهات أن يمكنه أن يعود يرجع عن طريق سلكها عمره. فيبتدي يشعر بضلاله ويرى ما أدَّته إليه هذه الطريق. وقد ندر كثيرًا من إصلاح الخطأ إذاك. وأمّا ما يصل إليه في منتهى هذا الطريق من التعاسة الأبديَّة والعذاب الخالد فلا محلّ الآن لبسط الشرح فيهما. ونكتفي بقولنا: إنّ إلهنا على كلِّ شيء قدير«. قد انتهى وقت الرحمة عنده. وحضر وقت العدل فيعذِّب مخالفيه بنار لا تُطفأ ودود لا يموت. ومع اليأس الدائم من إمكان إصلاح ما مضى، فحينئذٍ يقولون للجبال: قعي علينا وللأكام غطّينا. ولا شيء من ذلك بل تطبق البئر عليهم فاهًا، ويتذكَّرون حينئذٍ دون فائدة قول أشعيا: »من منكم يستطيع أن يسكن مع النار الآكلة، من منكم يستطيع أن يجلس على المواقيد الأبديَّة«.

خاتمة

فهاتان هما الطريقان، طريق الانتخاب وطريق الرذل وهذا ما تؤدِّيان إليه فاها الماء والنار أمامكم. فليمدد كلّ منكم يده إلى ما أيّهما شاء. فالانتخاب من جهتكم إنَّما هو انتخابكم أحد هذين الطريقين. والرذل إنَّما هو استطراق طريق الإثم المؤدّية إلى الهلاك. فأشفقوا أولادي على نفوسكم، وقوها من متاعب طريق الإثم ومن الهلاك. فهي نفوسكم لا نفوس أجنبيَّة. وإذا أهلكتموها فلا يفيدكم العالم كلُّه شيئًا: »ماذا يفيد الإنسان لو ربح العالم كلَّه وخسر نفسه، أو ما الذي يعطي الإنسان فداء نفسه؟«

وأسأله تعالى أن ينير جميعنا لنسلك بنوره في طريق الانتخاب ونتجنَّب طريق الرذل والهلاك ونحقِّق دعوتنا وانتخابنا بأعمالنا الصالحة لنفوذ بالمجد وننجو من الهلاك المؤبَّد بنعمة الآب والابن والروح القدس.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM