يوحنّا الذهبيّ الفم يواجه أونوميوس والأَنوميّين.

 

يوحنّا الذهبيّ الفم

يواجه أونوميوس والأَنوميّين

سنة 386-387، ألقى الذهبيّ الفمّ سلسلة عظات ردًّا على الأنوميّين وشدَّد على أنَّ الله لا يُدرَك. كان يوحنّا كاهنًا جديدًا، فاستفاد من خبرته حين كان شمّاسًا في كنيسة أنطاكية، فعرف حياتها الحميمة. أمّا مدينة أنطاكية فكانت في ذلك الوقت ملتقى الحضارات والتعاليم والأمراء من الوثنيَّة، إلى اليهوديَّة، وإلى مختلف أشكال المسيحيَّة. وسنة 397، ألقى سلسلة ثانية من العظات، بعدما صار أسقف القسطنطينيَّة، عاصمة الإمبراطوريَّة الرومانيَّة الثانية، وبالتالي المدينة المسيحيَّة الثانية بعد رومة، عنوانها المساواة بين الآب والابن. فمن هم الأنوميّون؟ وماذا نعرف عن مؤسِّسهم أونوميوس ورفاقه؟ أمّا القسم الثاني والأهمّ فيتطرَّق إلى يوحنّا الذهبيّ الفمّ في مواجهته لهذه البدعة.

1- الأنوميّون والهرطقة الأنوميَّة

الأنوميّون جماعة ارتبطت بالأريوسيّين فأعلنت أنَّ ابن الله يختلف عن الآب. ظهروا في التاريخ حوالي سنة 360 في خطِّ أئيتيوس وأونوميوس، فشكَّلوا الوجهة المتطرِّفة في "الحزب" الأريوسيّ.

هذه البدعة التي قدَّمت تعليمًا ضالاًّ، جذريًّا، متشبِّثًا، حملت اسمها من اليونانيَّة: لاشبيه (حاشية 4). الابن لا شبيه بالآب. وهكذا رفضت الجوهر الواحد والجوهر المشابه. وفي النهاية، جعلت أداة النفي أمام "شبيه" ارتبط اسمهم بالأنوموس، كما بأونوميو وأئيتيوس فدُعوا الأونوميّين والأئيتيوسيّين. واتَّخذوا اسمين آخرين مع أصحاب الأريوسيَّة المشدَّدة، الذين اعتبروا أنَّ الابن أُخذ من العدم، من اللاشيء، وأنَّه من جوهر غير جوهر الآب.

منذ البداية، لاتاريخ للأنوميّين سوى تاريخ رئيسهم: إئيتيوس وأونوميو. فحين كان الانقسام، في عهد الإمبراطور كونستانس، بين خصوم إيمان نيقية، شكَّلا حزبًا ودافعا عن قضيَّة مشتركة مع سائر الأريوسيّين فأعلنوا أنَّ الآب أسمى من الابن. أو رفضوا الجوهر الواحد (أوموأوسيُّوس) والجوهر المشابه (أوموي أوسيُّوس)، كما كان في سينودس سيرميوم سنة 357 أو سينودس أنطاكية سنة 358 في أيّام الأسقف الأريوسيّ أودوكسو. غير أنَّه في تلك السنة عينها، أي سنة 358، هاجم الأريوسيّون الوسط الأنوميّين في اجتماع أنقيره ثمّ سيرميوم. وحُرِّم "أونوميو". وأُرسل إلى المنفى أونوميو وأئيتيوس وأهلُ حزبهما. ولكنَّ المنفى لم يدم طويلاً. فعرض أقاق، أسقف قيصريَّة، عبارة أريوسيَّة مخفَّضة تأخذ بلفظ "أومويوس" (شبيه) في شكل غامض، وترذل "أنومويوس" (لاشبيه). كتب أئيتيوس وأودوكسو إلى العديدين لمساندة تعليم "الجوهر الآخر" المغاير لجوهر الآب. نجحت جماعة أقاق في القصر الإمبراطوريّ، فأُرسل أئيتيوس إلى المنفى. أمّا أونوميو فسانده أودوكسو المنتقل من كرسيّ أنطاكية إلى كرسيّ القسطنطينيَّة، فصار أسقف ميسية (تركيّا الحاليَّة).

ولكن برزت صعوبات بين أونوميو وأودوكسو، فتكوَّن حزبان. الأنوميّون ارتبطوا بأونوميو ودُعوا أونوميّين، وأصحاب أودوكسو صاروا أريوسيّين. عندئذٍ، قام أونوميو برسامات في حزبه، بحيث يكون له أسقف في القسطنطينيَّة وتوسَّعت هذه البدعة في أيّام يوليان الجاحد الذي ساندها نكاية بأصحاب الإيمان القويم. وفي سينودس انعقد في أنطاكية، سنة 372، في أيّام أوزويو، طلب بعض الأساقفة إعادة اعتبار أئيتيوس وأعلنوا التعليم الأنوميّ بوضوح: الابن لا يشبه الآب أبدًا، على مستوى المشيئة، كما على مستوى الجوهر. انقسامات عديدة من الداخل، بعثرت هذه البدعة، ولا مجال لذكرها.

ب- التعليم الأنوميّ

التعليم الأنوميّ حول الثالوث، هو إجمالاً، تعليم الأريوسيَّة في بدايتها. يكفي أن نقابل اعتراف أريوس الإيمانيّ الذي رفعه إلى الإسكندر، أسقف الإسكندريَّة أوَّلاً، ثمَّ إلى أثناسيوس مع فعل إيمان أونوميو أو بالأحرى مع مُلخَّص لتعليمه نقرأه في نهاية دفاعه الأوَّل. والكلام يقع في ثلاث مقولات:

إله واحد لامولود agennhtoV. فاللامولود هو جوهر الله ذاك هو الطرح الأوَّل، . قال أونوميو: "نعترف بإله واحد حسب مفهوم الطبيعة fusikh ennoia، وتعليم الآباء". ذاك هو تعليم الرواقيّين: ما صار الله من ذاته par eautou ولا من غيره par eterou. والطرح الثاني: اللامولود لا يمكن أن يلد. لا يقدر أن يقاسم طبيعته مع الذي يلد، ولا أن يشبَّه به. وأنهى أونوميوس كلامه: واحد هو إله الكون، لامولود ولا مقابل له asugkrotoV.

والابن. هو وحيد أيضًا monogenhV. دُعيَ فرع gennhma وخليقة مصنوعة poihma. وهكذا بان الفرق في الجوهر بين الآب والابن. فالابن لم يُولَد ساعة كان موجودًا. وبما أنَّ الآب لم يُولَد، لا نستطيع القول إنَّ هناك لامولودَين. ثمَّ، لا يمكن أن يضاف شيء على الله. هذا لا ينفي أن يكون الابن فوق الخلائق. "وحده وُلد وخُلق بقدرة اللامولود، فصار أكمل خادم لإتمام كلِّ عمل وكلِّ قرار من لدن الآب" (الكتّاب الشرقيّون 305، ص 265). أمّا الروح القدس، فهو الثالث في الترتيب وفي الطبيعة. وهو أوَّل خليقة خلقها الابن. هو لا يشارك في الألوهة ولا في القدرة على الخلق، دوره دور التقديس ودور التعليم (ص 186-187).

نلاحظ في عرض أونوميو المنطق اليونانيّ الذي يفرض نفسه على العقيدة. وبعد ذلك، يستند إلى الكتاب المقدَّس. نورد هنا مقطعًا من الدفاع (305، ص 277-278):

"وفي أيِّ حال، ولئلاّ أعطي فكرة بأنَّنا نعنِّف الحقيقة، باستنباطاتنا واستدلالاتنا، بحسب افتراء رُفع إلينا وانتشر، نقدِّم برهانًا من الكتب المقدَّسة عينها. هو إله واحد تعلنه الشريعة والأنبياء. هذا الإله، يعترف به المخلِّص على أنَّه الإله الوحيد monogenhV. قال: "أمضي إلى إلهي وإلهكم" (يو 20: 17). هناك إله واحد monoV حقيقيّ aliqinoV (يو 17: 3). واحد حكيم sojoV  (روم 17: 16)، واحد صالح agaqoV  (مت 19: 17)، واحد قدير dunatoV (1تم 6: 15)، واحد مالك الخلود وعدم الموت aqanaqian (1تم 6: 16). ولكن لا يتبلبل أحد أو يقلق فكره. فنحن لا نستعمل ما قيل لكي ننكر ألوهيَّة الوحيد tou monogenouV qeothtoV، أو حكمته، أو خلوده، أو صلاحه، بل لنشدِّد على سموِّ الآب. لأنَّنا نعترف بإله وحيد، ربِّنا يسوع المسيح، اللافاسد واللامائت، والحكيم والصالح. ولكنَّنا نقول عن تكوينه sustasewV وعن كلِّ ما هو أنَّ الآب هو علَّة (وجوده)، وهو اللامولود، لا علَّة لجوهره ousiaV ولا لصلاحه. ذاك هو المدلول الذي تقدِّمه المعطيات التي عُرضت سابقًا.

ج- الردّ على الأنوميّين

أوَّلاً: الأنوميَّة والأريوسيَّة

قبل كلام عن الذهبيّ الفم، نتذكَّر أنَّ الأنوميَّة جاءت في خطِّ الأريوسيَّة كما أوجزها أريوس في هذا المقطع من تاليا أو الوليمة: "ندعو الله agennhtoV (لامولود)، تجاه ذاك الذي هو في الطبيعة gennhtoV (مولود). ندعوه anarcoV (لازمنيّ) تجاه الذي هو في الطبيعة، في الزمن". هاتان الصفتان هما ما ينطبق على الله لوصف طبيعته، ولا ينطبقان إلاّ على الله، وعلى الله وحده. وبالتالي لا يمكن أن ينطبق على المسيح. هنا نفهم الصراعات التي دارت حول هاتين الصفتين في مجمع نيقية سنة 325. فإذا كانت اللفظتان agennhtoV وanarcoV لا تصفان المسيح، فالابن لا يشبه الآب. فدُعيَ الذين يقولون هذا القول: اللاشبيهيّون أو anomoioi.

شدَّد الأنوميّون على agennhtoV، على أنَّه الاسم الخاصّ بالله، الذي يعبِّر وحده عن جوهره: "إذا تبيَّن أنَّه لم يُوجَد قبل ذاته، وأنَّ لا شيء آخر وُجد قبله، بل أنَّه هو ذاته قبل كلِّ شيء، فهذا يعني أنَّ اللامولود مترابط به، أو بالأحرى أنَّ هو ذاته جوهره اللامولود.

من هذه الصفة (اللامولود) استخرج أونوميو نتيجتين. الأولى، لا يعود استنباط الأسماء إلى البشر، بل إلى الله وحده الذي احتفظ لنفسه بوضع اسم للأشياء قبل وجودها. وبما أنَّ الله دعا نفسه agennhtoV فقد أعلن الإنسان الإمكانيَّة بأن يعرف جوهره. يكفي أن نعرف معنى لامولود لكي نفهم كلَّ شيء عن الله (الينابيع 305، ص 259). والنتيجة الثانية: الله لامولود. إذًا هو بسيط ولا ينقسم: هو لا يلد. كما لا يمكن أن يشارك المولود في طبيعته الخاصَّة (الينابيع 305، ص 251). وهكذا نكون أمام تأكيدين: معرفة جوهر الله معرفة تامَّة، إنكار المساواة بين الآب والابن (الينابيع 396، ص 8-10).

ثانيًا: غريغوار وباسيل

اتَّهم أونوميوس، فكتب دفاعًا (أبولوجيّا) أوَّل احتفظ لنا التاريخ به: بدأ فربح ودَّ السامعين، وقدَّم نفسه على أنَّهم يتَّهمونه ويفترون عليه، هو الضعيف الذي يُظلَم ويُطلَب منه أن يدافع عن نفسه. فردَّ باسيل بأنَّ أونوميو دُعيَ إلى مجمعين. واحد في سلوقية سنة 359. تهرَّب مع "محازبيه" فحكم عليهم غيابيًّا. والثاني إلى القسطنطينيَّة سنة 360، حين كان الحزب الأريوسيّ قويًّا، وصار أونوميو أسقفًا. إذًا، هذا الدفاع الذي يقدِّمه أونوميو هو مهزلة وحيلة. وهكذا تحدَّى باسيل أونوميو بأن يقدِّم جوابًا.

جاء كلام باسيل في ثلاثة كتب أو مقالات، logoV. الأوَّل مع ع. ردَّ على طروح أونوميو حول اللامولود. والثاني ردّ على هرطقة أونوميو في ما يتعلَّق بالابن. قال باسيل: "في براهينه حول إله الكون، أعدَّ أونوميو، قدر المستطاع، تجاديفه blasfhmiaV على ابن الله. منذ الآن، يفلت لسانه على الإله الوحيدmonogeneiqew . والكتاب الثالث يعالج مسألة الروح القدس: "ما إن شبع (أونوميو) من تجاديفه على الابن الوحيد (مونوجين) حتّى عاد إلى الروح القدس ليقول فيه أقوالاً توافق نواياه" (الينابيع 305، ص 144-145).

في سنة 364-378، أي في عهد والنس، عاش الأنوميّون حقبة صعبة. مات أئيتيو سنة 365-366. وأرسل أونوميو مرَّة إلى المنفى. وفي نهاية سنة 387، نشر "دفاع الدفاع" ردًّا على ردِّ باسيل. ضاع الكتاب. ولكن وُجدت مقاطع عديدة عند غريغوار النيصيّ في كتابه: ضدّ أونوميو. فالقدّيس غريغوار كتب مقالات أربعة ضدَّ أونوميو. الأوَّل، ردّ على دفاع الدفاع (جاء بعد 14 سنة على كتاب باسيل). والثاني جاء مثل الأوَّل. في الثالث ردَّ غريغوار على هجوم آخر على باسيل. والرابع جاء نقدًا قاسيًا على اعتراف إيمانيّ أعلنه أونوميو أمام تيودوز.

وبعد غريغوار النيصيّ، انبرى غريغوار النازينزيّ، الذي صار أسقف القسطنطينيَّة، للردِّ على أونوميو. ألقى خمس عظات، جمعها البنديكتان ودعوها "الخطب اللاهوتيَّة"، وفيها وصل غريغوار إلى النضج الكبير في دراسة العقيدة حول الثالوث. العظة الأولى هي مقدِّمة للعظات الأربع الباقية، وتعالج الشروط المطلوبة لمناقشة الحقائق اللاهوتيَّة: "إلى الماهرين في الكلام يتوجَّه هذا الكلام. بداية ننطلق من الكتاب المقدَّس: "ها أنا عليك، أيَّتها الوقحة" (إر 50: 31): على مستوى التعليم وطريقة السماع والتفكير" (الينابيع 250، ص 70-71). أمّا العنوان فهو: "مقدِّمة الجدال ضدَّ الأنوميّين".

في العظة الثانية، عالج غريغوار اللاهوت بشكل حصريّ. اي وجود الله، وطبيعته وصفاته، بقدر ما الفكر البشريّ يستطيع أن يحدِّد ويفهم. "نضع في رأس هذا الكلام، الآب والابن والروح القدس، الذين هم موضوع (العظة): ليكن الأوَل راضيًا، والثاني معينًا، والثالث ملهمًا. أو بالأحرى، تأتي الألوهيَّة الواحدة، المميَّزة في الاتِّحاد، والمجتمعَة في التمييز. يا للعجب!" (العظة 28، الينابيع 305، ص 100-103).

وبيَّنت العظة الثالثة وحدة الطبيعة بين الأقانيم الإلهيَّة الثلاثة، ولاسيَّما لاهوت اللوغس ومساواته مع الآب (العظة 29). والعظة 3- تفنِّد اعتراضات الأريوسيّين حول لاهوت الابن، وطريقة استعمال النصوص الكتابيَّة استعمالاً كاذبًا. وأخيرًا يدافع غريغوار عن ألوهيَّة الروح القدس في العظة 31 مع ردٍّ على الماقيدونيّين.

2- يوحنّا الذهبيّ الفم

بعد كلام عن علاقة الذهبيّ الفم بالأنوميَّة، نتوقَّف عند كتابين من كتبه (حاشية 1، حاشية 3) أو بالأحرى، سلسلة مواعظ طُبعت في جزئين فجاءت بشكل دبتيكا مع درفتين تقدِّمان "لاإدراكيَّة الله" و"مساواة الآب والابن".

أ- يوحنّا والأنوميَّة

اهتمَّ يوحنّا مرَّتين بالأنوميّين. مرَّة أولى حين كان كاهنًا، ومرّة ثانية حين صار أسقف القسطنطينيَّة. مثل هذا الانقسام في عاصمة الإمبراطوريَّة، أضعف عمل الكنيسة وحدَّ من شهادتها ولاسيَّما بين اليهود، وبين الوثنيّين الذين لبثوا كثرًا في نهاية القرن الرابع.

فهذه البدعة التي ظهرت سنة 350 في أنطاكية، صارت الضلالة الكبرى سنة 380. ونظرتها إلى معرفة الله، لخَّصها أونوميو نفسه: "الله لا يعرف عن ذاته شيئًا لا نعرفه. فكيانه واضح له كما هو واضح لنا. فكلُّ ما نعرفه عنه، يعرفه هو أيضًا، وكلُّ ما يعرفه عن ذاته، نجد فينا بسهولة وبدون اختلاف". الجوهر الإلهيّ بسيط جدًّا، ولهذا تسهل معرفتُه. إذًا، الأب وحده الله، بسبب بساطته، لا يشاركه أحد في كيانه. خلق الابن ونقل له قدرته، نشاطه، لا لاهوته ليكون أداة في يده في خلق الكون. وأوَّل خلائق الابن هو الروح.

عند هذا الحدّ وصلت الديانة المسيحيَّة مع نظام يستند إلى جدال فارغ، سفسطائيّ لم نعد أمام اللاهوت (تيولوجيّا)، بل أمام التقنيَّة (تكنولوجيّا). تفكير منظَّم، عدد كبير. نفهم يوحنّا الذهبيّ الفم أنَّ مهمَّته تقوم في محاربة تأثيرهم، والعمل على إعادتهم إلى الكنيسة الجامعة. أحسَّ أنَّه ليس أمام هرطقة ماتت ودُفنت، بل أمام ضلالة حاضرة، حيَّة، ساهرة ببساطتها ووضوحها الكاذب، ورفْعها للعقل البشريّ مع التشديد على التقوى والحياة النسكيَّة. لهذا، عمل يوحنَّا على الدفاع عن الإيمان القويم وعن جدِّيَّة الحياة المسيحيَّة.

أعلن الذهبيّ الفم أنَّه ضدَّ الأنوميّين ونظرتهم التعيسة إلى الله. انتظر وانتظر طويلاً، وعدد من الأنوميّين كانوا يسمعون مواعظه ويطلبون منه أن يرجئ المواقف القاسية. ولكنَّهم الآن يطلبون منه أن يعالج الموضوع. يتحدَّثونه. بل يتخيَّلون أنَّهم انتصروا عليه. وقضيَّة الإيمان القويم قضيَّة خاسرة. فقبل يوحنّا التحدّي بحماس المتأكِّد من النصر وإحقاق الحقيقة، وبمحبَّة تريد أن تعيد هذه النفوس الضالَّة، المريضة، التائهة، إلى الحظيرة، بعد أن يستنيروا. وخاض أسقف القسطنطينيَّة المعركة لا يثنيه عن عزمه شيء. يمكن أن يتوقَّف بسبب ظرف طارئ، ولكنَّه يعود سريعًا. وأوَّل كلام له كان لاإدراكيَّة الله.

هنا يتوسَّل يوحنّا قوَّة الخطابة عنده. فسامعوه يعجّون بالحياة، مزيج من فئات مختلفة. مشغوفون بالخطابة، كما بالجدالات اللاهوتيَّة. قال يوحنّا في كتابه حول الكهنوت (الينابيع 272، ص 302، سطر 49-52): "أما تعلم أيَّ اندفاع نحو البلاغة يسيطر اليوم على نفوس المسيحيّين؟ والذين يهتمّون بها هم أهل للاحترام، لدى الوثنيّين كما لدى المسيحيّين". وفي المعنى عينه قال غريغوار النيصيّ: "امتلأت المدينةُ كلُّها بالجدالات: الشوارع، والأسواق، والساحات، والأحياء، وبيّاعو الثياب، والذين يقفون وراء مكاتب الصيرفة، والذين يبيعوننا الطعام. إذا تحدَّثت عن المال، حادثك الواحد عن المولود واللامولود. وإن حصل واستعلمت عن ثمن الخبز، يجيبك: الأب هو الأكبر، والابن خاضع له. وإن تساءلت: هل الحمّام جاهز؟ يعلن لك آخر أنَّ الابن خرج من اللاكائن. لا أعرف كيف أدعو هذا الهيجان أو هذا الجنون، أو هذا الشيء الذي يشبه وباء تكثر فيه الحجج والاعتراضات.

همّ يوحنّا الأوَّل عرض الفكر المسيحيّ عرضًا أمينًا، ليقاسم يقينه مع الذين إليهم يوجِّه كلامه. هذا ما نكتشفه في العظة العاشرة. "بعد أن أخفيتُ (هذا الخير) في فكري، فإذا احتفظت به على الدوام دون أن أشارك فيه أحد، يخفُّ ربحي، ومواردي تضعف. ولكن إن قدَّمتها للجميع، إن شاركتُ فيها الكثيرين، وإن قسمتُ معهم كلَّ ما أعرف، يزداد غناي الروحيّ من أجل خيري" (الينابيع 396، ص 240-241).

ب- لاإدراكيَّة الله

نُشر هذا الكتاب اليونانيّ مع ترجمة فرنسيَّة سنة 1951، ثمَّ سنة 1970. فقدَّم خمس عظات.

أوَّلاً: العظات الخمس

ردَّت العظتان الأولى والثانية على قول أونوميو بأنَّ الإنسان يستطيع أن يعرف جوهر الله معرفة تامَّة. فكان جواب الواعظ: جوهر الله لا يدركه العقل البشريّ. لهذا ورد اللفظ peri akatalhptou. الفعل هو katajambanw. أخذ، أمسك، أدرك. نحن لا نقدر أن نمسك الله، وإلاّ كان صنمًا في يدنا. لا ندركه وكأنَّ عقلنا يمكن أن يحيط به. لهذا نقرأ في بداية العظة الأولى: "من أبينا الذي في القدّيسين، يوحنّا الذهبيّ الفم رئيس أساقفة القسطنطينيَّة، في غياب الأسقف حول اللامدركperi akatalhptou ، في ردٍّ على الأنوميّين، الخطبة logoV الأولى" (الينابيع 28 مكرَّر، ص 92).

وفي الكتاب عينه ص 140 نقرأ: "منه (= أي يوحنّا) أيضًا. بضعة أيّام (بعد الخطبة السابقة) ردًّا على الأنوميّين، تكلَّم على اليهود. ثمَّ توقَّف عن الكلام بسبب وجود الأسقف. وتذكُّرًا لشهداء عديدين. وعاد الآن إلى الأنوميّين، في كلام عن اللامدرَك". هنا نقرأ النصَّ السريانيّ: "مرَّت أيّام عديدة تكلَّمتُ فيها على الأنوميّين، ثمَّ على اليهود، ثمَّ صمتُّ بسبب اجتماع الأساقفة عندنا، وتذكارات العديد من الشهداء المشهورين التي حصلت. أمّا الآن فنعود أيضًا..." ويتواصل النصُّ كما في اليونانيَّة: "ندخل في الحلبة لكي نقاتل الأنوميّين الكافرين، اللامؤمنينapistouV . إنَّ استاؤوا حين ندعوهم كافرين، فليبدِّلوا سلوكهم وأنا أبدِّل كلامي. فليتخلّوا عن أفكارهم الكافرة وأنا أتخلّى عن تسمية لائمة. فإذا كانوا لا يختفون تحت الأرض، ساعة يدنِّسون الإيمان بأعمالهم، لماذا يغضبون علينا، الذين نلومهم فقط بكلمات تريهم ما يقومون به من أعمال".

العظتان الثالثة والرابعة تتحدَّثا عن استحالة معرفة جوهر الله، حتّى على الملائكة والقوّات السماويَّة. لم ينتظر الذهبيّ الفم العظة الثالثة للكلام عن الملائكة. بل انطلق في العظة الأولى: "إذا شئت نترك بولس والأنبياء، ونرتفع إلى السماء: ربَّما نجد هناك أرواحًا تعرف الله في جوهره! إن وُجدت أرواح تنعم بالمعرفة، فهي لا تشاركنا في شيء، لأنَّ المسافة عظيمة التي تفصل الملائكة عن البشر. ولكن إن أردت أن تعرف يقينًا أنَّ ما من قوَّة مخلوقة، وإن تكن علويَّة، تمتلك هذا العمل، فلنسمع الملائكة. ماذا إذًا؟ هل يتحدَّثون في العلاء عن الجوهر الإلهيّ، هل يتجادلون في ما بينهم؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. ولكن ماذا يفعلون؟ هم يمجِّدون، يسجدون، يصعدون على الدوام أناشيد الظفر والسرّ، باحترام عميق. بعضهم يهتف: المجد لله في أعلى السماوات (لو 2: 14). والسرافيم بدورهم: "قدّوس، قدُّوس، قدّوس" (أش 6: 3). ويميلون بعيونهم لأنَّهم لا يقدرون أن يحتملوا تنازلَ الله. أمّا الكروبيم فينشدون: "مبارك مجده مو موضع سكناه" (حز 8: 12). هذا لا يعني أنَّ الله محصور في موضع ما، لا قطعًا. فكأنَّنا نقول في لغتنا البشريَّة: حيث يكون. أو: كيفما يكون، إن كانت الحكمة بأن نتكلَّم هكذا عن الله. ولكنَّنا لا نمتلك سوى التعبير البشريّ" (الينابيع 28 مكرَّر، ص 126-129).

والعظة الخامسة واصلت ما قيل عن استحالة إدراك الله. فمثل هذه المعرفة محفوظة للابن والروح. انطلق الواعظ من كلمة يوحنّا، ابن الرعد: "ما من أحد رأى اللهewrake ، الابن الوحيد الذي في حضن الآب، هو الذي أخبرexhghsato ". "يجب علينا اليوم أن نتعلَّم في أيِّ موضع قدَّم ابن الله الوحيد هذا الإعلان. قال يوحنّا: "أجاب اليهود". وقال لهم: "ما من أحد رأى الآب، سوى ذاك الذي أتى من لدن الله. فهو من رأى الآب" (يو 6: 46). معنى "رأى" هنا، هو "عرف".

ويواصل يوحنّا كلامه: "ما اكتفى بأن يقول: "ما من أحد رأى الآب"، ثمَّ صمت. فقد نظنُّ هكذا أنّنا لسنا أمام البشر. بل إذ أراد أن يبيِّن أنَّه لا الملائكة، ولا رؤساء الملائكة، ولا القوّات العلويَّة تعرفه، قدَّم ذلك بوضوح بالكلمات التالية. فبعد أن قال: "ما من أحد رأى الآب"، أضاف: "إلاّ ذاك الذي أتى من لدن الله. فهو من رأى الآب". فلو قال فقط: "ما من أحد لظنّ ربَّما كثيرون من الذين سمعوا كلامه، أنَّ هذا قيل فقط بالنسبة إلى جنسنا البشريّ، ولكن حين قال: "ما من أحد" وأضاف "سوى الابن"، استبعد الخليقة كلَّها حين ذكر الابن الوحيد monogenhV. ولكن يقال لي: "هل يستبعد أيضًا الروح القدس؟ كلاّ ثمَّ كلاّ. لأنَّ الروح ليس جزءًا من الخليقة. وعبارة "ما من أحد تستعمَل دومًا لتعارض سائر الخلائق. وهكذا، حين يتكلَّم عن الآب، فهو لا يستبعد الابن. وحين يتحدَّث عن الابن لا يزيح الروح القدس".

ثانيًا: اللاإدراك والرعب المقدَّس

ما لاحظناه حتّى الآن هو أنَّ الذهبيّ الفم ترك طريق الفلسفة في الردِّ على أونوميو، على غرار ما فعل النيصيّ والنازينزيّ. فعاد إلى الكتاب المقدَّس وأورد نصوصه وشرحها. أمّا الهدف الأخير، فهو التعليم اللاهوتيّ وبالتالي التصرُّف العمليّ.

ونبدأ باللاإدراك للجوهر الإلهيّ، وهو موضوع هذه العظات الخمس. سبق يوحنّا فقال: "الخير الأعظم هو أن نُدرك أنَّ الله لا يُدرَك akatalhptoV بحسب جوهره" kata to einai. ثمَّ: "لا نستطيع أن نعرف من الله، سوى وجوده وتجلّياته". هذا الكلام الذي يعود إلى فيلون، قد تبنّاه يوحنّا، فدلَّ على تسامٍ جذريّ لله كما في الكتاب المقدَّس.

كيف تصوَّر يوحنّا هذا التسامي الإلهيّ؟ اتَّخذ عبارات تبرز اللاهوتيّ المصمت apophatique، الذي يمنع الإنسان من الكلام، ويدعوه إلى الصمت الساجد. منها ما أخذه من بولس الرسول aoratoV: ما لا يُرى (روم 1: 20): "ندعوه إذًا الإله الذي لا يمكن التعبير عنه anekfraston، ولا تصوُّره، ولا رؤيته aoraton، ولا إدراكه. ولتعترف أنَّه يتجاوز قدرة كلِّ لسان بشريّ، أنَّه يفلت من قبضة كلِّ عقل مائت. الملائكة لا يستطيعون أن يكشفوه، ولا السرافيم أن يشاهدوه ولا الكروبيم أن يدركوه، لأنَّه غير منظور aoraton للسلاطين والرئاسات والقوّات وجمع الخلائق بلا استثناء. لا يعرفه سوى الابن والروح (ص 190-191).

والصفة الثانية نقرأها عند الرسول (2كور 12: 4) وخبرته الصوفيَّة. arrhtoV: لا يجوز له أن ينطق بما رأى. قال يوحنّا: "بقدر ما هذه القوّات تمتلك الحكمة، وأقرب منّا إلى هذا الجوهر السعيد واللامُقال، فهي تعرف أفضل منّا كم أنَّ طبيعة الله لا تُدرَك. فحين تنمو الحكمة، تُنمي معها السجود والعبادة" (ص 232-235).

والصفة الثالثة: لا يمكن أن نرويه، أن نخبر به anekdihghtoV. استعملها الرسول في الكلام عن هبة الله (2كور 9: 5). هي من العظمة بحيث لا نقدر أن نتحدَّث عنها. "ماذا تقول؟ أحكامه لا تُسبَر، وطرقه لا تُكشَف، سلامه يتجاوز كلَّ فهم، عطاياه لا يمكن أن نخبر بها. ما أعدَّه الله للذين يحبّونه، لم يصعد إلى قلب بشر، عظمته لا حدود لها. فهمه لا قياس له. كلُّ ما فيه لا يُدرَك. وتظنّ أنَّه يُدرَك هو وحده. فكيف تظنُّ ذلك ولا تكون في قمَّة الجنون. أمسك بالهرطوقيّ. لا تتركه يُفلت. قل له: ماذا يقول بولس؟ "نحن نعرف بعض المعرفة". فتجيب: لم يَقُل هذا عن الجوهر الإلهيّ، بل عن تدبير الأكوان. اتَّفقنا malista... إذا كان هذا التدبير لا يُدرَك، فبالأحرى الله ذاته. ولكنَّه يتكلَّم في هذا الموضع عن الله ذاته، لا عن تدبير الكون". فاسمع ما يلي. فبعد أن قال "نعرف بعض المعرفة، ونتنبّأ قليلاً، أضاف: "الآن أعرف قليلاً. ولكن حينئذٍ أعرف كما عُرفت". من يعرفه، الله أم تدبير الكون؟ بل تدبير الكون. إذًا يعرف الله قليلاً ek merouV (ص 124-127).

وتتوالى الصفات البولسيَّة التي يستعملها الذهبيّ الفم: لا يُسبَر anexerenhtoV (روم 11: 33). لا يُكشَف anexicniastoV (أي 5: 9؛ روم 11: 33). لا يمكن الوصول إليه aprositoV (1تم 6: 16). قال الرسول: "مسكنه نور لا يُقترَب منه، ما رآه إنسان ولن يراه، له العزَّة والإكرام" والذهبيّ الفم: "ما قال: هو يسكن نورًا لا يُدرَك، بل لا يمكن البلوغ إليه. وهذا أقوى بكثير. يُقال عن شيء إنَّه لا مُدرَك، حين لا يتواصل الدارسون إلى الإمساك به رغم أبحاثهم واستقصاءاتهم. ولكن ما لا يمكن البلوغ إليه aprositon هو ما يفلت منذ البدء من كلِّ استقصاء، بحيث لا يستطيع إنسان أن يقرِّبه. مثلاً نقول إنَّ البحر البعيد لا يُعرَف، لأنَّ السبّاحين الذين ينزلون فيه ويغطسون، لا يستطيعون أن يصلوا إلى أعماقه. ولكن ما ندعوه "لا يمكن الوصول إليه" هو ما يستحيل علينا منذ البدء أن نبحث عنه zhthqenai ولا أن نسبره erennhqenai (ص 196-199).

ولماذا هذه الاستحالة؟ لماذا لا يجرؤ الإنسان أن يقترب من الله؟ قيل في الكتاب: هو نار آكلة. لا يُدنى منه. والقُربُ منه لا يُحتمَل aforhton: "ها نحن نحاول أن ننقلكم مرَّة أخرى، بالكلام، إلى السماء، لا لنمارس فضولاً باطلاً مزعجًا، ولكن لأنّنا معجِّلون لكي ندمِّر حججًا واهية ليست في محلَّها، لدى الذين لا يعرفون أنفسهم، ويرفضون القبول بحدود الطبيعة البشريَّة. في هذا الإطار بيَّنَّا وأفضنا أنَّ لا ظهور الله وحسب، بل ظهور ملائكته أيضًا ما استطاع أن يتحمَّله هذا البارّ الذي قدَّمنا لكم خبره كلَّه. أريناكم دائمًا الطوباويّ دانيال، أصفر اللون، مرتجفًا، في حالة قريبة من المائتين، ونفسه تحاول أن تقطع كلَّ رباط بالجسم البشريّ.

عاد الذهبيّ الفم مرارًا عند هذه الفكرة. فقال مثلاً عن دانيال: "امتلأت نفسه مخافة، فما استطاع أن يحتمل منظر عبد الله الآخر الحاضر هنا، ولا أن يتقبَّل لمعان هذا النور. ولهذا تبلبل" (3: 251-351).

في هذا الوضع، لا يعود الإنسان يمسك بزمام نفسه. هي الدهشة ekplhxiV تللك عاطفة زكريّا حين ظهر عليه الملاك في الهيكل. لهذا قال له الملاك: "لا تخف يا زكريّا" (لو 1: 13). والسرافيم يرتعبون في حضرة الله القدّوس: "هم يميلون بعيونهم، ويبسطون أجنحتهم أمام وجههم، ويقفون منتصبين على ركابهم، ويطلقون هتافات متواصلة" (ص 233).

فالمخافة هي العاطفة الدينيَّة السميا. وطبيعة الإنسان أن يخاف الله (1: 83-84). هي مخافة الإكرام والوقار، التي تفترض تعلُّق بالله. ينسحق الإنسان أمام عظمة الله، فيندهش ويتبلبل، ولكنَّه يحسُّ بانجذاب داخليّ. يريد أن يبتعد ولا يقدر foboV. خاف دانيال أمام الملاك، فاصفرَّ وجهه. والملائكة أنفسهم يخافون أمام الله. كم هم بعيدون عن موقف الأنوميّين وما فيه من وقاحة katafronein. هنا يقول الذهبيّ الفم:

"هل لاحظت أيّةَ مخافة تسود هناك، وأيّ استخفاف هنا؟ أولئك (الملائكة) يؤدّون المجد، وهؤلاء (الأنوميّون) يسعون إلى إرضاء روح الفضول peri ergazesqai (2تس 3: 11). أولئك ساجدون، وهؤلاء مهتمّون بأمور تافهة. أولئك يميلون بنظرههم، وهؤلاء يتواقحون ويحدِّقون بنظرهم إلى المجد الذي لا يوصف. فمن لا يئنّ؟ ومن لا يبكي على مثل هذا الشذوذ وهذا الجنون؟" (ص 129).

ومع المخافة foboV هناك الرعدة tromoV، في عبارة تدلّ إلى بولس الرسول (2كور 5: 15؛ أف 6: 5): "قل لي، هل الله هو من تعتدُّ أن تجعله تحت ناظرك؟ الإله الذي لا بداية له، الذي لا يناله التبدُّل، اللاجسديّ، اللافاسد، ذاك الحاضر في كلِّ مكان، الذي يتجاوز كلَّ شيء، ويسمو على الكون كلِّه. اسمع الاعتبارات التي يتفوَّه بها الكتَّاب الملهمون وامتلئ خوفًا fobhqhti. "يلقي نظره على الأرض فترتعد" (مز 104: 32)trwmein . إذًا، نظر منه واحد، هو كافٍ ليهزَّ الأرض في كلِّ اتِّساعها. "يلمس الجبال فتتحوَّل دخانًا" (مز 104: 32). يحرِّك الأرض من تحت السماء بدءًا بأساساتها، فتتأرجح عواميدها (أي 9: 6). يهدِّد البحر وينشِّفه (أش 51: 10). "رآه البحر فهرب efugen، والأردنُّ تراجع إلى الوراء". الجبال قفزت كالكباش، والتلال مثل صغار الغنم" (مز 114: 13-14). الكون كلُّه ارتعش salenetai، ارتجف dedoike، ارتعد tremei. وهؤلاء الناس وحدهم (الأنوميّون) يستخفّون بخلاصهم، يحتقرونه، يهملونه، بل يهملون سيِّد الكون (ص 151-161).

واللفظ الثالث horror frikh هي المخافة المقدَّسة في ذروتها. تجعل شعر الإنسان يقف. تمسك بالإنسان أمام كلِّ ما يلامس الله. أمام تجديف الأنوميّين، يقشعرُّ الذهبيّ الفم. "نعود الآن إلى كلامنا في المرَّة الماضية... ونحاول أن نقتلع الجذر القائل الذي هو أمُّ جميع الشرور، والذي منه نبتت هذه التعاليم التي أخذوا (= الأنوميّون) بها. ما هو جذر جميع شرورهم؟ صدِّقوني. هي قشعريرة تمسك بي حين أذكرها. وأنا أرتجف بأن أتلفَّظ بفمي ما يحرِّكونه على الدوام في عقولهم. وما هو جذر هذه الشرور؟ تجرَّأ إنسان فقال: "أنا أعرف الله كما الله ذاته يعرف ذاته" هل يحتاج إلى ردٍّ مثلُ هذا القول؟ هل يطلب أن نجعل تجاهه البراهين؟..." (ص 154-155).

هذه المخافة هي عاطفتنا أمام قداسة agiwsunh الله، وعظمته megalwsunh. فلا يبقى لنا سوى أن نمجِّده doxazein، ونعبده ونسجد له proskunein، وأخيرًا نقف أمامه صامتين على مثال إيليّا على جبل حوريب eufymein (ص 128-129). ذاك ما يفعل الرسول في بداية رسائله. حين يذكر الله، لا يعجِّل في عرض تعليمه. بل يبدأ بإطلاق المديح اللائق به اسمع ما كتب إلى أهل غلاطية: "النعمة والسلام لكم من الله أبينا ومن الربِّ يسوع المسيح، الذي بذل نفسه عن خطايانا، لينقذنا من هذا العالم الشرّير عملاً بمشيئة إلهنا وأبينا. له المجد إلى أبد الدهور. آمين" (غل 1: 3-5). وفي 1تم 1: 17: "لملك الدهور اللامائت واللامنظور، إلى الإله الواحد والحكيم، الإكرام والحمد في الدهور. آمين".

ج- مساواة الآب والابن

في "لاإدراكيَّة الله" قدَّمنا خمس عظات، وها نحن في جزء ثانٍ، عنوانه "مساواة الآب والابن"، نقدِّم ستَّ عظات. العظات 7-10 تعود إلى سنة 386-387، يوم كان يوحنّا بعدُ كاهنًا. أمّا العظتان 11-12 فقد ألقاهما يوحنّا سنة 398،  بعد اختياره أسقفًا على كرسيّ القسطنطينيَّة (3 شباط 398).

شدَّدت العظات الخمس الأولى على الله الذي لا يُدرَك. أمّا الستُّ الأخيرة فتدور حول ضلالة أونوميو الثانية: ليس الابن من جوهر الآب. وبالتالي، ليس مساويًا لله. ونبدأ بالعظة السابعة.

ارتبطت العظة السابعة بما سبقها. ونحن نقرأ ص 114-116: "مجد الابن الوحيد، مرَّة أخرى، هو موضوع عظتنا. منذ وقت قليل، بيَّنَّا لكم أنَّ إدراك جوهر thV ousiaV الله يتجاوز كثيرًا حكمة البشر والملائكة ورؤساء الملائكةkatalhfiV ، وبمختصر الكلام، الخليقة كلُّها، ولا يعرفه بوضوح سوى الابن الوحيد والروح القدس. أمّا الآن، فينطلق كلامنا على حلبة أخرى من الصراع: نبحث إن كان الابن يمتلك القدرة ذاتها dunamiV والسلطان ذاته exousia والجوهر ذاته كالآب. أو بالأحرى نحن نطلب ذلك لأنَّنا وجدناه مع نعمة المسيح ونحافظ عليه باطمئنان تامّ" (ص 114-117).

إذًا، انتقل الواعظ من "موضوع" إلى "موضوع". وهذا ما نفهمه من عنوان العظة السابعة: "من أبينا الذي هو بين القدّيسين، يوحنّا الذهبيّ الفم، إلى الذين تركوا الجماعة sunaxewV والبرهان بأنَّ الابن هو من جوهر الآب. فإن كانت أقواله وأعماله تمتلك طابع التنازل tapeinwV، فلمَ تتمُّ هذه ولم تُقَل بسبب نقص في القدرة، ولا بسبب دونيَّة، بل لأسباب مختلفة. هي الخطبة السابعة من الخطب التي تعالج اللامدرَك، والتي تلي سابقاتها" (ص 110-111).

ضلَّ الهراطقة فاستعملوا خطأ لفظ "ابن" uioV ولفظ "إله" qeoV فردَّ عليهم الواعظ: "إذا كان للابن القدرة عينها والجوهر عينه، وإن كان يعمل كلَّ شيء بالنظر إلى سلطان سامٍ، فلماذا إذًا يصلّي؟" (7: 143-145). ذاك كان اعتراض الأنوميّين؟ ردَّ يوحنّا على هذا السؤال في أربع محطّات، تعود كلُّها إلى تنازل من قبل المسيح، دون أن ينقص مجده.

والعظة الثامنة واصلت الجدال حول جواب يسوع على طلب أمِّ ابنَي زبدى: "ليس لي أن أعطي ذلك، لأنَّه للذين أعدَّه لهم أبي" (مت 20: 23). كان هذا القول مناسبة فسار herméneutique يستند إلى الفرق بتفهُّم، وهي تقدِّم الجواب الحقيقيّ للاعتراضات التي يحرِّكها الهراطقة حول تنازل المسيح. ونقرأ كلام يوحنّا (ص 194-197):

"حين قدَّموا هذا الطلب، اسمعوا ما أجابهم: "أنتم لا تعرفون ماذا تطلبون!" (مت 10: 38). هل نجد أوضح من هذا الكلام؟ أرأيت أنَّهما لا يعرفان ما يطلبان حين يتحدَّثا عن تيجان ومُجازات وأوليَّة وكرامة، وهم لم يفهموا بعد أنَّ القتال لم يبدأ بعد. حين قال: "لا تعرفون ماذا تطلبون" أفهمنا أمرين: الأوَّل، تكلَّما عن مملكة لم يذكرها المسيح، لأنَّه لم يعلن مملكة أرضيَّة منظورة. الثاني، طلب الأوَّليَّة وكرامات السماء، وأراد تجاوز الآخرين بالشهرة والمجد. لم يعبِّرا عن طلبهما في الوقت المناسب، بل في لحظة لم تكن في محلِّها. فليس الوقتُ وقت أكاليل وجوائز، بل وقت قتال وصراع ومجهود وعرق واستعداد وحروب. وإليك ما أراد أن يقول: لا تعرفان ماذا تطلبان حين تتوجَّهان إليّ في هذا الموضوع، وأنتما ما تعبتما، وما تعرَّيتما من أجل القتال، ساعة الأرض كلُّها في الضلال، والكفر يسود، وجميع البشر يهلكون. ما عبرتم بعدُ خطَّ الانطلاق، وما تعرَّيتم من أجل القتال.

"هل تستطيعان أن تشربا الكأس التي أشرب، وتقبلا المعموديَّة التي أقبل؟" (مت 10: 38). دعا هنا "الكأس" و"المعموديَّة"، صليبَه وموته. الكأس: إليها يمضي مبتهجًا. والمعموديَّة: بها ينقّي الأرض كلَّها. وليس فقط بسبب ذلك، بل بسبب السهولة التي بها يقوم. كما أنَّ ذاك الذي يعمَّد في الماء يقوم بسهولة دون أن تمنعه طبيعةُ الماء، كذلك ذاك الذي نزل في الموت قام أيضًا بسهولة. لهذا يدعوه معموديَّة..."

العظة التاسعة استندت إلى قيامة لعازر، وإلى الشفاءات العجائبيَّة التي أجراها الرسل، فردَّت على أقوال الأنوميّين حول دونيَّة الابن بالنسبة إلى الآب.

"اليوم لعازر حين قام، يتيح لنا أن نضع حدًّا لشكوك عديدة، مختلفة فلا أعرف كيف أنَّ هذه القراءة (في سبت لعازر، وقبل أحد الشعانين، كما هي العادة في الكنائس الشرقيَّة) قدَّمت فرصة للهراطقة، ومناسبة رفض من قبل اليهود، لا بحقّ، لا سمح الله، بل نتيجة مهارة نفسهم الفاسدة".

ماذا يقول الهراطقة؟

"من جهة، يقول هراطقة عديدون إنَّ الابن غير مساوٍ ouc omoioV للآب. لماذا؟ لأنَّ المسيح (كما قالوا) احتاج أن يصلّي لكي يقيم لعازر. فلو لم يصلِّ لما كان أقام الميت (لعازر). وقالوا: كيف أنَّ ذاك الذي وجَّه صلاة هو مساوٍ لمن تقبَّل تضرُّعه؟ فواحد يصلّي، وآخر يتقبَّل صلاة المتضرِّع إليه. هم يجدِّفون، لأنَّهم لا يفهمون كيف تكون الصلاة تنازلاً، وسببها ضعف الفكر لدى الحاضرين...".

هكذا راعى يسوع الضعف البشريّ، بل هو تنازل وغسل أقدام التلاميذ بمن فيهم يوضاس. وبعد ذلك انتقل يوحنّا إلى اليهود لكي يردَّ عليهم. قالوا: "كيف يعتبر المسيحيّون إلهًا، من جهل الموضع الذي فيه وُضع جثمان لعازر بعد موته؟ فالمخلِّص قال لمرتا ومريم: "أين وضعتموه؟" (يو 11: 34). فقالوا: هل رأيت الجهل؟ هل  رأيت الضعف؟ فالذي يجهل حتّى الموضع، أيكون الله؟

وكان جواب يوحنّا على هذا الاعتراض. إنَّ الله الآب جهل الموضع الذي فيه اختبأ آدم في الفردوس. قال: "آدم، أين أنت؟" (تك 3: 9).

العظة العاشرة، وازت بين الشريعة القديمة والشريعة الجديدة التي تكمِّل القديمة. تداخلت عند يوحنّا نصوص العهد القديم والعهد الجديد، فوصل الواعظ إلى الكلام عن مساواة تامَّة بين الآب والابن. جاء العنوان كما يلي: "منه (أي من يوحنّا) عظة حول واقع يجعلنا لا نقول ما نعلم ولا ننقله إلى الآخرين، حول الصلوات التي تلاها المسيح، حول سلطانه على كلِّ شيء، حول التفسير الصائب للشريعة القديمة. وأخيرًا، التجسُّد لا يقلِّل من مساواة الابن مع الآب، بل يثبِّتها" (ص 238-239).

العظة الحادية عشرة هي تفسير لما في تك 1: 26: "نصنع الإنسان على صورتنا ومثالنا". فصيغة الجمع تدلُّ على أنَّ الابن الوحيد شارك في الخلق لأنَّه في مساواة مع الآب. "في ذلك الوقت، كان يتوجَّه إلى الابن الوحيد" (ص 296-297).

العظة الثانية عشرة هي تأمُّل طويل حول أعمال المسيح وأقواله، بحسب القراءة التي تُليَت في ذلك اليوم: شفاء المخلَّع. مع العنوان: "أبي يعمل دائمًا وأنا أيضًا أعمل" (يو 5: 17). هنا يشرح يوحنّا الذهبيّ الفم، الفصل الخامس من إنجيل يوحنّا. في مقطع الأوَّل، يدور الكلام حول بركة بيت حسدا. في مقطع ثانٍ يتحدَّث الواعظ عن الشفاء. في مقطع ثالث، نقرأ اعتراض اليهود في ما يخصُّ السبت.

وتنتهي العظة الثانية عشرة ومعها الكتاب: "إذا أردنا أن نصير أصدقاء الله يا أحبّائي، نهتمُّ كلَّ الاهتمام، كلَّ يوم، بهذا الجمال. نتخلَّص من كلِّ نجاسة فنقرأ الكتاب المقدَّس، ونصلّي، ونعطي الصدقات، ونتَّفق بعضنا مع بعض، لكي يرانا الملك المعجب بما لنفسنا، أهلاً لملكوت السماوات. يا ليتنا نناله بنعمة ربِّنا يسوع المسيح ومحبَّته، فله المجد كما للآب والروح القدس من الآن وإلى الأبد وفي دهر الدهور. آمين" (354-357).

الخاتمة

في إطار الردِّ على بدعة شكَّلت خطرًا على الكنيسة في وقت من الأوقات، بدعة اعتبرت أنَّنا نعرف الله كما يعرف ذاته، بدعة أنزلت يسوع المسيح إلى مستوى الإنسان، بعد أن صرنا آلهة وهو صار إلهنا معنا، فما تميَّز عنّا حتّى على مستوى معرفة الآب وعلاقته بالآب، بدعة استندت إلى الكتاب المقدَّس لتبرِّر موقفها فأعلنت أنَّ الابن لا يشبه الآب، فاتَّخذت اسمها: الأنوميّين ___. في هذا الإطار جاء كلام يوحنّا الذهبيّ الفم. ترك البراهين الفلسفيَّة التي عاد إليها الخصوم مستعملينها سلاحًا على الإيمان، وتوقَّف عند البراهين الكتابيَّة. وهكذا كانت لنا شروح عن آيات عديدة وعن مشاهد. لا، الله لا يُدرَك. فالملائكة لا يدركونه. والابن مساوٍ للآب ولو صلّى أمام قبر لعازر ولو قال هذا القول أو ذاك. وشرح يوحنّا النصوص الكتابيَّة في إطار التنازل الإلهيّ. هذا على مستوى اللاهوت. أمّا على مستوى الكتاب المقدَّس، فبانَ هذا الواعظ في أنطاكية والقسطنطينيَّة تلميذًا لديودور، ورفيقًا لتيودور وسابقًا لتيودوريه في تفسير للكتاب ينطلق من الحرف والواقع، ليصل إلى الروح والحياة العمليَّة. كلُّ هذا جاء في شكل دفاع وهجوم مع سعي إلى إقحام الخصم. إلاّ أنَّ يوحنّا لبث ذاك الراعي الذي يدعو هؤلاء "الضالِّين" للعودة إلى الكنيسة. وهكذا اجتمع فيه همُّ الكنيسة وهم المؤمنين فكان العمل في خدمة المحبَّة، لأنَّ العلم ينفخ أمّا المحبَّة فتبني. بعد ذلك، هل نعجب أن يكون يوحنّا الذهبيّ الفم بعدُ عائشًا معنا بعد ألف وتسعمئة سنة على وفاته!



 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM