يوحنّا الذهبيّ الفم رسائل من المنفى.

 

يوحنّا الذهبيّ الفم

رسائل من المنفى

الخوري بولس الفغالي

في العشرين من شهر حزيران سنة 404، ترك يوحنّا الذهبيّ الفم القسطنطينيَّة (اسطنبول الحاليَّة)، يرافقه الجنود. سفر طويل انتهى به إلى كوكوزة، وهي مدينة صغيرة في أرمينيا. من هناك كتب الرسائل العديدة. أمّا نحن فنذكر تلك التي كتبها إلى أولمبياس، الشمّاسة في كنيسة العاصمة وكأنّي بهذه الرسائل يوجِّه كلامه إلى الكنيسة كلِّها، إلى المؤمنين الذين فقدوا راعيهم بعد أن أُرسل إلى المنفى لأنَّه أراد عيش الإنجيل فدافع عن الفقراء والبسطاء والمشرَّدين، واهتمَّ بالمرضى، وقام بالإصلاح الخلقيّ الذي احتاجت إليه عاصمة الإمبراطوريَّة حيث عربة الإمبراطور مغشَّاة بالذهب، ولجم الهيكل مزيَّنة بالحجارة الكريمة.

1- أولى الرسائل

- في حزيران سنة 404، روى خبر السفر لكي يعزّي الكنيسة:

"بقدر ما ينمو عنفُ المحن، بالقدر عينه تزداد لنا أسباب العزاء، وبالقدر عينه تكون آمالنا ثابتة في ما يتعلَّق بالمستقبل. والآن، كلُّ شيء بالنسبة إلينا، يسير في خطِّ التيّار ونحن نبحر في طقس من رأى؟ من سمع؟ انصبَّت علينا الصخور والعواصف، وليل لا قمر فيه وعتمة عظيمة. وإذ كنّا ننطلق في مثل هذا البحر لم نكن في وضع أسوأ من الذين يتأرجحون في المرفأ...".

- في الثالث من تمّوز، كتب يوحنّا من نيقية التي فيها عُقد المجمع المسكونيّ الأوَّل سنة 325:

"إذًا، تحرَّرؤ من هذا الخوف في ما يتعلَّق بسفرنا. فكما كتبت لك منذ مدَّة قصيرة، نحسُّ جسمنا على مستوى الصحَّة وعلى مستوى القوَّة. فالهواء يوافقنا تمامًا. والذين يرافقوننا يُبدون غيرة كبيرة تتجاوز ما نطلب، فيحملون إلينا العزاء وكلَّ عناية...".

- وانطلقت الرسالة الثالثة من قيصريَّة، في الكبادوك، في نهاية تمّوز سنة 404 تعزّي يوحنّا حين رأى المؤمنين يهبّون إلى لقائه وهو في طريقه بعيدًا عن كنيسته.

"حين أرى هؤلاء الجموع من الرجال والنساء الذين يصبّون كالنهر على الطرقات وفي الفنادق، وفي المدن، يروننا فيبكون، فأتخيَّل عواطفتك. فما إن رآنا هؤلاء الناس حتّى بكوا حزنًا بحيث ما عادوا يعرفون أن يسكتوا بسهولة وإذ كنّا ندعوهم ونتوسَّل إليهم ونحثُّهم، كانت أمواج الدموع تجري حارَّة من عيونهم. ومن الواضح، أنَّ العاصفة عندك أكثر عنفًا. ولكن بقدر ما تكون العاصفة قويَّة، بقدر ذلك يكون الجزاء كبيرًا، إذا احتملتِها بالشكر وبالشجاعة اللازمة كما تفعلين. فحين تنفخ الريح العاصفة، فإن بسط الملاّحون الشراع أكثر ممّا ينبغي يجعلون السفينة تنقلب. أمّا إذا قادوها باعتدال وكما يجب، فهم ينطلقون في أمان عظيم.

"وإذ تعرفين ذلك أيُّها السيِّدة المحبوبة لدى الله، لا تستسلمي إلى استبداديَّة الحزن، بل سيطري على العاصفة بالعقل..."

- في رسالة رابعة (آب 404)، روى يوحنّا المرض الذي أصابه والشفاء. فنحن لا ننسى أنَّه كبر في السنّ، وأنَّ صحَّته ليست بالقويَّة. ولكنَّ كلامه: المجد لله في كلِّ شيء".

- في الرسالة الخامسة التي انطلقت أيضًا في شهر آب، حيث لقي الاستقبال السيّئ من أسقفَي أنقيرة (أنقره الحاليَّة) وقيصريَّة. أمّا المؤمنون:

"ما استطعت حين تركت المدينة (قيصريَّة) أن أترك هؤلاء الناس الذين يحطِّمون القلب. فالذين لاقونا في الطريق، سواء أتوا من الشرق أو من أرمينيا، أو من أيَّة نقطة من الأرض، أجروا الدموع أنهارًا حين رأونا: وضمُّوا العذب والأنات إلى البكاء خلال سفرنا. أقول لك هذا لكي تعلمي أنَّ لي أصدقاء عديدين يتألَّمون معنا، وهذا موضوع عزاء كبير. فالعكس يكون صعبًا، ثقيلاً، لا يحتمل. ذاك ما عبَّر عنه النبيّ (داود) في شكواه: "انتظرت رجلاً يشاركني في ألمي فما كان، وأناسًا يعزّونني فما وجدت" (مز 69: 21). من الواضح أنَّ هذا يمنحنا عزاء كبيرًا لأنَّ الأرض كلَّها تقاسمُنا حزننا.

"... فكِّري في ذلك: الأعمال الصالحة والأعمال الرديئة، عابرة كلُّها في هذه الحياة إن كان الباب ضيِّقًا، إن كانت الطريق خطرة فهي طريقي. تذكَّري هذا الكلام الذي قلتُه لك مرارًا: إذا كان الباب كبيرًا، إذا كانت الطريق واسعة، فهي تبقى طريقًا... فإن رأيت الذين يسيئون إلينا يتسلَّطون على المدن ويلقون الاعتبار لدى طغمة من الحرس، فكرِّري هذه الكلمة: "كبير الباب وواسعة الطريق التي تقود إلى الهلاك" (مت 7: 13). من أجل هذا، إبكي عليهم وتأوَّهي. فالذي يعمل الشرَّ على هذه الأرض وينعم بالاعتبار من قبل البشر، بدلاً من أن يكفِّر عن ذنبه، يمضي حاملاً هذا الاعتبار كعربون أكيد لعقابه. لهذا انشوى الغني (مثل لعازر والغنيّ، لو 16: 19-32) بطريقة مريعة واحتمل العذاب، لا لسبب قساوة أظهرها تجاه لعازر فحسب، بل لأنَّه لم يصبح أفضل في الازدهار الذي كان ينعم به مع مثل هذه القساوة.

2- الرسالة السابعة

دوَّن يوحنّا الذهبيّ الفم هذه الرسالة في نهاية سنة 404، قال: بدأنا نتنفَّس بعد أن وصلنا إلى كوكوزة، في أرمينيا. ومن هناك يكتب. مثل هذا القلب الكبير يحتاج إلى مساندة وهو الذي ساند أبناء الرعيَّة في وجه الظلم والقهر، يحتاج إلى عزاء، ويفرح بهذا العزاء على مثال بولس الرسول، الذي استفاد من العزاء لكي يعزّي الذين هم في الضيق. فالإنسان المتألِّم وحده يحسُّ باليأس. ولكنَّ العزاء البشريّ يبقى موقَّتًا، ويوحنّا لا يتوقَّف في مدينة إلاّ لينطلق إلى أخرى. يبقى العزاء الذي يجده في الإنجيل، فيقتدي بالسيِّد يسوع المسيح.

"لا تيأسي، سيِّدتي أولمبياس، فهناك شيء واحد نخافه، محنة واحدة: الخطيئة. قلت هذا وما لبثتُ أردِّده مثل لازمة في نشيد. أمّا الباقي فرواية".

كلُّ هذه أمور عابرة، فلا تتركيها تضع البلبلة في قلبك. وأورد الذهبيّ الفم كلام بولس الرسول: "الله يفعل أكثر بل أكثر بلا حدود ممّا نطلب أو نتخيَّل" (أف 3: 20). وأعطى مثل الفتية الثلاثة في أتّون النار (دا 3: 13 وما يلي): "أما كان الله يستطيع منذ البداية أن يبعد عنهم هذه المحنة؟ ولكنَّه ما أراد. فزاد على ربحهم ربحًا. لهذا سمح بأن يسلَّموا إلى أيدي الجلاّدين، بأن ترتفع النار إلى علوٍّ لا يوصَف، بأن يشتعل غضب الملك أكثر من اللهيب حاملاً الخطر، بأن تقيَّد الأيدي والأرجل ويُرمَون في النار. وحين تخلّى جميع الحاضرين عن أمل بخلاصهم، عندئذٍ تجلّى عمل الله العجيب، عكس كلِّ رجاء، وشعَّ إشعاعًا كبيرًا. صارت النار سجينة والسجناء أنقذوا. واللهيب صار هيكل صلاة، عين ماء، طلاًّ وندى، قصرًا أرفع من قصر الملك...".

عمل عظيم من لدن الله. وهكذا نجا الفتيان الثلاثة. ولكنَّ هناك من يموتون في سبيل الله فيتشكَّك الآخرون. فلماذا البلبلة؟

"المسيح صُلب وبرأبّا السارق نعم بالعفو، وهتف الشعب الفاسد بأنَّه يجب أن ينجو القاتل، لا مخلِّصه والمحسن إليه. كم تظنّين عدد الناس الذين تشكَّكوا؟ كم هم الذين هلكوا في ذاك الزمان؟

"ولكن يجب أن نستعيد الموضوع منذ البداية. فهذا الرجل الذي صُلب، أما كان منذ ولادته منفيًّا، هاربًا، فهرب مع عائلته كلِّها حين كان بعدُ في القمط، إلى أرض غريبة... فجرت أمواج الدم من هذا الموت، والقتلُ الجائر والذبح.

"حين بدأ يسوع معجزاته، كانت الافتراءات عديدة. بعضهم دعاه سامريًّا وممسوسًا. قالوا: "أنت سامريّ ومسكن شيطان" (يو 8: 48). وآخرون دعوه كاذبًا. قالوا: "هذا ليس من الله، وهو يطغي الشعب" (يو 7: 12). وآخرون دعوه ساحرًا. قالوا: "يطرد الشياطين برئيس الشياطين" (مت 9: 34). وما لبثوا يكرِّرون هذه الأمور. دعوه عدوَّ الله، شرهًا سكِّيرًا، صديق الأشرار والضّالين: "جاء ابن الإنسان يأكل ويشرب، فقالوا هذا رجل أكول، شريب خمر، صديق العشّارين والخطأة" (لو 7: 21). وحين تكلَّم مع غانية، دعوه نبيًّا كاذبًا. قال سمعان الفرّيسيّ: "لو كان هذا نبيًّا لعرف من هي المرأة التي تتكلَّم معه" (لو 7: 39). كلَّ يوم كانوا يسنّون أسنانهم عليه. ما قاتله اليهود فقط، بل الذين اعتُبروا إخوة له لم تكن استعداداتهم طيِّبة تجاهه. بل وسط أقربائه، قامت الحرب عليه. هم أيضًا كانوا فاسدين. فالإنجيل يضيف: "فإخوته أنفسهم لم يكونوا يؤمنون به" (يو 7: 5).

"ولكن بما أنَّكِ (يا أولمبياس) تذكرين العدد الكبير من الذين تشكَّكوا وضاعوا، فما هو عدد التلاميذ الذين تظنّين أنَّهم تشكَّكوا بمناسبة الصليب؟ واحد خان. آخرون هربوا. واحد أنكر. وإذا مضوا كلُّهم، كانوا يأخذونه وحده مقيَّدًا. فما هو عدد الناس بين الذين رأوه في الماضي يجري العجائب ويقيم الموتى ويطهِّر البرص ويطرد الشياطين ويكثر الخبز ويصنع معجزات أخرى، فتشكَّكوا في هذا الظرف حين رأوه يقاد مقيَّدًا، يحيط به جنود أردياء ويتبعه الكهنة اليهود بضجَّة كبيرة وضوضاء، ويمسكه أعداؤه وحده فيما بينهم وهم يهدِّدونه، ويكون الخائن حاضرًا هنا متبخترًا في ذلك الوقت؟ ثمَّ حين جلدوه؟ يبدو أنَّه كان هناك جمعٌ كبير جدًّا. فقد جمعَهم كلَّهم احتقال كبير، واستقبلت العاصمة (أورشليم والقسطنطينيَّة) هذه المأساة الظالمة في وضح النهار...".

3- الألم في حياة الإنسان

ما يمكن الاستنتاج من هذه الرسائل التي ذكرنا وغيرها، هو نظرة المؤمن إلى الألم. كانوا يجعلون من الألم نتيجة الصدفة. ولكنَّ هذه المعرفة تبقى ناقصة. فالألم ثقيل بحيث يقود إلى الضيق واليأس. إذًا، هناك عقلٌ سامٍ يجعل العالم يسير في الطريق الصحيح. وهكذا يكون الألم خيرًا، لا شرًّا.

ذاك كلام الرواقيّين الذين أسَّسهم زينون الفينيقيّ في جزيرة قبرص، فاعتادوا أن يجتمعوا قرب رواق من أروقة المعبد، وينظرون إلى الكون على أنَّه مدينة صغيرة. قدَّموا هذا الشرح لكي يبرِّروا الإله، لا ليقدِّموا التعزية للإنسان المتألِّم. فمن قبل بالإلم على أنَّه ألم، يدلُّ على نسيان الذات والتجرُّد وروح النسك، بحيث تورَّع الرواقيّون أنفسهم أن يطلبوا ذلك من الناس.

وجاء شرح آخر يتحدَّث عن الخير الذي ينتج عن الألم. لا نتيجة بعيدة، عامَّة، بل نتيجة مباشرة، خاصَّة. عاد الفلاسفة إلى أعماقهم فرأوا أنَّ التعلُّق بالحياة يدفع إلى الجهاد. ومن جهاد الجسد انتقلوا إلى جهاد النفس. فبقدر ما يتألَّم الإنسان فبقدر ذلك تزداد قوَّته. والمثال على ذلك كان هرقل، البطل الأسطوريّ. في هذا قال أحد الفلاسفة: "الظروف الصعبة تظهر الرجال. وحين يأتيك منها في المستقبل، قل لنفسك إنَّ الله، سيِّد الحلبة، وضعك تجاه خصم مرعب. فتقول لي: لماذا؟ والجواب: "لكي يجعل منك ظافرًا في الألعاب الأولمبيَّة، ولا تستطيع ذلك بدون عرق الجبين". بهذا تكون مثالاً للبشر.

ويوحنّا الذهبيّ الفم، لم ينكر الألم ولم يهرب منه. بل اعتبره كنزًا كبيرًا. قال في الرسالة التاسعة (نهاية سنة 404): "أطير من الفرح، أرقص. لأنَّ كنزًا عظيمًا حُفظ لي". وبرهن عن ذلك فقال: الألم وسيلة مختارة تصلح النفس وإن كانت صالحة، وتلك أعظم تعزية يلقاها الإنسان في تاريخه الطويل مع ما يحمل من وجع. قال يوحنّا في الرسالة الحادية عشرة: "بفضل المحن عينها، ينتج عن الألم ازدياد في العزم والشجاعة". "تأتي التشابيه لكي تفهم السيِّدة التي يرسل إليها رسائله، معنى المحن في حياة الإنسان: "إنَّ الأشجار التي تنمو في الفيء هي أكثر نحافة وأقلّ أهليَّة لكي تحمل الثمار. والتي تتعرَّض لتبدُّل الهواء وتتلقّى هجمات الريح وحرَّ الشمس، هي أكثر قوَّة، يكلِّلها الورق وتنحني تحت الثمر. وهذا ما يحصل عادة بالنسبة إلى البحر. فالذين يركبونه على سفينة للمرَّة الأولى، يتبلبلون وإن كانوا من الشجعان. نقصتهم الخبرة فأحسّوا بالدوار والدوخة. أمّا الذين ركبوا البحر مرارًا، الذين عرفوا الكثير من الرياح... فهم يقفون أكثر هدوءًا على السفينة من الذين يمشون على الأرض الثابتة..." والخلاصة: "لا تتبلبلي ممّا يحصل".

وهكذا انطلق الذهبيّ الفم من فلسفة الحياة في خطِّ الرواقيّين الذين كانوا ينصحون التلاميذ بأن يتحمَّلوا الألم والصعوبات مثل "رجال"، مثل أناس نبلاء لا يهابون الموت، مثل "فلاسفة" يتعاملون بالحكمة مع الأحداث، يرافقونها كما يرافق الصديق صديقه، ليتقبَّلونها كضيف آتٍ من البعيد نبتسم له، نلاقيه. ولكنَّه ما توقَّف عند هذه الفلسفة التي تخدِّر بعض المرّات الإنسان فيجعل نفسه كالحجر أو الخشب. فهو إنسان يتألَّم، يبكي، ويفرح حين يجد العزاء. وفي النهاية، إيمانه يُلقي الضوء على ما يعيشه وعلى ما يرسله من نصائح إلى الكنيسة التي تجتمع في بيت أولمبياس. وهكذا ينتقل من الانصياع وإن كان شريفًا، باسمًا، إلى تقبُّل مشيئة الله كهديَّة من الحبيب إلى حبيبه. هو مجد الله يظهر فنقابله بالشكر المتواصل. وهكذا ننتقل من نظام العقل إلى نظام المحبَّة. وقد قال يوحنّا في سنواته الأخيرة: "مبارك الله! تختلف الأحداث والتمجيد يبقى هو هو. حين انطلقت إلى المنفى باركتُ الله. وحين أعود من المنفى أبارك الله. وأنا أتكلَّم هكذا لكي أعلِّمكم أن تباركوا الله. أأنتم سعداء؟ باركوا الله فتلبثوا سعداء. أأنتم تعساء؟ باركوا الربَّ فتزول تعاستكم"!

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM