يوحنّا الذهبيّ الفم ومواعظه في المعموديَّة.

يوحنّا الذهبيّ الفم

ومواعظه في المعموديَّة

الخوري بولس الفغالي

"في الحقيقة، اليوم يعمُّ الفرح في السماء وعلى الأرض. فإن كانوا يفرحون كثيرًا من أجل خاطئ واحد يتوب، فكم بالأحرى من أجل جمع كبير جدًّا جاء باندفاع كبير، هازئًا بفخاخ إبليس، جاء إلى رعيَّة المسيح ليسجِّل اسمه بكلِّ حماس. فالفرح يمسك الملائكة ورؤساء الملائكة وكلَّ قوّات العلى وكلَّ خلائق الأرض.

"وها نحن نحاول أن نحدِّثكم كما إلى عروس تستعدُّ للدخول إلى خدر الأعراس المقدَّس. وإذ نعرِّفكم بغنى العريس الفائض والصلاح الموصوف الذي يبديه للعروس، نُري هذه العروس من أيِّ الشرور نجت وبأيِّ خيرات سوف تتمتَّع. وإذا شئتم، نبدأ فنبرز ما يعنيها، ونرى أين هي، وفي أيِّ استعداد تكون حين يتقبَّلها العريس. فهكذا يتجلّى حقًّا الصلاح المحدود عند السيِّد السامي. فلا نعومتها ولا جمالها جعلاه يحبُّها، ولا ربيع جسدها حين تقبَّلها: فقد كانت بشعة، متجعِّدة، منجسَّة كلّها وشنيعة، متمرِّغة كلَّها في وحل خطاياها. وكما هي عبَّرها عتبة الأعراس".

ذاك هو كلام الذهبيّ الفم الذي نتذكَّره بعد سبعة عشر قرنًا على وفاته، التي حصلت في 14 أيلول 407، وهو ذاهب إلى المنفى، في كومونا، على شاطئ البحر الأسود. فمن هو يوحنّا الذهبيّ الفم في شخصه وآثاره؟ وما الذي قاله في سرِّ العماد المقدَّس، يوم كان يهيئ طالبي العماد للدخول إلى الكنيسة واجتياز عتبة أعراس الحمل.

3- مواعظ في المعموديَّة

سنة 1955، اكتشف أحد الباحثين في جبل أتوس اليونانيّ، مخطوطًا يتضمَّن ثماني مواعظ في المعموديَّة بحسب يوحنّا الذهبيّ الفم. بعد أن نقدِّم هذه المواعظ، نتعرَّف إلى الليتورجيّا العماديَّة التي كانت تمارس في أنطاكية، خلال القرن الرابع المسيحيّ، مع العلم أنَّ هذا العظات ألقيت في أيّام الصوم سنة 388.

أ- ثماني عظات

أوَّلاً: الفقاهة catéchèse الأولى للذين ينالون الاستنارة

الفقاهة الأولى أطول الفقاهات الثماني. وهي بداية الكرازات المعدَّة للموعوظين، الذين سجَّلوا أسماءهم، في بداية الصوم، لتقبُّل العماد في الليلة الفصحيَّة (السبت، الأحد) اعتبر الذهبيّ الفم هذا الفعل تجنُّدًا في جيش المسيح. ووجَّه إلى هؤلاء الحنود (فقاهة أولى ثلاثة أقسام: تعليم حول معنى العماد، عرض سريع للإيمان، حضُّ على ممارسة الحياة المسيحيَّة.

تُصوَّر تنشئة الآتي إلى العماد مثل تعليم إلى العروس، لأنَّ المعموديَّة زواج روحيّ بين النفس والمسيح. والعروس تترك أرضها وبيتها وأهلها لتكون لرجل لم تره، إلاّ في تلك الليلة التي يأخذها من البيت الأبويّ فيصبح لها الأب والأمّ والزوج. وفي الزواج الروحيّ الذي هو المعموديَّة، يحمل العريس الهدايا والعروس عقد الزواج. هدايا القريب دمه المهراق لفداء الكنيسة وتنقيتها. وعهد العروس هو الكفر بالشيطان والتعلُّق بالمسيح. قال الذهبيّ الفم: "نحن في زمن فرح، ابتهاج روحيّ. ها قد أتى موضوعُ رغبتنا وحبِّنا، أيّام الأعراس الروحيَّة. نستطيع أن ندعو أعراسًَا ولا نخطئ. ها يتمُّ اليوم، ليس فقط أعراس بل تجنيد عجيب ولا معتاد. ولا يظنّ أحد أنَّ بين الألفاظ تضارب: بل نسمع بولس المطوَّب ومعلِّم المسكونة. لجأ إلى الصورتين فقال: "خطبتكم لعريس واحد. مثل عذراء طاهرة قدمتكم للمسيح (2كو 11: 2). وفي موضع آخر، قال أيضًا، وكأنَّه يسلِّح جنودًا يستعدُّون للانطلاق إلى الحرب: "إلبسوا سلاح الله لكي تستطيعوا أن تقاوموا حيل إبليس" (أف 6: 11).

مثل هذه الأمور الروحيَّة لا تدركها إلاّ عين الإيمان، إيمان ضروريّ من أجل الخلاص، ومن أجل مقاومة الضلال. وإيمان يصبح ملموسًا من خلال الأعمال ولاسيَّما تجاه الفقراء. فالمسيح، بالمعموديَّة، عفا عن دين الخطيئة المديونين الذين يتقبَّلون العماد. وهم بدورهم يعفون عن المديونين لهم، فلا يطالبون بالفائدة كما برأس المال. وتنتهي العظة الأولى هذه بنداء نكرِّم فيه الاسم المسيحيّ:

"أتوسَّل إليكم، لا تكونوا بلا اهتمام في ما يلامس خلاصكم. تطلَّع إلى كرامتك واخجل. إذا كانت كرامةٌ بشريَّة تملي على الشخص أفكارًا رفيعة فتجعله يمتنع عن القيام بعمل لئلاّ يشوِّه هذه الكرامة، أما يجب عليك أنت منذ الآن وقد نلت مثل هذه الكرامة العظيمة، أن تجعل احترامَ ذاتك مشعًّا؟ فالكرامة التي نتقبَّلها هي كبيرة جدًّا بحيث ترافقك طوال الدهر الحاضر وتتبعك في الحياة الآتية. فما هي هذه الكرامة؟ منذ الآن تُدعى مسيحيًّا بنعمة الله، تُدعى مؤمنًا. نحن لا نمتلك فقط كرامة واحدة، بل كرامتين. بعد قليل تلبس المسيح".

ثانيًا: إلى الذين ينالون الاستنارة

واصل يوحنّا التعليم للذين سوف يتعمَّدون فينالون نور المسيح، فذكَّرهم بتاريخ الخلاص لكي يبيِّن عظمة الرحمة الإلهيَّة. ثمَّ صوَّر المسحة بالزيت قبل المعموديَّة، على الجبين وعلى الوجه كلِّه، وطقس العماد بحصر المعنى. وما إن يخرج المعمَّدون الجدد من جرن العماد حتّى يذوقون حالاً جسد الربِّ ودمه. وتنتهي العظة بتوصية المسيحيّين الجدد بأن يصلُّوا من أجل سلام الكنيسة وعودة الضالين واهتداء الخطأة. كلُّ هذا نراه بعين الإيمان:

"إذًا، أنتم جميعًا الذين تأهَّلتم تسجَّلوا في هذا السِفر السماويّ، احملوا إيمانًا سخيًّا وعزمًا قويًّا. فنحن نحتاج إلى الإيمان بالنسبة إلى ما يتمُّ هنا، وإلى عيني النفس لئلاّ نفكِّر فقط فيما يُرى، بل نتمثَّل بالأحرى انطلاقًا ممّا يُرى". تلك كانت العظة الثانية.

أمّا العظة الثالثة فألقاها يوحنّا صباح الفصح ساعة انتهت الاحتفالات العماديَّة وأشرق على الكنيسة فجرُ السعادة الذي يحمل إليها الفرحَ الأبديّ والنور:

"مبارك الله! ها من الأرض طلعت نجوم أكثر إشعاعًا من نجوم السماء. نجوم على الأرض بسبب ذاك الذي، من السماء، ظهر على الأرض. نجوم لا على الأرض فقط، بل في قلب الظهيرة. معجزة ثانية! نجوم النهار التي تسطع أكثر من نجوم الليل. تلك تغيب حين تطلع الشمس. وهذه تشع بسطوع أكثر حين تظهر شمس البرّ: "هل رأيت يومًا نجومًا تظهر والشمس ساعة؟"

والعظة الرابعة شرحت للمؤمنين هذه العبارة: "إن كان أحد في المسيح، فهو خليقة جديدة". فالأعياد الفصحيَّة تدوم أسبوعًا كاملاً وتنتهي في الأحد الجديد. أمّا العظة الخامسة ففيها إرشاد حول الاعتدال في الطعام والشراب. والسادسة تحمل إنذارًا للذين يذهبون إلى سباق الهيكل بدلاً من المجيء إلى الكنيسة. وجاءت العظة السابعة في أحد معابد الشهداء، حول احتقار خيرات هذا العالم وحبّ الخيور السماويَّة، حول الصلاة والصدقة. قال في البداية:

"لا حدود لعناية الله، ولا ما يساوي رحمته التي يبيِّنها للجنس البشريّ: فالخليقة كلُّها صنعه. بسط السماء، ونشر الأرض، وأشعل الشمس، وأشعَّ النجوم. ووهبنا عطيَّة الأرض للسكن فيها، وقدَّم لنا غلالها لقوام الجسد وحياته. ولكنَّه أعطانا أيضًا رفات الشهداء القدّيسين. أخذ إليه نفوسهم والكتاب يقول: "نفوس الصدِّيقين هي في يد الله" (حك 3: 1) وترك مع أجسادهم عربونًا غنيًّا من التشفُّع والعزاء لكي يأتي إلى قبور هؤلاء القدّيسين فنشتعل غيرة ونتصوَّر نجاحهم والأجر المحفوظ للناجحين".

والعظة الثامنة والأخيرة تنطلق من كلام عاموس النبيّ: "أطلبوا الربَّ فتحيوا".

"لهذا أدعوكم أن تطلبوا الخيرات التي تبقى إلى الأبد وتستبعد التحوُّل. فإن كنت توسَّعت في هذا الكلام أمامكم، فلكي أحثُّكم على ما يليق بكم جميعًا، سواء الذين تدرَّجوا (= تعمَّدوا) في الماضي أو الذين استحقُّوا الآن نعمة المعموديَّة. كلَّ هذه الأيّام اجتمعنا دومًا قرب قبور الشهداء القدّيسين، واقتطفنا البركة الواسعة التي تصدر منهم، واستفدنا من التعليم الوافر. بما أنَّ اجتماعاتنا سوف تتوقَّف بعد اليوم، أظنُّ أنَّه من الضروريّ أن نذكِّر محبَّتكم بأن تحفظوا دومًا وبحرارة ذكرى هذا التعليم الهامّ، وتعتبروا أنَّ الخيور الروحيَّة تتفوَّق على خيرات هذه الحياة".

ب- الليتورجيّا العماديَّة

حين نقرأ هذه العظات وغيرها، نكتشف كيف كانت المعموديَّة تمارس في زمن يوحنّا الذهبيّ الفم، أي في القرن الرابع المسيحيّ.

أوَّلاً: الموعوظون والمؤمنون

كيف بدت الجماعة المسيحيَّة في أنطاكية؟ بجانب المعمَّدين هناك الموعوظون، أي الذين يعظهم الكاهن (أو الأسقف) استعدادًا لقبول السرّ المقدَّس. المعمَّدون هم مسيحيّون نالوا هذا السرّ عند ولادتهم، بناء على طلب والديهم: "لهذا السبب نعمِّد الأطفال مع أنَّهم ما اقترفوا خطيئة" (العظة 3). أو تعمَّدوا وهم كبار في استعداد عاديّ خلال الأيّام الأربعين التي تهيئ عيد الفصح. وأخيرًا، أولئك الذين تعمَّدوا بعد أن تعرَّضوا لخطر الموت دون الاستعداد اللازم. عندئذٍ تحدَّث يوحنّا بحزن عن هؤلاء المسيحيّين الذين لم يعودوا الخمير الذي يعمل في العالم ويجتذب الوثنيّين إلى الإيمان.

أمّا الموعوظون ففئتان. أولاد والدين مسيحيّين. ثمَّ أولئك الذين جاؤوا من العالم الوثنيّ، فلامستهم النعمة، فطلبوا من الكنيسة أن تسجِّلهم بين الموعوظين، بل إنَّ هذا التسجيل بدا مرارًا بشكل قرار لتقبُّل العماد عند ساعة الموت، كما سرّ مسحة المرضى اليوم. ذاك كان وضع الإمبراطور قسطنطين. غير أنَّ يوحنّا لم يرضَ بمثل هذا الخيار. نقرأ مثلاً في العظة 18 حول إنجيل يوحنّا:

"كيف لا يكون ذلك آخر درجات الجهالة أن تؤخِّر العماد؟ استمعوا، أنتم الموعوظين، يا من تؤخِّرون خلاصكم إلى النسمة الأخيرة". وفي العظة الأولى حول أعمال الرسل: "تخيَّلوا كم يكون وجعي كبيرًا حين أسمع أنَّ "لامتدرِّجًا" أُخذ من هذا العالم، وحين أفكِّر بالعقاب الذي لا يُحمَل والحكم الذي لا يمكن تجنّبه". ولماذا كان هذا الموقف لدى المعمَّدين؟ لأنَّهم خافوا من الوقوع بعد العماد. مثل هذا الموقف سلوك البلداء، لأنَّنا لا نتأكَّد من أن ننال العماد عند ساعة الموت. وإن نلناه، فإيُّ ثمر يكون له؟ يجب أن لا نخاف الخطيئة بعد العماد. فالله يعطي القوَّة لكي نبقى أمناء. وسبق له فهيَّأ تجاه السقطات البشريَّة، وسائل جديدة للإصلاح مثل الاعتراف والصلاة والصدقة والأعمال الصالحة.

وفي الاحتفال بالإفخارستيّا، وقبل إطلاق المعمَّدين، كان المحتفل يعلن: "لنصلِّ من أجل الموعوظين". فتُتلى الصلاة: "نصلّي لأجلهم إلى الله الرحيم والمعين لكي يستجيب صلاتهم، لكي يفتح أذني قلبهم ويعلِّمهم كلام الحقّ، ولكي يضع في ذهنهم مخافة الله ويقوِّيهم في الإيمان، لكي يكشف لهم إنجيل البرّ ويعطيهم روح الله وفكرًا عفيفًا وحياة طاهرة. هكذا يكونون بحسب شريعته نهارًا وليلاً". وتتواصل الصلاة: "نصلّي أيضًا من أجلهم باجتهاد لكي يخلِّصهم (الربّ) من كلِّ شرّ ومن كلِّ عمل سوء ومن خطيئة شيطانيَّة، ومن كلِّ سوء يأتيهم من إبليس. ولكي يداخلهم في الزمن المناسب لغسل الولادة الجديدة وغفران الخطايا ولباس عدم الفساد. ولكي يبارك دخولهم وخروجهم، وحياتهم كلّها، وبيوتهم وعيالهم، ولكي يعطي كلَّ مشاريعهم نهاية سعيدة.

ثانيًا: الكفر بالشيطان

أوَّل الطقوس المهيِّئة للعماد هي الكفر بالشيطان. هذا ما شرحه يوحنّا منذ الفقاهة الأولى: "بعد التعليم اليوميّ، نرسلكم إلى الذين يقسِّمون عليكم". ويبدو أنَّ هذا التقسيم كان يتمُّ كلَّ يوم بعد التعليم: فالجميع عبيد إبليس بالخطيئة. وإبليس هو السيِّد الحقيقيّ لهذا القطيع الذي لا يحمل ختمَ الربّ. "فالموعوظ نعجة بدون ختم "الربّ، إناء مقفرًا، ملجأ لا دفاع له ومفتوحًا على كلِّ الداخلين، ومغارة لصوص، وعرين الوحوش ومسكن الشياطين".

نجد أنَّ هذه الحالة لا تدوم. فالمقسِّمون يحملون قوَّة المسيح فيطردون الحاكم المستبدّ ويهيِّئون المنزل لمجيء الملك. أمّا أسرى الشيطان فيعودون قريبًا إلى وطنهم الحقيقيّ، أورشليم السماويَّة، أمِّنا كلِّنا، الكنيسة. هنا نقرأ العظة الثانية:

"بما أنَّنا وصلنا إلى الوقت الذي فيه تتقبَّلون عطايا ثمينة جدًّا، فتعلَّموا منّي، قدر المستطاع، أسباب هذه الطقوس المتنوِّعة. وإذ تعرفونها، تنطلقون من هنا متسلِّحين بيقين مضاعَف. إذًا، يجب أن تعرفوا، لماذا نرسلكم بعد هذا التعليم اليوميّ، إلى الذين يقسِّمون عليكم بصوتهم. فهذا الطقس له بُعدُه وسببه. بما أنَّكم سوف تستقبلون الملك السماويّ ضيفًا، فالذين عُيِّنوا لهذه المهمَّة، يتقبَّلونكم بعد عظتنا، فيشابهون أناسًا يُعدَّون منزلاً ينزل إليه الملك، فينظِّفون تنظيفًا تامًّا ذهنكم بهذه الكلمات المخيفة، ويطردون منه كلَّ تجهيزات الثلاّب ويجعلونه أهلاً لمجيء الملك. فالشيطان لهما كان شرسًا، قاسيًا، يستحيل عليه أن لا يترككم بسرعة بعد هذه الكلمات المخيفة ودعوة سيِّد جميع الخلائق. هذا الطقس يطبع أيضًا النفس بطابع التقوى الكبيرة ويدفعها إلى التوبة العميقة".

وبعد طقس التقسيمات، يذكر يوحنّا طقس الكفر بالشيطان والتعلُّق بالمسيح. ويبدو أنَّ هذا الطقس كان يتمُّ يوم الجمعة العظيمة، الساعةَ الثالثة بعد الظهر. ففي تلك الساعة، مات يسوع على الصليب، واستحقَّ اللصّ باعترافه، أن يكون مع الربِّ في الفردوس. يقود الكاهن الموعوظين إلى الكنيسة، ويأمرهم بأن يركعوا: يكونون حفاة، ويلبسون فقط قميصًا (كتّونة)، ويرفعون أيديهم إلى المساء. فيمرُّ الكاهن أمام كلِّ واحد منهم ويطلب منه أن يقول العبارة التالية: "أكفر بك، أيُّها الشيطان، وبأغواءاتك وبخدمتك وبأعمالك". هي العبارة التي نقرأها عند تيودور، أسقف المصيصة: "أنا أكفر بالشيطان وبجميع ملائكته وبجميع أعماله، وبجميع أباطيله وكلِّ ضلاله العالميّ". ثمَّ يأتي حالاً الحلف بالأمانة للمسيح، على ما نقرأ أيضًا عند تيودور: "التزم نذرًا، أؤمن وأنا أعمَّد باسم الآب والابن والروح القدس".

"ها قد أتت نهاية استعدادكم وزمن خلاصكم. اليوم تقدِّمون للمسيح عقد إيمانكم. أمّا الورقة فوجدانكم، والحبر لسانكم، والقصبة وقفتكم. فانظروا كيف توقِّعون اعترافكم... قفوا في المخافة. فكلُّ شيء هنا رهيبٌ ومخيف. كلُّ قوّات السماء حاضرة هنا. الملائكة ورؤساء الملائكة يكتبون كلماتكم بشكل لامنظور. والكروبيم والسرافيم يفتحون السماوات ليتقبَّلوا عقودكم ويحملوها إلى المعلِّم. فانتبهوا إلى الطريقة التي بها تكفرون بالعدوّ وتتعلَّقون بالخالق".

ثالثًا: مسحة الموعوظين بالزيت

يقول الكاهن: "عندئذٍ يختمه الكاهن مثل هذا جنديّ يرسل إلى حلبة الروح، ويمسحه على الجبين بالعطر الروحيّ ويرسم عليه إشارة الصليب: "يمسَح فلان باسم الآب والابن والروح القدس". أو: "المسيح يضع عليك ختمه، ويمنحك الصليب على جبينك". هنا يسألهم الذهبيّ الفم: "صلّوا من أجل أسقفكم، فبيده وصوته سوف تنالون هذه الخيرات". في هذا المجال قال تيودور: "إذًا، تقترب من العماد المقدَّس، وتخلع قبل كلِّ شيء ثوبك كما يجب أن تُمسَح كلّك بزيت المسحة". ونقرأ ما قاله يوحنّا في العظة الثانية:

"بعد ذلك، ساعة الليل، يجرِّدك الكاهن من ثيابك كلِّها، وكأنَّه يستعدُّ ليدخلك إلى السماء بما سوف يتمّ، يمسح جسمك كلَّه بهذا الزيت الروحيّ، ليقوّي بهذه المسحة كلَّ أعضائك فلا تصيبها بعدُ السهام الآتية من عند العدوّ. بعد هذه المسحة، ينزلك في الأنهار المقدَّسة، فيدفن الإنسان العتيق. وفي الوقت عينه يُقيم الإنسان الجديد الذي تجدَّد على صورة خالقه. في هذا الوقت، وبكلمات الكاهن ويده، يأتي حلول الروح القدس، فيصعد إنسانٌ آخر، اغتسل كامل الاغتسال من كلِّ وصمة خطاياها، فتخلّى عن ثوب الخطيئة القديم وارتدى الثوب الملكيّ".

الرجال يمسحون الرجال، والشمّاسات يمسحن النساء. ومع أنَّ العري الذي يطلبه العماد ليس عريَ العار، بل عري البرارة المستعادة، يجب أن يكون كلُّ شيء في الحشمة والاعتدال اللائقين بأطهر الأسرار. ويواصل الذهبيّ الفم:

"كان آدم وحوّاء عريانين ولم يعرفنا العار قبل أن يلبسا لباس الخطيئة التي تكثر العار. وهنا أيضًا لاموضع للعار. فحوض العماد أفضل من الفردوس. ففيه لاوجود للحيَّة، بل المسيح يُدخلنا في السرّ من أجل ولادة من الماء والروح القدس. لا نجد في العماد أشجارًا حلوة تمتِّع النظر، بل مواهب الروح. كما لا نجد شجرة معرفة الخير والشرّ. لا شريعة ولا وصايا، بل النعمة والمواهب".

ونتابع القراءة في العظة الثالثة في كلام عن نعم العماد المتعدِّدة:

"مبارك الله! هو وحده صنع المعجزات، صنع كلَّ شيء وجدَّده. فالذين كانوا بالأمس أسرى، هم اليوم أحرار ومواطنو الكنيسة. والذين كانوا في الماضي في عار الخطيئة، هم اليوم في الدالَّة والبرّ. لا فقط أحرار، بل قدّيسون. لا فقط قدّيسون، بل أبرار. لا فقط أبرار، بل أبناء. لا فقط أبناء، بل ورثة. لا فقط ورثة، بل إخوة المسيح. لا فقط إخوة المسيح، بل وارثون معه. لا فقط وارثون معه، بل أعضاؤه. لا فقط أعضاؤه، بل هياكله. لا فقط هياكله، بل أدوات الروح.

"مبارك الله! وحده يصنع العجائب! رأيت عدد حسنات العماد. ساعة يظنُّ الكثيرون أنَّ له حسنة واحدة وهو غفران الخطايا، أحصينا عشر كرامات يمنحها العماد. لهذا نعمِّد الأطفال أيضًا مع أنَّهم ما خطئوا، لكي يضاف لهم البرّ والبنويَّة والميراث والنعمة بأن يكونوا إخوة المسيح وأعضاءه، وأن يصيروا مساكن الروح القدس".

رابعًا: الاعتراف الإيمانيّ

هذا الاعتراف هو إعلان بأنَّ المسيح هو سيِّدنا ونحن نتبعه. لهذا يُتلى قانون الإيمان "إنَّ إعلاننا اليوم يُدعى "الإيمان" ونحن لا نطلب منكم كلامًا آخر قبل أن تقولوا "أؤمن". هذا الإعلان الذي يُدعى الإيمان ويتمّ يوم خميس الأسرار، يتماهى مع أعضاء "الأمانة". والموعوظ يعلن إيمانه أمام الأسقف وكأنَّه كلمة السرّ من أجل الدخول في الكنيسة. في هذا الإطار قال يوحنّا: "ليس لي أن أقدِّم لكم التعليم عن الإيمان، بل للمعلِّم". ويواصل: "سيكون لنا أن نكلِّمكم عن الإيمان في ظرف آخر، حين يأتي جمع اللامتدرِّجين". وإذ يشرح يوحنّا ما يتعلَّق بالعماد عن الموتى (1كو 15: 29) يقول: "أريد أوَّلاً أن أذكِّر فيما بينكم أولئك الذين تدرَّجوا في الكلمة، فأمرهم المدرِّجون أن يعلنوا في ذلك المساء... أودُّ أن أتكلَّم بوضوح، ولكن لا أجرؤ بسبب اللامتدرِّجين. فهؤلاء يجعلون الشرح أكثر صعوبة فيفرضون علينا أن لا نتكلَّم بوضوح، أو أن نقول أمامهم ما لا ينبغي أن يُقال. سأحاول قدر المستطاع، أن أتكلَّم بشكل متضمِّن. فبعد إعلان الكلمات السرّيَّة والمخيفة، وبعد القواعد المهولة، للقائد حملت من السماء، نضيف أيضًا هذا في النهاية، حين نمضي إلى ممارسة العماد فنأمرهم بأن يقولوا: أومن بقيامة الموتى. ففي هذا الإيمان نحن معمَّدون. فبعد أن نعترف بهذا وبكلِّ الباقي، ننزل في ينابيع الأمواج المقدَّسة".

هذا يعني أنَّه كان اعترافان إيمانيّان. الأوَّل، تلاوة قانون الإيمان، يوم خميس الأسرار بعد الفقاهة الأخيرة، أو يوم الجمعة العظيمة، بعد حفلة إنكار الشيطان والتعلُّق بالمسيح. والاعتراف الثاني يأتي في شكل حوار حالاً قبل العماد. إلى هذا الاعتراف الثاني يشير يوحنّا في الفقاهة الثانية حين يقول: "إذًا، هو الإيمان بالثالوث الأقدس الذي يمنحنا مغفرة الخطايا، وهذا الاعتراف الإيمانيّ يستحقُّ لنا البنوَّة".

"قلتَ: أومن بالآب الضابط الكلّ... قلت: أومن بالربِّ يسوع المسيح ابن الله... قلتَ أومن بالروح القدس". تلك كانت الليتورجيّا في القسطنطينيَّة. وفيها قال يوحنّا: "ولكي تتعلَّم أيضًا أنَّ الآب والابن والروح القدس هم جوهر واحد وحيد، تتمُّ عطيَّة العماد على الشكل التالي: ... يغطَّس له رأسه ثلاث مرّات في الماء ويرفعه. وبهذا الطقس يُعدّ طالب العماد لقبول زيارة الروح القدس. فليس الكاهن وحده هو من يلمس رأس المعمَّد، بل يمينُ المسيح أيضًا...".

خامسًا: الغطس والنزول في الماء

بعد مسح الجسد كلِّه، بعد الإعلان الإيمانيّ، ينزل الموعوظ إلى حوض العماد. فيمدُّ المحتفل يده على رأسه، ويغطِّسه ثلاث مرّات في المياه المقدَّسة، متلفِّظًا بالعبارة الأسراريَّة: "يُعمَّد فلان باسم الآب والابن والروح القدس". فدعوة الثالوث الأقدس تتمُّ مرَّة واحدة. ولكنَّ كلَّ مرَّة يذكر المحتفلُ واحدًا من الأقانيم الثلاثة، يغطِّس المحتفل المعمَّد ويصعده من الماء. هكذا يكون الثالوث ظاهرًا في كلِّ ما يلامس خلاصنا.

ركَّز يوحنّا بشكل خاصّ على دور الخادم الذي يقوم به الكاهن. هذه الفكرة هي في قلب لاهوته والأسراريّ، كما لاحظ دارسو العقيدة المسيحيَّة فقد قال في شرح إنجيل متّى: "حين تعمَّد، فليس الكاهن هو الذي يعمِّدك، بل الله هو الذي يلمس رأسك بقدرته اللامنظورة. لا الملاك ولا رئيس الملائكة ولا شخص آخر يجرؤ أن يقترب يلمسك". فالله هو الذي يلدنا، ولا يريد في هذه الولادة الإلهيَّة، أن يكون لنا أب آخر غيره. ونقرأ الشيء عينه في الفقاهة الثالثة:

"لهذا، فالكاهن الذي يعمِّد لا يقول: أنا أعمِّد فلان. بل "يعمَّد فلان باسم الآب ويروح تيودور في الخطِّ عينه: "لا، أنا أعمِّدك، بل: يُعمَّد، وهو ما قال من قبل، أنا أختم. بل: يُختم فلان. بما أنَّ أحدًا بين البشر لا يقدر أن يمنح مثل هذه الموهبة، وبما أنَّ النعمة الإلهيَّة وحده تقدر على ذلك، فينبغي أن لا يقول: "أنا أعمِّد، أنا أختم. بل: يُختَم، يعمَّد... أمّا هو فيدلُّ على طاعته، ويكون في خدمة ما يتمّ".

أمّا المؤمن فينال في لحظة واحدة جميع الخيرات، فيشير الذهبيّ الفم إلى عشر نعم تمنحها المعموديَّة. وفي موضع آخر، يشدِّد الذهبيّ الفم على جدَّة الحياة. فالعماد خلق جديد يتفوَّق على الخلق الأوَّل بشكل لا يُوصَف. فحين خلق الله الرجل الأوَّل، قال: نصنع له عونًا. أمّا هنا، فلا شيء يشبه ذلك. فإلى أيِّ عون يحتاج ذاك الذي نال نعمة الروح القدس وكمُل في جسد المسيح، خلق الإنسان الأوَّل على صورة الله. أمّا الإنسان الجديد فمتَّحدٌ بالله. الإنسان الأوَّل أعطى أوامر للحيوانات. الإنسان الجديد جُعل فوق السماوات. أعطيَ للإنسان الأوَّل الفردوس، وللإنسان الجديد السماء. خُلق الإنسان الأوَّل في اليوم السادس، والإنسان الجديد خُلق في اليوم الأوَّل، مع النور. هذا ما يلمِّح إلى الليلة الفصحيَّة، إلى صبح الأحد، الذي يشير إلى اليوم الأوَّل الذي فيه خُلق النور.

وماذا بعد العماد والتغطيس في الماء؟

"الأعمال التي تلي تستطيع في ذاتها أن تعلِّمنا ممَّن نجا أولئك الذين تأمَّلوا للتدرُّج في الأسرار، وماذا نالوا من نعم. فما إن يخرجون من الأحواض المقدَّسة، حتّى تقبلهم الجماعة، وتحييهم، وتعطيهم قبلة السلام، وتهنِّئهم وتشاركهم في لهجتهم: في الماضي، كانوا عبيدًا وأسرى، وصاروا في لحظة أناسًا أحرارًا، وأبناء مدعويّن إلى المائدة الملكيَّة. وما إن يصعدون من الأحواض، يقادون إلى المائدة المهيبة ينبوع ألف عطيَّة وعطيَّة، ويذوقون جسد الربّ ودمه ويصبحون مسكن الروح: ارتدوا المسيح نفسه فصاروا شبيهين بملائكة على الأرض، يشعُّون مثل لمعان السماء"

وتنتهي العظة الثانية:

"بعد أن ولجتم كلَّ هذا، أيُّها الأحبّاء، استعدُّوا في الفرح والبهجة لتقبُّل النعمة فتتذوَّقوا بوفرة عطيَّة المعموديَّة، فنظهر كلُّنا معًا سلوكًا يليق بالنعمة، ونؤهَّل لقبول الخيرات الأبديَّة واللاموصوفة بنعمة ربِّنا يسوع المسيح ورحمته الذي به يكون للآب مع الروح القدس، المجد والقدرة والكرامة الآن وعلى الدوام وإلى دهر الدهور. آمين".

الخاتمة

هكذا أردنا أن نتذكَّر ذاك الذي توفِّي في قلب خدمته الأسقفيَّة منذ ستَّة عشر قرنًا. دُعي الذهبيّ الفم لحلاوة كلامه بحيث كان الناس يسمعونه ويسمعونه ولا يملُّون. فبقيت لنا بصورة خاصَّة، عظاته الكثيرة، التي حفظها لنا التقليد كتبًا فغطَّت مكتبة كاملة. في مقالنا هذا، توقَّفنا عند المعموديَّة في ثماني عظات كانت آخر ما اكتشف من مخطوطات ليوحنّا الذهبيّ الفم، فقرأنا كيف كان يمارس هذا السرّ العظيم في الكنيسة، في القرن الرابع. وكان بالإمكان أن نتحدَّث عن الصلاة عند هذا الراعي الذي أخذ رعيَّته إلى المراعي الخصبة. وممّا قال: "لا شيء يوازي الصلاة. تجعل المستحيل ممكنًا، والصعب سهلاً. والإنسان الذي يصلّي لا يقدر أن يخطأ وقال يوحنّا في الصلاة التي هي حالة مستمرَّة عند المؤمن: "لا تصلُّوا بكلمات كثيرة، بل صلُّوا على الدوام. فالصلاة تكون حقيقيَّة حين "يرتفع الصراخ من أعماق القلب". أراد يوحنّا الذهبيّ الفم أن يكون مثالاً للخراف التي سُلِّمت إليه. فوقف في الثغرة يدافع عن الصغار والفقراء. في وجه الكبار والعظماء، فمات السلاح في يده. ولكنَّ موته كان حياة لرعيَّته. وقتلته الإمبرطورة أودكسية. ولكن عندما أعيد جثمانه في 23 كانون الثاني سنة 438 م. باحتفال عظيم، ووُضع في كنيسة الرسل، جاء تيودوز ابن أودوكسية فألصق وجهه بالنعش وطلب السماح لوالديه اللذين زاغا زيغانًا فاضطهدوا الأسقف القدّيس.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM