يوحنّا الذهبيّ الفم إلى اللغة السريانيَّة.

 

يوحنّا الذهبيّ الفم إلى اللغة السريانيَّة.

الخوري بولس الفغالي

حين تكون كنيسة منغلقة على نفسها، تحسب أنَّ أحد آبائها لها دون سواها. وتنسى أنَّ الكنيسة الأولى لم تعرف حدود المكان ولا الزمان. كما لم تتوقَّف عند اللغة وكأنَّها حاجز تمنع المؤمن من الخروج من منطقته الضيِّقة ولغته المحدودة. فالتفاعل بين كنيسة وكنيسة قديم جدًّا، والترجمات من لغة إلى لغة كانت أمرًا عاديًّا. فالآباء اليونان مثلاً نُقلوا إلى السريانيَّة والأرمنيَّة والقبطيَّة واللاتينيّة، وكذلك نقول عن اللاتين والسريان. فأفرام السريانيّ مثلاً انتقل سريعًا إلى الأرمنيَّة واليونانيَّة والجيورجيَّة والسلافونيَّة... في هذا الإطار نعرف كم انتشرت آثار يوحنّا الذهبيّ الفم، ولم تبقَ محصورة في اليونانيَّة. في اللاتينيَّة كانت ترجمات ، وفي العربيَّة وفي الأرمنيَّة وفي الجيورجيَّة وفي القبطيَّة... أمّا نحن فنتوقَّف عند السريانيَّة التي بدأت باكرًا في نقل آثار الذهبيّ الفم، منذ القرن الخامس ومواعظه في الإنجيل متّى والقرن السادس وكتابه في الكهنوت.

نقسم كلامنا ثلاثة أقسام: عظات في الأناجيل، المقال في الكهنوت، عظات متفرِّقة.

1- عظات في الأناجيل

بداية نقول إنَّ الذهبيّ الفم لم يشرح من الأناجيل سوى متّى ويوحنّا. وترك زهيرات بسيطة في مرقس ولوقا.

أ- إنجيل متّى

جاء كلام الذهبيّ الفم في متّى تسعين عظة، فقدَّمت لنا أقدم تفسير كامل لهذا الإنجيل. ألقيت في أنطاكية كما تقول العظة السابعة، وسنة 390 على ما يبدو. وحارب فيها المانويّين والأريوسيّين. أقدم مخطوط يونانيّ يعود إلى القرن السادس. ثمَّ تكاثرت المخطوطات بعد القرن الحادي عشر.

أوَّل نقل لهذه العظات كان في اللاتينيَّة على يد الشمّاس البيلاجيّ أفيانيوس، سنة 420. ولكنَّه وصل فقط إلى العظة الخامسة والعشرين. ومنذ القرن الخامس ظهر النقل الأرمنيّ الذي نشره الآباء الميخاتيريّون سنة 1826. وجاءت ترجمة سريانيَّة في الحقبة عينها، بقيت منها أجزاء في أربعة مخطوطات بريطانيَّة تعود إلى القرن السادس. ومن السريانيَّة انتقل النصُّ إلى العربيَّة في القرن العاشر على الشمّاس عبد الله، ثمَّ إلى الجيورجيَّة في القرن الحادي عشر على يد أوتيم من جبل أتوس (+1028).

وصل إلينا من هذه العظات المتّاويّة، بعض العظة الثامنة. ونحن نقرأ الفقرة الأولى (8: 1) مع شرح مت 2: 11: "وأتوا إلى البيت ورأوا الصبيّ مع مريم أمِّه، فخرّوا وسجدوا له". قال يوحنّا:

"كيف يقول لوقا إذن، إنَّه كان مضطجعًا في مذود؟ لأنَّ مريم قد أضجعته عند الولادة في مذود للتوّ، إذ كان محتملاً أنَّهم لم يتمكَّنوا من إيجاد منزل في ذلك الحشد الكبير من أجل جمع الضرائب. وهو ما يشير إليه لوقا قائلاً: "وأضجعته في مذود، إذ لم يكن لهما موضع في المنزل" (لو 2: 7).

"لكن ما الذي دفعهم إلى السجود؟ إذ لم تكن العذراء مشهورة، ولا البيت فاخرًا، ولا أيُّ شيء من الأشياء التي رأوها يمكن أن تكون مبعثًا على الدهشة. ومع ذلك لم يسجدوا فقط، بل أيضًا "فتحوا كنوزهم وقدَّموا له هدايا" (مت 2: 11)، لا كما يقدِّمون إلى إنسان، بل إلى الله، إذ كان اللبان والمرُّ رمزًا إلى هذا. ما كان دافعهم إذن؟ الدافع نفسه الذي عمل فيهم حتّى يخرجوا من وطنهم ويقوموا برحلة طويلة جدًّا، وقد كان النجم والاستنارة التي أحدثها الله في ذهنهم رويدًا رويدًا، الطريقَ إلى معرفة أكمل".

ب- إنجيل يوحنّا

ثماني وثمانون عظة حول يوحنّا (الآباء اليونان 59). ألقيت، على ما يبدو في أنطاكية، سنة 391. جاء شرح إنجيل يوحنّا أقصر من إنجيل متّى، واتَّخذ طابع الهجوم والدفاع ولاسيَّما على الأريوسيّين الذين يرفضون ألوهيَّة الابن، وعلى الأنوميّين الذي يعتبرون أنَّ الابن لا يشبه الآب. فالنصوص اليوحنّاويَّة مؤاتية لمثل هذه الجدالات ضدّ الذين يبرزون ضعف المسيح ومخافته وآلامه. فتوسَّع الذهبيّ الفم في تعليم حول التنازل الإلهيّ: "أنا الله وابن الله، ولي معه جوهر مطوَّب لا يُوصف، ولا أحتاج إلى شهادة أحد... ولكن بما أنّي أريد خلاص الجميع، انحدرت بحيث طالبتُ بشهادة البشر" (العظة السادسة). وفي العظة الحادية عشرة: "إذ هو الابن الحقّ لله، صار ابن البشر، لكي يصير البشر أبناء الله. فالعظمة الحقيقيَّة لا تحسُّ بأيِّ نقص حين تتَّحد بالانحدار... هذا تمَّ بشكل سامٍ في المسيح: ما أنقص طبيعته حين نزل نحونا. ونحن الغاطسون من زمن بعيد في الانحطاط والظلمة، أصعدنا إلى كرامة لا تقاس بها كرامة".

نورد هنا العظة حول الكرمة الحقيقيَّة:

"إنَّ قلَّة مخزون النفس من المعرفة يجعلها فزعة، قلقة. أمّا إذا كانت مجمَّلة بتهاذيب العلم السماويّ، فإنَّها تزداد فضلاً وسموًّا، ولكن إن خلت من هذا الجمال، تضعف، لا بحسب طبيعتها، بل بإرادتها. فإذا رأينا إنسانًا ضعُف بعد قوَّة، لا نعزو ذلك لمرض بطبيعته، فخواصّ الطبيعة لا تتغيَّر. أمّا إذا رأينا من كان ضعيفًا صار شجاعًا فجأة، فإنَّ هذا التحوُّل منوط بالإرادة وحدها. هكذا هم التلاميذ. لقد كانوا خائفين جدًّا، إلاَّ أنَّهم صاروا أقوى من الأسود. فبطرس الذي لم يصمد أمام تعنيف فتاة، ونكس رأسه أمامها، نراه فيما بعد يجابه الضيقات الكثيرة ويحتملها. وربَّ سائل: لماذا قال الربُّ للتلاميذ: قوموا ننطلق من هنا (يو 14: 31)؟ أتُراه لم يكن يعرف الوقت الذي سيأتون فيه، أم كان خائفًا من مجيء يهوذا، وإلقاء القبض عليه؟"

ويواصل الذهبيّ الفم الكلام: "أبي الكرام. أتُراه قصد أنَّ الابن محتاج إلى العمل والتأثير؟ حاشا! لقد قال إنَّ العناية لا تصير للجذور، بل للأغصان. فالأصل هنا لا يعني شيئًا، ولكن ليعلموا أنَّهم بدونه لا يقدرون أن يفعلوا شيئًا. وهكذا وجَّههم إلى الإيمان، كما تتَّجه الأغصان إلى الكرمة.

"كلُّ غصنٍ فيَّ لا يأتي بثمر ينتزعه الآب. هنا يوجِّه الأنظار إلى الأعمال، مُظهرًا أنَّه بدون أعمال لا يمكن أن يثبت فيه، والذي يعطي ثمرًا ينقِّيه، أي يجعله لعناية كبرى. وقبل الأغصان، فالأصل محتاج للعناية. ولكنَّه لم يذكر شيئًا عن الأصل. ولكن حصر همَّه كلَّه في الأغصان، ليظهر أنَّه يلقي الضوء على حاجة التلاميذ إلى مساعدة الكرّام. من أجل هذا قال: والغصن الذي يعطي ثمرًا ينقّيه" (ص 135).

2- في الكهنوت

أ- ستُّ مقالات

ما من مؤلًَّف كريزوستوميّ عُرف ونُقل وطبع، مثل كتابه في الكهنوت الذي جاء في ستِّ مقالات. لم تمضِ بضع سنوات على موته، حتّى كتب إيزيدور: "ما من أحد قرأ هذا الكتاب إلاّ واشتعل قلبُه بحبِّ الله. فهو يبيِّن كم الخدمة الكهنوتيَّة مكرَّمة ولكن صعبة، ويدلُّ كيف القيام بها كما يليق. إنَّ يوحنّا، أسقف بيزنطية، هذا الحكيم ومفسِّر الأسرار الإلهيَّة، ونور الكنيسة كلِّها، صاغ هذا الكتاب بفنٍّ ودقَّة بحيث إنَّ الذين يتمُّون واجبهم الكهنوتيّ بحسب رغبة الله، والذين يقومون به بتهامل، يجدون فيه فضائلهم ورذائلهم".

هذا الكتاب الذي قال عنه سقراط في التاريخ الكنسيّ (6: 3) إنَّه دُوِّن في سنة 381-386، والذي قرأه جيروم (في الرجال العظام 129) سنة 392، يبدو بشكل حوار بين الكاتب وصديقه باسيل: حاول الكاتب أن يبرِّر موقفه ساعة اختياره أسقفًا سنة 373. أمّا باسيل فأخبر الكاتب بأنَّه نوى أن يقتدي به... وتكون النتيجة أنَّنا لا نلوم أحدًا إن هرب من مثل هذه الكرامة. فالقدّيس بولس نفسه ارتجف واندهش حين تأمَّل في الكهنوت. فعلى الكاهن أن يبرهن عن الفضيلة، وعن قداسة خارقة. وعليه أن يرذل من قلبه الطموح، ويدلّ على حكمته وفطنته، على تنبُّهه ونظرته الثاقبة، عن صبره وثباته حتّى أمام اللوم والشتيمة. وإذا كان الأمر هكذا بالنسبة إلى كاهن بسيط، فبالأحرى بالنسبة إلى الأسقف.

نُشر النصّ في اليونانيَّة (الآباء اليونان 47: 623-692) ونُقل إلى أكثر من لغة حديثة. أمّا نحن فنتوقَّف عند الترجمة السريانيَّة.

نحن نمتلك أكثر من مخطوط لهذا الكتاب في السريانيَّة، وكلُّها في المتحف البريطانيّ: 14612، 17173، 17191، 17193، 18817، 14611. نشرها فارن، وبيَّن اقتراب الناقل من الأصل اليونانيّ مع الحرّيَّة المعروفة في ذلك الوقت: يترك عبارة من دون ترجمة. أو يضيف لكي يوضح الفكرة. وإن لم يجد اللفظ السريانيّ الذي يؤدّي اليونانيّ، فهو يجعل اللفظ اليونانيّ كما هو. وما يلفت النظر هو أنَّه يحوِّل الصورة من عالم إلى آخر. يوحنّا يعيش قرب البحر والناقل يعيش في الداخل. تحدَّث يوحنّا عن سفينة لا صابورة عندها ولا ثقل يحفظ توازنها anermatistoV. أمّا الناقل فقال ܠܝܬ ܠܗ ܡܕܒܪܢܐ: ليس لها من يقودها. على مثال الخيل أو المركبة. وهنا نحن نقدِّم مقطعًا من بداية المقالة الأولى وعنوانها: برهان محبَّة باسيل الكبير تجاهنا:

"كان لي عدَّة أصدقاء، طيِّبون، حقيقيّون، يعرفون نواميس الصداقة ويحافظون عليها بدقَّة. ولكنَّ واحدًا من هذا العدد الكبير تفوَّق عليهم كلِّهم بمحبَّته لنا. فسعى لأن يجعل هؤلاء وراءه بأميال، بقدر ما تجاوزوا هم أولئك الذين كانوا معنا في علاقات عاديَّة. أمّا هو فكان دومًا بين الحميميّين. فقد انكببنا على الدرس عينه، وكان لنا المعلِّمون أنفسهم. وكنّا مجتهدون بذات الحرارة ذوات الغيرة من أجل تكويننا الثقافيّ والأدبيّ: حماس واحد متولِّد من اهتمامات واحدة. لا فقط خلال الزمن الذي كنّا نرافق فيه المعلِّمين أنفسهم، بل أيضًا حين تركناهم، فوجب علينا أن نتساءل عن الطريق الأفضل التي نختار. وهنا أيضًا كان واضحًا أنّنا كنّا في ملء توافق الفكر. وأضيفت أسبابٌ أخرى لتحافظ على هذه الوحدة متينة بدون تصدُّع. ما كان الواحد منّا يتكبَّر على الآخر بسبب عظمة موطنه. ثمَّ لم تكن ثروتي كبيرة جدًّا ولا هو كان يعيش في فقر مدقع. فمقدار الخير الذي لنا عكس التماهي في استعار أداتنا الباطنيَّة. وأخيرًا، كنّا في الدرجة الواحدة بولادتنا، بحيث عمل كلُّ شيء من أجل توافق الفكر عندنا".

ب- حين رُسم كاهنًا

اعتاد الناشرون أن يضمُّوا إلى الكهنوت عظة يوحنّا الذهبيّ الفم" حين رُسم كاهنًا". ذاك كان العنوان اللاتينيّ. والعنوان اليونانيّ: منه، عظة أولى، حين رُسم كاهنًا. موجَّهة إلى نفسه إلى الأسقف (في السريانيَّة إلى الأساقفة) وإلى جماعة الشعب". ونُقلت هذه العظة كاملة إلى السريانيَّة ونحن نقرأها في المخطوط البريطانيّ 14612 الذي يعود إلى القرن 6-7. وها نحن نقدِّم البداية:

"أهي الحقيقة ما حصل لنا؟ وهل حقًّا كانت الأمور ولا نغشُّ أنفسنا؟ أما الأحداث الحاضرة حلمًا في الليل؟ أحقًّا طلع النهار ونحن كلُّنا مستيقظون؟ من يقدر أن يصدِّق، في وضح النهار، ساعة كلِّ واحد واعٍ، يستيقظ، أن يُرفَع شابّ في بداية عمره، فقير ومحتقَر، إلى مثل هذه الدرجة في السلطة. في الليل، لا يُعقَل أن تحصل مثل هذه الأمور. لا شكَّ في أنَّ ناسًا مرضى وبلا طعام كافٍ، رأوا نفوسهم في الحلم وقد استعادوا ملء العافية فجملوا ونعموا بالمائدة الملكيَّة. ولكنَّهم كانوا نائمين، وما رأوه كان أضغاث أحلام. فتلك هي طبيعة الأحلام، إذ هي تقدر أن تستنبط المعجزات...

"ولكن أمام هذا العدد الكبير من الناس الذين أتوا جماعات ليستمعوا إليّ، فلو خرجت أمواج الكلمات من فمي مثل أنهار تجري ولا تنقطع، لجفَّ مسيرها عندي بفعل الخوف وتعود المياه إلى ينبوعها. ولكن بدل جرْي الأنهار والينابيع، هو مطر قليل، خفيف، احتفظنا به، فكيف لا نرتعب من أن تجفَّ الكميَّة الصغيرة التي سقطت بفعل الخوف، ويحصل ما يحصل عادة في عالم الطبيعة..." (حاشية 19، ص 388-391).

وهكذا بدأت العظة في تساؤل: هل الكاهن الجديد في الحلم أو في الحقيقة. وتملَّكه الخوف فطلب معونة الحاضرين وصلاتهم. وقال: أريد أن أكرِّس كلامي لله، وأنضمَّ إلى مديح المسكونة. ولكنّي خاطئ ولا أستحقُّ أن أقوم بعمل المديح.

"فمن يكون قاسيًا، عنيدًا، لكي يقارب في الصمت اجتماعنا: وساعة نجد أناسًا يتحمَّسون للسماع، كيف لا نتوجَّه إليهم حتّى وإن كنّا أقلَّ بلاغة من البشر أجمعين. إذًا، أودُّ ساعة أتكلَّم للمرَّة الأولى في الكنيسة، أن أكرِّس بواكيرَ هذه اللسان للإله الذي أعطاناه. فهو عدل وحقّ. لا شكَّ في أنَّه يجب أن نقدِّم بواكير الحنطة والخمر، ولكن أيضًا أقوال اللسان والكلام بدل حزم القمح. فهذه الثمرة تخصُّنا خاصَّة وهي أكثر إرضاء للإله الذي نكرِّم. جوانب الأرض تحمل العناقيد والسنابيل وزخّات المطر تنبتها، والأيادي تعتني بها. ولكن تقوى النفس تلهم المديح المقدَّس، فيغذِّيه وجدانٌ صالح، ويتقبَّله الله في أهراء السماء وبقدر ما تكون النفس فاضلة، بقدر ذاك يكون ثمرها" (ص 394-395).

3- عظات متفرِّقة

سنة 1916، نشر العالم فرنسوا ناو أربع عظات. ثلاث حول تجارب المسيح، وأربعة حول التجسُّد.

أ- قتال ربِّنا مع الشيطاند

نقرأ هنا ثلاث عظات. ونعنون كلَّ عظة ببدايتها.

أوَّلاً: حين تظهر الشمس

تتوقَّف العظة الأولى عند التجربة الأولى، ساعة طلب الشيطان من يسوع أن يحوِّل الحجارة إلى خبز ليأكله (مت 4 :3وز)

بداية نقدِّم موجزًا لهذه العظة: تشبَّه مخافة الله بالشمس. وبما أنَّ آدم خسر مخافة الله، غلبه الشيطان فوجب على الله أن ينزل لكي يحارب الشيطان وينتصر عليه. بالطعام بدأ ربُّنا قتاله، لأنَّ الطعام هو ما سبَّب سقوط آدم. قال الشيطان لآدم بأنَّ الله لا يحبُّه، وأنَّه محسود منه. ومالق ربَّنا الذي طلب القتال، وبيَّن له أنَّه مغشوش، ودفعه إلى التذمُّر. أما ربُّنا فعلَّمنا التواضع بجوابه الذي وجَّهه إلى الشيطان، وأفهمنا الفائدة من الصوم والصلاة لكي يقوّينا ويشركنا في مواهب الروح القدس (حاشية 24، ص 117).

"في البرّيَّة الفارغة من المأكل، أراد الشيطان أن يجرِّب ربَّنا بالتذمُّر. فقد ظنَّ أنَّه، كما فعل لإسرائيل في البرّيَّة فتذمَّر على الله، وجعله يسجد قدّام العجل (خر 32: 1ي)، هكذا يغشُّ ربَّنا أيضًا ويأتي به إلى التذمُّر على الله فيحرِّضه قائلاً: "إن أنت ابن الله، فقل لكي تصبح هذه الحجارة خبزًا". لقد سمعتُ (الشيطان يتكلَّم) صوتًا يقول: "ها هو ابني وحبيبي" (مت 3: 17). والآن، إذا كانت الشهادة عنك حقيقيَّة، فاطلب من أبيك لكي يعطيك خبزًا. فلماذا تعذِّب نفسك بالجوع. ليبيِّن حبَّه تجاهك، وإن سمع لك عُرف بالحقيقة أنَّك ابنه. أمّا إن طلبت وما سُمع لك، كاذبة هي الكلمة التي قالت: ها هو ابني وحبيبي" (ص 123-124).

وتتواصل العظة: "نحن نقتني قوَّة خفيَّة من العدم والصلاة، اللتين بهما نحارب مع الأبالسة اللامنظورين. فحين ينزل مقاتلو الخارج (في هذا العالم) هؤلاء إلى القتال، يغذُّون أجسادهم بالمآكل الخارجيَة، ثمّ ينزلون إلى القتال. أمّا مقاتلو الروح (= الروحيّون) فيقتنون بالصوم والصلاة القوَّة لمقابلة الشياطين. هؤلاء المقاتلون الدنيويَّة (من الخارج) حين ينزلون (إلى الحلبة) يكون قتالهم جسديًّا ويحتاجون لقتالهم مآكل جسديَّة. أمّا نحن، ولأنَّ قتالنا "ليس مع لحم ودم، بل مع الرؤساء والسلاطين ومع الأرواح الشرّيرة التي تحت السماء" (أف 6: 12). فتطلُب لنا قوَّة خفيَّة نقتنيها بالصوم والصلاة..." (ص 125-126).

ثانيًا: في الأحد الماضي

"في الأحد الذي عبر، أخذنا أكليلاً أوَّل من انتظار ربِّنا . واليوم مثل جنود مجتهدين لدى الملك السماويّ الذي يجعل جنوده ينتظرون في الجهاد، أتينا لنأخذ إكليلاً ثانيًا من قتال ربِّنا مع الشيطان، قتال كانت نهايته الظفر، فكلَّلنا كلَّنا بالظفر. فلنعدّ سمعنا لكي نكون ناظرين لهذا الجهاد الثاني فيُداس إبليس بيننا كما في البرّيَّة" (ص 127).

بعد مقدِّمة العظة الثانية حول قتال الربِّ مع الشيطان، نقدِّم موجزًا عنها. هي التجربة الثانية التي فيها دعا إبليس ربَّنا لكي يرمي بنفسه عن شرفة الهيكل. بدأ هذا القتال منذ الحبل بالمسيح وولادته، حين أراد الشيطان أن يهلك خصمه بذريعة الزنى أو بمساعدة هيرودس. لم تنجح هاتان المحاولتان. فوجب على الشيطان أن يقاتل بنفسه. وسعى إلى دفع يسوع إلى الكبرياء والمجد الباطل، كما فعل مع داود. فدعاه إذًا لكي يرمي نفسه من أعلى الهيكل. كان بإمكان إبليس أن يرميه بالقوَّة، دون أن ينصحه بالانتحار. فأجاب يسوع بمعونة الكتاب هاربًا من المجد الباطل كما أجاب أولئك الذي يطلبون منّا معجزات. فالأبرار امتحنوا في كلِّ زمان، فجاءت هذه المحن لمنفعتهم. وفي أيِّ حال، لا نستطيع أن نتحرّى مقاصد الله.

ونقرأ ما يتعلَّق ببتوليَّة مريم، حيث حاول إبليس أن يبطل التدبير الخلاصيّ، منذ الحبل بيسوع:

"فماذا عمل (إبليس) إذًا؟ منذ الحبل بمخلِّصنا، سعى أن يبطل التدبير الإلهيّ، ساعة هو في الحشا. فقد أراد البتول التي حبلت بدون زواج، وحسب أنَّ هذا الأمر يجعل الافتراء سهلاً والتصديق صعبًا. فزرع بين اليهود ظنًّا شرّيرًا حول مريم فتُظنُّ أنَّها زنت زنى. بحيث تهلك الأمُّ مع ولدها. فالناموس يأمر بأن تُقتَل الزانية. وشهد على كلمتي (الشيطان يتكلَّم) يهوذا (بن يعقوب): حين قالوا له: زنت كنَّتك تامار، قال: أخرجوها لتحرَق (تك 38: 24). حينئذٍ ظنَّ إبليس أنَّه حين يفتري عليها بالزنى، يحكم عليها الناموس بالموت. ولكنَّه لم يعرف أنَّ ربَّنا يرفس لسعاته فلا يقدر أن يهيئ فخاخًا لحياته. أمّا يوسف فرأى أنَّ خطِّيبته يُفترى عليها بالزنى، فخاف من نفسه وفكَّر بأن يبعدها عنه. ولكنَّ الله لم يتركه يعيش في القلق، فأرسل إليه ملاكًا في الليل فقال له: "يا يوسف بن داود، لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك. فالمولود منها هو من الروح القدس" (ص 129-130).

وتنتهي العظة بهذا الكلام:

"أمّا نحن يا أحبّائي، فليكن لنا هذا العالم مثل فندق. فما من إنسان يصارع ويقاتل في الفنادق، لأنَّه يعرف أنَّه يبيت فيه مساء واحدًا ويشدُّ الرحال. فكما احتمل هو نحتمل نحن كلَّ ما يحصل لنا في هذا العالم لئلاّ نفرح إذا ارتحنا ولا نحزن إن تضايقنا. هناك مسكن آخر وحياة أخرى تنتظرنا، حيث لا نهاية للفرح ولا للضيقات. ليت ربَّنا يجعلنا في أسفرار الوجه (= الدالَّة) ندخل إلى هذا المسكن السماويّ فنرقص في تدابير البرِّ له المجد إلى الأبد. آمين" (ص 140-141).

ثالثًا: إكليل ظفر ثالث

هكذا يبدأ الميمر الثالث حول قتال ربِّنا مع الشيطان: "نحن ننال الإكليل الثالث مع المسيح، لأنَّ انتصاره انتصارنا. كشفه لنا اللصُّ الصالح والموتى الذين نجّاهم. إنَّه يختلف عن ملوك الأرض، وهو الذي يقاتل لكي يكلِّل جنوده. أراد إبليس أن يقاتله بحبِّ السلطة. فأصعده إلى جبل عالٍ وقدَّم له السلطة وحاول أن يفرض نفسه عليه. وأنهى المسيح الحرب فامتدحه الملائكة ونحن نقاتل بجانبه. ثمَّ إنَّ ما يعد به الشيطان كذب، ونحن نحتفظ بحرّيَّة القرار. مثل اللص ومتّى والزانية" (ص 117-118).

وها هي مقدِّمة العظة الثالثة:

"لنا اليوم أن نأخذ إكليلاً ثالثًا، إكليل ظفر ربِّنا من قلب صراعاته، يا أحبّائي. فنصر ربِّنا يخصُّنا. هو انتصر فأعطانا كلَّنا أن ننتصر. فكما أنَّ ذنب آدم جعلنا كلَّنا مذنبين، هكذا نصر ربِّنا جعلنا كلَّنا منتصرين. سمع آدم نصيحة الشيطان فسقط في الخطيئة، والمسيح غلب الخطيئة في جسده، فأسر العدوَّ الذي أدخل الخطيئة إلى العالم، واستعاد السبي من يديه" (ص 141).

ويواصل الواعظ كلامه، متوجِّهًا إلى الربِّ يسوع:

"يا ملكًا مات من أجل جنوده! كلُّ الجنود يموتون من أجل ملكهم، أمّا ملكنا فمات من أجلنا. كلُّ الملوك يأخذون الراحة وجنودهم يقاتلون، وحين يغلبون يعود النصر إلى الملك. أمّا ملكنا فنزل من البداية إلى الحرب. وحين انتصر أراد أن يكون النصر مشتركًا بيننا وبينه: غلب الرغبة في الطعام، وأعطى الإكليل للصائمين. غلب المجد الباطل، وأعطى الإكليل للمتواضعين. غلب الغنى والسلطة، وأعطى الإكليل للمؤمنين. في ثلاث صور جعل ظفر الكنيسة كاملاً..." (ص 142-143).

ب- حول ناسوت ربِّنا

"كلُّ سلطان أعطي لجسد المسيح، لا للطبيعة الإلهيّة، ولا للجسد وحده لأنَّنا لا نقول لله من دون جسد مثل مرقيون، ولا نقول جسدًا من دون الله مثل بولس الشميشاطيّ. فالجسد يقرِّبنا منه. وهكذا وجب أن نخلص بالجسد وأن يموت المسيح الذي هو باكورة الخيرات التي تُعطى لنا في النهاية. لنفرح لأنَّ ديّاننا من طبيعتنا وهو لا يطلب منّا سوى الإرادة الصالحة (ص 118).

نكتفي هنا بإعطاء المقطع الأخير:

"فلنفرح إذًا لأنَّ ملكنا هو من طبيعتنا، وهو افتخارنا. وديّاننا ابن طبيعتنا فإن اقتربنا منه بحبّ، لأنَّه يعرف أهواءنا، فهو يرحمنا ويترك لنا خطايانا بما أنَّه تألَّم وجُرِّب يستطيع أن يعين الذين يجرَّبون (عب 5: 2). فهو وحده كمَّل الظفر بآلامه الجسديَّة. خطيئةً ما فعل، ولم يوجد إثمٌ في فمه (م 2: 6). أمّا نحن فبسبب ضعفنا، حتّى وإن انتصرنا، يغلبنا إكراه الطبيعة. ولكنَّه لا يتركنا بدون معونة. في كلِّ وقت يمسك بيدنا ويقيمنا، ويخرج في طلبنا ويجمعنا ويدعونا بعذوبته: تعالوا إليَّ كلُّكم، يا تعبون وحاملو الأحمال الثقيلة فأريحكم" (مت 11: 28). فهو يطلب فقط أن نبيِّن الإرادة الصالحة لكي يكون الظفر لإرادتنا وهو يقوم أمامنا في كلِّ شيء. فمن يعطينا مثل هذا المعلِّم الصالح الذي يهب لنا النصر؟ فعند ملوك الأرض، حين ينتصر الجنود يُكتَب النصر لملوكهم، أمّا ملكنا الذي جعلنا ننتصر وهب النصر لنا. لنصلِّ إذًا بحيث إنَّ الذي انتصر وجعلنا ننتصر، يمنحنا أن ننتصر. فله المجد إلى الأبد. آمين" (ص 156-157).

ج- ميمر حول الخاطئة

نسب هذا الميمر إلى يوحنّا نفسه. أتُراه يوحنّا الذهبيّ الفم أم أسقف آخر باسم يوحنّا؟ مهما يكن من أمر، فنحن نقدِّم هذه العظة التي تصف حالة الخاطئة منذ مجيئها إلى يسوع حتّى القول الأخير حول رحمة يسوع التي تصل إلى الجميع.

في المقدِّمة (1-3) يطبِّق الواعظ نصًّا كتابيًّا (تث 32: 2) على الخاطئة في نسق ألِّيغوريّ:

1- المطر ينبت الزروع، والظلُّ يزيِّن الزهور، والرياح تجعل الأشجار تثمر. أمّا نعمة الله فتحيي الخطأة؛ فقد قال النبيّ: "كالمطر يفيض علمي وينزل كالطلِّ مقالي ومثل الرياح على العشب الأخضر.

2- كلُّ هذه المعجزة التي تكلَّم تحقَّقت عنها (النبيّ) تحقَّقت فعلاً في الخاطئة.

3- تلك التي كانت مثل سنبلة "مشوبة" ومثل زهرة محروقة ومثل غصن يابس، صارت في ساعة واحدة بحثان يسوع مثل حنطة سماويَّة وزهرة جميلة المنظر وغصن أفرخ ووهب ثمار التوبة.

ويأتي شرح الخبر كما نقرأه في لو 7: 36-50 في الأعداد التالية:

45 قبل أن تأتي الخاطئة قدّام ربِّنا، حسب الفرّيسيّ ربّنا مثل نبيّ، ولكن حين أتت الخاطئة وسقطت عند قدمي يسوع متوسِّلة، طالبة منه على خطاياها وجهالاتها، دعا ربُّنا سمعان الفرّيسيّ وقال له: كان لرجل مديونان: واحد له عليه خمسمئة دينار وآخر له عليه خمسون دينارًا.

46 فيسوع أراد أن يقول إنَّ الخاطئة مديونة بخمسمئة دينار والفرّيسيّ مديون بخمسين. ومن تعداد ذنوب الخاطئة عبَّرها إلى جانب اليمين، ومن تعداد ذنوب الفرّيسيّ جعله في جانب الشمال.

47 وقال يسوع للفرّيسيّ: "لماذا فكَّرت على الخاطئة أنّي لا أعرف من هي؟ فها أنا قلتُ لك عدد ذنوبها التي يُخفى حسابها عليك وعليها.

48 وإذ لم يكن لهذين المديونين أن يردَّا للربّ دينهما، رحمهما ربُّ الدين وترك للاثنين رأس المال والفائدة.

وفي يرد التطبيق العمليّ:

86 والله الذي وهب لها غفران خطاياها الكثيرة بتوبة ساعة واحدة هو يهب لنا ثواب الأعمال الحسنة في هذا االعالم وفي العالم العتيد.

87 إخوتي، أبواب حنان يسوع مفتوحة في كلِّ حين، وفي كلِّ حين تمدُّ الخطايا للمؤمنين لأنَّه هو من قال: اسألوا يُوهَب لكم" (مت 7: 7).

88 في هذه الخاطئة لنا عزاء كبير، فلا خلال أشهر ولا خلال سنين قرنت الطلبة إليه، بل ساعةً واحدة تابت على خطاياها وتوسَّلت، فأخذت غفران ذنوبها التي أذنبت من سنوات عديدة.

89 وعن هذه الخاطئة، أحبّائي، كُتب أنَّها وحدها قبلت تقبيلاً رجلي المسيح. ولكن ما كُتب أنَّها ذاقت جسده (في الإفخارستيّا).

90 وإن كانت قبلات هذه الخاطئة، في الإيمان، اقتلعت ورمت قلعة ذنوبها، فكم بالأحرى نحن الذين نقبِّله بحبٍّ ونأخذه (في التناول) بإيمان، نتنقّى من ذنوبنا وخطايانا ويُستجاب سؤلنا.

د- عظات في الأعياد

ترك الذهبيّ الفم عددًا من العظات على الأعياد الليتورجيَّة، وكان الجدال حول عظة في عيد الميلاد، تعود إلى 25 كانون الأوَّل 386 (الآباء اليونان 49: 351-362). هذه العظة تبيِّن أنَّ 25 كانون الأوَّل هو تذكار ميلاد الربّ، شمس العدل. يعلن فيه الذهبيّ الفم أنَّ هذا العيد وصل إلى معرفة شعب أنطاكية في السنوات العشر السابقة.

أوَّلاً: ميلاد الربِّ بالجسد

"على الولد العجيب أخذني فكري لأتكلَّم،

وعلى الابن المسجود له قبل الأزمنة والعوالم

يدفعني الحبُّ لكي أترجم

طلبتُ أن أتكلَّم عمّا يمنع الكلام فيه (ما لا يوصف)

وهمستُ إلى الصمت ليأتي بالكلام إلى لساني

أردتُ أن أبيِّن الخفيَّ بجلاء بواسطة مقال جليّ، يرنُّ في المسامع.

تلك عظة لم يذكر اسم قائلها. ورد في كتاب مار ملاطيوس عظة في ميلاد الربِّ بالجسد. بدايتها: "وُلد المسيح وضمَّ الأرضيّين إلى السماويّين، البشر إلى الملائكة يؤلِّفون أجواقًا، الرعاة يسهرون والمجوس يسجدون، السماء تلمع بالنور، والأرض تحمل ثمرة طيِّبة فوق المذود. وثمَّ ما قاله داود الحقُّ من الأرض نبت.

"أمّا الحقّ فهو المسيح الذي قال: أنا هو الطريق والحقّ. أمّا الأرض فهي البتول التي وُلد منها بالجسد. لذلك أسأل المجوس الذين هداهم النجم: إنَّهم كانوا يهتدون به للكشف عن الصبيّ، الذي كانوا يجدُّون في طلبه. ليس مثل بعض الناس الذين غشيت أبصارُهم فقالوا إنَّ النجم كان تائهًا، وإنَّ المجوس لم يكونوا حقًّا يبحثون عن الصبيّ. فكيف إذًا كان النجم تائهًا، أظهر المسيح وهو الحقُّ نفسه. فلمّا بلغ إليه توقَّف عن السير. وكيف إذا كان أولئك المجوس لم يقصدوه حقًّا، فكيف جاؤوا بتلك القرابين وقدَّموا له من أتعابهم التي تعلن عن لاهوته وناسوته. ويتمِّمون النبوءة: "يحيا ويُقدَّم له من ذهب شبأ". (حاشية 11، ص 26).

وفي عظة ثانية نقلها من السريانيَّة إلى العربيَّة مار ملاطيوس برنابا القسّ يوسف، نقرأ:

"أحبّائي، إنّي أرى علامة عجيبة، وأتطلَّع إلى سرٍّ رهيب: رعاة ترنُّ أصواتُهم في أذني. يتغنّون بلحن أرضيّ، ولكنَّهم يرتِّلون ترتيلاً سماويًّا.

"ملائكة يسبِّحون، ورؤساء ملائكة يرنِّمون. الكروبيم يمدحون والسرافيم يمجِّدون، جميعهم يعيِّدون. ينظرون إلى الأرض والإنسان في السماء. الذي في العلى نزل إلى الأرض للتدبير، والذي على الأرض صار في العلى بسبب اللطف الذي أحاط به...

"جاءت النساء إلى الذي وُلد من امرأة، لكي يحوِّل ضيق المرأة إلى فرج. جاءت العذارى إلى المولود من عذراء، متعجِّبات من الذي يُجري معين الحليب، ويجعل الثديين يفيضان حليبًا، فيقتبل المولود غذاء من الأمّ البتول.

"جاء الأطفال إلى الذي صار طفلاً، لكي من فم الأطفال والرضَّع يهّيئ تسبيحًا. الصبيان جاؤوا إلى الذي كمَّل الأطفال الشهداء بإثم هيرودس. جاء الرجال إلى الذي تجسَّد وشفى ذرّيَّة آدم. جاء الرعاة إلى الراعي الصالح الذي يبذل نفسه عن رعيَّته. جاء الكهنة إلى الذي صار رئيس كهنة على رتبة ملكيصادق. جاء العبيد إلى الذي اتَّخذ مقال عبد لكي يوقِّر عبوديَّتنا بالحرِّيَّة. جاء الصيّادون إلى صيّاد الصيّادين، الذي جعل صيّادي السمك صيّادي للناس. والعشّارون جاؤوا إلى الذي جعل من العشّارين إنجيليّين" (حاشية 11، ص 30-31).

ثانيًا: في عيد الشعانين

"أحبّائي، كيف تقبَّلتم الخبر حول رواية أليعازر، وكيف فهمتهم الشرح حول قيامة الموتى؟ بالشدَّة أكملنا الخبر، لأنَّنا أطلنا الكلام بلا قياس (ܟܝܠܐ). أمسكنا الخبر في مدى كبير لا لأنَّه صعب عليكم. فأنا أعرف أنَّ أرضكم حين تتقبَّل مطرًا قليلاً تخرج من كلِّ جوانبها الثمار الكثيرة والغزيرة.

ويواصل يوحنّا الكلام:

"اليوم ينبغي أن نتكلَّم عن عيد الهوشعنا المقدَّس. وهذا الكلام يتوجَّه إلى جميع المؤمنين: فالخبر انتشر في الشرق والغرب، في الشمال والجنوب.

"في البارحة، كنّا وحدنا نتكلَّم على قيامة الموتى: اثنان، ثلاثة عشرة أو عشرون. أمّا اليوم فهذا العيد عامّ، والمائدة مهيَّأة من أجل جميع المؤمنين. لهذا نترك الآن كلامنا على قيامة الموتى ونتكلَّم عن هذا العيد. فينبغي أن نتمَّ ما هو خاصّ بكلِّ عيد".

منذ سنة 1961 تكلَّم المونسنيور جوزيف ماري سوجيه (كان أستاذنا في غزير) حافظ المكتبة الفاتيكانيَّة عن مجموعة مواعظ في المكتبة الفاتيكانيَّة، وأشار إلى عظة حول الشعانين، نُسبت إلى يوحنّا أسقف القسطنطينيَّة. وُجدت في مخطوطين (فاتيكان 368، 369). وتعرَّف إلى هذه العظة وليام رايت في المخطوط البريطانيّ 1265. ثمََّ وُجدت ثلاثة شهود: دمشق 12/20؛ دمشق 12/19؛ شيكاغو 12008. ذكرنا كلَّ هذه المخطوطات التي يعود أقدمها إلى القرن الثامن، لندلَّ على مدى انتشار مثل هذه العظات في الأديار، بشكل خاصّ.

ويشرح يوحنّا العيد:

"العيد اليوم يُدعى عيد الهوشعنا (= الشعانين). نترجم: عيد التسابيح. فقد تقول، يا أخي، لماذا تكون الشعانين قريبة من التسابيح؟ ولكنّنا نفسِّر لك الكلمة ونبيِّنها نوضحها.

"هذا العيد هو بلا شكّ عيد التسابيح. ولماذا أقول هذا؟ لأنَّ كلَّ طريق دخول ربِّنا إلى أورشليم مُدح بالتسابيح ومُجِّد بالهتافات، ومُجِّد بالتهاليل. وصعدت التهاليل من الأولاد الأنقياء الذين ليس فيهم غشّ ولا وصمة.

"هذا العيد هو عيد التسابيح لأنَّ عارفي التسابيح رفضوا أن يسبِّحوا والذين ما تعلَّموا بعدُ أن يتكلَّموا ملأوا الطريق بالتسابيح.

"حين دخل ربُّنا إلى أورشليم من أجل حاش (ܚܫܗ) الصليب، خرج جمع الأولاد الصغار للقائه، وقطعوا أغصانًا من الزيتون. وأخذوا أوراق النخل وسبَّحوا قدّامه وزعقوا: "مبارك ذاك الآتي باسم الربّ هوشعنا في الأعالي. هوشعنا لابن داود الذي يُترجَم: مزمور تسبحة لابن داود الذي هو في العلاء عن يمين أبيه" (حاشية 34، ص 160-161).

الخاتمة

حين قرأنا يوحنّا الذهبيّ الفم في السريانيَّة، تعرَّفنا إلى آثاره في الأديار المختلفة، الباحثة عن غنى روحيّ ينسى الجدالات اللاهوتيَّة أو الكتابيَّة. وهكذا يتميَّز الذهبيّ الفم عن تيودور المصيصيّ مثلاً، الذي تبنّاه النساطرة، فدعوه المفسِّر بدون منازع ونقلوا آثاره إلى لغتهم. وكذا نقول عن فيلوكسين المنبجيّ وسويريوس الأنطاكيّ بالنسبة إلى السريان الذين دُعوا فيما بعد "يعاقبة". فالذهبيّ الفم هو صاحب التفسير البيبليّ في خطِّ مدرسة أنطاكية. والواعظ الخلقيّ الذي ينبِّه المؤمنين وبالأحرى الرهبان إلى واجبات الحياة المسيحيَّة فذاك الذي اعتُبر طبيب النفوس، نقله الرهبان إلى إخوتهم علَّه يشفيهم جميعًا، وينبِّههم إلى ما يمكن أن يكون في حياتهم من أنانية وكبرياء وروح الزنى وعدد من الرذائل. فمن يقرأ عظات يوحنّا يحسُّ بالنعمة تلامس قلبه، فلا يمكن إلاّ أن يعود إلى متطلِّبات دعوته الكهنوتيَّة والرهبانيَّة. من أجل هذا نُقلت "عظات" يوحنّا بشكل خاصّ، ونُقل كتاب الكهنوت وغيره من الكتب ولاسيَّما حول "لاإدراكيَّة الله". فالمؤمن في العالم السريانيّ يعرف أنَّه لا يتحرّى الله ولا يبحث عنه، بل يترك الصمت يدخل في قلبه ليتأمَّل في ذاك الذي لا تصفه العقول ولا تدركه الأذهان. ذاك هو خطُّ أفرام السريانيّ الذي قال في الدياتسّارون: "ربِّ من يستطيع أن يفهم كلَّ كلمة؟ إنَّ ما نفهمه منها لأقلّ كثيرًا ممّا يفوتنا".



 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM