الزواج والبتوليَّة عند يوحنّا الذهبيّ الفم.

الزواج والبتوليَّة عند يوحنّا الذهبيّ الفم

الخوري بولس الفغالي

"بفضل الصليب تُزاحم الطبيعةُ البشريَّة الوضع الملائكيّ. بفضل الصليب أقامت البتوليَّة على الأرض. فبعد أن جاء إلى العالم الابن الذي وُلد من عذراء، عرف الإنسان طريق هذه الفضيلة". ذاك ما قاله الذهبيّ الفم، في إحدى عظاته، وأضاف في كلامه "حول التكوين": إنَّ الذين نالوا ميراث البتوليَّة حبًّا بالمسيح يعيشون على الأرض ويرتبطون بجسد. فيقتدون بحياة الملائكة". تلك وجهة من الحياة المسيحيَّة، وتقابلها وجهة ثانية تتحدَّث عن الزواج. "قلت لكم البارحة، ليجعل كلّ واحد منكم من بيته كنيسة". وحين قلتُ هذا، أطلقتم الهتافات الكبيرة التي تدلُّ على البهجة التي أحسستم بها بسبب هذه الأقوال" (الينابيع المسيحيَّة 433، ص 33)

وهكذا يكون كلامنا في هذه المداخلة على موضوعين اثنين: البتوليَّة من جهة، والزواج من جهة ثانية بما فيه كلام عن الترمُّل والزواج مرَّة ثانية.

1- البتوليَّة

حين عاد يوحنّا من عزلته في الجبال المجاورة لأنطاكية، أحسَّ بالاندفاع نحو الحياة الرهبانيَّة. وبعد أن رُسم شمّاسًا سنة 381، وكاهنًا سنة 386. كانت له مقالات يردُّ فيها على الذين يحاربون الحياة النسكيَّة. في هذا الجوّ دوَّن الذهبيّ الفم مقاله في البتوليَّة وإليه أشار في العظة التاسعة عشرة حول الرسالة الأولى إلى الكورنثيّين. قال: إن كنّا تركنا جانبًا ما يليق أن نقول بهذه الفضيلة (= البتوليَّة)، فلا يتَّهمنا أحد بالإهمال. فقد ألَّفنا كتابًا كاملاً في هذا الموضوع بالعناية التي في وسعنا. لهذا حسبنا أنَّه من النافل أن نعود اليوم إليه. ولهذا نحيل إليه قرّاءنا"

أ- مضمون الكتاب

توخّى يوحنّا الذهبيّ الفم في كتابه حول البتوليَّة أن يبيِّن كرامة البتوليَّة وسموَّها. قال: "هل ترى كرامة البتوليَّة؟ هي تعطي الذين يعيشون على الأرض، ظروف الحياة عينها التي ينعم بها سكّان السماوات. ما أرادت لكائنات ارتدوا جسدًا أن يكونوا أدنى من قوّات لاجسديَّة، ومع أنَّهم أناس، فهم يزاحمون الملائكة".

وفي معرض الشرح للرسالة الأولى إلى أهل كورنتوس، والكلام عن الهمّ يقول: "كيف تريد أن نكون في منأى عن الهمّ، إذا كنت تفرض علينا همًّا آخر؟ لأنَّ ليس هذا همًّا، كما أنَّ الألم من أجل المسيح ليس ألمًا. هذا لا يعني أنَّ طبيعة الأشياء تبدَّلت، بل أنَّ عزيمة الذين يتحمَّلون هذه الأحزان بفرح، تتيح لنا أن ننتصر حتّى على الطبيعة. من اهتمَّ بهذه الأشياء التي يكون التنعُّم بها قصدًا، ومرّات عديدة لاموجودة، يستأهل بحقّ اسم قلق. أمّا الذي يقطف من هذه الهموم خيرات تعوِّض عليه تعويضًا، فمن المنطق أن نجعله حقًّا، كما أظنّ، بين الذين هم في منأى عن القلق. ثمَّ إنَّ هذا الاختلاف بين الشكلين من القلق كبير، بحيث إنَّ المقابلة بين الأوَّل والثاني لا يتستأهل اسم القلق، لأنَّه أخفّ من الآخر ويمكن أن يحتمل في أيِّ مجال. كلُّ هذا بيَّنّاه سابقًا: "الإنسان غير المتزوِّج يهتمُّ بأمر الربّ. والإنسان المتزوِّج يهتمُّ بأشياء الدنيا" (1كو 7: 32). ولكنَّ الدنيا ماضية والله باق.

"أما يكفي هذا السبب نفسه لكي نبيِّن كرامة البتوليَّة السامية؟ فالمسافة بين الله والعالم تقابل سموَّ هذا الهمّ بالنسبة إلى الآخر. إذًا، كيف تستطيع أن تسمع بالزواج الذي يربطنا بالهموم ويبعدنا عن الأمور الروحيَّة. لهذا أعلنتُ كما يقول الرسول: "فالذين لهم نساء كما لو لم يكن لهم" (1كو 7: 29). والذين قُيّدوا أو سوف يقيَّدون، يجعلون قيدهم متراخيًا بوسيلة أخرى من الوسائل" (البتوليَّة، ص 356-357).

نشير إلى أنَّ يوحنّا لم يكن وحده في معالجة هذا الموضوع. في الشرق، غريغوار النيصيّ كتبَ عن البتوليَّة سنة 371. فتأسَّف أن تكون التبوليَّة قد أضحت خطبة من أجل الدعاية، وأن تخدم مثلُ هذه الفضيلة الكاملة طموحَ خطباء يجدون نجاحًا سهلاً حين يعالجون هذا الموضوع فيدلُّون على فصاحتهم. ونقول الشيء عينه عن الغرب حوالي سنة 380: كان جدال حادٌّ حول كرامة البتوليَّة، كما قابلوها بكرامة الزواج. فدافع بعضهم عن تفوُّق الزواج على البتوليَّة. فجاء ردُّ القدّيس جيروم عنيفًا.

هي حركة كبيرة وُلدت في جوّ من الحرارة النسكيَّة، في الأزمنة الأولى من الكنيسة، وازدهرت في قلب القرن الرابع مع الحياة الرهبانيَّة. أمّا الأساس البييبليّ فهو الفصل السابع من الرسالة الأولى إلى كورنتوس، حيث يتحدَّث الرسول عن المساواة التامَّة بين الرجل والمرأة في الزواج المسيحيّ. بانتظار دراسة الحالات المختلفة من التكريس للربّ، ولاسيَّما لدى الأرامل.

في هذا الكتاب، يتقاطع موضوعا البتوليَّة والزواج. غير أنَّنا نستطيع أن نميِّز ثلاثة عناصر. الأوَّل، جزء دفاعيّ وعماديّ. والثاني هو تأويل النصّ البولسيّ. والثالث هو جزء خلقيّ ينطلق من بولس أيضًا ليمتدح البتوليَّة ويبرز غموم الزواج.

ب- ملاحظات عامَّة حول البتوليَّة (ف 1-24)

بدا الذهبيّ الفم فردَّ على العذارى الضالاّت، كما ردَّ على محتقري الزواج. هي في الواقع بدعة المتعفِّفين التي برزت في ثلاثة أشكال. الأولى، العذراء الضالَّة تتبع إبليس، وتقف في وجه الله فتعيش حالة من الخطيئة. تتوقَّف عند الخارج وتنسى الداخل: فما قيمة لباس وضيع بسيط إن كانت النفس منجَّسة.

"احتقر اليهود جمال البتوليَّة، ولا عجب في ذلك بعد أن عيَّروا المسيح نفسه المولود من عذراء. أمّا اليونانيّون فأعجبوا بها وأكرموها. ولكن تفرَّدت الكنيسة وحدها في الغيرة عليها. فالعذارى الضالاَّت لا أستطيع أنا يومًا أن أدعوهنَّ عذارى. أوَّلاً، لأنَّهنَّ لسن عفيفات: ما خُطبن لعريس واحد، كما يقول رسول المسيح حين يقول: "خطبتكم لعريس واحد، لكي أقرِّبكم للمسيح مثل عذراء عفيفة" (2كو 11: 2). فمع أنَّ هذا القول قيل عن ملء الكنيسة، إلاَّ أنَّ العبارة تعني العذارى أيضًا. إذًا، هؤلاء النسوة لا يكتفين بهذا العريس الواحد، بل يُدخلن عريسًا آخر ليس الله. فكيف يمكن أن يُحسَبن عفيفات؟

"ذاك هو السبب الأوَّل الذي لأجله لا يمكن أن يُدعَين عذارى. وإليك السبب الثاني: إنَّهنَّ يُفسدن الزواج. بحيث يأتي يوم يمتنعن عن الزواج. وإذ يُعلنَّ كمبدأ بأنَّ هذه الحالة شرّ، يحرمن أنفسهنَّ مسبقًا من غنائم البتوليَّة. فمن امتنعت عن الشرّ، لا تقدر أن تطالب بالإكليل على أنَّه حقٌّ لها، بل يعني أنَّها بمنأى عن العقاب. (البتوليَّة، ص 92-95).

ثمَّ إنَّ العذراء الضالَّة تحكم على الزواج بذريعة أنَّ المادَّة شرّ. مثل هذا الوضع تجديف على عمل الله، في خطِّ البدعة المانويَّة. وهكذا يحكم يوحنّا على العذراء التي تبدي ازدراء بالأشخاص المتزوِّجين، فيقول:

"خشن الثوب. ولكنَّ البتوليَّة لا تقوم في اللباس ولا في سحنة الجلد، بل في النفس والجسد. أما يبدو ذلك عبثًا. فنحن لا نحكم على الفيلسوف انطلاقًا من شعره، ولا من عصاه، ولا من خُرجه، بل من سلوكه ونفسيَّته. ولا نحكم على الجنديّ، انطلاقًا من معطفه ولا من حمّالة سيفه، بل من قوَّته وشجاعته. والصبيَّة التي هي موضوع عجيب يتجاوز كلَّ ما هو بشريّ، هل ننسب لها صفة عذراء (أو: بتول) من أجل شعرها المهمَل وعينيها الحانيتين وثيابها السوداء، من أجل هذه الأسباب السطحيَّة التوابع؟ بل نعرّي نفسها ونبحث  بدقَّة، عن استعداداتها العميقة.

"ولكنَّ الذي وضع نواميس هذا السباق لا يسمح بذلك فهو لا يريد من الذين ينزلون إلى هذا القتال، أن يُحكم عليهم بثيابهم، بل بيقيناتهم ونفسيَّتهم. قيل: "فالذي يسابق، يفرض على نفسه كلَّ أنواع الامتناع" (1كو 9: 25) عن كلِّ ما يحوِّل صحَّة نفسه. وأيضًا: "ما من أحد ينال الإكليل إن لم يقاتل بحسب القواعد" (2تم 2: 5). ولكن ما هي قواعد هذا السباق؟ فاسمع أيضًا أقواله (= أقوال بولس) أو بالأحرى المسيح الذي أسَّس هذا القتال: "لكي تكون البتول مقدَّسة جسدًا وروحًا" (1كو 7: 34). وأيضًا: "الزواج مكرَّم. والسرير الزوجيّ خالٍ من النجاسة" (عب 13: 4) (البتوليَّة، ص 112-115).

نلاحظ التوازن بين الزواج والبتوليَّة. فالزواج مقدَّس شأنه شأن البتوليَّة، ولا تفهم الصبيَّة معنى البتوليَّة، إذا كان فهمها للزواج خاطئًا. ويتابع يوحنّا:

"وتأتي واحدة فتقول: ماذا يعنيني من كلِّ ذلك وأنا قلت للزواج: وداعًا. ولكن هذا، أيُّها التعيسة، هذا ما أضلَّك حين تصوَّرتِ أنَّ لا علاقة لك بالتعليم عن الزواج. وهكذا حين تتعاملين باحتقار كبير تجدِّفين على حكمة الله وتفترين على الخليقة كلِّها. إذا كان الزواج أمرًا نجسًا. فجميع الخلائق التي يلدها نجسة. وأنتِ أيضًا نجسة، حتّى لا نقول الطبيعة البشريَّة (نجسة). فكيف يمكن أن تكون عذراء تلك التي هي نجسة؟ فهذا نوع ثانٍ أو بالأحرى نوع ثالث من الفساد والنجاسة تتخيَّلين أنتِ التي هربت من الزواج على أنَّه نجاسة، صرتِ، في هربك، أنجس ما في الكون وجعلت التبوليَّة أكثر كرهًا من الزنى" (ص 114-115).

فالعذراء الحقيقيَّة هي التي عرفت ما هو الزواج، واختارت البتوليَّة. لأنَّ البتوليَّة ليست هربًا من العالم، بل التزامًا بأمور العالم باسم الربّ الذي صارت البتول عروسًا له. ولكنَّ ضلال الفتاة العذراء يحيِّر يوحنّا: أين يضعها؟

"إذًا، في أيِّ مكان أجعلك؟ إلى جانب اليهود؟ هم لا يتحمَّلون ذلك، لأنَّهم يكرِّمون الزواج ويندهشون أمام خليقة الله. هل أقبلك في صفوفنا؟ ولكنَّك ترفضين سماع كلمة يسوع بفم بولس: "الزواج مكرَّم على الجميع، والسرير الزواجيّ خالٍ من النجاسة" (عب 13: 4). فلا يبقى حينئذٍ سوى أن أجعلك مع اليونانيّين: ولكن هم أيضًا يرذلونك على أنَّك أكثر شرًّا منهم. فأفلاطون مثلاً قد أعلن: "ذاك الذي صنع هذا الكون هو صالح". ثمَّ: "وما من حسد يُولَد أبدًا في أيِّ شخص، في من هو صالح". وأنت تقولين إنَّه شرّير وصاحب أعمال شرّيرة. ولكن لا تخافي: لك من يقاسمك هذا التعليم، إبليس وملائكته، أو بالأحرى كلاّ. لا ملائكته الذين ألهموك مثل هذا الجنون. فلا تظنّي أنَّهم يحسّون بمثل هذه العواطف. هم يعرفون حسنًا أنَّ الله صالح. اسمعيهم يهتفون هنا: "نعرف من أنت: قدّوس الله" (مر 1: 24). وهناك: "هؤلاء الرجال هم خدّام الله العليّ، الذين يبشِّرونكم بطريق الخلاص".

"فهل تستمرّين بعدُ وتحدّثينا عن البتوليَّة وتجعلين منها مضوعوع افتخار لك؟ أما يجب عليك بالأحرى أن تبكي على نفسك وتندبي الجنون الذي أتاح لإبليس أن يقيِّدك مثل الأسرى ويجرّك إلى نار جهنَّم؟ لست متزوِّجة؟ هذا لا يكفي لكي تكوني بتولاً. أمّا أنا فأدعو "بتولاً" تلك التي رفضت أن تتزوَّج بملء حرِّيَّتها. ولكن إن جعلت من الزواج أمرًا محرَّمًا، لم يعُد عملك الصالح اختيارًا من قبلك، بل طاعة للناموس مكرهة...

"وبحسب الكلام عينه، نتفحَّص أيضًا مسألة الزواج. بما أنَّ هذا الاتِّحاد مسموح به عندنا جميعًا، نكون نحن على حقّ حين نُعجَب بالذين لا يتزوَّجون. أمّا أنت يا من تجعلين الزواج بين أكبر الخطايا، فلا تنتظري مديحًا بسبب عفَّتك. فالامتناع عمّا هو محرَّم ليس علامة نفس سخيَّة، حارَّة. فالفضيلة الكاملة لا تقوم في أن نتجنَّب الأعمال التي تجعل الكلّ يحكمون علينا. بل تقوم في أن نميِّز بسلوك نستطيع أن نمتنع عنه دون أن نتعرَّض للاستهجان...". (البتوليَّة، ص 114-119).

وكما هاجم يوحنّا محتقري الزواج، هاجم محتقري البتوليَّة التي هي نقاوة النفس والقلب. وتوقَّف بعض الشيء عند نوايا القدّيس بولس في كلامه إلى الكورنثيّين، فشرح تحفُّظاته في ما يخصُّ البتوليَّة، وتسامحه تجاه المتزوِّجين. ثمَّ ردَّ على اعتراضين: الأوَّل، إذا كان حسنًا أن نعيش العفَّة، فلماذا دخل الزواج في حياتنا؟ فأجاب: حسب سفر التكوين سبقت البتوليَّة الزواج الذي خُلق بعد الخطيئة وظهور الشهوة، بحيث يكون كابحًا لها. والاعتراض الثاني: هل يتواصل الجنس البشريّ أم يضمحلّ حين يعيش البتوليَّة جميع الرجال وجميع النساء؟ أجاب: لا قيمة لهذا الكلام. فالله قادر أن يجعل الجنس البشريّ يتواصل بواسطة أخرى غير الحبل، كما هو الأمر بالنسبة إلى أبوينا الأوَّلين، إلى الملائكة، إلى رؤساء الملائكة.

ج- شرح رسالة القدّيس بولس الأولى إلى أهل كورنتوس (7: 1-27) (ف 25-50).

أوصى بولس الرسول بالتبوليَّة، وبدا وكأنَّه يتساهل بالنسبة إلى الزواج. غير أنَّ تسامحه في أمر الزواج، أمر ظاهر، لأنَّه يمتدح ضمنيًّا النفوس المدعوَّة إلى فضيلة أسمى، كما يعود مرارًا إلى حالة الاستبداد للزواج بحيث يبعد سامعيه. إذًا، لا يمكن الزواج إلاّ أن يكون ملجأ النفوس الضعيفة.

أمّا الموازاة بين الحالتين فتعطي الأفضليَّة للبتول: كلُّ ما يقدِّمه الزواج، هو أن يجنِّب المسيحيّ نجاسة الزنى. فالبتوليَّة وحدها تخلق قدّيسين. "صُنع القدّيسين هو في سلطان البتوليَّة، لا في سلطان الزواج".

وإن مارس الزوجان العفَّة للتفرُّغ للصلاة، فالزواج يحمل أكثر من مناسبة لأن يهمل الإنسان الله. ولكن بالنسبة إلى المسيحيّ، يجب أن نفكِّر في كلِّ شيء بالنظر إلى علاقاتنا بالله. وإذا كان الإنسان اللامتزوِّج يهتمُّ بأمور الله، فالإنسان المتزوِّج يهتمُّ هو بأمور العالم. ذاك هو كلام الرسول في 1كو 7. والذهبيّ الفم يشرح هذا الكلام ويطبِّقه على الواقع اليوميّ:

"لماذا يشير بولس إلى نفسه في هذا الموضع فيقول: أودُّ أن يكون الجميع مثلي". فإنَّه إن لم يُضف هذا الكلام: "ولكن كلُّ واحد ينال موهبة خاصَّة" (1كو 7: 7) لحسبناه متشامخًا. إذًا، لماذا أضاف "مثلي"؟ لا ليُبرز شخصه. فهو الرجل الذي تجاوز الرسل في أعمال الكرازة، ومع ذلك حسب نفسه غير أهل لاسم رسول! فبعد أن قال: "أنا أصغر الرسل" (1كو 15: 9)، وكأنَّه تفوَّه بكلام يتجاوز أيضًا استحقاقاته، استعاد كلامه سريعًا وقال: "أنا من لا أستحقُّ أن أُدعى رسولاً". فلماذا أضاف في هذا النصّ مثَله إلى إرشاده؟ لم يكن هذا بلا هدف ومن قبيل الصدف: فقد عرف بالنسبة إلى التلاميذ، أنَّ أفضل محرِّك إلى الخير هو المثل الذي يأخذونه من معلِّميهم..." (البتوليَّة، ص 208-209).

وهكذا قدَّم بولس نفسه مثلاً لكي يوصي بالعفَّة. قال: ممارسة العفَّة ليست بصعبة، كما يظنّون عادة. تكفينا إرادتنا الصالحة لكي نسمع نداء الله، ومجهودنا الشخصيّ لكي نجعل هذه النعمة تثمر في نفسنا. وفي إطار الرسالة الأولى إلى كورنتوس (ف 7) يوصي الرسولُ الأرامل بالعفَّة، بسبب النتائج الكارثيَّة التي يجلبُها الزواج الثاني. ومع ذلك، هناك رجال يفضِّلون هذا الوضع المزعج، لأنَّهم يريدون بهذه الوسيلة، أن يتجنَّبوا خطيئة الزنى. ويرى يوحنّا في هذه الوسيلة دلالة على الضعف. "أمّا البتول فما أحسَّت بدوار أمام هذا القتال، وما تهرَّبت من الصدمة التي تبدو لامحتملة لدى الناس العاديّين. فقد ثبتت في شجاعتها، وقبلت القتال الذي تفرضه الطبيعة" (ص 222-223). وهكذا لبثت طاهرة، مقدَّسة.

ولكن هل فُرض على الصبيَّة أن تتخلّى عن الزواج؟ كلاّ. وكذا نقول عن الأرملة. أمّا البتوليَّة فلا يمكن أن تكون فريضة، بل هي حالة يتمنّاها المسيحيّ الذي يطلب القرب من الله. وذلك بسبب استبداد الهموم الزمنيَّة التي تهاجم الإنسان المتزوِّج، ولاسيّما ما يسبِّبه له أولاده وزوجته.

د- النتائج الخطرة للزواج وامتداح البتوليَّة (ف 51-72)

وطرح يوحنّا سؤالاً أوَّل: هل نستطيع الكلام عن أفراح الزواج؟ وكان الجواب: المسرّات البسيطة التي يمنحها الزواج هي بسيطة مقابلة بالهموم التي يجلبها. والسؤال الثاني: أما يكدِّس الزواج العوائق أمام السعادة؟ وجاء الجواب: الحسد والغيرة لدى الرجل والمرأة. ثمَّ الصعوبات المرتبطة بالزواج منذ الخطبة حتّى موت الزوجين. ثمَّ، وإن كان الزواج ناجحًا كلَّ النجاح، فجميع خيرات الأرض ليست بذات قيمة في نظر الله.

"نترك هذا جانبًا، ونتجنَّب الصعوبات المتعلِّقة بالزواج، والتي لا نستطيع أن نتخلَّص منها سواء شئنا أو أبينا. وما هي هذه الصعوبات؟ عذابات الحمل والولادة والأولاد. بل نستعيد بالأحرى الأمور منذ البداية، فنتعلَّم عمّا سبق الزواج... وصل وقتُ الخطبة، فجاءت في الحال هموم من كلِّ لون، بصفوف متراصَّة: أي زوج لها؟ أما يكون من حالة وضيعة، من صيت رديء؟ بليد، شرّير، متخنِّث، فظّ الطباع..." (306-309).

ويعدِّد يوحنّا الصعوبات: دفع المهر، الخوف من العقم، وإن حبلت هناك خوف من الإجهاض وطرح الجنين. والولد الذي يُولَد، كيف يكون؟ وما هي الأخطار التي ترافقه. وإن عاش الزوجان متحابّين، فالخوف يمتلكهما أمام موت واحد منهما. ويستنتج الذهبيّ الفم، وكأنَّه يحاول أن يبعد الرجل والمرأة عن الزواج. فخبرته مع والدته التي ترمَّلت وهي في العشرين من عمرها. وخبرته حين أقام في الجبال المجاورة لأنطاكية، حيث لا همَّ له سوى مناجاة ربِّه، واستحفاظ الكتب المقدَّسة. وفي أيِّ حال، تبقى نظرة يوحنّا تشاؤميَّة فيقول: "لو نجا الزواج من كلِّ هذه الصعوبات، فهو لا يحمل في ذاته شيئًا عظيمًا.

"نترك جانبًا كلَّ هذا، إذا شئت، ونفترض المستحيل، فنمنح الزواج أن يضمَّ في ذاته كلَّ ظروف السعادة: أولاد عديدون، جميلون. المال. امرأة حكيمة، جميلة، فهيمة. توافق تامّ، شيخوخة طويلة". ويزيل يوحنّا كلَّ العوائق وينتهي بالسؤال التالي: "وما هي النتيجة؟ وأيُّ نفع يستخرجون من مسرَّة تامَّة حين ينطلقون إلى العالم الآخر؟... ما الذي يفيدنا كلُّ هذا في الدينونة تجاه الأمور الأزليَّة والحقيقيَّة. كلُّ هذا كان ظلاًّ، حلمًا.

تجاه ذلك تقف البتول: لا حاجة للاستعلام عن عريس، فلا تخاف أن يخدعها، هو الله، لا رجل من الرجال. هو السيِّد لا رفيق العبوديَّة. "إن كانت المتزوِّجة تخاف الموت لأنَّه يفصلها عن رفيقها، فالبتول ترغب في الموت لأنَّها معجِّلة لكي ترى عريسها وجهًا لوجه وتنعم بهذا المجد".

هـ- شرح بولس في 1كو 7: 28ي (ف 72-84)

إنَّ اقتراب الدينونة يجعل الزواج لامناسبًا: فالزمن الباقي قصير: لنفكِّر كيف نمثل أمام الديّان الرهيب، ولنتحرَّر من غنى هذا العالم وملذّاته وخيراته. أجل، الزمن الحاضر ليس زمن الزواج. كتب بولس رسائله الأولى، وفكرة مجيء الربِّ القريب ماثلة أمام عينيه. وتبعه يوحنّا في هذا المجال. فقال:

"وقد يأتي اعتراض: أيُّ علاقة لكلِّ هذا بالزواج؟ بالتأكيد علاقة وثيقة. فإن كان الزواج لا يتجاوز حدود الحياة الحاضرة. وإن كانوا في الحياة المقبلة لا يزوِّجون ولا يتزوَّجون (مت 22: 30)، وإن كان الزمن الحاضر قد وصل إلى النهاية ويوم القيامة على الباب، فليس الزمن هذا زمن تفكير في الزواج وفي خيرات هذا العالم، بل في فقرنا وفي سائر عناصر الحكمة التي تكون مفيدة لنا في العالم الآخر...

"لقد اتَّحدنا نحن أيضًا بعريس يطلب منّا مثل هذا الحبّ، بحيث نضحّي من أجله، لا بأمور الأرض فقط، ولا بهذه الأشياء التي لا قيمة لها ولا ثمن وحسب، بل بحياتنا كلَّها إذا دعت الحاجة. إذًا، بما أنَّه ينبغي علينا أن نترك هذا البيت إلى بيت آخر، نتحرَّر من هذا الهمّ الباطل...

"عندئذٍ، أيُّ صلاح في الزواج لأناس لن يستفيدوا منه، فيجدون نفوسهم وكأنَّ لا نساء لهم؟ وإيُّ صلاح في الثروة، وأيُّ صلاح في الممتلكات، وأيُّ صلاح في خيرات هذه الحياة، إذا كان استعمالها منذ الآن لامناسبًا وفي غير محلِّه؟... (البتوليَّة، ص 350-353).

فإذا كان لنا ما نهتمُّ به، فأمور الربِّ والعيش مع الزوجة وكأنَّ لا زوجة لنا. ولكن يبقى هذا السلوك بعيدًا عن كلِّ إكراه: فالله لا يضع حبلاً في عنقنا، بل يدعونا إلى البتوليَّة بملء حرِّيَّتنا. وهكذا فالمرأة التي تهتمُّ بالأمور الزمنيَّة لا يمكن أن تكون بتولاً.

"حين تكون البتول مثقلة هي أيضًا بالاهتمامات والمشاغل الزمنيَّة، لا سمح الله، ينتزعها الله من جوقة العذارى. لأنَّه لا يكفي أن تكون الفتاة لامتزوِّجة لكي تكون بتولاً. فهي تحتاج أيضًا إلى عفَّة النفس. وأعني بالعفَّة بأن تكون طاهرة من كلِّ همٍّ زمنيّ، لا أن تكون فقط خالية من الرغبة الشرّيرة والمشينة، من الزينة والمشاغل التافهة. فبدون ذلك، أيُّ صلاح في طهارة الجسد؟ كما أنَّ العار كلَّ العار يقع على الجنديّ الذي يرمي سلاحه ليقضي وقته في الحانات، كذلك ما من شيء مشين مثل رؤية عذارى مقيَّدات بالانشغالات الزمنيَّة. فالعذارى الخمس امتلكن المصابيح ومارسن البتوليَّة (مت 25: 10). ولكنَّهنَّ ما استفدن شيئًا. فالباب لبث مغلقًا أمامهنَّ، فلبثن في الخارج وهلكن. أجل، ما يجعل البتوليَّة جميلة، هي أنَّها تلغي كلِّ مناسبة انشغال باطل، وتقدِّم الوقت الكامل للاهتمام بأعمال الله. وإلاّ صارت أدنى من الزواج، لأنَّها تغطّي النفس بالشوك، وتخنق الزرع الطاهر والسماويّ" (البتوليَّة، ص 366-368).

2- الزواج

"ويقولون لي: أنت أما تمنع الزواج؟ فأجيب: لا سمح الله أن أشارك في هذه الجهالة؟ - إذًا، لماذا تحثُّنا الآن على البتوليَّة؟ - لأنّي أظنُّ أنَّ البتوليَّة أرفع كرامة من الزواج. هذا لا يعني مع ذلك، أنّي أضع الزواج مع الأمور الرديئة. بل أمتدحه بحرارة: فهو للذين يبغون استعماله حسنًا، ميناء العفَّة، ويضبط حيوانيَّة الشهوة. هو مثل سدّ، يرفع أمامنا الاتِّحاد الشرعيّ حيث تتحطَّم أمواج الشهوة، ويمنحنا هكذا الهدوء والطمأنينة. ولكنَّ هناك أناسًا لا يحتاجون إطلاقًا إلى هذه الحماية، فيُحلّون محلَّها الأصوام والسهر والتقشُّف وسائر أشكال النسك لكي يكبحوا طبيعتهم المجنونة، هؤلاء أحثُّهم على ألاَّ يتزوَّجوا، ولكن لا أمنع عنهم الزواج" (البتوليَّة، ص 120-121).

للوهلة الأولى نحسُّ وكأنَّ الذهبيّ الفم يحرِّض الناس على الابتعاد عن الزواج. وإن هو سمح به، فلأنَّه يمنح الأمان والطمأنينة. فالزواج ملجأ آمنُ من البتوليَّة ضدَّ الشهوة. فحين تلتهب الرغبة بسبب الحرمان، فالزوجان يستطيعان بشكل شرعيّ أن يُطفئا هذه الرغبة التي تحرَّكت فيهما. في هذا المجال كتب يوحنّا:

"تورَّع بولس أن يفصل الزوجين مدَّة طويلة في الزواج، لئلاّ يجد إبليس مدخلاً إلى نفسيهما. ومقابلهما استحقَّت الأكاليل نساء لم يحتجن إلى هذا التشجيع فلبثن منيعات حتّى النهاية. ومع ذلك، فالشيطان لا يلجأ إلى المناورات عينها تجاه هذه أو تلك. لا يهاجم المتزوِّجات لأنَّه يعرف أنَّ لهنَّ ملجأ قريبًا. فحين يرين هجومًا عنيفًا، يستطعن اللجوء حالاً إلى الميناء: فبولس الطوباويّ لا يتركهنَّ بعيدًا في البحر، بل يحثُّهنَّ على العودة حين يشعرن بالتعب ويدعوهنَّ للرجوع إلى الحياة المشتركة. أمّا البتول فتُجبر على البقاء في البحر وتسير في محيط واسع لا ميناء له. ولو ارتفعت العاصفة ارتفاعًا، فلا يُسمَح لها أن تحطَّ المرساة وتتذوَّق الراحة" (البتوليَّة، ص 198-201). ومع ذلك، يتحدَّث يوحنّا عن عظمة الزواج، وعن ديمومته حتّى بعد موت الزواج، إلى حدٍّ يجعله لا يعتبر الزواج الثاني أيَّ اعتبار.

أ- عظمة الزواج

دوَّن يوحنّا كتابه "في البتوليَّة" في ملء الشباب، وبعد أن عاش ناسكًا في الجبال، فبدا وكأنَّه يقول لقارئيه: "اقتدوا بي كما أقتدي أنا بالمسيح" (1كو 11: 1). أنا عشت البتوليَّة وعرفت الطمأنينة مبتعدًا عن انشغالات هذا الزمان. فماذا تنتظرون لكي تفعلوا؟ غير أنَّ هذا الموقف المتطرِّف تبدَّل عند يوحنّا وتطوَّر. فاعتبر أنَّ الزواج أهل للمديح، شأنه شأن البتوليَّة، فالربُّ منحنا الطرق العديدة من أجل خلاصنا.

كاد يوحنّا ينسى أنَّ بطرس، هامة الرسل كان متزوِّجًا، وقد ذكر الإنجيل حماته المصابة بالحمّى (مت 8: 14-17؛ مر 1: 29-34؛ لو 38-41). وفيبلُّس، أحد السبعة (أع 6: 5) "كان له أربع بنات عذارى يتنبَّأن" (أع 21: 9). وإن كان المسيح وُلد من عذراء، فقد أتى إلى عرس قانا وشارك العروسين في الفرحة. وفي عظة على أناس متزوِّجين أعلن يوحنّا: "أنا كفيل بخلاصكم وإن يكن لكم زوجة" وأضاف: إن كانت امرأة طردتنا من الفردوس، فامرأة أخرى أعادتنا إلى السماء.

في عظة حول الشهداء المكابيّين امتدح يوحنّا والدة الشبّان السبعة. كما سبق له فامتدح بطرس وبولس. قال:

"ألم أقلْ لكم سابقًا، إنَّ الأمَّ لا بدَّ لها من أن تحضر جهاد ابنها ولو لم نأبه نحن لذلك؟ فانظروا أن تساوق الأفكار جعلها أمامنا. فالمسرح الذي جاهد عليه ولدها كان فخمًا موقَّرًا، لأنَّ كتائب الملائكة وإخوته أنفسهم، كانت ألحاظهم عليه. فهي تراقبه لا من الأرض، بل من أعالي السماء". ويواصل الواعظ كلامه: "وفوق ذلك، كانت أمُّه تشجِّعه. وليس يعني هذا أنَّه كان محتاجًا إلى التحريض، وإنَّما تدركون من ذلك ثبات العزيمة في تلك المرأة. إنَّها لم تتصرَّف قطّ مع أحد من بنيها السبعة تصرُّف أمّ. أو بالأحرى، إنَّها تصرَّفت كأمٍّ حقيقيَّة مع كلِّ من بنيها. فلم تحدِّث نفسها قائلة: ما هذا الأمر؟ إنَّ نصف أولادي قد اختُطف منّي ولم يبق لي منهم سوى الأخير. فإذا خسرتُه بقيتُ بلا أولاد. فمن يعولني بعدهم في شيخوختي إذا قضى ابني هذا؟ ألا يكفي أنّي ضحَّيتُ بنصف سعادتي أو على الأقلّ بقسميها الرئيسيّين؟ وهذا هو الولد الوحيد الباقي لتعزيتي في شيخوختي، أأضحّي به أيضًا؟ إنَّها لم تَقُل من ذلك شيئًا، ولم يَدُر في خلدها فكرٌ من هذا القبيل، بل إنَّها إذ أثارت حميَّة ابنها بتحريضاتها كأنَّما هي صنعته بيديه، قد غمسته في الخلقين، ممجِّدة الله الذي تنازل فقبل كلَّ ثمرات أحشائها، ولم يسمح لأحد أن يجحد دينه..."

فالمتزوِّج يمكن أن يكون قدِّيسًا، لا البتول وحده، وكذا نقول عن المرأة المتزوِّجة. فأمُّ السبعة التي دعاها التقليد الأنطاكيّ شموني، بدت بطلة ضاهت البتولات في بطولتهنَّ، بل تجاوزتهنَّ. وهكذا أعاد يوحنّا التوازن إلى فكره. مثلاً في عظات ثلاث حول الزواج (الآباء اليونان 51: 208-241)، ولا سيَّما في الثالثة، قدَّم نصائح حول اختيار الزوجة، وشرح رمزيَّة الزواج الدينيَّة، الذي هو اتِّحاد لا يُحلّ، مؤسَّس على الحبِّ المتبادل والشريعة الدينيَّة. هذا ما نكتشفه في شروحه حول الرسالة إلى كولوسّي: "الزواج سرٌّ عظيم. فالرجل والمرأة يتَّحدان ليُصبحا جسدًا واحدًا. ذاك هو أيضًا سرُّ الحبّ. فإن كان الاثنان لا يصبحان واحدًا، لن يكونا كثيرين... أمّا إذا اتِّحدا فيصبحان كثيرين (= أنموا واكثروا). ماذا نستنتج من هنا؟ أنَّ قوَّة الوحدة عظيمة" (العظة 12، الآباء اليونان 62: 387 ج د).

وحدة على مستوى الجسد. ولكن وحدة على مستوى الروح. بدا يوحنّا وكأنَّه ينسى الأمور المادّيَّة لكي يتعلَّق بالأمور الروحيَّة. في الواقع، لا حاجة إلى الكلام عن أمور الجسد ومتطلِّباته في مجتمع كان يوحنّا قاسيًا في الحكم عليه. وطُرح السؤال: كيف تكون المرأة عونًا للرجل؟ الجواب: في الأمور الروحيَّة.

"ويعترضون: ماذا نجيب بولس حين يقول: "هل تعرفين أيَّتها المرأة إنَّك تخلِّصين زوجك؟" (1كو 7: 16). ثمَّ حين يبيِّن أنَّ عون المرأة ضروريّ حتّى في الأمور الروحيَّة؟ وأنا أيضًا أوافق. لا أنتزع منها إطلاقًا كلَّ عون في الأمور الروحيَّة، لا سمح الله، ولكنّي أؤكِّد فقط أنَّها تقدِّمه لا في ممارسة الزواج، بل إذا تبقى امرأة في الطبيعة الجسديَّة، تتجاوز طبيعتها لترتفع إلى مستوى الرجال المطوَّبين. فهي لا تربح زوجها حين تعتني بهندامها في حياة من الملذّات، فتطلب على الدوام من زوجها مزيدًا من المال فتسرف في المصروف. بل حين تكون فوق جميع هذه الأمور الجانبيَّة فتحفر في ذاتها سمات حياة الرسل ، مبرهنة على اعتدال كبير، على تواضع كبير، على احتقار عميق للمال، على تحمُّل كبير بحيث تستطيع أن تربحه. وذلك حين تقول: "نحن نكتفي حين يكون لنا القوت والكسوة" (1تم 6: 8). وحين تترجم في الأعمال هذه الفلسفة، فتهزأ من موت الجسد وتحسب الوجود على هذه الأرض كلا شيء، حين ذاك تؤمن مع النبيّ أنَّ هذه الحياة تشبه "عشب الحقل".

"هي تستطيع أن تخلِّص زوجها، لا حين تتمُّ واجباتها الزواجيَّة كامرأة، بل حين تمارس بشكل جليّ الحياة الإنجيليَّة. وهذا لعمري حقَّقته نساء كثيرات حتّى خارج الزواج. فبرسكلّة مثلاً أخذت أبلّوس إلى بيتها، كما قيل لنا، ووجَّهته في طريق الحقيقة (أع 18: 24). إن كان هذا لامسموحًا في أيّامنا، فهو ممكن لدى الزوجة بأن تبدي الغيرة عينها وتقطف الثمرة ذاتها (لدى الزوج، لا الغرباء). فكما سبق وقلت، تأثير المرأة على زوجها لا يأتي من صفتها زوجة، لأنَّه عند ذاك لا شيء يمنع اهتداء كلِّ أزواج النساء المؤمنات، إذا كانت الحياة الزوجيَّة والمشتركة تعطي هذه النتيجة. ولكنَّ الأمر ليس هكذا، لا بتاتًا: إظهار فلسفة (إنجيليَّة) كبيرة، وحبّ كبير، استخفاف بصعوبات الزواج، جعْل هذا السلوك هدفًا أمام العينين، كلّ هذا يؤمِّن للقرين خلاص نفسه. أمّا إذا لبثت تطالب بحقوقها الزوجيَّة، لا يمكن إلاّ أن تسيء إليه، بحيث لا تفيده في شيء. وحتّى في هذه الحالة، تكون الأمور صعبة جدًّا. بل نسمع ما يقول الرسول: "هل تعرفين أيَّتها المرأة أنَّك تخلِّصين زوجك؟" (1كو 7: 16). نحن معتادون أن نطرح سؤالاً بهذا الشكل حين نكون أمام احتمالات لامعقولة" (البتوليَّة، ص 262-267).

ب- الطلاق والزواج الثاني

في شهر آب سنة 378 توفّي الإمبراطور فالانس خلال حملة على القوط، وفي ذلك الوقت أو بعده توفّي قائد نال ثقة الإمبراطور اسمه تيراسيوس، فترك أرملة تعيسة لم تعش معه سوى خمس سنوات ملأتها السعادة. كتب إليها يوحنّا "خطابًا" يعزّيهاولم يمضِ وقت طويل حتّى كان "خطاب" آخر عنوانه: حول الزواج الواحد. هل تَوجَّه هذا الخطاب إلى المرأة عينها أو جاء في شكل عامّ؟ أمّا مطلعه فجاء كما يلي:

"أن تكون نسوة لم يختبرن بعدُ، في الحياة الزوجيَّة، أوجاع الولادة وسائر ما ينتج عن الزواج في بيوت البشر، أن تكون هؤلاء النسوة رحن يطلبن زوجًا، فلا عجب في ذلك. فقد قال المثل: الحرب حلوة للذي لا يعرفها. ولكن أن تكون نسوة تحمَّلن آلاف الشرور، وتعلَّمن مرارًا بعد أن أكرهن على حياة تعيسة أن يهنّئن أولئك المحرَّرات من شقاوات هذا العالم، وأن يلعنَّ نفوسهنَّ ألف مرَّة مع من زوَّجهنّ، واليومَ الذي فيه أُعدَّ الخدر الزواجيّ، أن تشعر هؤلاء النسوة بعد مثل هذا الاشمئزاز بالرغبة في التعرُّف على المتاعب عينها، فذاك ما يدهشني أكبر دهشة ويزعجني كثيرًا. طلبتُ السبب الذي لأجله مثل هذا الوضع الذي كان مكروهًا فصار غرضًا مرغوبًا يجب ملاحقته بعد النجاة منه. وقلبتُ السؤال ألف مرَّة، في كلِّ الاتِّجاهات، في داخلي. تعبتُ وفي النهاية وجدت، كما أظنُّ، سبب هذا التصرُّف. أو بالأحرى، لا سبب واحدًا فقط، بل سببان، بل أكثر. فبعض النسوة وبعد أن نسين الماضي بعد مضيِّ الزمن، لا يفكِّرن إلاَّ في الساعة الحاضرة. لهذا تراهنَّ يلجأن إلى الزواج وكأنَّه ينجِّيهنَّ من شرور الترمُّل. ولكنَّهنَّ يجدن فيه شرورًا كثيرة أخرى، متعبة، بحيث يتنهَّدن الآن أيضًا كما في الماضي. وآخرات مدهوشات بأمور هذا العالم، متعلِّقات بمجد الحياة الحاضرة، يعتبرن الترمُّل عارًا فيخترن شقاوات الزواج طمعًا بالمجد الباطل وإفراطًا في الكبرياء. وأخيرًا، هناك من لا يخضعن لواحد من هذه الأسباب: تتسلّط عليهنَّ اللاعفَّة فيرجعن إلى حالتهنَّ الأولى ويحاولن إخفاء المحرِّك الحقيقيّ وراء الذرائع التي ذكرنا" (الزواج الواحد، 160-163).

كلام يوحنّا يعني أنَّه يفضِّل أن تبقى الأرملة أرملة ولا تتزوَّج مرَّة ثانية. أما هكذا فعلت أنتوسا أمُّه حين تكرَّست لتربية ابنها؟ أما كفتها شرور الزواج الأوَّل لتطلب شرورًا أخرى في الزواج الثاني؟ والجواب: نسيَت. أو ربَّما اعتبرت أنَّها فقدت جمالها فما عادت تستطيع أن تتزوَّج. ولكنَّ السبب الأهمّ في نظر يوحنّا، هو أنَّ هذه الأرملة لا تستطيع أن تحافظ على عفَّتها، فتلجأ إلى الزواج خوفًا من التحرُّق. في كلِّ هذا، بدا الذهبيّ الفم تلميذًا أمينًا لبولس الرسول. فتابع كلامه مؤكِّدًا أنَّ الزواج الثاني أمرٌ مسموح به، في الشرائع المدنيَّة، كما في الكنيسة.

"أن أتَّهم هؤلاء النسوة، أن أحكم عليهنَّ لمثل هذا الزواج، هذا ما لا أتجاسر على فعله، ولن أنصح أيًّا كان أن يفعل. فهذا ليس رأي بولس الطوباويّ نفسه، أو بالأحرى رأي الروح القدس. فبعد أن قال: "تبقى المرأة مقيَّدة بالشريعة ما لبث زوجها حيًّا، ولكن إن مات زوجها صارت حرَّة بأن تتزوَّج من تشاء، فقط في الربّ" (1كو 7: 39، 40). إذًا، بعد أن سمح هكذا للأرملة أن تتزوَّج ثانية إن هي شاءت. وبعد أن قال: "إلاّ أنَّها تكون أكثر سعادة إن هي لبثت كما هي" لئلاّ يظنَّ أنَّ وصيَّته بشريَّة، أضاف: "أمّا أنا فأظنُّ فيَّ روح الله". وهكذا بيَّن أنَّ الروح هو الذي يلهمه هذا الكلام.

"إذا، لا يريَنَّ أحد تجاه النسوة اللواتي يتزوَّجن ثانية، توبيخًا ولا لومًا في الكلام الذي أقوله. فهذا يعني ذروة التهوُّر وذروة الجنون، حين نكون أمام نساء رفض بولس الطوباويّ أن يعاقبهنَّ: عاملهنَّ بالتساهل وما حكم عليهنَّ بدون تحفُّظ ساعة نمتلئ نحن بعدد كبير من الشرور. إذا دُعينا ألاّ ندين لنتجنَّب أن ندان بحسب الكيلة عينها (رو 2: 1؛ مت 7: 1؛ لو 6: 37)، ألاّ نكون قضاة قاسين على ذنوب الآخرين، بل نمتلئ عفوًا ووداعة... إذًا، لا أعالج هذا الموضوع كمتَّهم ولا كمراقب. فما يتمُّ "في الربّ" هو في منأى عن كلِّ هجوم. قيل: "فقط في الربّ".

"ولكن كما أنَّه حين نتكلَّم عن البتوليَّة لا نحتقر الزواج معظِّمين البتوليَّة، كذلك حين نعالج الترمُّل، لا نجعل الزواج الثاني في مصافِّ الأمور المحرَّمة بحيث ننصح الأرامل بأن يكتفين بزواجهنَّ الأوَّل..." (الزواج الواحد، ص 162-167)

لا مجال هنا للكلام عن الترمُّل والزواج الثاني، حيث انطلق آباء الكنيسة في الشرق من تعليم بولس الرسول فتركوا تسامحه، وكما فضَّلوا البتوليَّة على الزواج، كذلك فضَّلوا حالة الترمُّل على الزواج الثاني، بحيث يكون الجميع "مثلي" (1كو 7: 7) كما قال الرسول. وتفضيل الأمور الروحيَّة لا يعني احتقار الأمور الجسديَّة. في هذا المجال قال أثيناغوراس (الينابيع المسيحيَّة، 3، ص 162): "من حُرم من زوجته الأولى، وإن ميتة، هو زانٍ مقنَّع. فقد تجاوز شريعة الله الذي خلق في البدء رجلاً واحدًا وامرأة واحدة". في هذا الإطار يقف يوحنّا الذهبيّ الفم.

ولكن نعود إلى الأساس: كرامة الزواج لا تقدَّر. ومبدأ لاانحلال الزواج يرتكز على الأصل الدينيّ للمؤسَّسة في شجب الزنى والطلاق. ولكنَّ البعض اعتبروا أنَّ الزواج لا يحلُّ حتّى بعد موت الشريك. يبقى الرباط حاضرًا إلى الأبد. جاء تعليم بولس الرسول ردًّا على العالم الوثنيّ الذي يعيش فيه المؤمنين، مع الزنى والفجور في مجتمع مثل المجتمع الرومانيّ (رو 1: 24-27). غير أنَّه ردٌّ متوازن: تحدَّث عن لاانحلال الزواج، ولكنَّه حصره في الحياة على الأرض. فإن مات الشريك استطاع الآخر أن يتزوَّج في مراعاة العفَّة. وجاء بعده من منع "الطلاق" حتّى بعد موت الشريك، بحيث منع الزواج الثاني. هو تطرُّف لا شكَّ فيه، ولكنَّه ردٌّ على مجتمع عرف الزواج الثاني والزواج الثالث والزواج الرابع، حتّى في الوقت عينه، لا بعد وفاة الزوجة السابقة فقط.

الخاتمة

تلك بعض أفكار يوحنّا الذهبيّ الفم حول البتوليَّة والزواج. موضوع واسع، شائك. فيه تحوَّل يوحنّا بعض الشيء، بعد أن ترك الحياة النسكيَّة، وصار الواعظ في رعيَّته والأسقف في كاتدرائيَّته. ففي كتابه حول البتوليَّة جعل النصَّ البولسيّ في 1كو7 يدعو إلى البتوليَّة. بل راح يقول: إنَّ الله يستطيع أن يكثر البشريَّة ولو عاش الناس كلُّهم في البتوليَّة. أجل، ما عرف أن يخرج نهائيًّا من هذه الخبرة الأولى، ونحن نعرف كيف دعا تيودور، الذي سيصبح أسقف المصيصة، إلى حياة في البتوليَّة بعد أن اعتبره "سقط" لأنَّه ترك جبل النسك وسحرته هرميوني بجمالها. من أجل كلِّ هذا جاءت نظرته إلى الزواج سلبيَّة: الزواج جميل، لا في ذاته، بل لأنَّه يحفظ الإنسان في العفَّة. ويمنعه من الانغماس في الزنى. الزواج مفيد لا في ذاته، بل لأنَّه يمنع أعضاء المسيح من أن يصيروا أعضاء زانية (1كو 6: 15). وفي النهاية، الزواج للضعفاء فيمنعهم من السقوط. أمّا الأقوياء فلا يحتاجون إلى عون الزواج الذي يمنعهم من ممارسة الفضيلة، بل فضيلة الفضائل، البتوليَّة.



 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM