مقالات في الكهنوت للقدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم.

Normal 0 false false false EN-US X-NONE AR-SA MicrosoftInternetExplorer4 st1\:*{behavior:url(#ieooui) } /* Style Definitions */ table.MsoNormalTable {mso-style-name:"Table Normal"; mso-tstyle-rowband-size:0; mso-tstyle-colband-size:0; mso-style-noshow:yes; mso-style-priority:99; mso-style-qformat:yes; mso-style-parent:""; mso-padding-alt:0in 5.4pt 0in 5.4pt; mso-para-margin:0in; mso-para-margin-bottom:.0001pt; mso-pagination:widow-orphan; font-size:10.0pt; font-family:"Times New Roman","serif";} - الكهنوت

تحدَّث يوحنّا عن حالات العيش المسيحيّ: عن البتوليَّة والحياة النسكيَة. فالبتوليَّة هي زينة المسيحيَّة: "بفضل الصليب زاحمت الطبيعةُ البشريَّة حالة الوضع الملائكيّ. بفضل الصليب، أقامت البتوليَّة على الأرض. فمنذ جاء إلى العالم الابنُ المولود من بتول (من عذراء)، عرف الإنسان هذه الفضيلة"[i]. وتحدَّث يوحنّا عن الزواج، وعن الترمُّل والاحتفال بالزواج الثاني[ii]. وترك لنا في ما ترك حول الكهنوت، كتابًا في ستِّ مقالات، جاء بشكل حوار، بأسلوب أطلقه سقراط منذ القرن الخامس في العالم اليونانيّ. ثمَّ عظة ألقاها الذهبيّ الفم يوم رسامته الكهنوتيَّة.

أ- كتاب حول الكهنوت

ما من كتاب "كريزوستوميّ" عُرف، تُرجم، طبع مثل هذه المقالات الستِّ حول الكهنوت. بعد سنوات قليلة على موت يوحنّا، كتب إيزيدور عن عظمة هذا الكتاب. ومعجم سويدا[iii] الذي ظهر في القرن العاشر، اعتبره فوق كتابات يوحنّا الأخرى كلِّها، بارتفاع الفكر ونقاوة العبارة ولباقة الأسلوب. سنة 392، أعلن جيروم أنَّه قرأه[iv].

أمّا الكتاب فيبدو بشكل حوار بين الكاتب واسمه يوحنّا، وبين صديقه باسيل. حاول الأوَّل أن يبرِّر موقفه ساعة اختير أسقفًا سنة 392. كان باسيل قد باح نيَّته إلى يوحنّا أن يتبعه مهما يكن الموقف الذي يتَّخذه إن عُرضت عليه تلك الكرامة، من قبول أو رفض. ولكن طلب أن يكون تشاور قبل الإقدام على العمل. ظنَّ يوحنّا أنَّ صديقه يوافقه في هذه النقطة، ودون أن يُطلعه على قراره، تهرَّب من الأسقفيَّة. إنَّما وصلت معلومة خاطئة إلى باسيل عن قبوله، فاعتبره أنَّه يقتدي به حين يقبل. ولكن حين رأى أنَّ يوحنّا غشَّه، أحسَّ بجرح عميق. فجاءت الفصول الأخيرة في المقالة الأولى تورد سخط باسيل وبداية دفاع يوحنّا. فبدأ الجدال حول قمَّة الكهنوت الأسقفيَّة.

أوَّلاً: نصوص الكتاب

يروي هذا الكتاب بعض حياة يوحنّا الذهبيّ الفم. فيشبه بشكل بعيد اعترافات القدّيس أوغسطين. وهو في الوقت عينه شرعة تحدِّد طبيعة الكهنوت المسيحيّ والواجبات المفروضة على الكاهن والأسقف. كتاب مهمٌّ جدًّا، نُسخ ولبث يُنسَخ[v] حتّى بعد أن طُبع[vi].

أوَّل مرَّة طُبع النصُّ اليوناني في نيسان سنة 1525، بيد إيراسم[vii]. وطُبع هذا النصّ الإيراسميّ في لوفان (بلجيكا) سنة 1529. سنة 1599، طبع النصُّ اليونانيّ ومقابله النصّ اللاتينيّ[viii]. وحين نُشرت مؤلَّفات الذهبيّ الفم كلُّها، نُشر نصُّ الكهنوت[ix] سواء في اليونانيَّة وحدها أو في اللاتينيَّة.

نشير هنا إلى أنَّ مخطوطات النصِّ اللاتينيّ أقدم من المخطوطات اليونانيَّة. نذكر تلك التي نُقلت في القرن الخامس[x]. وفي السريانيَّة، نملك مخطوطات تعود إلى القرنين 6-7، فتسبق المخطوطات اليونانيَّة بل اللاتينيَّة. وتحدَّث فارن[xi] الذي نشر النصوص الكريزوستوميَّة عن ترجمة سريانيَّة قريبة جدًَّا من النصِّ اليونانيّ. وقدم النصِّ السريانيّ، يجعلنا أكثر قربًا من مناخ المخطوطات اليونانيَّة[xii].

ثانيًا: تصميم الكتاب

تحدَّثنا عن المقال (لوغس) الأوَّل وفيه كلام عن صداقة يوحنّا باسيل، عن سرد الوقائع التي ولَّدت هذا الحوار. وعن لوم باسيل ليوحنّا الذي حاول أن يدافع عن نفسه. تحدَّث الذهبيّ الفم في الفصول الستَّة من هذا المقال، عن الحيلة التي يمكن استعمالها من أجل الخير[xiii]، وها هو يدافع عن نفسه فلا يدعو عمله حيلة، بل سلوكًا حكيمًا:

"ولكن أيُّها المدهش والصالح، أنظر لماذا عجَّلتُ فقلتُ لك أنَّه من الخير أن نصنع كذلك، لا فقط في الحرب ومع الأعداء، بل أيضًا في زمن السلم ومع أعزِّ الأصدقاء..." (ص 94-95).

وقدَّم المقال الثاني عرضًا عامًّا عن الكهنوت مع برهان حبِّ المسيح لنا. غير أنَّ لهذه المهمَّة صعوباتها وأخطارها.

"وأيُّ فائدة تكون أكبر من تلك التي فيها نبدو عاملين بما يدعوه المسيح نفسه على أنَّه برهان حبٍّ له؟ توجَّه إلى رئيس الرسل وقال له: "يا بطرس، أتحبُّني؟" (يو 21: 15-17). وإذ قال بطرس نعم، أضاف يسوع: "إن كنتَ تحبُّني فارعَ خرافي". سأل المعلِّم تلميذَه إن كان يحبُّه، لا ليعرف ذلك من فمه، وكيف يسأل ذاك الذي يلج القلب كلَّه؟، بل ليعلِّمنا كم يهتمُّ برعاية الخراف. إن كان ذلك واضحًا، فهناك شيء آخر يكون واضحًا، هو أنَّ الأجر يكون وافرًا وفائق الوصف لمن سعى أن ينفِّذ ما يعتبره المسيح كبيرًا جدًّا... (ص 100-101).

في المقال الثالث، ردَّ يوحنّا على الاتِّهامات الغريبة وتحدَّث عن الكهنوت، تلك الخدمة الرهيبة، التي هي موهبة الروح. عند ذاك لا نلوم أحدًا إن هو تهرَّب من مثل هذه الكرامة. فبولس نفسه ارتجف عندما تأمَّل في الكهنوت. إذًا، على الكاهن أن يُبدي فضيلة خارقة وقداسة كبيرة. فيرذل ما قلبه الطموح ويدلُّ على حكمته العميقة وفطنته.

"ما من أحد أحبَّ المسيح أكثر من بولس، ما من أحد أبدى غيرة أكثر من غيرته، ما من أحد نال نعمًا أكثر ممّا نال. ومع ذلك، وبالرغم من هذه الامتيازات العظيمة، خاف وارتجف أمام هذا السلطان وأمام الذين خضعوا له. قال: "أخاف أن تفسد صلواتكم حين تنقصها البساطة تجاه المسيح، على مثال الحيّة التي أغوت حوّاء" (2كو 11: 3). وقال أيضًا: "أتيتُ أمامكم في خوف ورعدة" (1كو 2: 3). هذا الإنسان الذي خُطف إلى السماء الثالثة (2كو 12: 2)، الذي ضُمَّ إلى حقائق الله التي لا توصَف (آ4)، الذي تحمَّل من الميتات بقدر الأيّام التي عاشها بعد مجيئه إلى الإيمان (1كو 15: 31). هذا الإنسان الذي ما أراد أن يستعمل السلطان الذي منجحه إيّاه المسيح لئلاّ يشكِّك أحدًا من المؤمنين. فهذا الذي مضى إلى قدّام متطلِّبات الله، الذي ما طلب يومًا منفعته الخاصَّة، بل منفعة الذين خضعوا لسلطانه (1كو 10: 33؛ 13: 5؛ فل 2: 4) رأى نفسه خائفًا أمام عظمة هذا السلطان، فما الذي نشعر به نحن الذين نبحث مرارًا عن منفعتنا، نحن الذين لا نمضي إلى قدّام وصايا المسيح، بل مرارًا دونها. قال: "من يمرض ولا أمرض أنا؟ من يتشكَّك ولا أحترق أنا؟". هكذا يكون الكاهن (ص 156-159).

ويعالج المقالُ الرابع المصيرَ الرهيب لأولئك الذين يدخلون في الحالة والإكليريكيَّة حين يعرفون أنَّهم ليسوا بأهل، والذين يجبرون غضبًا عنهم بأن يخضعوا لها دون أن يمتلكوا المواهب الضروريَّة، ولاسيَّما موهبة الوعظ. فالكاهن الذي يريد أن يكون واعظًا صالحًا، عليه أن يمتلك المعارف المطلوبة ليقاوم الهجوم الآتي من الجميع، من اليونانيّين واليهود والهراطقة، وخصوصًا من المانويّين وتلاميذ ولنطين وسابيليوس وأريوس. وكان القدّيس بولس هنا المثال الرائع، لأنَّه لم يكن فقط مميَّزًا بالمعجزات التي اجترح، بل ببلاغته أيضًا.

"وأقول: كيف كشف اليهود الذين أقاموا في دمشق (أع 9: 22) وما كان بعدُ عملَ عملاً خارقًا؟ كيف تغلَّب على الهلّينيّين؟ (آ29). لماذا أُرسل إلى طرسوس؟ (آ30). أمّا لأنَّه انتصر عليهم بالكلمة ولاحقهم فغضبوا وأرادوا قتله، لأنَّهم ما احتملوا الهزيمة؟ في ذلك ما كان بعدُ صنع معجزات. كما لا نستطيع القول إنَّ الجموع أُعجبت به بسبب شهرة تأتيه من معجزاته، ولا إنَّ الذين يحاربونه سخطوا عليه بسبب فكر مسبق عن الإنسان، بل لأنَّه كان ينتصر فقط بالكلمة..." (ص 270-271).

وجاء المقال الخامس بشكل كتاب يدويّ يستعمله الواعظون. ففيه يعالج يوحنّا المجهود والنشاط والاهتمام من أجل عملهم، كما يحذِّر من الأخطار المهدِّدة. فالواعظ الصالح يحتقر الممالقات، إن عرف النجاح. ولا يستسلم للحسد إن نال الآخر من مديح أكثر ممّا نال هو. ويكون هدفه الأوَّل إرضاء الله، بحيث لا يتبلبل إن لم يقدَّر حقَّ قدره أو يناله انتقاد لاذع.

"أيُّ خبرة يحتاجها ذاك الذي يعلِّم، حين ينبغي عليه ن يحارب من أجل الحقّ، ذاك ما برهنّا عنه. وأضيف أيضًا شيئًا آخر يسبِّب ألف سبب وسبب. بل أقول: ليس هذا بسببٍ، بل السبب يقوم في الذين لا يعرفون أن يستعملوه الاستعمال الحسن، لأنَّ هذا الشيء هو في حدِّ ذاته، مولِّد خلاص وخيرات كثيرة حين نجد أناسًا غيورين، صالحين، يقومون بهذه الخدمة. فما هو هذا الشيء؟ هو أن نجهد جهدًا كبيرًا لتهيئة الخطبة التي نوجِّهها إلى جماعة الشعب. أوَّلاً، إنَّ معظم الخاضعين للسلطان لا يريدون أن يعتبروا المتكلِّمين على أنَّهم معلِّمون. بل هم يتجاوزون دور التلاميذ ويأخذون دور المشاهدين الجالسين كما في مبارزات أدبيَّة تتمُّ لدى الوثنيّين..." (ص 280-283).

"لا يمكن أن نحصل على هذه النتيجة إلاّ باثنين: احتقار المديح وإمكانيَّة الكلام. إن نقص واحد من الاثنين، كان الثاني بلا فائدة إن هو انفصل عن الأوَّل. فإن احتقرنا المديح وما أعطينا تعليمًا مرضيًا ومناسبًا، يحتقرنا الجمع ونحن لا نجد أيَّة فائدة من نبل النفس هذا. أمّا إذا نجحنا نجاحًا في هذا المجال فقهرَنا المجدُ الذي يهب التصفيق، ينتج ضررٌ للواعظ وللجمع، حين يرغب الواعظ بالمديح فيتكلَّم لكي يرضي سامعيه لا لكي يكون مفيدًا لسامعيه فكما أنَّ الذي لا يحسُّ بجمال الخطبة، لا يعرف أن يتكلَّم، لا يمكن أن يرضي الجموع ويقدِّم لهم عونًا قيِّمًا، لأنَّه لا يستطيع أن يقول شيئًا، كذلك الذي ينزلق متعطِّشًا إلى المديح، ساعة يقدر بدل ذلك أن يصلح الجمع فيقدِّم له بالأحرى كلمات تسحره بحيث يشتري بهذا الثمن، ضجيج التصفيق"[xiv].

وقابل المقال السادس بين الحياة الناشطة وحياة المشاهدة، أو إذا شئنا بين جياة الكاهن (والأسقف) العامل في قلب الرعيَّة، وبين الراهب العائش في البرّيَّة. أن نخلِّص نفوسنا أسهل من أن نخلِّص الآخرين. الكهنة مسؤولون عن خطايا الآخرين، والرهبان عن خطاياهم فحسب. والحياة الناشطة تتطلَّب كمالاً أكبر من حياة المشاهدة. أمّا المخاطر التي يعرفها الراعي في خدمته، تفوق تلك التي يتعرَّض لها الراهب في صومعته.

ثالثًا: روحانيَّة الكتاب

في إطار اختلقه يوحنّا الذهبيّ الفم وقدَّمه بشكل حوار، قدَّم لنا الكثير في روحانيَّة الكاهن.

·        سموّ الكهنوت

يقوم سموُّ الكهنوت في أنَّ هدفه خدمة القريب. فهو يتفوَّق على الحياة الرهبانيَّة بقدر ما الخير المشترك يتفوَّق على الخير الخاصّ. فهو يفترض حبًّا كبيرًا، لا لشخص المسيح فقط، بل لكنيسته أيضًا. فحين تأكَّد الربُّ من هذا الحبّ لدى بطرس، "كان بإمكانه أن يقول له: صُم، نَمْ على الأرض، إسهر الليلَ كلَّه، دافع عن الأرملة واليتيم. ولكنَّه ترك كلَّ هذا وقال له: إرعَ خرافي" (2: 14). والكهنوت يتفوَّق أيضًا على الالتزام في العالم من أجل العدالة والمحبَّة، كما تتفوَّق النفس على الجسد.

"لهذا يحتاج الراعي إلى كثير من التفهُّم، فتكون عيناه في كلِّ مكان لكي يتميَّز حالة النفس في كلِّ ظروفها. فكما أنَّ عددًا كبيرًا من الناس يجرُّهم اليأس[xv] بحيث لا يعودون يثقون بخلاصهم لأنَّهم تحمَّلوا علاجات مُرَّة، كذلك هناك آخرون ما استطاعوا أن يتقبَّلوا عقابًا مع ذنبهم، يقعون في الإهمال فيصبحون أسوأ ممّا كانوا بحيث يقترفون ذنوبًا أكثر خطورة. إذًا، ينبغي على الكاهن ألاَّ يُهمل واحدًا من هذه التفاصيل. وبعد أن يتفحَّص كلَّ شيء، باعتناء، ويقدِّم العلاجات بحسب حاجة كلِّ إنسان، وإلاّ يكون اهتمامه باطلاً.

"كلُّ واحد يستطيع أن يدرك همومه (الراعي) الكثيرة لا في هذا المجال وحسب، بل لكي يربط أيضًا بالكنيسة الأعضاء الذين انفصلوا[xvi]. فالراعي له قطيع يتبعه حيث يقوده. فإن مال خروف عن الطريق المستقيم وأهمل المراعي الخصبة فرعى في أرض غير صلبة، يكفيه أن يصرخ بصوت عالٍ لكي يعود الهارب فيعيده إلى القطيع. ولكن إن ابتعد إنسان عن الإيمان القويم، فالراعي يحتاج إلى مهارة كبيرة وعزم وصبر. هو لا يقدر أن يصعد (الخاطئ) بالقوَّة، ولا أن يكرهه بالخوف، بل ينبغي عليه، بالإقناع، أن يعيده إلى الحقيقة التي تركها في الماضي. إذًا، يحتاج (الراعي) إلى نفس نبيلة لئلاّ ينال منه الإحباط، لئلاّ ييأس من خلاص الضالّين، فيفكِّر على الدوام ويردِّد: "يا ليت الله يومًا يعطيهم معرفة الحقيقة بحيث يتخلَّصون من فخاخ إبليس" (2تم 2: 25-26). من أجل هذا كلَّم الربُّ تلاميذه فقال لهم: "من هو الخادم الأمين، الحكيم؟" (مت 24: 45). فمن يتمرَّس في الفضيلة (مثل الحبيس) تنحصر المنفعة فيه. أمّا فائدة الفنِّ الرعائيّ، فتمتدُّ إلى الشعب كلِّه. والذي يوزِّع أمواله على الفقراء أو الذي يساعد بشكل أو بآخر ضحايا الجور والظلم، يفيد القريب. ولكنَّه أقلّ إفادة من الكاهن بمقدار ما الجسد أقلّ من النفس. وبحقٍّ قال الربّ: الغيرةُ من أجل خرافه هي برهان حبِّنا له" (ص 114-119).

·        خدمة الأسرار

الخدمة الأسراريَّة هي أرفع وظيفة في الكهنوت. "ينبغي على الكاهن أن يتساوى بالطهارة مع القوّات السماويَّة التي يترافق معه، وكأنَّه في السماوات" (3: 4). ويُبرز يوحنّا دور الكاهن في ذبيحة الإفخارتسيّا فيقول: "حين ترى الربَّ مذبوحًا، ممدَّدًا على المذبح، والكاهن واقفًا يصلّي قرب الذبيحة... أتظنُّ أنَّك بعدُ وسط البشر وعلى الأرض؟... فالذي يجلس في السماوات مع الآب، تُمسكه في هذه الساعة أيدي الجميع، فيعطي لكي يمسكه ويقبِّله. وكلٌّ يفعل بعيون الإيمان" (3: 4).

نلاحظ هنا المناولة: يُوضَع الجسد في اليد. تلامسه العينان. وتقرَّب الكأس إلى فم الجميع، كما في الإيقونات البيزنطيَّة. ثمَّ "يتوسَّل الكاهن من أجل المدينة بل من أجل العالم كلِّه، يطلب من الله الرحمة عن خطايا الجميع، أحياء وأمواتًا".

والكاهن نال أيضًا من المسيح سلطانًا لم يُعطَ للملائكة ولا لرؤساء الملائكة. أن يغفر الخطايا. فقد سُلِّم إليه "الإنجاب الروحيّ والولادة بالمعموديَّة"، كما سلَّم إليه الاهتمام بمرض النفس والجسد، فيهتمّ بهم بالصلاة والمسحة المقدَّسة بالزيت.

"وما الذي أعطاهم (يسوع للكهنة) إلاّ كلَّ قدرة سماويَّة؟ "من تغفرون لهم خطاياهم تُغفَر لهم، ومن تحفظون لهم خطاياهم تُحفَظ لهم" (يو 20: 23). ولكنّي أرى أنَّ كلَّ هذا السلطان قد نالوه من الابن. فكما أنَّهم منذ الآن في السماوات، وبما أنَّهم تجاوزوا الطبيعة البشريَّة وابتعدوا عن أهوائنا، هكذا دُعوا لكي يمارسوا مثل هذا السلطان العظيم" (ص 148-149).

أجل، الكهنة هم خدَّام أكبر مواهب الله، في الأسرار وأوّلها العماد. إن كان أحدٌ لا يقدر أن يدخل ملكوت السماوات إن لم يُولَد من الماء والروح (يو 3: 5). وإن رُذل من الحياة الأبديَّة من لا يأكل جسد الربِّ يشرب دمه (يو 6: 53-54)، وإن كانت كلُّ هذه الأمور لا تتمُّ بوساطة أخرى سوى بهاتين اليدين أعني يدي الكاهن، إن كان كذلك، فكيف ننمو بدون عونهم من نار جهنَّم ونحصل على الأكاليل المعدَّة لنا؟ فإليهم، وإليهم هم سُلِّمت الإيلادات الروحيَّة. وهم الذين كلِّفوا بالدعوة إلى الولادة بالمعموديَّة. بهم نلبس المسيح. نُدفَن مع ابن الله، فنصبح أعضاء هذا الرأس الطوباويّ. وهكذا يكونون بالنسبة إلينا أخطر من العظماء والملوك..." (ص 148-151).

·        خدمة الكلمة

تلك هي وظيفة الكاهن الثانية: تربية المؤمنين التربية الروحيَّة، لكي يحميهم من كلِّ ضلال في الإيمان. فهناك نهج واحد وطريق واحدة إلى الشفاء: التعليم بالكلمة على مثال بولس الرسول. والتعليم والكرازة يتطلَّبان معرفة الكتاب المقدَّس والتأمُّل في نصوصها. وحين يبدأ "القتال" مع خصوم يستندون إلى الكتب المقدَّسة "يحتاج من أرسل ليعلِّم الآخرين، إلى خبرة كبيرة". فقداسة الحياة وحدها لا تكفي.

كلام نستطيع أن نسمعه اليوم، وهو ينبِّه المؤمنين والكهنة معًا. فالخصوم هم هم، والبدع في الكنيسة حاضرة وناشطة. ذكر الذهبيّ الفم بعضًا منها، ونستطيع نحن أن نتعرَّف إلى أولئك الذي يمزِّقون جسد المسيح، فيدعوهم بولس الرسول مثل الآكلة، مثل السرطان. أترى يتهامل الكاهن في الدفاع عن القطيع؟ هل ينام؟ هل يهرب من الذئاب أم يضحّي بحياته على مثال معلِّمه الراعي الصالح؟ عرف يوحنّا في أيّامه كهنة لا يقدرون أن يواجهوا مثل هؤلاء الخصوم، ولو كان في أيّامنا، أما كان يدعو الكهنة إلى مهمَّة التعليم والدفاع عن الإيمان؟

"فحين يكون الموضوع تحقيق الكمال في الحياة، فحياة إنسان آخر تحرِّكه للاقتداء به. ولكن حين تتوجَّع نفسٌ من آراء كاذبة حول العقائد المسيحيَّة. تبرز الحاجةُ الكبيرة إلى الكلمة، لا لنطمئن الذين هم داخل الكنيسة[xvii] فحسب، بل لنحارب الهجمات الآتية من الخارج. فلو كان لنا سيف الروح وترس الإيمان (أف 6: 16-17) لنجترح العجائب فنُقفل بالمعجزات أفواه الوقحين، لما كنّا نحتاج إلى عون الكلمة" بل هي تكون ضروريَّة جدًّا، مع أنَّها في طبيعتها دومًا مفيدة. فالطوباويّ بولس استعملها، مع أنَّه حرَّك الدهشة في كلِّ مكان بواسطة عجائبه. وآخر من الذين يكوِّنون هذه الجوقة الشهيرة (= بطرس) حثَّ المؤمنين على الاهتمام بهذا السلطان فقال: "كونوا مستعدّين للدفاع أمام كلِّ من يسألكم حجَّة عن الرجاء الذي فيكم" (1بط 3: 15) (ص 250-251).

وفي المقال الرابع عينه يواصل الذهبيّ الفم موردًا كلام بولس الرسول: "إسمع ما قال الرسول لتلميذه: اجتهد في القراءة والإرشاد والتعليم" (1تم 4: 13). ثمَّ بيَّن الثمرة التي نأخذها فقال: "يجب على خادم الربِّ أن لا يكون مخاصمًا، بل وديعًا تجاه الجميع، يعرف أن يعلِّم ويعرف أن يكون طويل الأناة" (2تم 2: 24). وواصل كلامه قائلاً: "أمّا أنت فكن ثابتًا في ما تعلَّمت وبما آمنت، عارفًا ممَّن تعلَّمت، فمنذ طفولتك تعرف الكتب المقدََّسة الكفيلة بأن تجعلك حكيمًا" (2تم 14-15). وقال أيضًا: "كلُّ كتاب هو ملهم من الله ومفيد للتعليم والتأديب والإصلاح وتعليم البرِّ لكي يتكيَّف رجلُ الله مع دوره" (آ16). وأسمعه أيضًا يكلِّم تيطس عن وضع الأساقفة. فماذا أضاف؟ "ينبغي على الأسقف... أن يتمسَّك بالكلام الصادق الموافق لتعاليمنا، ليكون قادرًا على الوعظ في التعليم الصحيح والردِّ على المعارضين" (تي 1: 7-9). ويقول الناس: كيف يستطيع البليد في الكلام أن يقنع الذين يقدِّمون له الاعتراضات بحيث يقفل لهم أفواههم؟ أيُّ فائدة من الاجتهاد في قراءة الكتب المقدَّسة، لننادي بالجهل. أعذار وذرائع كلّ هذا، وأسباب نبرزها لكي نخفي التهامل والكسل" (ص 274-277).

ب- وحين رُسم كاهنًا

حين رُسم يوحنّا الذهبيّ الفم كاهنًا، ألقى هذه العظة التي هي التكملة الضروريَّة لكتابه حول الكهنوت. في الماضي، تهرَّب من هذه المهمَّة، وها هو الآن يتقبَّلها من يد الأسقف فلافيان[xix].

بعد الفاتحة (1-5) حيث يحسُّ الواعظ بالرهبة فيتساءل هل يعيش واقعًا أو هو في حلم، ينطلق التوسُّع المركزيّ في قسمين كبيرين. في 52-81 ينشد الذهبيّ مديحه:

"فمَن يكون قاسيًا لا يقابَل ليأتي إلى اجتماعنا صامتًا، وإذ يجد أناسًا متعطِّشين إلى السماء، لا يوجِّه كلامه إليهم حتّى وإن كان أقلَّ جميع الناس بلاغة؟ فأودُّ، وأنا أتكلَّم للمرَّة الأولى في الكنيسة، أن أكرِّس بواكير كلماتي للإله الذي أعطاني إيّاها. فهذا حقّ وواجب. لا شكَّ في أنَّه يجب تقديم الحنطة والخمر، ولكن نقدِّم أيضًا أقوالاً للكلمة (يسوع)، أقوالاً لا حزمًا من القمح، لأنَّ هذا الثمر يخصُّنا شخصيًّا وهو يرضي الإله الذي نكرِّم. سفوح الأرض تحمل العنقود والسنبلة، وزخّات المطر تنمّيهما واليدان تعتني بهما. ولكن ما يلهم المديح المقدَّس هو تقوى النفس، ويغذّيه ضمير صالح فيتقبَّله الله في أهراء السماء. بقدر ما تكون النفس الصالحة، يكون ما تنتجه صالحًا..." (س 52-66).

وفي هذا المديح، ينضمُّ الذهبيّ الفم إلى الكون كلِّه. ولكنَّه خاطئ ولا يستحقُّ أن يمدح الله (82-136). "يأتي حكيمٌ فيغلق لي الفم، يخيفني ويقول لي: "ليس الوقتُ وقتَ مديح في فم الخاطئ (سي 15: 9). فكما في الأكاليل، لا تكون الزهور فقط طاهرة، بل أيضًا الأيدي التي جدلتها، كذلك في المدائح المقدَّسة: لا يكفي أن تكون الأقوال مطبوعة بالتقوى، بل النفس أيضًا التي ألَّفتها. أمّا نفسنا فهي، في شكل من الأشكال، خاضعة للعنة، تمسكها المخافة وتملأها الخطايا..." (س 84-91).

كانت تلك الانتقالة إلى مديح فلافيان، ذاك الأسقف الذي تجرَّد عن الغنى، وسيطر على ذاته، فشابه إبراهيم وموسى، ثمَّ على نيَّة الكاهن الجديد نفسه:

"لنلجأ إذًا، لنلجأ إلى الصلاة في نهاية خطبتنا. لنطلب بإلحاح لكي تكون (الكنيسة) أمُّنا جميعًا بمأمن من الاضطرابات، بحيث إنَّ الذي هو أبونا وسيِّدنا وراعينا وقائدنا (= أسقفنا) تدوم حياته طويلاً. وإن وجب أن نتكلَّم عن نفسنا، فلا نكاد نجسر أن نعدَّ نفوسنا مع الكهنة، لأنَّه لا يُسمَح للسقط (1كو 15: 8؛ هكذا دعا بولسُ نفسه) أن يُحسب مع أولاد تكوَّنوا تكوُّنًا حسنًا، وإن شاء واحد منكم أن يحسبني مثل كائن حقير، فصلُّوا إلى السماء لكي تتدخَّل بسخاء من أجلي في الماضي، عشنا حياة منعزلة، بعيدًا عن الهموم. فاحتجنا إلى الطمأنينة. والآن بعد أن انخرطنا في وسط العالم... وأخذ هذا النير القاسي والثقيل، نحتاج إلى أيدٍ كثيرة ترتفع في الصلاة بحيث نردُّ الوديعة ساعة، التي كلَّفنا السيِّد بالحفاظ عليها، في ذلك اليوم العظيم الذي فيه يُدعى الذين تسلَّموا الوزنات، فيدخلون ويؤدّون الحساب. فصلُّوا ولا تملُّوا، لئلاّ نكون بين الذين يقيَّدون ويُرمون في الظلمة البرّانيَّة (مت 25: 14)، بل بين الذين نالوا الغفران بنعمة ربِّنا يسوع المسيح، الذي له المجد والقدرة والسجود إلى دهر الدهور. آمين" (س 292-314).

 

الخاتمة

يوحنّا الذهبيّ الفم الذي كتب في الكهنوت وهو بعد شمّاس، فوضع لنفسه برنامجًا، ولكلِّ واحد منّا. على مستوى الأسرار وممارستها. على مستوى الكلمة وحملها إلى المؤمنين غذاء لحياتهم وسلاحًا في وجه الأعداء من أيِّ جهة أتوا. هم كبار ويجب أن يعرفوا سموَّهم. هم يُدعَون إلى مهمّة كبيرة وخطيرة، فينبغي أن يعرفوا مسؤوليَّتهم، ويستعدُّوا لها يومًا بعد يوم، ويكونون الرعاة الذين يضحُّون بحياتهم من أجل خرافهم. تلك كانت حياة يوحنّا الذي كان الكاهن الذي حمل كلام الله سنوات طويلة في أنطاكية. وكان الأسقف الذي رفض أسلوب التملُّق والالتصاق بالكبار، بل كان قريبًا من الصغار والفقراء واليتامى والأرامل، ومات في طريقه إلى المنفى، لأنَّه وقف في وجه الإمبراطورة أودوكسية فشابه سميَّه يوحنّا المعمدان. مات من أجل كلمة الحقّ. مات أمانة لسيِّده، وكانت آخر كلماته: "المجد لله في كلِّ شيء


 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM