سيرة الذهبيّ الفم.

 

سيرة الذهبيّ الفم

1- وُلد يوحنّا في أنطاكية بين سنة 344 و354. ترمَّلت أمُّه أنتوزا وهي بنت عشرين سنة. فاهتمَّت بتربية ابنها الأولى بشجاعة ما بعدها شجاعة. فعلَّمت ابنها بشكل خاصّ، طراوة القلب مع الآخرين، أمانة لا تتراجع مع الأصدقاء، حبًّا كبيرًا للفقراء.

تعلَّم يوحنّا الفلسفة في مدرسة أندراغاتيوس، والبلاغة لدى ليبانيوس الذي علَّمه فنَّ الخطابة فدُعيَ بحقّ "خريوستحومس" أي صاحب الفم الذهبيّ، لما كان يخرج من فمه من أقوال تجعل المؤمنين يسمعون ويسمعون ولا يملُّون. ما تطلَّع الذهبيّ الفم إلى المحاماة يمارسها، ولا إلى المدرسة يعلِّم فيها أو يديرها. فقد فضَّل سريعًا، العلوم الإلهيَّة على الحكمة البشريَّة. فرافق الأسقف ميليتيوس وتقبَّل العماد المقدَّس سنة 372. ودرس الكتاب المقدَّس مع ديودور أسقف طرسوس، ومؤسِّس مدرسة أنطاكية التفسيريَّة. كما كان رفيق تيودور، أسقف المصيصة، الذي دعاه السريان "المفسِّر" فترجموا كتبه إلى لغتهم. حين رُسم "قارئًا" في الكنيسة، عاش حياة النسك في منزله، ثمَّ مضى إلى الجبال المجاورة، على مثال معلِّمه الذي مضى إلى البرِّيَّة قبل البدء برسالته. ولكن ضعفت صحَّتُه فعاد إلى أنطاكية. رسمه ميليتيوس شمّاسًا سنة 381. وخلف ميليتيوس، فلافيان. رسمه كاهنًا سنة 386. فلبث يوحنّا خلال اثنتي عشرة سنة، الواعظ في الكنيسة الكبرى، في أنطاكية.

حين مات نكتار، بطريرك القسطنطينيَّة، في 27 أيلول 397، اخير يوحنّا لكي يخلفه. فشهرته كخطيب سبقته إلى العاصمة. رُسِم أسقفًا في 26 شباط سنة 398، بيد تيوفيل بطريرك الإسكندريَّة الذي سيكون عدوَّه حتّى الموت.

منذ البداية، شرع يوحنّا في إصلاح كبير، فتعلَّق به الفقراء، وقسم من الكهنة والمجتمع. ولأنَّه ما أراد أن يساوم، تكاثر المتآمرون حوله. ودخلت الإمبراطورة أوكسية معهم، فشابه سميَّه يوحنّا المعمدان حين ندَّد بالسلوك المشين في القصر. قال: "مرَّة ثانية تغضب هيرودية. مرَّة ثانية تسخط. مرَّة ثانية، ترقص، مرَّة ثانية تطلب رأس يوحنّا على طبق" (مر 6: 17-29). ذاك هو النبيّ الذي يقود كلمة الحقّ ولا يتراجع. فأُرسل إلى المنفى مرَّة أولى ومرَّة ثانية وبقي الذهبيّ الفم هو هو حتّى مماته.

حين طُلب منه أن يذهب إلى المنفى، قال للأساقفة الحاضرين: "إذا كنتم تحبّون المسيح، فلا يترك واحدٌ منكم كنيسته بسببي... فالتعليم لم يبدأ معي ولن ينتهي معي". وفي زمن المنفى، كتب إلى أولمبيا والأرامل (خادمات في الكنيسة) أن يبقين حول البطريرك الذي يخلفه. "فالكنيسة لا تعيش بدون الأسقف". أمّا نهاية حياته، فجعلت بلاديوس يقول فيها: كما أنَّ التفاحة حين تنضج لا تبقى متعلِّقة بالأغصان، بل تستعجل كلي يقطفها يدُ سيِّدها، هكذا القدّيسون: حين يتولّّعون بجمال السماويات، يرغبون في البلوغ إلى الموعد، قبل الموعد المحدَّد... وحدهم يفهمون ويعرفون، أولئك الذين يسيرون في الطرق الروحيَّة".

2- آثار الذهبيّ الفم

لم يترك أحدٌ من الآباء اليونان ما ترك يوحنّا من آثار. ولا بقيت لأحد مخطوطات بقدر ما بقي ليوحنّا. آلاف المخطوطات في اليونانيَّة. ترجمات إلى اللاتينيَّة والسريانيَّة وعدد آخر من اللغات. دوَّن المقالات في مواضيع عمليَّة مثل الكهنوت والتربية... كما كتب الرسائل. ولكنَّ أكثر آثاره كانت العظات، التي لا يجاريه فيها أحد إلاّ القدّيس أوغسطين في الغرب. وبسبب هذا النجاح الكبير، استعار الكثيرون اسمه ليقدِّموا كتاباتهم بحيث يحتاج الباحثون إلى جهد كبير لكي يميِّزوا ما هو ليوحنّا وما هو لغيره.

في عظاته، يوحنّا هو طبيب النفوس. يتفحَّص المرضى. يتفهَّم الضعف البشريّ، يجد في الإصلاح من الأنانيّة والكبرياء والزنى وسائر الرذائل. كانت بعض مواعظه تصل إلى الساعتين، فلا يملّ السامعون، بل يصفِّقون. هو ما كتب العظات، ولكن نُشرت عن طريق الاختذال (sténographie).

عظات حول الكتاب المقدَّس بعهديه القديم والجديد. في أنطاكية، سنة 386-397. فيها يقرأ النصّ ويكتشف المعنى الروحيّ ويطبِّقه على الحاضرين. عظات في سفر التكوين، في المزامير، في أشعيا. وفي العهد الجديد، إنجيل متّى، إنجيل يوحنّا، أعمال الرسل والرسائل البولسيَّة كلِّها. قال في الوعظة الأولى حول الرسالة إلى رومة:

"كلَّ مرَّة أسمع قراءة رسائل بولس المطوَّب، مرَّتين على الأقل في الأسبوع، بل ثلاث أو أربع مرَّات، حين نحتفل بتذكار الشهداء القدّيسين، حين أسمع أشعر بالبهجة وأسكر على أصوات هذا البوق الروحيّ. ويهتزُّ قلبي ويشعل لرنَّة هذا الصوت المحبوب. أتمثَّله حاضرًا وأعتبر أنَّني أسمعه. وأتألَّم وأبكي أن لا يَعرف الجميعُ هذا الرجل كما يستحقّ أن يُعرَف: فعديدون يجهلونه فلا يعرفون عدد رسائله. هذا لا يعني أنَّهم لا ينالون من التعليم ما يكفي، بل هم لا يريدون أن يتجاوبوا مع هذا الرسول القدّيس".

عظات حول العقيدة. لاإدراكيَّة الله. لا يستطيع العقل البشريّ أن يصل إليه بقواه الشخصيَّة. نحن ندخل في سرِّه حين يسمح لنا. عظات حول المعموديَّة. عظات خلقيَّة، حول الأعياد الموزَّعة على السنة، حول قدّيسي العهد القديم (أيّوب، أليعازر) والشهداء المسيحيّين. وهناك سبع عظات حول القدّيس بولس جعلت ناقلَها إلى اللاتينيَّة يعلن: قام الرسول من الموت فصار مرَّة أخرى مثالاً حيًّا للكمال المسيحيّ.

وترك الذهبيّ الفم كتبًا ألَّفها: حول الكهنوت، حياة النسك، البتوليَّة والترمُّل، تربية الأولاد، الألم. قال في الكهنوت مثلاً:

"في الحقيقة، يمارَس الكهنوت على الأرض، ولكنَّه يأخذ مكانته وسط المراتب السماويَّة. والسبب في ذلك هو أنَّه لا الإنسان ولا الملائكة ولا رئيس الملائكة ولا أيَّة قوَّة مخلوقة، هو صاحب هذه الوظائف السامية، بل البارقليط نفسه. له وحده أن يفعل بحيث إن كائنات عائشين في الجسد البشريّ، يقبلون في قلوبهم خدمة الكهنة. فيجب بالضرورة على الكاهن أن يكون طاهرًا وكأنَّه يقيم منذ الآن في وسط القوّات العقليَّة (المرتبطة باللوغس، أو الكلمة الإلهيَّ)"...

"لو أعطيَ لنا أن نفهم أنَّه أعطيَ لكائن مائت، لابس حتّى الآن غلافًا مادّيًّا، مدفونًا في اللحم والدم، أعطي له، أن يكون بجانب الطبائع العليَّة، وسكّان السماء السعداء، عند ذلك نعرف إلى أيِّ درجة من الكرامة رفع الروحُ الكهنة. تلك هي الخدمة التي سُلِّمت إليهم، ويمارسون خدمًا أخرى لا تقلُّ عنها سموًّا، وموضوعُها كرامتنا وخلاصنا. إذ هم عائشون على الأرض، يفتحون كنوز السماء...

وأعطي الكهنة، أجل الكهنة، أن يعدُّوا لله أولادًا جددًّا بالمعموديَّة، بهم نلبس المسيح، ننزل معه إلى القبر، نصبح أعضاء جسده السرّيّ، الجسد الذي هو الرأس. لهذا يجب علينا أن نحترمهم أكثر من الملوك والرؤساء. ونكرِّمهم أكثر ممّا نكرم والدينا: ها ولدانا بحسب الدم وإرادة البشر، أمّا هم فسبب ولادتنا الإلهيَّة. نقلوا إلينا السعادة الحقَّة والحريَّة الحقَّة، والنبيّ السماويّ الذي يجد مبدأه في النعمة".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM