شخص يوحنّا الذهبيّ الفم.

 

1- شخص يوحنّا الذهبيّ الفم

ولد يوحنّا في أنطاكية من عائلة مسيحيَّة، شريفة. مات والده وأمَّه (أنتوسّا) ابنة عشرين سنة، وابنها في طفولته الأولى. فربَّته تربية رائعة. تعلَّم الفلسفة في مدرسة أندراغاتيوس، والبلاغة لدى الشهير في أنطاكية، ليبانيوس. ولكنَّه مجَّ هذه العلوم، وهو في الثامنة عشرة من عمره، فكتب عنه المؤرِّخ بلاديوس "وإذا كان بعد شابَّ السنين، ثار على معلِّميه الثرثارين. ولمّا صار ناضجًا على مستوى العقل، تلذَّذ في التعاليم الإلهيَّة. في ذلك الوقت كان الطوباويّ ميليتيوس، من التابعيَّة الأرمنيَّة، أسقفًا على كنيسة أنطاكية. فلاحظ الشابَّ اللامع، وسُحر بنبل طبعه، فأتاح له بأن يقيم دومًا في مجلسه. ثمَّ قبل سرَّ الغسل بالميلاد الثاني، وبعد ثلاث سنوات في خدمة الأسقف، رُسم قارئًا".

في تلك المرحلة من حياته، درس اللاهوت على يد ديودور الطرسوسيّ. وعاش حياة من النسك القاسي، وكاد يعتزل العالم لو لم تتوسَّل إليه أمُّه بألاّ يجعلها أرملة مرَّة ثانية (الكهنوت 1: 4). ومع ذلك، أخذ طريق الجبال المجاورة، وانضمَّ إلى ناسك شيخ وقاسمه حياته خلال أربع سنوات.

ويواصل بلاديوس كلامه: "ثمَّ اعتزل في مغارة موحشة، تدفعه رغبةٌ حارَّة بأن يختفي عن العالم. فأقام فيها أربعة وعشرين شهرًا، حيث حرم نفسه من النوم، ودرس شريعة المسيح دراسة معمَّقة لكي يبعد الجهل. غير أنَّ هاتين السنتين اللتين فيهما حرم النوم نهارًا وليلاً، دمَّرتا جهاز الهضم عنده، وحوَّلتا كليتيه بفعل البرد. وإذ لم يعد في استطاعته أن يطبِّب نفسه، عاد إلى ميناء الكنيسة".

سنة 381 رُسم شمّاسًا، وسنة 386 كاهنًا. فكلَّفه الأسقف فلافيان، خلف ميليتيوس، بالوعظ في كنائس المدينة. فامتدَّت خدمته هذه اثنتي عشرة سنة (386-397). فأظهر من الغيرة والقدرة والنجاح، فحمل لقب أعظم الواعظين في المسيحيَّة. وفي تلك الحقبة ألقى أشهر عظاته.

نترك يوحنّا الذي خلف أسقف القسطنطينيَّة المتوفّي في السابع والعشرين من أيلول 397، ونتوقَّف عند فضائل هذا الكاهن الذي عُرف بجرأة لا يخاف فيها أحدًا. ومنها تلك العظة وفيها تلميح إلى الإمبراطورة أودوكسية: "مرَّة أخرى غضبت هيروديَّة. مرَّة أخرى سخطت. مرَّة أخرى رقصت. مرَّة أخرى طلبت رأس يوحنّا على طبق"

ونعود فنذكر بلاديوس. قال الأساقفة الذين اجتمعوا ليودِّعوه قبل الذهاب إلى المنفى: "وإذا كنتم تحبّون المسيح، فلا يترك أحدٌ منكم الكنيسة بسببي... فالتعليم لم يبدأ معي ولن ينتهي معي" وأوصى أولمبياس والأرامل الخادمات في الكنيسة بأن يلبثن متَّحدات بالأسقف الذي يحلُّ محلَّه، شرط أن لا يكون طلب هذه الخدمة. وما شارك في حطِّه عن كرسيِّه: "فالكنيسة لا تقوم بدون الأسقف" (35 ب ج).

استخلص بلاديوس الأمثولة الروحيَّة من مصير يوحنّا المأساويّ: "كما أنَّ التفاهات التي نضجت لا تتحمَّل أن تبقى معلَّقة بالغصن، بل تستعجل بأن تقطفها يدُ السيِّد، كذلك نقول عن القدّيسين: حين يغرمون غرامًا بجمال السماويّات، يرغبون في أن يصلوا إلى المواعيد قبل الزمن المحدَّد... ذاك ما يفهمه ويعرفه أولئك السائلون في الطرق الروحيَّة" (61 د).

2- مسيرة يوحنّا الروحيَّة

يقوم الكمال في اقتراب الإنسان من الله، قدر استطاعته. ولا يكون هذا الاقتراب بحسب المكان، أقتربُ من الكنيسة، من موضع جدٍّ وظهور إلهيّ. بل بحسب الفضيلة. فحياة الإنسان تكون في مسيرته إلى الله في طرق الفضيلة.

فالكمال هو لقاء بين نعمة الله وإرادة الإنسان: "ينبغي أن تكون نفس الكاهن أنقى من شعاع الشمس، لئلاّ يتركه الروح القدس فيستطيع القول: "لست أنا الحيّ، بل المسيح هو الحيّ فيَّ" (غل 2: 20). فالذين يقيمون في البرّيَّة، بعيدًا عن المدينة  والساحة العامَّة (أغورا) وبلبلاتها، وينعمون دومًا بهدوء المرافئ، لا يستندون إلى طمأنينتهم في تلك الساعة، بل يضيفون أكثر من حذر، فيغلقون على نفوسهم ويجتهدون في كلِّ الأحوال بأن يتكلَّموا ويعملوا بغيرة عظيمة بحيث يقفون أمام الله يثقة كبيرة وطهارة تامَّة، بقدر ما يسمح بذلك الوضع البشريّ. والذي ارتدى الكهنوت، أيّ عزم وأيَّة قوَّة يحتاجهما لكي يحفظ نفسه من كلِّ ذبول، ويحفظ جماله الروحيّ بدون وصمة" (الينابيع 272، ص 306-309).

توازن كبير عند يوحنّا. ليس هو من يكتِّف يده وينتظر كلَّ شيء من الله في كسل مريب. بل ذاك الذي تكوَّن في الفكر الرواقيّ حيث العمل أساس الحياة، وتوَّج تكوّنه في قراءة الأناجيل الإزائيَّة بشكل خاصّ. فالذهبيّ الفم صاحب العقليَّة اليونانيَّة فهم أنَّ من أراد استطاع. وعرف أيضًا أنَّ كلَّ شيء نعمة من لدنه تعالى، منذ بداية خلاصنا حتّى نهايته.

لا شكَّ في أنَّ يوحنّا ذاك الواعظ الذي يدعو إلى إصلاح الأخلاق، شدَّد على دور الإرادة في مسيرة الإنسان. قال: "نستطيع إن أردنا". وهي عبارة يردِّدها الذهبيّ الفم مرارًا. ويردِّد كلام أشعيا: "لو شئتم وسمعتم لي... إن لم تشاؤوا وتسمعوا لي" (أش 1: 19). في العظة الخامسة (الآباء 62: 428 ج د) على الرسالة الأولى إلى تسالونيكي، يقول: "كلُّ شيء هو في الإرادة واللاإرادة. ذاك هو أساس الثواب والعقاب. وفي الرسالة إلى الكولوسيّين (العظة 8، الآباء 62: 352-352): "هي الحرّيَّة التي تصنع الإنسان، أكثر من الطبيعة. فالطبيعة لا ترمينا في جهنَّم ولا تدخلنا إلى الملكوت، بل القرار الحرّ".

وحاول يوحنّا في مقطع شهير من عظته حول امتلاك الروح (الآباء 51: 271-282)، أن يشرح دور الله ودور الإنسان في مسيرة الخلاص. قال: انطلق بولس من "روح الإيمان" ليبيِّن أنَّ الإيمان هو عطيَّة الروح. غير أنَّ "الإيمان بالقلب" بحسب الرسالة إلى رومة (10: 10) هو أيضًا عمل الإنسان، "ويحمل فضيلة لدى الذي يؤمن" (276ب). وهذا ينتج أيضًا عن رو 4: 5 الذي يؤكِّد أنَّ إيمان إبراهيم حُسب له برًّا. إذًا في البدء، يرتبط الإيمان والطاعة بإرادة الإنسان الطيِّبة" لأنَّه "لا الله ولا نعمة الروح القدس يسبقان حرِّيَّتنا". فالله يدعو وينتظر أن نعود إليه طوعًا وبملء حرِّيَّتنا. وحين نقوم بهذه المسيرة، يقدِّم لنا عونه كلَّه. عند ذاك يحاربنا الشيطان. فإن كان أحد لا يقدر أن يقول "يسوع ربّ" فبالأحرى لا يقدر أحد بأن يحافظ على الإيمان بدون معونة الروح القدس (276د).

وتجاه إبراز الإرادة، نقرأ يوحنّا وهو يشرح تي 2: 11: "ما نحن الذين اكتشفنا النور في ختام أبحاثنا، بل النور ظهر لنا. وبعد أن أورد يو 15: 16؛ 1كو 13: 12؛ فل 3: 12 قال: "تبيِّن هذه المقاطع أنَّ خلاصنا ليس ثمرة فضيلتنا، بل أنَّنا خُلِّصنا كلُّنا بنعمة الله

إرادة الإنسان. نعمة الله. هناك تبرز مكانة الصلاة: "لا شيء يساوي الصلاة. فهي تجعل اللاممكن ممكنًا، الصعب سهلاً. والإنسان الذي يصلّي يستحيل عليه أن يخطأ" (الآباء 54: 666ب). فالصلاة ينبغي أن تكون حالة مستمرَّة لدى المسيحيّ. وحاول يوحنّا أن يوفِّق بين عبارتين. قال مت 6: 7: "حين تصلّون لا تُكثروا". ثمَّ "صلّوا بدو انقطاع" (1تس 5: 17). فالصلاة المتواصلة تمتدُّ، لا بأقوال نكرِّرها ونكرِّرها، بل في عمق القلوب وحرارتها واعتدال الفكر: "تلك في شكل خاصّ الصلاة، حين يرتفع الصراخ من قلب صميم، لا بالقلب والصوت، بل بحرارة الروح. فالصلاة هي "المرفأ في العاصفة، والمرساة للمهدَّدين بالغرق، وعصا الذين يترنَّمون، وكنز الفقراء... والملجأ في الشرور، وينبوع الحرارة، وعلَّة الفرح، وأمّ الفلسفة" (الردّ على الأمونيّين 3، الآباء 48: 768أ ب).

والصلاة هي أيضًا استنارة مباشرة من لدن الله. فإن كان التعليم يجد امتداده في الصلاة، فالصلاة تستطيع أن تستغني عن التعليم. "فإن اعتدت على الصلاة بحرارة، لن تحتاج أن تتعلَّم... فالله نفسه يضيء عقلك بدون وساطة" فمدرسة الله المباشرة هذه، تكشف لنا بعض ما في الخبرة الروحيَّة التي تحاشى يوحنَّا الكلام عنها إلاّ قليلاً.

وصلاة الجماعة في الليتورجيّا؟ "سواء وجدتَ نفسك في ذلك الوقت، على الساحة العامَّة أو في بيتك أو وسط أعمال لا يمكن تأجيلها.. أمّا ينبغي أن تقطع الرباطات التي تقيِّدك... وتشارك في التوسُّلات المشتركة؟ فالملائكة في ذلك الوقت... يدعون الربّ من أجل الطبيعة البشريّة فيقولون تقريبًا: نتوسَّل إليك من أجل الذين أهَّلتهم أنتَ أن يتحدَّثوا عن حبِّك الذي دفعك لكي تهب ذاتك. من أجلهم نريق دعاءنا كما فعلتَ من أجلهم فأرقتَ دمك. من أجلهم نصلِّي وأنت قدَّمتَ جسدك هذا ذبيحته" (حاشية 8، ص 255).

صلاة وصلت إلى الإفخارستيَّا، فامتدَّت إلى الصوم وحياة من التوبة، بأنظارنا الموجَّهة نحو الآخرة. قال: الحياة المسيحيَّة "لا تتوقَّف هنا". فهناك دهر آخر ينتظرنا بحسب استحقاقنا. فالحياة الحاضرة سفر فوق الأمواج العاتية. وسفينتنا ما صنعت بالخشب بل بكلمات الكتاب المقدَّس التي جُمعت جمعًا متينًا. والمسيح شمسُ البرِّ هو النجم الذي يقودنا. والذي يدفعنا، يحرِّك شراعَنا هو الريح، نسمة الروح القدس.



 

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM