الفصل 2: المطران يوسف الدبس الراعي العالم والواعظ

المطران يوسف الدبس الراعي العالم والواعظ

هذا الذي شيَّد كاتدرائيَّة مار جرجس المارونيَّة، في بيروت، على صورة بازيليك القدّيسة مريم العظمى في رومة،

هذا الذي فتح مدرسة كبيرة هي مدرسة الحكمة في قلب تراث حضاريّ بدأ يتطعَّم بالإرساليّات الأجنبيَّة من كاثوليكيَّة وبروتستانتيَّة،

هذا الذي فتح جامعة الحكمة فأحيا مدرسة الفقه البيروتيَّة التي عرفت عزَّها الكبير في الحقبة الرومانيَّة والبيزنطيَّة إلى أن دُمِّرت بفضل زلزال حصل سنة 555 ب.م.

هذا الذي كتب تاريخ طائفته وبلاده منذ بداية العالم حتّى نهاية القرن التاسع عشر وأسَّس المطابع وأصدر الجرائد، اسمه المطران يوسف الدبس رئيس أساقفة أبرشيَّة بيروت المارونيَّة.

سيرته

وُلد المطران الياس الدبس في 8 تشرين الأوَّل سنة 1833، في رأس كيفا (لبنان الشماليّ) حيث هاجر جدُّه من غزير في أواخر القرن الثامن عشر. والده الياس حنّا الدبس. ووالدته روجينا عطيَّه ابنة كفرزينا (لبنان الشماليّ). في كفرزينا تربّى يوسف وتعلَّم مبادئ القراءة والكتابة بالسريانيَّة والعربيَّة. هكذا كان الولد المارونيّ ينمو في ظلِّ الكنيسة وسنديانتها مع أعمال الحقل اليوميَّة.

اكتشفه المطران بولس الياس كسّاب، رئيس أساقفة طرابلس، فأرسله وهو ابن أربعة عشر عامًا (25 شباط 1847) إلى مدرسة عين ورقة. نتذكَّر هنا أنَّ هذه المدرسة أُنشئت لتحلَّ محلَّ المدرسة المارونيَّة التي أُغلقت في رومة. من عين ورقة خرج رجال عظام ليس أقلّهم المطران يوسف الدبس. في تلك المدرسة تعلَّم الصبيّ يوسف السريانيَّة والعربيَّة. وبما أنَّه كان من المتفوِّقين كان له أن يدرس الإيطاليَّة واللاتينيَّة. لغات أربع، بانتظار الفرنسيَّة التي سوف يتقنها على يده وبدون معلِّم. لهذه الوسائل استطاع أن يهتمَّ بالتنقيب والتأليف بالرغم من وهن الجسم. فكان يحيي لياليه ساهرًا لا يأخذه في العمل كلل أو ملل، بل يربط جفنيه بملاقط ليمنعهما من الإغماض بعدما أصابهما الارتخاء.

وكانت أسباب داخليَّة فاضُطرَّ يوسف ورفاقه إلى هجر المعهد سنة 1850. فتوجَّه إلى طرابلس حيث فتح مكتبًا يعلِّم فيه العربيَّة (1851-1852). ولكنَّه ما ترك الدراسة بل لبث يزاول اللاتينيَّة وهو يستعدُّ للكهنوت تحت نظر أسقفه. فدرس الفلسفة على يد الخوري يوسف السمعانيّ، واللاهوت على يد أحد الآباء الكرمليّين. ونحن لا ننسى أنَّ هاتين تدرَّسان في اللاتينيَّة. فهذه اللغة مع السريانيَّة سوف تتيح لمن سيكون المطران الدبس، أن ينبش الكتب ويقرأ النصوص القديمة من أجل كتابة تاريخ سورية في ثمانية أجزاء. وفي سنة 1853، طلب منه المطران فترجم عن الإيطاليَّة كتابًا ضخمًا للقدّيس ألفونس ليكوري موضوعه تاريخ الهرطقات مع دحضها. طُبع الكتاب في مطبعة طاميش وناقله في الحادية والعشرين من عمره (سنة 1854) ونال هذا الكتاب (832 صفحة) الطبعات العديدة بعد أن ألحقه طالب اللاهوت بأسماء البابوات وتاريخ انتخابهم ووفاتهم مع فهرس المجامع المسكونيَّة.

ارتسم يوسف كاهنًا في الثانية والعشرين (15 حزيران1855)، فتسلَّم مهمَّة التعليم في مدرسة مار يوحنّا مارون، كفرحي، سنة 1855-1860. نشير هنا إلى أنَّ هذه المدرسة أُنشئت سنة 1812 لتنشئة الإكليريكيّين، ومن أجدر بالقيام بهذه المهمَّة من الخوري يوسف. لا وجود للكتب، فالمعلِّم يعدُّ الكتب. وهكذا نقل الرسوم الفلسفيَّة عن اللاتينيَّة خدمة لطلاّبه، سنة بعد سنة، فاحتوى هذا الكتاب علم المنطق والإنسان، واللاهوت الطبيعيّ وعلم النفس وعلم العالم وعلم الآداب. انتهى من الترجمة سنة 1857، ولكن لم يُطبَع منه سوى 145 صفحة. كما نقل الخوري يوسف مختصر  المقالات اللاهوتيَّة، عن اللاتينيَّة سنة 1858-1859. جاء الكتاب في أربعة أجزاء. ترجم منه المعلِّم ثلاثة أجزاء طُبعت سنة 1877 (512 صفحة)، 1879 (584 صفحة)، 1881 (606 صفحات). أمّا القسم الرابع فلم يترجمه. ونذكر كتاب اللاهوت النظريّ والرسوم القانونيَّة. بل فتح المجال في علم القواعد مع مغني المعلِّم عن معلِّم في مبادئ التصريف والنحو. مع ثلاثة ملاحق: الأوَّل يحتوي على أسئلة وأجوبة في القواعد. والثاني والثالث، في تمارين تدريجيَّة مصلحة لممارسة اللغة. طُبع سنة 1869 (138 صحفة + 20+ 32+ 36 ص للملاحق) ثمَّ سنة 1885 وسنة 1891. وتوالت تآليفه وتواصلت حتّى نهاية حياته. فصارت عمودًا احتاج إليه حين اتَّهموه زورًا بأنَّه يحدث القلاقل في أبرشيَّته. مضى إلى رومة ومعه كاهنان. ومثل في حضرة قداسة البابا. فسأل البابا: ما هذه الكتب التي هي أعلى من المطران، فقيل له: هي مؤلَّفات المطران يوسف الدبس. فما كان من قداسته إلاّ أن طرد المتَّهمين وأعطى الأسقف قبلة السلام.

أجل، من ينجح يجب أن يُحطَّم. لعب الحسد وتكاثر الخصوم. تلك طريق المطران التي تكون طريق الصليب. اختلقوا له "مشكلة مع أبنائه في بعبدات ففصلوهم عنه إلى البروتستانطيَّة ليجعلوا منهم لاتين، برضى مشبوه من قبل القاصد بيافي. ثمَّ حاولوا كذلك مع أبنائه في وادي شحرور فلم ينجحوا". ذاك ما قاله الأب ميشال الحايك في مقدِّمة الجامع المفصِّل في تاريخ الموارنة المؤصَّل الذي كان آخر كتاب يطبعه الدبس (1905). شمتوا بالمطران، ابتدعوا بحقِّه الأقاويل، طوَّلوا ألسنتهم، فبلغت غيمتهم آذانه ووصلت شكاياتهم إلى رومة فاستقدمته سرًّا. شقَّ الأمر على المطران فأصابه داء أقعده أربعة أشهر. ولمّا شُفي مضى فودَّعه أشراف الطائفة في محضر عموميّ يحمل ألف توقيع. ولمّا عاد المطران بحرًا، وافته مئات القوارب في البحر، واستقبلته البلاد باحتفال عظيم وتبارى الشعراء والخطباء في مدحه. أنشده الأمير شكيب أرسلان:

تبسَّم هذا الثغرُ واهتزَّ ذا المصرُ        بيوسفه، والحقّ عزَّ له نصرُ

وعاد إلى بيروت ذا اليومَ حبرُها        لذا ثغرها المفترُّ يملأه البِشرُ

وقال فيه الشيخ يوسف الأسير أحد العاملين في ترجمة الكتاب المقدَّس:

لملَّة مارون افتخار بمثله        فقد حاز أوصافًا بها قد علا قدرا

تقيّ نقيّ فاضلٌ متواضع        وديعٌ بشوشُ الوجه لا يألف الكبرا

والخوري يوسف حنّا:

الأرض تبسمُ والسماءُ تصفِّق            والنور يبهر، والكواكب تُشرق

والورد أصبح بالرياض منوَّرًا  متبسِّمًا وشذا الصباح يعبق

بقدوم سيِّدنا الجليل الحبر،               والمفضال فاض على الرعيَّة رونق

ها قد أتى الراعي لحصن خرافه        والخزيُ للصِّ الذي يتسلَّق.

*  *  *

ونعود إلى الوراء إلى سنة 1860، حين عيَّن البطريرك بولس مسعد، الخوري يوسف الدبس في أمانة السرّ. فقال الكاهن عن نفسه: "كنتُ فيها كاتبه وأمين أسراره وملازمًا له في أشغاله، فعرفته حقّ المعرفة وسبرتُ فضائله العميقة...". ولبث في هذه المهمَّة حتّى سنة 1872 وترقيته إلى الدرجة الأسقفيَّة. في ذلك الوقت ورغم المشاغل الكثيرة، ما كان يتوانى عن الكتابة. فترك مثلاً تحفة الجيل في ترجمة الأناجيل (1034 صفحة) الذي أخذه عن عدد من المعلِّمين الكبار (طُبع سنة 1877)، ثمَّ رسالة إلى رؤساء الطوائف الشرقيَّة (طُبع سنة 1869، في 216 صفحة). ثمَّ روح الردود في تفنيد زعم الخوري يوسف داود (طُبع سنة 1871، في 360 صفحة. وأخيرًا، تاريخ الأخبار في سفر الأحبار وهو وصف لرحلته في حاشية البطريرك إلى رومة وباريس والآستانة. وممّا ورد في خطاب نابليون الثالث إلى البطريرك: "سَلْني أيُّها السيِّد كلَّ ما تريد، وأنا مستعدٌّ لتلبيتك في كلِّ شيء".

في 11 شباط 1872 رُسم الخوري يوسف أسقفًا. فقال فيه بطرس البستانيّ في دائرة المعارف: "وأخذ يجدُّ ويكدُّ ليلاً ونهارًا صارفًا الجهد إلى ما فيه جرّ المنفعة الروحيَّة والعلميَّة إلى أبناء طائفته وسائر أبناء وطنه، مُكبًّا على ما فيه خيرهم، قائمًا بأعباء وظيفته بالوعظ والإنذار والسهر. وكثيرًا ما تولّى بنفسه أمر الرياضات والاهتمام بالمدارس وتهذيب الكهنة ومساعدة أكثرهم في أحوالهم المعيشيَّة حتّى قلَّما يوجد قرية من قرى أبرشيَّته ليس فيها مدرسة أو مدرستان، موجِّهًا مزيد العناية إلى النظر في أحوال الفقراء وإلى الأعمال الخيريَّة.

وجهد الأسقف الجديد وكدَّ فساءت صحَّته جدًّا بحيث انقطع مدَّة وجيزة عن العمل. سافر إلى رومة حيث استقبله عشر مرّات في عشرين يومًا قداسة البابا بيّوس التاسع. وفي باريس قابل رئيس الجمهوريَّة، وفي بلجيكا، هنري الخامس. عرفته هذه العواصم حيث شرح من هم الموارنة وما يستطيعون أن يفعلوا إن هم نالوا العون المادِّيّ. وبدأت المشاريع.

المطبعة العموميَّة. أُنشئت سنة 1861. تشارك مع صديقه رزق الله خضرا فيها فنشر المطران مؤلَّفاته كما نشر كتبًا أخرى مثل كتاب العنوان العجيب في رؤيا الحبيب تأليف يوسف القسّ الحلبيّ المارونيّ (1870). جاء في 624 صفحة. والعمل الكبير الذي قامت به أيضًا هذه المطبعة نشر الكتب الطقسيَّة. أوَّلها كتاب القربان حسب طقس الكنيسة الأنطاكيَّة المارونيَّة. ذاك هو عنوان الكتاب في السريانيَّة (كتوبو دقوربونو). أي كتاب القدّاس. طبع سنة 1888. فجاء في 426 صفحة مع مقدِّمة وإرشاد (ص 3-24). الطبعة الثانية كانت بعد وفاة المطران بسنة (60 صفحة + 376) أي 1908 التي عمل فيها المطران حتّى آخر لحظة من حياته. جاءت المقدِّمة تبحث في طبعات كتاب القدّاس، وفي النوافير، وفصول الإنجيل الملحقة بالكتاب، والمنارة. "ثمَّ إرشاد فيما يلزم الكاهن معرفته حين التقديس"  (ص 3-15) ثمَّ المنارة، أي شرح رتبة القدّاس كما ضبطها الآباء المرسلون اللبنانيّون (ص 16-60)... وزاد في آخر الكتاب صلوات جميلة للاستعداد والشكر قبل القداس وبعده. ثمَّ تبريكات مختلفة، وفهرست أخصّ الأعياد السنويَّة وتقويمها يمتدّ من سنة 1889 إلى سنة 2000.

نشير هنا إلى أنَّه أعاد النظر في نصِّ القراءات الإنجيليَّة فأصلح أغلاطه رجوعًا إلى الأصل السريانيّ. قال سيادته في مقدِّمة "كتوبو دقوربونو" الذي طُبع في المطبعة العموميَّة المارونيَّة، في بيروت، سنة 1889 (ܐܦܦܚ): "ولنعُد إلى الكلام في طبعات هذا الكتاب فنقول: قد طُبع في مطبعة الرهبان اللبانيّين في دير مار أنطونيوس قزحيّا أربع مرّات آخرها سنة 1872 (ܐܦܦܒ)، مزيدًا فيها على طبعة رومية فصول الأناجيل المقدَّسة مرتَّبة أجزاء على أيّام العام كلِّه وعلى الآحاد والأعياد والأيّام القمريَّة. وقد أخذت تلك الفصول مترجمة عن السريانيَّة تعريب المثلَّث الرحمة والطيِّب الذكر المطران جرمانوس فرحات سنة 1829 (ܐܥܥܛ). وقد قال في مقدِّمته على هذه الترجمة إنَّه هو الذي رتَّبها حسب شهور السنة ملاقيًا في ذلك عناء كثيرًا. أمّا الطبعتان الرومانيّتان فلم يكن فيهما فصول من الإنجيل إلاّ لبعض الآحاد والأعياد المشهورة ولأيّام الأسبوع" (ص 7، ܙ في السريانيَّة).

وتابع كلامه في المقدِّمة عينها (ص 9، ܛ): "إلاّ أنَّ الظاهر بعد معارضتها (نصوص الإنجيل) بالأصل السريانيّ أنَّه، تغمَّد الله برحمته، قد حوَّل في بعض الآيات، على الترجمة العربيَّة القديمة، وأن قد تطرَّق إلى ترجمته بعض أغلاط معنويَّة أو لغويَّة لكثرة تداول أيدي النسّاخ لها، أو أحدثها مرتِّبو الحروف وقت الطبع. وفي هذه الأغلاط ما يؤدّي إلى خلل في المعنى".

ويواصل المطران الدبس: "وأمّا المنارة، أي رتبة القدّاس، فكانت عبارات طويلة مشوَّشة التركيب والإعراب. فأوجزتُ عبارتها ما أمكن محافِظًا على معانيها، وألحقتُ بها رتبة رسم الكاس مع الخدمة مأخوذة من نسخة في كنيسة بيروت كتبها في حلب، القسّ عبد المسيح بن بطرس المارونيّ الحلبيّ سنة 1727 (ܐܥܟܥ)، أيّام رئاسة المطران جبرائيل يوحنّا حوشب، بعد أن هذّبتُ عبارتها" (ص 11، ܝܐ). "أمّا صلوات استعداد الكاهن قبل القدّاس وشكره بعده، فلمّا كان المطبوع منها قليل، ركيك الكلام، وقد ألفها الكهنة كثيرًا، والعصر يقتضي تبديلها بغيرها" (ص 11). "وأمّا باقي الصلوات والتبريكات، فأهملت بعضها لعدم استعمالها، وأوجزت بعضها لطوله، وهذّبت عبارة ما أبقيتُه منها" (ص 12، ܝܒ).

هو إصلاح ليتورجيّ رائع. لا حاجة إلى إبقاء ما بطل استعماله. ولا حاجة إلى الحفاظ على ما تعدَّاه الزمن وإن آلفته بعض رجال الإكليروس. والعمل الأهمّ، تهذيب اللغة. فالقرن التاسع عشر عرف بطرس البستانيّ وإبراهيم اليازجيّ وغيرهما، فكيف يقبل المطران يوسف الدبس أن تكون لغة الطقوس عندنا "ركيكة" والنهضة العربيَّة في ذروتها بين لبنان ومصر.

لبثت نصوص الأناجيل التي تُقرأ في القدّاس حاضرة حتّى الربع الثالث من القرن العشرين، وانتقلت الكتابة من الكرشونيّ إلى العربيّ، ولكنَّنا خسرنا الكثير، في إصلاحنا، ممّا تركه لنا آباؤنا والجدود.

ما اكتفى سيادته بطبع كتاب القدّاس، بل طبع أيضًا النافور اليوميّ من كتاب القدّاس الإلهيّ، بالكرشونيّ سنة 1888. في 75 صفحة، ثمَّ كتاب خدمة القدّاس الإلهيّ، في السنة عينها، بالكرشونيّ (340 صفحة). وتوالت بعد ذلك الطبعات. كتاب الصلاة الفرضيَّة الأسبوعيَّة المعروف عندنا بالشحيم. سنة 1890 مع مقدِّمة مطوَّلة (36 عمودًا في 18 صفحة). جاء الكتاب في 509 صفحات. وعاد فطبع المقدِّمة وحدها سنة 1890 (87 صفحة) وهي نبذة تاريخيَّة في الفروض البيعيَّة. شرح فيها أصل الفرض البيعيّ منذ أفرام حتّى القرن الثامن عشر. وأخيرًا تراجم القدّيسين. هي إعادة النظر في السنكسار (أو: أعمال القدّيسين) الذي رتَّبه وأصلحه المطران جرمانوس فرحات. فاستقدم مؤلَّفات الآباء البولنديّين الشهيرين المختصّين بتنقية أخبار القدّيسين ممّا علق بها من القصص والأساطير الشعبيَّة.

*  *  *

أطلنا الكلام عن العمل الليتورجيّ الذي قام به المطران دبس، لأنَّه كان المحطَّة الأخيرة، فوصل بما عمله إلى الذروة. وجاء ما بعده من يواصل العمل. بهذا كان الدبس وريث البطريرك الدويهيّ، أستاذ كلِّ من جاء بعده من طائفته. وإزاء العمل الليتورجيّ، كان بناء الكنائس. كنيسة مار مارون (1875) التي زاد عليها مدرسة للبنات بعهدة راهبات العائلة المقدَّسة (1894). كنيسة مار يوسف قرب الحكمة (1878). كنيسة مار مخايل الرميل (1883). كنيسة مار الياس في راس بيروت (1903) مع مدرسة بقربها. امتدَّ الموارنة في بيروت، فلا بدَّ من تأمين دور العبادة لهم. وشيَّد الكنائس أيضًا في الشيّاح وحارة حريك، الروميَّه، رمحالا، بحنِّس. وتابع مقاله: "ومن الكنائس الصغيرة التي اهتممتُ بها وقمتُ ببعض نفقتها، كنيسة بليبل وكنيسة عينات وكنيسة المريجات".

العالم والواعظ

يطول بنا الكلام إن أردنا أن نتحدَّث عن نشاط المطران يوسف الدبس كلِّه. فلا بدَّ من إيجاد شخص يكتب سيرة حياته وأعماله كلِّها. غير أنَّنا نتوقَّف هنا عند وجهتين: العالم الباحث ولاسيَّما في المجال التاريخيّ. والكاهن الواعظ الذي لم يتخلَّ عن مهمَّته الراعويَّة حتّى نهاية حياته.

ماذا ترك لنا يوسف الدبس من كتب في مجال التاريخ؟ أوَّلا موسوعة، عنوانها تاريخ سوريا، منذ بدء الخليقة إلى يومنا هذا. جاء الكتاب في أربعة أجزاء بثمانية مجلَّدات. وها نحن نقول كلمة في كلِّ مجلَّد منها لكي نكتشف الغنى الكبير الذي قدَّمه هذا المطران للعلم، وإن جاء بعضُ من ينتقد منهجيَّته التي هي بنت عصره.

- المجلَّد الأوَّل: في شعوب سوريا القديمة من بابليّين وحثّيّين وأشوريّين وفينيقيّين (سنة 1893، 423 صفحة). انطلق الكاتب من التاريخ القديم للشرق المتوسِّطيّ رابطًا إيّاه بتاريخ الخلاص البشريّ. أمّا المرجع الأساسيّ فهو التوراة، كما لدى عدد من المؤرِّخين العرب مثل ابن الأثير وابن خلكان...

- المجلَّد الثاني: في العبرانيّين (1895، 687 صفحة). انطلق المطران من إبراهيم فوصل إلى الإسكندر الكبير الذي توفّي سنة 323 ق.م. شرح التفاصيل التي نقرأها في أسفار التوراة من تواريخ ونبوءات، ثمَّ أشار إلى علاقة العبرانيِّين بجيرانهم من كنعانيّين وفينيقيّين ومصريّين.

- المجلَّد الثالث: ملحق في أنبياء التوراة، وفي سوريا على عهد الإسكندر وخلفائه. وفي زمن الرومان، وفي أجيال المسيحيَّة الأولى حتّى القرن الثاني (1898، 680 صفحة). عرض فترة الأنبياء معرِّفًا بالنبوَّة وأنواعها، شارحًا الكتب النبويَّة من أشعيا والأنبياء الكبار وحتّى الأنبياء الصغار، مفصِّلاً أعمالهم ودورهم في التاريخ العبريّ. وبعد كلام عن الإسكندر والرومان، ينطلق من ولادة المسيح وأعماله مع التركيز على دور العذراء مريم في تاريخ الخلاص. ويشرح أعمال الرسل متتبِّعًا خطى بطرس وبولس".

- المجلَّد الرابع: في تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ حتّى القرن السابع (1899، 595 صفحات). أباطرة الرومان وعلاقتهم بالفرس. بطاركة أنطاكية وأورشليم. نشير هنا إلى الفهرس الهجائيّ كما اعتاد أن يفعل في كلِّ مجلَّد من الكتاب، بانتظار الفهرس العامّ للمجلَّدات الثمانية الذي يقع في 96 صفحة. أمّا سورية فهي سورية الطبيعيَّة الممتدَّة من تركيا إلى مصر، أي سوريا، لبنان، فلسطين، الأردنّ في مفهومنا الحديث.

- المجلَّد الخامس: في تاريخ سوريا الدنيويّ والدينيّ مع مشاهيررجالها تحت الحكم الإسلاميّ (من القرن السابع) حتّى القرن الحادي عشر (1900، 581 صفحة). الخلفاء الراشدين، الأمويّين. هذا على المستوى الدنيويّ. وعلى المستوى الدينيّ، أسماء بطاركة أورشليم وأنطاكية وأساقفة سورية... هنا يأتي الكلام عن الموارنة مع تبرئتهم من جميع التهم الموجَّهة إليهم...

المجلَّد السادس: في تاريخ سوريا الدينيّ والدنيويّ مع مشاهير رجالها منذ قدوم الإفرنج حتّى الفتح العثمانيّ سنة 1516. كلام عن الحروب الصليبيَّة وصولاً إلى معركة حطّين. وترد لائحة ببطاركة الموارنة... (طبع سنة 1902 فجاء في 663 صفحة).

- المجلَّد السابع: في تاريخ سوريا أيّام السلاطين العثمانيّين مع مشاهير رجالها حتّى القرن الثامن عشر (1904، 504 صفحات). وتتلاحق الصفحات في المجلَّد الثامن الذي طُبع سنة 1905، فانطلق من القرن الثامن عشر وصولاً إلى الزمن الحاضر.

عمل جبّار في سرعة متواصلة، وكأنَّ المطران الدبس أحسَّ بالنهاية. آلاف الصفحات التي حاولت أن لا تترك معلومة على المستوى الدينيّ كما على المستوى الدنيويّ. نذكر على سبيل المثال من سبقه: البطريرك ميخائيل السريانيّ الكبير أو غريغوريوس ابن العبريّ الذي فصل بين مجال ومجال فكان التاريخ السريانيّ أو تاريخ الزمان الذي تطرَّق إلى التاريخ السياسيّ والمدنيّ في الشرق. ثمَّ التاريخ الكنسيّ الذي يتطرَّق إلى التاريخ الدينيّ والكنسيّ في الشرق.

موسوعة كبيرة أوجزها المطران في جزئين (سنة 1907، 401 + 391 صفحة) الموجز في تاريخ سورية. وسنة 1905 (621) طُبع الجامع المفصَّل في تاريخ الموارنة المؤصَّل. اختار من تاريخ سوريا الفقرات المتعلِّقة بالموارنة. أعيد طبع الجامع سنة 1987 مع مقدِّمة وافرة للأب ميشال الحايك.

*  *  *

أمّا هدف الدبس من كتابة التاريخ، فهو خدمة العلم من أجل تثقيف شعبه، من إكليروس وعوام. ثمَّ الدفاع عن الطائفة المارونيَّة على مستوى الدين كما على مستوى الدنيا.

ماذا على مستوى الدين؟ جاهر الموارنة على الدوام بإيمانهم المستقيم على مرِّ العصور. ولكنَّ عددًا من الوثائق القديمة بدت وكأنَّها تتحدَّث عن ارتباطهم بهرطقة المشيئة الواحدة، أو المونوتيليَّة. وممّن برز في هذا المجال، الخوري يوسف داود السريانيّ. فكتب الدبس مغتاظًا من هذا الاتِّهام: روح الردود في تنفيد زعم الخوري يوسف داود (1871، 360 صفحة). دافع الخوري يوسف عن صحَّة عقيدة الموارنة الكاثوليكيَّة ثمَّ الردّ على الحجَّة المسمّاة راهنة وهي واهنة. هو ردّ على كرامة مصريَّة سمّاها صاحبها الحجَّة الراهنة. ردَّ الخوري يوسف داود على الردود للدبس في مؤلَّف ضخم عنوانه: جامع الحجج الراهنة في إبطال دعوى الموارنة (1873 ثمّ 1908 في مصر، 544 صفحة). تدخَّلت رومة في هذا الجدال الجديد، فدوَّن داود صكَّ اعتذار واستغفار تجاه الدبس "وبطريرك الطائفة وأساقفتها وشعبها". سنة 1900، انعقد في رومة مؤتمر العاديات، فوزَّع المطران يوسف، في الفرنسيَّة، الحجَّة القاطعة الجليَّة على من يُنكر ثبوت الموارنة في العقيدة الكاثوليكيَّة. ثمَّ طُبع الكتاب في العربيَّة فجاء في 93 صفحة تختصر روح الردود.

نقرأ هنا بعض ما جاء في الجامع المفصَّل:

"إنَّ براءة القدّيس مارون من بدعة المشيئة الواحدة أصبحت في هذا العصر حقيقة مقرَّرة يخجل كلُّ من له أقلّ إلمام بالتاريخ أن يتَّهمه بهذه البدعة لئلاّ يُثبت جهله بهذا الاتِّهام ولا ينقص من كرامة هذا القدّيس شيئًا. فمن الحقائق المقرَّرة بإجماع المؤرِّخين، أنَّ القدّيس يوحنّا فم الذهب توفّاه الله في أوائل القرن الخامس. وفي جملة رسائله الرسالة السادسة والثلاثون مُنفذة إلى القدّيس مارون وقد ترجمناها بحروفها في كتب فم الذهب التي طبعها الأب مين (الآباء اليونان)..." (ص 71).

تمنّى المطران أن يردَّ على كتاب سعيد بن البطريق لو حصل عليه. فاكتفى بمراجع أخرى. ومنها "إثبات البابا بناديكتس الرابع عشر قداسة القدّيس مارون" (ص 75). وكما برّأ مارون من التهمة المونوتيليَّة كذلك برَّأ يوحنّا مارون. فأورد البابا بناديكتس الرابع عشر في خطبته بكرادلة الكنيسة الرومانيَّة في 13 تمّوز سنة 1744: "لا يخفى عليكم أنَّه في أواخر القرن السابع، عندما فشت بدعة التأمّلين بمشيئة واحدة بالمسيح، وأفسدت سكّان البطريركيَّة الأنطاكيّة، جزم الموارنة حينئذٍ رغبة في وقاية طائفتهم سالمة من ذلك الفساد، أن يختاروا بطريركًا يثبِّته الحبر الرومانيّ" (ص81).

"إنَّ تاهمي الموارنة يزعمون سندًا إلى أوهام سعيد بن البطريق أنَّ يوحنّا مارون ابتدع المشيئة الواحدة، وهذا يستحيل عليهم إثباته، إذ أجمع العلماء أنَّ هذه البدعة كان أوَّل ظهورها سنة 628. وأجمع كلُّ من ذكر يوحنّا مارون أنَّه صير بطريركًا سنة 685 وتوفّاه الله سنة 707. وقد مرَّ أنَّه لو فرضنا أنَّه عاش ثمانين سنة لكان مولده قبل ظهور هذه البدعة بسنة واحدة. أفَطِفْلٍ يبدع بدعة؟".

والاهتمام الثاني كان دنيويًّا: تجذير الطائفة المارونيَّة في التاريخ اللبنانيّ، لهذا اعتبر أنَّ هؤلاء "المردة" كما دعاهم البطريرك الدويهيّ، هؤلاء المتمرِّدين لم يخضعوا لأحد، لا لمعاوية وخلفاء بني أميَّة ولا للبيزنطيّين. لهذا دافع دفاع المستميت عن هذه الفكرة، مع الأب هنري لامنس اليسوعيّ الذي ما أراد أن يتَّخذ موقفًا جازمًا من هذا الأمر وقد شاءه المطران مساندًا له. مع الأب أنستاس الكرمليّ، ذاك "المارونيّ القحّ" الذي نشأ على الرأي بأنَّ "المردة والموارنة قوم واحد"، ولكنَّه تبدَّل فيما بعد. فكان جواب المطران قاسيًا بعض الشيء.

ردَّ المطران على الأب لامنس فقال: "إنَّ واقع الحال هو أنَّ حضرة الأب لامنس كتب مقالة أولى أنكر فيها أنَّ المردة من الموارنة... ثمَّ أتى بالمقالة الثانية... زاعمًا أنَّ الجراجمة أشبه بالمردة في أحوالهم، فهم المردة أنفسهم. ثمَّ رأينا في "المشرق" مقالة الأب أنستاس أشبه بمقالة الأب لامنس" (المشرق، 1903، ص 404). وسبق للمطران الدبس في المشرق سنة 1902 (ص 914-923) أن قدَّم ثمانية أدلَّة في مقاله حول المردة والموارنة وأنهى مقاله كما يلي:

"لعمر الحقّ أنَّ هذه بيِّنة لا تُردّ على أنَّ المردة لم يكونوا جنودًا لأحد ملوك الروم ولا جالية أحلّوها في لبنان ثمَّ أخرجوها منه بعد مدَّة وجيزة. ومن المعلوم أنَّ أولئك الجنود وتلك الجالية لم يكونوا إلاّ من مملكتهم...".

فما أراده المطران من كلامه هو أن يقدِّم درسًا وأمثولة لأبناء أمَّته. قال: "ذكرنا في تاريخ الموارنة في القرنين الخامس والسادس، مارون وتلامذته وتكاثر رهبانهم وأديارهم وتوافر الجمهور المنتمي إليهم والمسمّى باسمهم. ونذكر في هذا العدد (أي عدد 6: في سطورة المردة أي الموارنة في هذا القرن) طورهم الدنيويّ في هذا القرن، وذلك درس نلقيه على أبناء ملَّتنا وجميع مواطنينا نحذِّرهم به من التهوُّر في مهواة المناوأة للسلطة السائدة فيهم بوسوسة أصحاب الأغراض البعيدين عنهم". ويواصل الدبس كلامه الراعويّ وفيه ينبِّه المؤمنين ممّا يتربَّص بهم اليوم كما تربَّص بهم في الماضي من مؤامرات ودسائس: "إنَّ هؤلاء الملوك البيزنطيّين أنفسهم الذين وسوسوا للموارنة وهيَّجوهم على مخالفة رضى حكومتهم، انقلبوا على المردة وأذاقوهم الأمرَّين ومكروا بهم فسبوا اثني عشر ألفًا من نخبة شبّانهم وأبعدوهم عن أوطانهم، وجيَّشوا عليهم وأضربوا عليهم بلادهم وحرقوا أديارهم وعمدوا على القبض على بطريركهم...". وينهي كلامه: "فهذه هي الأمثولة التي نريد أن يتمثَّل بها أبناء ملَّتنا ومواطنينا" (المختصر، ص 21).

الواعظ

لبث المطران يوسف الدبس، بالرغم من مشاغله العديدة ومشاريعه، ذلك الكاهن الغيور على مستوى الوعظ والإرشاد، وسماع الاعتراف والاهتمام بالجماعات الدينَّة في أبرشيَّته. وما اكتفى هو أن يقوم بهذا العمل الجلل، بل اهتمَّ بتثقيف كهنته مرَّة كلَّ 15 يومًا، ثمَّ أربع ساعات كلَّ أسبوع لكي "يتابعوا البحث اللاهوتيّ والنقاش". كما اعتاد أن يرسل الكهنة الأكفّاء إلى الرعايا "ليعظوا أبناء الأبرشيَّة ويرشدوهم" كما قال عنه المعلِّم عبد الله البستانيّ.

ونبدأ أوَّلاً بشرحه للأناجيل الأربعة. كُتب التفسير ضخمة وغالية الثمن. فكيف للكهنوت أن يقتنوها، وإن اقتنوها لا وقت لهم لقراءتها. لهذا انطلق الدبس من المفسِّرين الكبار ودبَّج كتاب في ألف صفحة ونيِّف ودعاه "تحفة الجيل في تفسير الأناجيل". وما اكتفى بالتفسير، بل ألحق بالكتاب فهرس الموادّ تسهيلاً للواعظين. وفي الخطِّ عينه اهتمَّ سيادته "بكتاب التعليم المسيحيّ الرومانيّ" الذي هو والد التعليم الكاثوليكيّ الذي صدر في نهاية القرن العشرين. كان قد تُرجم مرارًا. وأوَّل مترجم له العالم المارونيّ جبرائيل الصهيونيّ. أمّا الترجمة التي صحَّحها المطران الدبس وطبعها (سنة 1891)، فقد قام بها الخوري يوسف ضاهر البستانيّ، أحد أساتذة الحكمة، فجاء في 734 صفحة.

ونذكر بشكل خاصّ مواعظ سيادة المطران يوسف الدبس رئيس أساقفة بيروت الكليّ الشرف والاحترام. يتضمَّن الكتاب الخطب والرسائل الرعائيَّة التي ألقاها ووجَّهها في السنتين الأوليَّين (1872-1873) من تسقيفه على بيروت. طُبع سنة 1873، وسنة 1874، طُبعت مواعظ سيادة المطران يوسف الدبس، فضمَّت ما نُشر سنة 1873 في قسم أوَّل (256 صفحة). وأضيف القسم الثاني (226 صفحة) الذي يتضمَّن مواعظ سنة 1874. ثمَّ أضيفت رسالة رعائيَّة في 30 صفحة ومنشور إلى كهنة بيروت في 10 صفحات. وسنة 1875، كانت مواعظ الصوم وهي ستّ: في الإيمان والنعمة والانتخاب والرذل والأسرار، وفي الكهنوت، وفي القربان. كلُّ هذا طُبع في سنة 1880، فجاء في 238 صفحة.

ونورد من سنة 1874 الخطبة الأولى التي ألقيت في 2 آذار يوم عيد القدّيس يوحنّا مارون، سنة 1873، مع عنوان: "مجد لبنان أعطيَ له".

"إنَّ هذا القول الإلهيّ تخصُّه كنيستنا المارونيَّة بالقدّيس يوحنّا مارون، وكثيرًا ما كتبتُه على صوره، وقد فرضتُ أن نعيِّد لذكره كلَّ سنة في مثل هذا اليوم. ولمّا كان هذا القدّيس المعظَّم البطريرك الأوَّل لطائفتنا، وقد اختارته لمّا فشَّ وباء الأرطقات في البطريركيَّة المارونيَّة لتقي نفوسها من الضلال، وتحافظ على الإيمان الصحيح والاتِّحاد مع الكنيسة الرومانيَّة أمِّنا وأمِّ جميع الكنائس ومعلِّمتهنّ. وكان لهذا القدّيس من الأعمال السامية ما يقصر اللسان، وإن فصيحًا، عن بيانه. وقد تعيَّن عليَّ أن تكون عادة كلامي يوم عيده هذا بيان سموّ فضائله وعظمة غيرته وقداسته. وحيث إنَّ هذ القدّيس كان راهبًا في دير أبينا القدّيس مارون وهو من تلامذته وسُمّي مارون نسبة إليه، فلم يسعني المقام إلاّ أن أعرض أوَّلاً استطرادًا بذكر القدّيس مارون أبي طائفتنا الأوَّل ومعلِّم بطريركنا هذا القدّيس، وبثبات طائفتنا المارونيَّة بشفاعته بل بأعجوبة منهما على الإيمان الكاثوليكيّ مدَّة أربعة عشر جيلاً". ( ص 3).

وها هي عظة في الاعتراف تلاها سيادته في الأحد الخامس من الصوم، في 10 آذار 1873. مع عنوان: "يا ابني مغفورة لك خطاياك" (مر 2: 5).

"قد اعتدتُ في عظاتي الماضية أن أجعل مستهلَّ كلامي آية من الإنجيل الذي يُتلى في ذلك النهار، لاعتباري أنَّ الكنيسة خصَّت فصول الإنجيل بهذه الأيّام ليكون لنا كلُّ فصلٍ في يومه، مادَّةً نتأمَّل بها ونجني منه ثمرة الفضيلة المقصورة. وعلى عادتي السالفة أُجري اليوم. فقد تُليَ على مسامعكم اليوم فصل الإنجيل المنطوي على أعجوبة إبراء المخلِّص للمخلَّع الذي أتوا إليه محمولاً على سرير تحمله أربعة رجال، إشارة إلى أنَّ تخلُّعه كان تامًّا لا يمكنه من أن يخطو. وأراد من ذكر ذلك تحقيق الأعجوبة.

"ولمّا كان الجمع مزدحمًا إلى يسوع حتّى لم يستطع من أتوا بالمخلَّع الدنوّ منه وكان إيمانهم وثيقًا، صعدوا إلى السطح وثقبوا سقف البيت حيث كان يسوع، ودلُّوا السرير الذي كان المخلَّع عليه. فلمّا نظر يسوع إلى إيمانهم، قال للمخلَّع: "يا بُنيّ غفورة لك خطاياك" مبيِّنًا أنَّ السعي لنوال مغفرة الخطايا هو ألزم وأهمّ كلّ أمر ومقدَّم كلِّ شيء. وإنَّ الإنسان إذا كان في خطيئة مميتة، لزمه أن يستغفر الله وذنبه قبل أن يخطو خطوة واحدة لأنَّه يكون مخلَّعًا بالخطيئة عن المشي في طريق الله المتوجِّب عليه سلوكه. فيلزم أن يستميح أوَّلاً مغفرة الخطيئة التي هي كعقال له. فإذا حُلَّ، مشى. ولرغبة المخلِّص في مغفرة خطايا الناس ومخاطبتهم في أمرها، ترك الكتبة والفرّيسيّين يفكِّرون في قلوبهم: "من هذا المتكلِّم بالتجديف؟ من يمكنه أن يغفر الخطايا غير الله وحده". "فعلم يسوع بروحه، أي بقوَّة لاهوته، ما كانوا يفكِّرون في نفوسهم". فقال لهم: "أيُّما أيسر القول للمخلَّع: "قد غُفرت خطاياك" أو القول: "قُم احمل فراشك وامشِ". فغفران الخطايا بنفسه أعسر من القول: قم وامشِ، لأنَّه أعلى من الأمور الطبيعيَّة كافَّة لملاحظته مرتبة النعمة.

"ولكنَّ المسيح قال لنا هنا إنَّ غفران الخطايا أيسر من القول: قم وامشِ، على موجب حكمنا البشريّ الذي يعتبر الأمور المحسوسة أكثر من الأمور الروحيَّة الأدبيَّة. ثمَّ إنَّ القول: "مغفورة لك خطاياك"، لا يمكن سامعه أن يؤنِّب قائله على الكذب إذا لم يتمَّ حقيقة لخفائه. بخلاف القول: قم وامشِ، لأنَّ صحتَّه أو عدمها تظهر لكلِّ واحد. وعليه، فقد برهن بالأعجوبة المحسوسة التي هي أعسر على رأيهم، سلطانَه على مغفرة الخطايا، كما قال: "لتعلموا أنَّ ابن البشر له "سلطان في الأرض أن يغفر الخطايا وأن يهب هذا السلطان السامي الخاصّ بالله وحده، وبالمسيح من حيث أنَّه إنسان، أيضًا للكهنة وأن يوليهم إيّاه كنوّاب له، كما فعل في كهنة العهد الجديد. وتلك منه منَّة عظمى ورحمة كبرى جعل الله بها الناس يغفر بعضهم خطايا البعض تسهيلاً لخلاصهم وتقرُّبهم منه. وذلك بتوسُّط سرِّ مغفرة الخطايا، أي سرّ الاعتراف الذي هو مادَّة كلامي في هذا النهار، حيث أوَّلاً أثبتُ حقيقة وجود هذا السرِّ في بيعة الله وأمر المخلِّص للناس بممارسته. ثانيًا، أبيِّن عظمة إحسان الله بإنشائه وأخصّ على تواتر الاعتراف. ثالثًا، أوضح كيفيَّة التقدُّم إليه كما ينبغي. فصلّوا إلى الله ليُفيدكم بكلامي".

وهكذا شرح المطران يوسف نصّ الإنجيل مشدِّدًا على بعض الأمور: المعجزة المادّيَّة والمعجزة الروحيَّة. دور الإيمان في المعجزة. رحمة الله التي منحت الكهنة سلطان مغفرة الخطايا. وبعد ذلك، استعدَّ لكي يعطي التعليم اللاهوتيّ والممارسة العمليَّة.

عاد المطران إلى المجمع التريدنتينيّ الذي حرم من لا يعتقد من الإيمان أنَّ الاعتراف سرّ حقيقيّ. وأنَّه يشترط للسرّ ثلاثة وهي: رسم المسيح، والإشارة المحسوسة، والوعد بالنعمة (ص 23). وتذكَّر سيادته الأرطقات منذ بداية الكنيسة حتّى القرن السادس عشر وما بعده. كما أراد الاستناد إلى الكتاب المقدَّس والتقليد وبعض الآثار الكنائسيَّة. في سفر اللاويّين (5: 1): إن خطئت نفسٌ فلتتُب عن خطيئتها. وفي السفر عينه حول يوم التكفير: "يضع الكاهن يديه على رأس الجدي ويعترف بخطايا بني إسرائيل" (لا 16: 21). وكان هذا الاعتراف يقترن مع الذبيحة وصلاة الكاهن. واستند إلى العالم اليهوديّ مع ابن عزرا، أو التلمود: الخاطئ يلزمه أن يُوضح في الاعتراف جميع أعماله وانتقل المطران إلى العهد الجديد مع كلام يسوع بعد القيامة في إنجيل يوحنّا: "من غفرتم له خطاياه غُفرت له..." (يو 20: 22). وشبَّه سيادته الخوري بالطبيب والقاضي. وآباء الكنيسة هم هنا منذ ترتليان في القرن الثالث (في التوبة)، إلى قبريانس أسقف قرطاجة (في الساقطين في الجحود) وأوسابيوس القيصريّ في شرحه مز 24...

لا مجال لتكملة هذا المقال الذي يصحُّ لأن يكون درسًا لاهوتيًّا في سرِّ التوبة، كما اعتاد الأساتذة أن يفعلوا مع الذين يستعدُّون للكهنوت. لا بدَّ أنَّ الخوري يوسف الذي علَّم في مار يوحنّا مارون كفرحي، بدأ أبحاثه منذ ذلك الوقت، وهو القارئ اللاتينيَّة كما نقرأ نحن العربيَّة أو الفرنسيَّة. ونصل إلى القسم الثالث من العظة:

"أمّا كيف ينبغي التقدُّم إلى الاعتراف فلا أحتاج كثيرًا إلى تفصيله... الأجزاء التي يقوم بها الاعتراف من جهة المعترف ثلاثة الندامة والإقرار والوفاء. فالندامة تقسَم إلى كاملة وغير كاملة. فالندامة الكاملة هي ما أحدرها الإنسان بالله المحبوب بذاته...".

ومن سنة 1874 نقدِّم عظة ألقاها المطران الدبس في علامات الكنيسة في الأحد الثاني من الصوم، في 23 شباط:

"نحمد الله أنّنا صعدنا على هذا المنبر ننذر بكلمة الله، هذا الموسم الثالث بعد أسقفيَّتنا موسم النفس أيّام الصوم المكرَّسة للتورُّع وعبادة الله والاهتمام بالخلاص وقد مضت بعد أن طالت أيّام المرافع والأفراح الجسديَّة، وأتى الوقت الذي ينبغي أن نعطي النفسَ يومًا حال كوننا نعطي الجسد سنة وأن نعيش لله قليلاً نحن العائشون بكلِّيَّتنا للعالم وكما يقول القدّيس بطرس غريولوغوس فما أعظم توجُّب هذا الأمر علينا لله عزَّ وعلا وما أظهر حقّ نفسنا التي تطالبنا بأن نقضي وقتًا وجيزًا في الاهتمام بها بعد صرْفنا الكثير من أوقاتنا في خدمة الجسد الذي هو جزءنا الأدنى...".

ويبدأ القسم الأوَّل من العظة: "لا بدَّ لكلِّ شيء لزم عرفانه من علامات مميَّزة له عمّا سواه. فكنيسة المسيح التي جعلها ميناء للخلاص وطريقًا للملكوت هي أعظم شيء يلزمنا عرفانه وفصله عن غيره. فلا بدَّ لها من علامات تميِّز عن الكنائس الغير الحقيقيَّة والكاذبة لئلاّ يجهل الناس ميناء الخلاص فيغرقون في لجَّة الهلاك، ويضيِّعوا طريق الملكوت فيسلكون في شبه الضلال والتعاسة. وقد أجمع الكاثوليكيّون والأراطقة على لزوم علامات تمتاز بها الكنيسة الحقيقيَّة من الكنائس الكاذبة..."

ويقدِّم لنا سيادته الأسلوب الذي يأخذ به فيقول: "إنَّ الأسلوب الذي اعتمدت أن أسلك به هذه السنة في خطبي إنَّما هو الأسلوب الذي سلكت فيه السنة الماضية، أي الإثبات البرهانيّ في إثبات أخصّ حقائق ديانتنا المقدَّسة".

وأخيرًا، ها هي الموعظة الأولى في سنة 1875 (طُبع سنة 1880): "الإيمان والأعمال الصالحة". ونتوقَّف عند القسم الثاني وعنوانه المعتقد بين النظريَّة والوصاة. ونبدأ بالإيمان النظريّ:

"فقد قال لوتاروس في تفسيره الإصحاح الثاني من رسالة غلاطية "حيث يعلِّم أنَّ الإيمان يبرِّر، ولكن يلزم حفظ وصايا الله أيضًا... فهناك إنكار المسيح وإبطال الإيمان إذ يُنسَب لوصايا الله وسنَّته ما يخصُّ الله وحده". وقال في التفسير المذكور أيضًا: "إنَّ الإيمان وحده يبرِّر... وليس الإيمان المتضمِّن المحبَّة". إلى أن يقول: "لو صحَّ أنَّ الإيمان لا يبرِّر خلوًّا من المحبَّة، لكان لا نفع للإيمان ولا قوَّة له". وقال في القضيَّة الثالثة من المجلَّد الأوَّل من تأليفه: "إنَّ الإيمان لا يبرِّر، بل لا يكون إيمانًا ما لم يكن دون الأعمال بالكلّيَّة ولو زهيدًا"...

ويواصل المطران يوسف سرد أقوال لوثر المدوَّنة أصلاً في اللاتينيَّة. وانتهى إلى القسم الثاني: العمل بالوصاة:

"فهذا ما قاله من ادَّعوا ومن يدَّعي أتباعُهم أنَّهم مصلحو العالم. وإنّي على يقين من أنَّ مجرَّد ذكر أقوالهم على سماعكم هو أكبر مفنِّد لتعليمهم ويشمئزّ منه كلّ سامع لم يفقد شعائر الدين، ويرى فيه نوعًا من الهذيان. فكيف يمكن الإيمان وحده أن يبرِّرنا ويخلِّصنا ولو ارتكبنا الفحشاء والقتْل ألف دفعةٍ في النهار؟ فما نفعُ وصايا الله وتكرار المسيح لها في إنجيله؟ وإن كان الأعمال الصالحة خطايا، فماذا يبقى إلاّ أن تكون الخطايا أعمالاً صالحة؟ فأيُّ ذي عقل سليم، ولا أقول أيُّ مؤمن يسلِّم بذلك؟ فهذه الاعتبارات الموجزة تكفي مؤونة الردِّ على زعم أخصامنا ومؤونة إثبات تعليمنا الكاثوليكيّ بأنَّ الإيمان وحده لا يبرِّر. وأنَّ الأعمال الصالحة ليست إثمًا، بل هي لازمة للخلاص أيضًا. على أنَّنا لا نكتفي بهذا الإيجاز الكافي، بل نُثبت مقصدنا بالبرهانات العقليَّة وآيات الكتاب وشهادات التقليد".

لا نذكر من البراهين سوى ما في الإنجيل. قال المطران: "ولنسمعْ من أُرسل من حضن الآب ليعلِّم المسكونة طريق الخلاص. فلم نرَه البتَّة قال إنَّ الإيمان وحده يخلِّص. بل نراه لمَّا سأله ذلك الشابّ: "ما الذي أعمله لأرث الحياة الأبديَّة؟!" أجابه: "إن شئت أن تدخل الحياة فاحفظ الوصايا"، لا أن تؤمن فقط. ونراه يصوِّر نفسه يوم الدينونة مقضيًا بالهلاك المؤبَّد على الأشرار، لأنَّهم لم يؤمنوا، بل لأنَّهم لم يعملوا الأعمال الصالحة إذ يقول: "إذهبوا عنّي يا ملاعين إلى النار الأبديَّة، لأنّي جعتُ فلم تطعموني، وعطشتُ فلم تسقوني...". أمّا الآباء. قال أغناطيوس الأنطاكيّ: "إنَّ الإيمان يجذبنا إلى الله، والمحبَّة طريق تقتادنا إليه تعالى". والقدّيس اكليمنضوس الرومانيّ: "إنَّنا نصير أبرارًا بالأعمال، لا بالكلام". ثمَّ قال: "إنَّنا نرى جميع الأبرار كانوا متجمِّلين بالأعمال الصالحة، ومن حيث أنَّنا أمرنا بذلك، فلنضع بكلِّ قوانا أعمال البرّ". وقال القدّيس قبريانوس: "كيف يقول إنَّه يؤمن بالمسيح من لم يصنع ما يأمر المسيح أن يصنعه". وقال القدّيس أفرام السريانيّ: "كما أنَّ الجسد ينمو بقوَّة النفس الحيويَّة، هكذا النفس وإن ظهر أنَّها صحيحة تكون ميتة خلوًّا من الأعمال، فإنَّ حياتها تقوم بالأعمال الصادرة عن الإيمان". وقال أوريجان: "إنَّ من أقرّوا بالإيمان بالمسيح ولم يستعدُّوا بالأعمال الصالحة، كانوا أشبه بالعذارى الجاهلات".

وتطول اللائحة إلى الخلاصة: "وهكذا اتَّضح إذًا، أولادي، بالبرهان العقليّ واللاهوت، وبآيات الكتاب الصريحة، وبإقرار بعض الخصوم بالحقّ خلافًا لبعضهم، وبشهادة الأباء القدماء أنَّ الإيمان وحده لا يكفي للتبرير والخلاص، بل لا بدَّ من الأعمال الصالحة".

الخاتمة

تلك هي نظرتنا إلى المطران يوسف الدبس، رئيس أساقفة بيروت المارونيَّة، ونحن نتذكَّره بعد مئة سنة على وفاته. رجل قيل فيه: أكبر شخصيَّة مارونيَّة في القرن التاسع عشر. رفض أن يبقى قابعًا في الجبل، خائفًا أن ينزل إلى بيروت. بل نزل وشيَّد مدرسة، وأسَّس جامعة، وبنى كاتدرائيَّة، هذا عدا الكنائس العديدة، كما جمع نخبة من الأساتذة في الدائرة العلميَّة المارونيَّة. كما كان يقول لأصدقائه في الغرب: وجودنا في بيروت أمرٌ ضروريّ ولا يمكن أن نكون غائبين. فالطائفة تحتاج إلينا وكذلك الوطن، حيث الحوار يكون بين الطوائف فتغتني الواحدة مع الأخرى حين تنفتح الطريق إلى مستقبل يمكن أن يكون فيه لبنان بلد الإشعاع العلميّ والفكريّ. من أجل هذا نستطيع القول: مع المطران يوسف الدبس وغيره من رجالات بداية القرن العشرين بدأ بناء لبنان الكبير. أتراه يبقى كبيرًا؟ ذاك هو السؤال الذي يُطرَح علينا.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM