الفصل 3: الكتاب المقدّس في اللغة السريانيّة

الكتاب المقدّس في اللغة السريانيّة

هذا الذي بدأ الكتابة والترجمة والتأليف وهو ابن العشرين سنة، وواصل العمل وهو كاهن فتطرَّق إلى الفلسفة واللاهوت والدفاع عن الإيمان، ما توقَّف خلال أسقفيَّته التي امتدَّت خمسًا وثلاثين سنة، عن كتابة التاريخ، موسوعه ومختصره، والاهتمام بالكتب الطقسيَّة التي انتقلت طباعة بعضها إلى حلب بعد موته. هذا الرجل العظيم الذي اتُّهم زورًا فوصلت الشكاية إلى رومة، فاكتفى بأن يحمل معه كتبه التي هي الإرث الأهمّ الذي يتركه للاحقين وينال عنه الأجر لدى الربّ.

أ- نظره إلى الكتاب

تحدَّثنا سريعًا عن هذه الكتب، وها نحن نتوقَّف الآن عند تفسير الأناجيل الأربعة في كتاب عنوانه: "تحفة الجيل في تفسير الأناجيل".

جاء عنوان الكتاب كما يلي: "قد جمعه الخوري يوسف الياس الدبس المارونيّ اللبنانيّ من تفسير العلماء الأفاضل كرنيليوس الحجريّ ويوحنّا ملدوناتوس ويعقوب تيرينيّ اليسوعيّين من اللاتينيَّة إلى العربيَّة. قد طُبع الآن باهتمامه واهتمام صديقه الخواجا رزق الله خضرا في المطبعة العموميَّة في بيروت سنة 1877. وفي النهاية نقرأ: "كان النجاز من تبييضه يوم الأربعاء في الثامن والعشرين من نيسان سنة 1869 في دير بكركي". هكذا ورد في الصفحة 999 من طبعة سنة 1877، تحت اسم الخوري الياس الدبس المارونيّ. عدد الصفحات، 1034 صفحة، مع مقدِّمة من 30 صفحة تبحث عن الترجمة السريانيَّة والعربيَّة للأسفار المقدَّسة، ومع فهرس للموادّ المتضمِّنة في الكتاب تسهيلاً للواعظين.

ذكر الدبس في ندائه إلى كاثوليكيّ أوروبّا سنة 1875، أنَّ تفسيره للأناجيل هو في جزئين مطبوعين. قد يكون يعني بالجزء الأوَّل الطبعة الأولى للكتاب نفسه، التي ذكرها غراف من سنة 1868. أمّا الأب لويس شيخو فقال إنَّ الدبس طبع قسمًا من كتاب تفسير الأناجيل في مطبعة إهدن التي شارك فيها رومانوس يمّين. "لكنَّه وقتئذٍ لم ينجز طبعه". لم يذكر الأب شيخو سنة الطبع. ولكن ذكرها سليمان البستانيّ في دائرة المعارف (المجلَّد السابع، ص 625) فقال: "طُبع هذا الكتاب في المطبعة العموميَّة سنة 1868، مشتملاً على ألف وخمس وعشرين صفحة. ثمَّ طُبع ثانية سنة 1878".

ب- مقدِّمة الكتاب

سبق وقلنا إنَّ الخوري يوسف الدبس دوَّن مقدِّمة لكتاب التحفة، جاءت في ثلاثين صفحة. عنها نتحدَّث فنورد مقاطع منها، على أن نعود إلى دراسة بعض النصوص، ونهج الدبس في الاستقاء من المراجع الغربيَّة وتدوينها في إطار شرقيّ، ورعائيّ من أجل خدمة الكهنة. وإليك البداية:

"نحمدك يا من جعلت الإنجيل نورًا لبصاير (لبصائر) المؤمنين، وركنًا قويًّا للدين، وللعالمين هدي مبين. أمّا بعد فيقول العبد المفتقر إلى عفو ربِّه الخوري يوسف الياس الدبس المارونيّ اللبنانيّ إنَّه لمّا كانت تفاسير البشاير (البشائر) الإنجيليَّة الشريفة من أجلِّ الكتب قدرًا، وأولاها فخرًا، وأعظمها نفعًا، وأضرَّها شرعًا، ومع هذا كانت في العربيَّة نادرة الوجود، ويضطرّ في اقتنايها (اقتنائها) إلى مبالغ من النقود، فجلّ ما تداولته أيدي القلايل (القلائل) من أبناء وطننا من تفاسير الإنجيل هو التفسيرات الأثيلة المحكمة التي نظم درَّها الأب الفاضل والعلاَّمة الكامل، كورنيلوس الحجريّ اليسوعيّ، وطوَّق جيد الكنيسة المقدَّسة بها، إلى أن جدَّ الأب الغيور العلاَّمة الخوري يوسف الباني الحلبيّ المارونيّ باستخراج درّ هذه القلادة الوضيَّه من بحر اللغة اللاتينيَّة، إلى فيحاء العربيَّة. ورصَّع المطران جرمانوس فرحات الشهير المارونيّ هذه النخبة بجواهر التعريب العجيب، فأنعم به من فتّان فتّان. إلاَّ أنَّ هذه التفسيرات كانت تملا (تملأ) خمسة مجلَّدات عربيَّة كبيرة، ولبثت حتّى الآن لم تُفرَغ في قالب الطبع، ولم يسهل إلى روضها النجع، بل يلزم نضد درِّها بروس (برؤوس) الأقلام، وتقنيب زهر ما بها من الكمام، ولذا كان يحتاج في اقتنايها (اقتنائها) إلى بذل مبالغ مال وفيرة، وفي تلاوتها إلى إصراف أشهر كثيرة، فبعُد مجالُها، وصعُب منالُها."

ذاك هو الوضع الذي لفت انتباه الكاهن الغيور الذي بدأ حياته الكهنوتيَّة في تربية الكهنة في مار يوحنّا مارون. غابت كتبُ التفسير. وما وُجد منه ليس في متناول العامَّة، وذكر فقط، ما فعله الخوري يوسف الباني مع المطران جرمانوس فرحات. ولكنَّ الكتاب الذي يضمُّ خمسة مجلَّدات، لم يُطبَع إلى الآن. أتُرى يبقى الدبس مكتَّف اليدين؟ كلاّ. فواصل كلامه في المقدِّمة:

"ولمّا كنت ممَّن لا يالون (يألون) جدًّا، ولا يرهبون كدًّا، في ما به إكساب الفوايد (الفوائد) للناس بموجب إلزاماتي المنذورة فعلى ما بي من خمود الفكرة وقد تجشَّمت مهمَّة إيجاز تلك التفسيرات النفيسة، وانتقا (انتقاء) ما رأيته أكثر نفعًا من تلك المعاني الأنيسة، واعتمدت بذلك على أصلها اللاتينيّ لا على ترجمتها العربيَّة لعلمي بما من التفضيل للأصول على الفروع، وكم فضل على السواقي الينبوع. وقد أضفت إلى ذلك بعض زيادات انتقيتُها من تفاسير الجهبذ التحرير، والفهامة الخطير الأب يوحنّا ملدوناتوس أحد أعضا (أعضاء) الجمعيَّة اليسوعيَّة المشهود له بالإحكام، والمشهور بين ملوك الكلام، وأدخلت بسلك هذا التاليف (التأليف) بعض لآلئ من موجز تفاسير اللوذعي الأثيل، والألمعي الفضيل يعقوب تيريني أحد ابا (آباء) الجمعيَّة اليسوعيَّة أيضًا التي أغنى أفرادُها عالمَ العلم بتاليفاتهم (بتأليفاتهم) العديدة، وطوَّقوا جيد البيعة بمصنَّفاتهم الأثيلة الفريدة.

ولدا لا أدَّعي بكوني مفسِّرًا للإنجيل فلستُ من فرسان هذا الميدان. وليس لي في حلِّ مشكلات تفسيره يدان. فأنا مترجم موجز جامع وليس في هذا الكتاب من كلامي إلاَّ ما اضطررت إليه لالتحام المعاني، أو لتحلية وتكملة المباني، وجلَّ ما تعمَّدته أن أتحف أصحاب اللغة العربيَّة بكتاب في تفاسير الأناجيل الأربعة يحتاج في تلاوته أسبوعًا، وقليلاً من المال في اشترايه (شرائه) مطبوعًا، وسمَّيته تحفة الجيل في تفسير الأناجيل."

انكبَّ الدبس على العمل وما خاف، وبيَّن المصادر التي أخذ منها، وأعلن أنَّه "مترجم، موجز، جامع"، لا "مفسِّر الإنجيل". ولكنَّه توخّى أن يكون هذا الكتاب في متناول الجميع، سواء على مستوى الحجم كما على مستوى الثمن. أمّا كلام الخوري يوسف فجاء في قسمين كبيرين. الكتاب المقدَّس في السريانيَّة، الكتاب المقدَّس في العربيَّة. وسبق هذين القسمين فاتحة يذكر فيها الوضع.

"قد اعتاد غالبًا من طبعوا الأسفار المقدَّسة أن يعلِّقوا في المقدِّمات عليها بعض شروح في تاريخها رغبة في الإفادات وتبيانًا لكيفيَّة بلوغها إلى المطالعين سالمة من التحريف والتصحيف، والحذف والتزييف، ولمّا كانت أكثر النسخ العربيَّة مترجمة عن السريانيَّة قد شيت (شئت) أن أحدو حدو (أحذو حذو) من تقدَّمني متكلِّمًا في أصل الترجمتين السريانيَّة والعربيَّة خاصَّة في الأناجيل فيهما وشارحًا قدمهما ونسخهما وطبعها بقدر ما سمح لي قصر باعي وضيق وقتي المتنازعته أشغال وظيفتي بخدامة الحبر العلاَّمة العامل، والجهبذ الفهامة الفاضل، البطريرك بولس بطرس مسعد بطريرك أنطاكية وساير (سائر) المشرق على طائفتي المارونيَّة، وحيث أنَّه يخطر ببالي أن أولِّف (أؤلِّف) إن قدَّرني الله وأسعفتني الحالّ كتابًا أتكلَّم فيه في أصل الطوايف الشرقيَّة منذ بديها (بدءها) وفي تنصُّر كلٍّ منها وفي نسخ الكتاب المقدَّس عندها فأحببت أن يكون كلامي هنا موجزًا، وإن ضمَّنته بعض شروح في الأسفار المقدَّسة كلِّها تكثيرًا للإفادات تاركًا التطويل إلى التاليف (التأليف) المذكور الذي جمعت بعض المادَّة اللازمة له، وقد صرَّحت بافتكاري به لأنبِّه ذوي العلم إلى تأليف كذا كثير الإفادة إن لم أتمكَّن أنا من إيجاده، فأقول الآن وبالله المستعان."

أوَّلاً: الكتاب المقدَّس في اللغة السريانيَّة

"من المعلوم أنَّ اللغة السريانيَّة قديمة جدًّا حتّى ادَّعى بعض العلما (العلماء) أن يثبتوا أنَّها اللغة الأولى التي تكلَّم بها آدم أبو البشر، مستدلّين على ذلك (بين باقي الأدلَّة) بالتسميات التي ذكرها موسي (موسى) في سفر التكوين وهي تقرِّب الألفاظ السريانيَّة زنهً (زنةً) ومعنى. ولكي لا أتحرَّش بهذا المبحث الذي طالما جدَّ به فطاحل العلما فلم يبلغ أحدهم إلى توكيده (تأكيده) القطعيّ حتّى اختار أكثر علما عصرنا الإقرار بعجزهم عن إدراك حقيقته. أقول إنَّ اللغة السريانيَّة كانت تسمّي (تسمّى) قديمًا آراميَّة والمتكلِّمون بها آراميّين نسبة إلى آرام بن سام الذي كانوا من ذرِّيَّته. وكان هذا الاسم يعمُّ سكان سورية وبلاد الكلدان وأثور وغيرهم. ثمَّ أخذ سكّان سورية وحدهم يسمَّون سوريّين وسريانًا نسبة إلى صور عاصمة الفينيقيّين على قول بعضهم، إلى أن امتدَّ هذا الاسم إلى كثير من الأمم المجاورة لهم. وكان السوريّون غير الأثوريّين الذين هم من ذرِّيَّة أثور أو أسور بن سام أيضًا، وكانوا يسكنون في عبر الفرات. إلاَّ أنَّه عندما تملَّك ملوك أثور سورية صار المفهوم بالأثوريّين والسوريّين شعبًا واحدًا ولذا تجد الاسمين بمعنى واحد في كتب بعض القدما (القدماء) كيوسيفوس واسترابون. ولمّا قُسم المُلك بين السوريّين والأثوريّين، اختصَّ اسم الأثوريّين بمن كانوا في عبر الفرات، واسم السوريّين بمن كانوا يسكنون سورية إلى الفرات.

"إنَّ اختلاف الأمكنة والأزمنة والشعوب سكّان الأقاليم المذكورة، قد أكسب اللغة الآراميَّة تغييرات فرعيَّة وأسما (أسماء) مختلفة، فسمِّيت سريانيَّة وكلدانيَّة وأثوريَّة وبابليَّة، وعبرانيَّة أيضًا لما سيجي (سيجيء)، وأورشليميَّة لاستعمالها في أورشليم بعد السبي البابليّ وأنطاكية لأنَّ النصارى سكّان البطريركيَّة الأنطاكيَّة كان أكثرهم يتكلَّم ويباشر الأمور المقدَّسة بها. سمّاها بعض العلما الأوروبّيِّين مارونيَّة لأنَّها كانت قديمًا لغة بني طايفتنا سكّان سورية، وما برحت لغة طقسهم أينما وجدوا. فكلُّ ما تسمّى بهذه الأسما هو لغة واحدة نظرًا إلى الأصول أو فروع لغة واحدة يختلف بعضها عن بعض اختلافات جزئيَّة في أمور عرضيَّة.

"لكنَّ هذه اللغة غير اللغة العبرانيَّة التي كتب موسى التوراة بها (وإن كانت تقرب منها)، كما يظهر من سفر التكوين ص 31 عد 47 حيث نقرأ أنَّ لابان السريانيّ سمّى المحلّ باسم بالسريانيَّة، ويعقوب سمّاه باسم آخر في العبرانيَّة. ومن نبوة (نبوءة) أشعيا ص 36 عد 11 حيث يظهر أنَّ الشعب العبرانيّ لم يكن يفهم لغة الكلدان والأثوريّين.

"إنَّ المشهور قديمًا من فروع اللغة السريانيَّة ثلاثة. الأول البابليّ وهو أنقى الثلاثة، وقد كتب به دانيال وعزرا أسفارهما المقدَّسة، ويجب معرفة أصول هذا الفرع من كُتبهما. على ما قال والتن في المقدِّمات على البوليكلوتا (أي الكتاب المقدَّس بعدَّة لغات) اللندنيَّة (المقدِّمات التي أشهرها الأب مين الإفرنسيّ في المجلَّد الأوَّل من سياق الكتاب المقدَّس وعن طبعته هذه أخذنا كلَ ما نستشهد به والتن). وارتاي (ارتأى) ريناودوسيوس في مقالته في ترجمات الكتاب المقدَّس عند الشرقيّين خلاف ذلك.

"والفرع الثاني هو الأورشليميّ وأصله أنَّ اليهود لما سُبوا إلي (إلى) بابل وأقاموا فيها نحو سبعين سنة بدَّلوا لغتهم العبرانيَّة باللغة الكلدانيَّة بنوع أنَّهم بعد العَود من سبيهم لم تعد عامَّتهم تفهم اللغة العبرانيَّة كما يظهر من سفر عزرا الثاني ص 8 عد 8 حيث يقال: "وقرأوا في سفر شريعة الله مفسَّرًا (أي مترجمًا إلى الكلدانيَّة ليفهموا)". وهذا قال به كثير من الآبا والعلما ومن شا (شاء) الإسهاب في ذلك فليطالع كتاب الدرِّ المنظوم للعلاَّمة بطريركنا. إلاَّ أنَّ الراي (الرأي) المصحَّح من أكثر العلما ومنهم والتن في المقدِّمات المارّ ذكرها، أنَّ لغة العبرانيّين بعد السبي البابليّ لم تكن كلدانيَّة نقيَّة محضة، بل دخل فيها بعض اصطلاحات وألفاظ عبرانيَّة بسبب أصل العبرانيّين. وإن ارتاى البطريرك جرجس بطرس عميره الإهدنيّ المارونيّ في مقدِّمات غرامطيقه السريانيّ وغيره كثيرون أنَّ لغتهم كانت حينيذ (حينئذٍ) كلدانيَّة محضة. وبلغة اليهود هذه السريانيَّة، تكلَّم وعلَّم المخلِّص له المجد ورسله إذ كانت هي اللغة الدارجة حينيذ في اليهوديَّة. وهذا الأمر لم يعد يحتاج إلى البرهان بعد ما أورده غبطة بطريركنا العلاَّمة في كتابه الدرّ المنظوم والملحق به إثباتًا لذلك، بل أضحت هذه القضيَّة واضحة كالشمس في رابعة النهار. وقد سمِّيت هذه اللغة أحيانًا عبرانيَّة لتكلُّم العبرانيّين بها ولكتابتهم لها بأحرف عبرانيَّة مع أنَّها كلدانيَّة أي سريانيَّة.

"وهذا الفرع الأورشليميّ قد تكسَّر تدريجًا ودخلته ألفاظ أعجميَّة من لغات القبايل (القبائل) التي استحوذت على اليهوديَّة. وكان له فروع أيضًا. فإنَّ لغة سكّان الجليل كانت تختلف عن لغة سكّان اليهوديَّة، ولذا عُرف بطرس في دار رئيس الكهنة أنَّه جليليّ من كلامه. وبهذا الفرع بعد تكسيره هو كتاب الإنجيل الذي أشهره الكونت مينيسكالكي من فارونا مع ترجمته اللاتينيَّة ومقدِّمات عليه وقاموس له، وساعده علي (على) هذا العمل المعلِّم متّى شهوان الغوسطاويّ المارونيّ المقيم في رومة. وهذا الكتاب مقسَّم على الآحاد والأعياد من الفصح إلي سبت النور لاستعمال الملكيَّة في فلسطين، وكُتب سنة 1030، وذكره المونسنيور يوسف سمعان السمعانيّ في كتابه فهرست الكتب الشرقيَّة الموجودة في المكتبة الواتيكانيَّة (الفاتيكانيَّة). وقال إنَّه نادر حتّى لا مثيل له في هذه اللغة.

"والفرع الثالث هو اللغة الأنطاكيَّة المسمّاة أيضًا مارونيَّة، وهي المسمّاة سريانيَّة بالخصوص، وفيها تجد الأسفار المقدَّسة السريانيَّة والفروض والليتورجيّات وكتب مار أفرام السريانيَّة وغيرها. قال غريغوريوس ابن العبريّ المعروف بأبي الفرج في تاريخ الدول الذي أشهره بوكوكيوس "إنَّ اللغة السريانيَّة تقسم إلى ثلث لغات، وأفصحها الآراميَّة وهي لغة أهل الرها وحاران والشام الخارجة (أي بين النهرين). وتقرب منها الفلسطيَّة وهي لغة أهل دمشق وجبل لبنان وباقي الشام الداخلة (أي ما يسمّي سورية بالخصوص). وأسمجها الكلدانيَّة النبطيَّة وهي لغة سكّان جبل العراق وهواذ العراق".

ثانيًا: ترجمة الأسفار المقدَّسة إلى السريانيَّة

"وإذ تقرَّر ذلك أقول: من الموكَّد بالإجمال أنَّ ترجمة الأسفار المقدَّسة إلى السريانيَّة قديمة جدًّا وفي قدمها على ما روى المونسنيور يوسف سمعان السمعانيّ في المجلَّد الثاني من المكتبة الشرقيَّة وجه 279 نقلاً عن ابن العبريّ "ثلاثة ارا (آراء). الأوَّل أنَّها ترجمت في زمان سليمن وحيرام، والثاني أنَّه ترجمها آسا الكاهن إذ أرسله الأثوريّ إلى السامرة، والثالث إنَّها ترجمت في أيّام تادي الرسول وأبجر ملك الرها في الوقت الذي ترجم فيه العهد الجديد الذي بالنسخة البسيطة".

"فيريد بذلك ما فصَّله كثير من المولِّفين والسمعانيّ نفسه في مجلَّد 3 من تاليفه (تأليفه) المذكور وجه 212 في يشوعداد أسقف الحدث أحد المولفين (المؤلِّفين) السريان حيث قال "إنَّ جبراييل الصهيونيّ أورد في مقدِّمة الزبور (المزامير) السريانيّ الذي طبعه، شهادة يشوعداد هذا عن ترجمة الكتاب المقدَّس السريانيَّة وهي أنَّ السريان ترجمت لهم الأسفار المقدَّسة على هذا الأسلوب: فأسفار التوراة الخمسة وأسفار يشوع بن نون والقضاة وراعوت وصامويل (صموئيل) والزبور والأمثال والجامعة ونشيد الأنشاد وأيّوب، ترجمت في أيّام سليمن بطلب حيرام ملك صور صديقه. وأمّا باقي أسفار العهد القديم وأسفار العهد الجديد، ففي أيّام أبجر ملك الرها واهتمام تادي وغيره من الرسل" وهذا الراي (الرأي) قال به أكثر علما السريان، واتَّبعه من علما طايفتنا مرهج بن نمرون الباني في كتابه المعنون أفوبليا (أي سلاح) الإيمان الكاثوليكيّ قسم 3 وجه 385 وإبراهيم الحاقلانيّ في حواشيه على الكتاب المقدَّس الكلدانيّ وغيرهما. وأقرَّ جبراييل الصهيونيّ المارونيّ المذكور أنَّ بعض علما السريان لم يتبعوا هذا الراي، وممن نعلم أنَّهم خالفوه ماري بن سليمن وعمرو بن متّى في تاريخ جثالقة بغداد. إلاّ أنَّ الصهيونيّ حكم أنَّ راي الأوَّلين أكثر احتمالا. وأمّا أنا فعلى ما بي من خمود الفكرة وقلَّة المطالعة حتّي (حتّى) الآن، أرى أنَّ ما ارتاه (ارتآه) والتن في المقدِّمات المذكورة وريناودسيوس في مقالته المشار إليها آنفًا (التي أوَّل من أشهرها مطبوعة الأب مين في المجلَّد الأوَّل من سياق الكتاب المقدَّس وعن طبعته هذه أخذنا الشواهد الموردة من ريناودوسيوس) وبرجر في قاموس اللاهوت الاعتقاديّ وأكثر المولِّفين الغير السريان من أنَّ ترجمة الأسفار المقدَّسة إلى السريانيَّة ليست من زمان سليمان وحيرام هو الأكثر احتمالاً. ولذلك أدلَّة ذكرها والتن، منها أنَّ الأكثرين على أنَّ لغة الصوريّين والفينيقيّين ولغة اليهود كانت واحدة هي العبرانيَّة فلا محلّ للترجمة، ومنها أنَّ هذه الترجمة لا ذكر لها في كتب أحد المولِّفين القدما يهودًا كانوا أم نصارى. ولو وجدت ترجمة كذا من أيّام سليمن، لذكرَها كتبة اليهود الأقدمون وتفاخروا بها كثيرًا. ومنها أنَّ الفرع السريانيّ المكتوبة به الأسفار المكتوبة يختلف كثيرًا عن اللغة الفينيقيَّة التي كنت في زمان سليمان وحيرام. ثمَّ إنَّ أخصّ البراهين التي يذكرها الصهيونيّ وغيره من علما السريان تاييدًا لرايهم هو البرهان الماخوذ عن رسالة الرسول إلى أفسس ص 4 حيث أورد الرسول قول المرتِّل في مزمور 68 بقوله: صعدت إلى العلا وسبيت سبيًا وأعطيت الناس المواهب. فهذه الآية تطابق على هذه الرواية النسخة السريانيَّة لا العبرانيَّة أو اليونانيَة، ومن ذلك ينتجون أنَّ الترجمة السريانيَّة كانت قبل المخلِّص. لكنَّ هذا البرهان لا يثبت المقصود لاحتمال أنَّ المترجم السريانيّ للزبور أخذ هذه الكلمات عن الرسول لا الرسول عن الترجمة السريانيَّة، وهذه البرهانات نفسها تصلح للردِّ على القول بأنَّ آسا الكاهن ترجم الأسفار المذكورة إذ أرسله الأثوري إلى السامرة.

"فالأحقّ في ذلك إذًا هو أوَّلاً أنَّ بعض أسفار العهد العتيق كُتب نصّها باللغة الكلدانيَّة التي هي واللغة السريانيَّة واحدة كما قدَّمنا. فهذه الأسفار هي سفرا عزرا وسفرا طوبيّا ويهوديت كما شهد بذلك مار إيرونيموس والحجريّ في مقدِّماته على هذه الأسفار ونطاليس اسكندر في تاريخ العهد القديم مجلَّد 3 مقالة 7 و11 وسفر دانيال وعلى الأقلّ من الإصحاح الثاني عد 40 إلي آخر الإصحاح السابع كما قال الحجريّ في مقدِّمته على تفسير نبوَّته سندًا على بعض آيات من هذه النبوَّة ونطاليس اسكندر في المجلَّد المذكور مقالة 1 فصل 2 وكذا سفر أستير وعلى الأقلّ من الإصحاح العاشر فصاعدًا، ومثله يقال باحتمال في سفر يشوع بن سيراخ كما روى الحجريّ وبلرمينوس في ك 2 في كلام الله رأس 4. هذا ولا أجهل قول من ارتاوا أنَّ نصوص بعض هذه الأسفار بالكلدانيَّة أو السريانيَّة ليست محفوظة حتّى الآن، والموجود الآن منها في هذه اللغة ترجمة عن لغة أخرى.

"ثانيًا إنَّه بعد رجوع اليهود من سبي بابل وقد بدَّلوا اللغة العبرانيَّة بالكلدانيَّة، شرع الكتبة واللاويّون يترجمون لهم الكتب المقدَّسة أوَّلاً في المجامع إلى اللغة الكلدانيَّة فابتدات (فابتدأت) بذلك الترجمات الكلدانيَّة المعروفة بالتراجيم جمع ترجوم ومعناه الترجمة. وارتاى بعضهم أنَّ هذه الترجمات كُتبت منذ ذلك الحين حتّى زعم بعض المورِّخين أنَّ الترجمة اليونانيَّة السبعينيَّة نفسها ترجمت عن الكلدانيَّة. ومن هولا (هؤلاء) بريسيوس الكبّوشي الرودنسي في مختصر التواريخ العربيَّة لبارونيوس مجلَّد 2 وجه 296 ومحشي تواريخ نطاليس اسكندر في الجيل الأوَّل عند كلامه في النسخة السبعينيَّة. وارتاي غيرهم بأكثر احتمال أنَّ هذه الترجمات لم تكتب إلاّ قبل ميلاد المخلِّص بزمان وجيز. والمشهور من هذه التراجيم ثلاثة: الأوَّل ترغوم التوراة أي أسفار موسى الخمسة وهو منسوب لاونكالوس ومعنون باسمه. واونكالوس هذا عاش في زمان هيلال الشيخ نحو أربعين سنة قبل الميلاد. وزعم بعضهم حتّى بلرمينوس العلاّمة في ك 2 في كلام الله رأس 3 أنَّ أونكالوس هو نفس أكويلا صاحب الترجمة اليونانيَّة وذلك غير صحيح لأنَّ أكويلا عاش نحو سنة 130 للمسيح كما ذكر كثير من الأقدمين. والثاني ترجوم أسفار الأنبيا (الأنبياء) أي أسفار يشوع بن نون والقضاة وصمويل والملوك وأشعيا وإرميا وحزقيال والاثني عشر نبيًّا الصغار. وهذا منسوب ليوناتان بن عوزبال ومعنون باسمه. ويوناتان هذا الأكثر احتمالاً أنَّه تلميذ هيلال الشيخ المارّ ذكره. وروى بعضهم أنَّه كان رفيقًا في المدرسة لسمعان الشيخ وغمالاييل معلِّم بولس الرسول. والثالث ترجوم باقي أسفار الكتب المقدَّسة في العهد العتيق وتَنسبُه عامَّةُ العلما إلى الربي (الرابي) يوسف الأعمى أو الأعور وهو عالم يهوديّ متاخِّر (متأخِّر) عن عصر أونكالوس ويوناتان وارتاى بعضهم أنَّ المترجم لهذه الأسفار الأخيرة غير معلوم. وتوجد تراجيم أخرى أخصّها الترجوم الأورشليميّ نسبة إلى أورشليم حيث كُتب، أو نسبة إلى اللغة التي كتب بها. ولا يعلم بتوكيد من صنعه ولا في أيِّ زمان. وهذه التراجيم كلُّها يهوديَّة لا يعتمد النصارى عليها، لكنَّها تفيد لتوكيد صحَّة النصِّ العبرانيّ وسلامته ولاثبات بعض عقايد (عقائد) الإيمان ضدّ اليهود ولتفسير بعض آيات مشكلة.

"ثالثًا إنَّ بالسريانيّة الآن ترجمتين كما روي (روى) كثير من العلما ومنهم ابن العبريّ في تواريخه العربيَّة التي طبعها بوكوكيوس سنة 1663 ك2 حيث قال: "وهذا النقل السبعينيّ هو المعتبر عند علماينا وهو الذي بأيدي الروم وباقي فرق النصارى خلا السريان وخصوصًا المشارقة (يريد بهم سكّان العراق والكلدان). فإنَّ نسختهم المسمّاة بسيطة لترك البلاغة في نقلها تطابق نسخة اليهود. وأمّا المغاربة (يريد بهم سكّان بين النهرين وسورية وقال ريناودوسيوس: يفهم بالمشارقة النساطرة أينما وجدوا وبالمغاربة اليعاقبة والملكيَّة)، فلهم النقلان البسيط المنقول من العبريّ إلى السريانيّ بعد مجي (مجيء) المسيح في زمان آدي (السريان يسمّون تادي آدي) السلّيح وقيل قبله في زمان سليمان بن داود وحيرام صاحب صور. والترجمة المصوَّرة من اليونانيّ السبعينيّ إلى السريانيّ بعد ظهور المخلِّص بزمان طويل". فهذه الترجمة المعروفة بالبسيطة والموجودة الآن بكتبنا الكنايسيَّة والمطبوعة في البوليكلوتات الآتي ذكرها من العهد القديم والجديد، من الموكَّد أنَّها قديمة جدًّا وتتَّصل إلى عصر الرسل أو تلاميذهم وهي في العهد القديم مترجمة عن العبرانيَّة وفي العهد الجديد عن اليونانيَّة. وأمّا من هو مترجمها وفي أيَّة سنة ترجم ففي ذلك أقوال. زعم بعضهم أنَّ مرقس الإنجيليّ هو الذي ترجم العهد الجديد من اليونانيَّة إلى السريانيَّة وغيرهم أنَّ مرقس ترجم العهدين إلى السريانيَّة ويظهر أنَّ ذلك غير صحيح لأنَّ الآبا القدما (الآباء القدماء) الذين عاشوا في سورية وفلسطين لم ياتوا (يأتوا) بذكر ذلك. ولأنَّ مرقس لم يكن يمكنه أن يترجم إنجيل يوحنّا وروياه (رؤياه) إذ كتبا بعد موت مرقس كما برهن يعقوب بونغراريوس في مقدِّماته على الكتاب المقدَّس رأس 19 وغيره. وارتاى بعضهم أنَّ تادي الرسول. ترجمها باهتمام الأبجر ملك الرها كما تقدَّم. وبعضهم جعل تادي المترجم المذكور غير تادي الرسول وارتاي غيرهم أنَّ رجلاً اسمه عمون اوتاسيانوس ترجم العهد الجديد إلى السريانيَّة وجعل عباد يشوع عمون وتاسيانوس واحدًا وجعلهما غيره اثنين. وكيف كان الأمر فهذه الترجمة السريانيَّة المدعوَّة البسيطة من الموكَّد أنَّها من عصر الرسل أو تلاميذهم إذ أثبت ذلك التقليد العامّ في الكنايس الشرقيَّه وكثير من مشاهير العلما كما تقدَّم وسيجي (سيجيء).

فيعترض بلرمينوس في كتابه في كلام الله أنَّ الترجمة السريانيّه لم يذكرها الآبا القدما والمولِّفون الكنايسيّون الذين عاشوا في الأمصار الشرقيَّة. إلاّ أنَّ ذلك غير صحيح فقد ذكرها أوسابيوس في التكوين ص 31 عد7. والقدّيس باسيليوس في ميمر أوَّل على التكوين ص 1 عد 2 إذ فسَّر لفظة "مرحفت" تبعًا للمترجم السريانيّ. وأمبروسيوس في ك1 رأس8 بقوله: "أخيرًا السريانيَّة التي تقرب من العبرانيه وتطابقها في اللفظ وفي أمور كثيرة قرات (قرئت) وروح الرب كانت تحامي المياه". وذكرها أيضًا تاوادوريطوس في ص 3 في يونان وفي محلاّت أخرى. وفم الذهب ذكر في ص 1 في يوحنا ميمرًا نسخ الكتاب المقدس فقال: "نسخ السريان والمصريّين والفرس والحبش". وكذا أورد في تفسير المزمور 94 وفي تفسير رسالة العبرانيّين ص 11. وذكرها مار أغوسطينوس في ك15 في مدينة الله رأس 13 حيث قال: "إنَّ الغلط في سني متوشلح لم يدخل كلَّ النسخ بل وجد ذلك مكتوبًا دون خطأ في ثلث (ثلاث) نسخ يونانيَّة ونسخة سريانيَّة ونسخة لاتينيَّة. "وقد فسَّر القديس أفرام السريانيّ بعض هذه الترجمة السريانيَّة كما تقرأ في كتبه حتّى الآن مطابقة النسخة البسيطة. وفي ذلك قال السمعانيّ في مجلد 1 من مكتبته الشرقيَّه رأس 6 وجه 64: "لأنَّه يتبرهن من ذلك بنوع لا يقبل الردّ أنَّه كان عند السريان قبل زمان القديس أفرام نسخة خصوصيَّة مترجمة عن النص العبرانيّ وهي كلِّيَّة الضبط والتدقيق وكان أفرام يتبعها ويفسرها بتفاسيره". ولاحظ البطريرك جرجس بطرس عميره الإهدني في مقدِّمات الغرامطيق السريانيّ أنَّه يوجد ذكر وإن غير صريح في دفتر مار إيرونيموس للترجمة السريانيَّة، إذ قال مار إيرونيموس في أفرام الرهاويّ: "إنَّه بلغ من الشهرة حتي (حتّى) بعد قراة (قراءة) الأسفار المقدَّسة (يريد تلاوتها بالترجمة السريانية) كانت تاليفاته تتلى في بعض الكنايس مشتهرًا". أمّا شواهد المتاخرين (المتأخِّرين) المثبتة ذلك فلا تكاد تحصى.

"أمَّا الترجمة الثانية السريانيَّة المنقولة عن اليونانيَّة والمعروفة بالمصوَّرة لتحلِّيها بصور الفصاحة على ما ارتاي بعضهم، فقد وجدت فيها للعلما الأوروباويِّين أقوالاً مختلفة متناقضة. فنسبها بعضهم إلى فيلوكسينوس المعروف باخسنيا. وبعضهم إلى توما الحرقليّ. وبعضهم إلى غيرهما. وجعلها بعضهم ترجمة من كثيرين كلٌّ جزءًا منها. وقال بعضهم هي ترجمة لكلا العهدين. وبعضهم هي ترجمة العهد الجديد فقط. ولا أرى في هذه الاختلافات أولى من إيرادي أقوال العلاَّمة السمعانيّ بهذا الشان (الشأن) والاعتماد عليها في تمييز الموكد (المؤكَّد) من غيره فقال في مقالته في المونوفيسيتيِّين وجه 171: "إنَّ فيلوكسينوس المسمّى أخسنيا أيضًا أسقف مابوغ أقامه بطرس القصَّار على هذه المدينة سنة 485... له ترجمة الزبور والعهد الجديد في مدينة مابوغ سنة 508 وترجمها بوليكربوس الخوري الأسقفيّ ولكن اعتادوا نسبة هذه الترجمة إلى أخسنيا راجع مجلد 2 وجه 32" وذكر في المجلد والوجه المذكورين تاليفات اخسنيا وترجمة الأناجيل في أيَّامه بكلِّ دقَّة سنة 508. وروى أنَّ مولف تعليم اليعاقبة يقول: "إنَّ فيلوكسينوس المنبجيّ مترجم الإنجيل... الذي يقراه الملكيّة واليعاقبة والنساطرة والموارنة. وأمّا السريان فعندنا نسخة المحرقل لتوما الحرقلي". ويقول السمعانيّ هناك "ويكذب اليعقوبيّ لأنَّ الطوايف (الطوائف) الأربع المذكورة لا يستعملون النسخة الفيلوكسينيّة بل النسخة التي تدعى بسيطة والتي قد اشتهرت منذ زمان الرسل في الكنيسة السريانيَّة. واليعاقبة وحدهم يتلون في الكنيسه النسخه التي أشهرها أوَّلاً فيلوكسينوس وصحَّحها أخيرًا الحرقليّ: "وأمّا في توما الحرقليّ (نسبة الى قرية حرقل في فلسطين (فقال السمعانيّ في مقالته في المونوفيسيتيين المذكورة: "توما الحرقليّ لمَّا صار أسقفًا على مرعش ومابوغ اضطرَّ أن يهرب من سورية إلى مصر... وهناك ترجم سنة 616 مسيحيّة في دير الأنطونيانيّين في إسكندريّة، العهدَ الجديد وبعض أسفار من العهد القديم من اليونانيّة إلى السريانيَّة ولترجمته اعتبار عظيم عند اليعاقبة راجع مجلد 2 وجه 92". ففي المحل المذكور ذكر قصة توما الحرقليّ نقلاً عن مولف مجهول الاسم وجد كتبه بالسريانيّة في المكتبة الواتيكانية وذكر هناك فقرة من الحرقليّ نفسه أخذها عن نسخة من الإنجيل ترجمته موجودة في مكتبة دير مار أغوسطينوس في رومة يتَّضح منها أنَّه صحَّح ترجمة أخسنيا مقابلاً إيّاها على ثلث نسخ يونانيَّة مدقَّقة. وروى في المجلَّد المذكور وجه 334 كلامًا لابن العبري يظهر منه أنَّ الحرقليّ صحَّح الترجمة التي صُنعت باهتمام أخسنيا في مابوغ. كما ذكر في وجه 379 من المجلَّد المذكور نقلاً عن ابن العبريّ في خزينة الأسرار أنَّ للسريان ترجمة أخرى للأسفار المقدَّسة عن اليونانيَّة: فالعهد القديم منها ترجمه بولس أسقف تيلا، والعهد الجديد ترجمة فيلوكسينوس أسقف مابوغ وتوما الحرقليّ. وروى في وجه 130 من هذا المجلَّد أنَّ عباد يشوع في مدرج المولفين الكلدان ينسب إلى مار ابا ترجمة العهد العتيق من اليونانيَّة إلى السريانيّة بقوله "ومار ابا العظيم فسَّر وترجم كلَّ العتيقة من لغة اليونان إلى هذه اللغة السريانيّة". وقال السمعانيّ في مجلد 3 وجه 312: "لأنَّه بعد أن مار ابا الكبير بطريرك النساطرة ترجم العهد القديم من اليونانيَّة إلى السريانيّة ابتدا يختلف بالحساب السريان أصحاب هذه البدعة". وكان قال في وجه 75 أنّ مار ابا توفّي سنة 552 وأنَّه ترجم العهد القديم من اليونانيَّة إلى السريانيّة.

"فبعد إيراد هذه الشواهد نقول إنَّه يظهر منها موكدًا أنَّ فيلوكسينوس وتوما الحرقليّ لم يترجما إلاّ العهد الجديد وبعض أسفار من العهد القديم وأنَّ الحرقليّ صحّح فقط ترجمة فيلوكسينوس وأضاف إليها ترجمة بعض أسفار من العهد القديم وأمّا هل باقي أسفار العهد القديم. في هذه الترجمة هي من ترجمة مار ابا بطريرك النساطرة أو من ترجمة بولس أسقف تيلا التي ذكرها ابن العبري أو من ترجمة أخرى فتوكيد ذلك الآن فوق طاقتي. وروى السمعانيّ أيضًا في المجلد 2 من المكتبة الشرقيَّة أنَّ ابن العبريّ يستشهد ترجمة أخرى سريانيَّة تسمَّى القرقفيّة أي الجبليَّة لاستعمال سكّان الجبال لها.

*  *  *

"أما نظرًا إلى الأناجيل السريانيَّة بالخصوص فبعد ما تقدم وما سنراه معلَّقًا في المقدَّمات على كلٍّ منها نقلاً عن العلما الذين انتحلت تفاسيرهم وخاصّة عن كورنيلوس الحجريّ، فلم أرَ نفسي مضطرًا أن أزيد إلاّ أمرين بإيجاز: الأوَّل أنّ كتابة متّى إنجيله باللغة السريانيَّة أي الفرع الأورشليميّ الذي كان حينيذ لغة سكّان اليهوديّة لم يعد ممكنًا الارتياب بها أو زيادة الشواهد لإثباتها، بعد الشواهد العديدة والرهانات السديدة التي جمعها غبطة العلاَّمة بطريركنا إثباتًا لهذا الأمر في مولفه الدرّ المنظوم والملحق به، حتّى جعل هذه القضيّة مزهرة بوضوحها. والثاني أنّ راي الأب مرهج بن نمرون الباني المارونيّ في مقدِّمته المعلَّقة على كتاب الأناجيل الذي طبع تحت مناظرته في رومة سنة 1703 بأنّ باقي الإنجيليّين الثلاثة كتبوا أناجيلهم أوّلاً بلغّة موطنهم السريانيّة هو مخالف راي عامّة العلما ولم يويده (يؤيِّده) بشاهد يعتمد عليه. إلاّ إن أراد بذلك أنّ الإنجيليّين كتبوا أوّلاً أخبار المخلِّص وخطبه بإيجاز باللغة السريانيّة بمنزلة مذكَّرة لهم ثمّ أخذوا عنها ووسّعوها عند كتابة كلٍّ منهم إنجيله باللغة التي كتب بها وهذا يقرُب من التصديق. أو أراد أنّ الأناجيل مفعمة من الاصطلاحات السريانيّة لأنّ كاتبيها سريان وهذا قال به كثيرون وهو موكَّد".

طباعة الأسفار المقدَّسة

- العهد الجديد:

"إنّ الأسفار المقدَّسة بالسريانيَّة لبثت تتداولها أيدي النساخ، إذ لم تكن وُجدت المطابع إلى أن كان أوَّل من طبع الأناجيل وأكثر أسفار العهد الجديد بالسريانيَّة يوحنَّا ألبرتوس وبدمستاديوس بعناية فرديناندوس ملك أوستريا في فيانّا سنة 1555. فإنَّ كاهنًا اسمه موسى الماردينيّ من بين النهرين أرسله اغناتيوس بطريرك اليعاقبة إلى أوروبّا لمشاغل منها طبع العهد الجديد السريانيّ. فتعب الكاهن المذكور في البندقيّة وغيرها، فلم يجد من يتجشَّم هذا العمل الشاقَّ، إلى أن أدَّته ألطاف العناية إلى وبدمنستاديوس فاهتمَّ بتلبية دعوته وطبع أكثر أسفار العهد الجديد بأمر الملك المشار إليه. فكان أوَّل كتاب طبع بالأحرف السريانيّه في أوروبّا. وقابله على نسختين قديمتين جدًا، وأضاف إليه مقدِّمات جليله، فتقبَّله العلما بسرور، وتُرجم إلى اللاتينيّه في محلاّت عديدة. إلاّ أنّ الكتاب الذي أرسله بطريرك اليعاقبة المذكور، كان ناقصًا رويا (رؤيا) يوحنّا ورسالة بطرس الثانيه ورسالتي يوحنّا الثانيه والثالثه ورسالة يهودا (يهوذا)، مع إنَّها كانت عند السريان كما شهد وبدمنستاديوس نفسه في المقدِّمة على الرسايل القانونيّه التي أشهرها إذ قال (وأمّا باقي رسايل مار بطرس ويوحنّا ويهودا مع الرؤيا، وإن كانت عند السريان، فوُجدت ناقصة من النسخة التي اتبعناها". وقال بعد ذلك: "إنّ موسى الماردينيّ الذي كان مضي (مضى) إلى بين النهرين سوف يعود وياتي بالرسايل الباقية والرويا وقد حُضِّرتْ وإن لم تُطبع حتّى الآن". وقال بوصوين اليسوعيّ في كتاب الاستعداد أنَّ تلك الرسايل والرويا قد أخذت عن نسخة طايفتنا المارونيّه وترجمها إلى اللاتينيّة بلتاصر ابتسال اليسوعيّ وكذا قال يعقوب برنغراريوس في مقدِّماته على الكتاب المقدَّس. وقد طبع العهد الجديد بالسريانيّه بعد ذلك مرّات. خاصّة باهتمام أنريكوس إسطفانوس سنة 1569، بعد أن ترجمه عمانويل تراميليوس إلى اللاتينيّه. وفي نسخة الكتاب المقدَّس التي اهتمّ بطبعها فيلبّوس الثاني ملك إسبانيا سنة 1571، ولذا تعرف بالطبعة الملوكيّة. ففي هذه الطبعة، جاء العهد الجديد بالسريانيّة كاملاً مع ترجمته إلى اللاتينيّة عمل كويدوس فابريشيوس بودربانوس".

- العهد العتيق:

"أمّا العهد العتيق فكان طبع منه التوراة الكلدانيّة أي ترجمة أونكالوس في الطبعة المعروفة بالكمبلونيّة التي طبعت سنة 1515 بنفقة الكردينال فرنسيس كسيمانيوس رئيس أساقفة توليتو وباعتناء أعضاء الجمعيّة الكمبلوتيّة الشهيرة. ثمّ طبع أحد التراجيم مع الترجوم الأورشليميّ في الطبعات البندقيّة التي بدي (بدئ) بها سنة 1515 وطبعت الترجمة السريانيّة كاملة في العهدين في المطبعة الملوكيّة المذكورة سنة 1571 وطبعها مرة أخرى يوحنّا بوكستورف في باسيلايا سنة 1618".

البوليغلوتا أو المتعدِّدة اللغات

"والأشهر من ذلك طبعة العهدين القديم والجديد بالسريانيّة التي ظهرت في بريس سنة 1645 باهتمام الأب ميخائيل لاجاي الافرنسيّ. فطبعتُه هذه تشتمل على النصّ العبرانيّ والترجمات السامريّة والكلدانيّة واليونانيّة والسريانيّة واللاتينيّة والعربيّة، ولذا تسمّى البوليكلوتا أي ذات اللغات العديدة، وقد استخدم لاجاي للترجمتين السريانيّة والعربيّة تعب العالم الشهير وملفان اللاهوت المقدَّس وترجمان ملك افرنسة ومعلِّم اللغات الشرقية في مدرسة بريس الكلِّيَّة جبرائيل الصهيونيّ المارونيّ الإهدنيّ الذي قال عنه والتن في المقدِّمات: "إنّ هذا الرجل العظيم أصرف تعبًا باهظًا وجزيل الإفادة لكلِّ من يرغبون في اللغات والأسفار المقدَّسة ويكون نال الإحسان من لا يقرّ له به بل نسلم إنَه يُلزم الجميعَ أن يسدوه شكرًا لا ينقضي". (قد ذكرت تاليفات الصهيونيّ في كتابي سفر الأخبار في سفر الأحبار) واستخدم لاجاي لهذه الغاية أيضًا من علما طايفتنا، إبراهيم الحاقلانيّ الشهير أيضا بتاليفه وعلومه، والخوري يوحنا بن قورياقوس الحصرونيّ. وكان ترجمان اللغات الشرقيّة عند ملك افرنسة. وذكر ريناودوسيوس في مقالته المذكورة أنّ المطران سركيس الرزي المارونيّ رئيس أساقفة دمشق تعب بهذه الطبعة أيضا ولا يمكنني توكيد ذلك حتّى الآن. فالموكد من تاريخ البطريرك إسطفانوس بطرس الدويهي أنّ المطران سركيس هذا توفّي سنة 1638. غير أنَّ لاجاي ابتدا بطبعته منذ سنة 1628. وكان تعب هولا العلما الموارنة بهذه الطبعة بتصحيح النسختين السريانيّة والعربيّة ووضع الحركات لها وترجمتهما إلى اللاتينيّة والسهر على مجانبة انسراب الخطأ بهما. وقد كرَّر والتن طبع هذه البوليكلوتا في لوندرة سنة 1657 وأضاف إلى ما في البريسيّة الترجمة المخطَّطة لباتينيوس والترجمة السبعينيّة والترجمة اللاتينيّة للنسخة السامريّة، حيث تختلف اللاتينيّة عن السامريّة ثمَّ التوراة الفارسيّة والترجمة الكلدانيّة ليوناتان مع ترجمته اللاتينيّة والترجوم الأورشليميّ وترجمته إلى اللاتينيّة والزبور ونشيد الأنشاد والعهد الجديد بالحبشيّة مع ترجمتها إلى اللاتينيّة ومقدَّمات وجداول وقاموس مفيدة وقد اشترى غبطة بطريركنا للمكتبة البطريركيّة نسخة من هذه البوليكلوتا في مدَّة وجودنا في بريس سنة 1867".

طبعات أخرى

وتوجد طبعات أخرى للأسفار المقدَّسة بالسريانيّة لا يهمُّنا أن نذكر منها سوي (سوى) طبعة الأناجيل وباقي أسفار العهد الجديد بالسريانيَّة والعربيَّة بأحرف كرشونيّة في رومة سنة 1703 تحت مناظرة الأب مرهج بن نمرون الباني المارونيّ تلميذ مدرسة طايفتنا في رومة ومعلِّم اللغة السريانيَّة في مدرسة السابيانسا (أي الحكمة) الكلِّيَّة في رومة وقانوني كنيسة القدِّيس أوسطاكيوس هناك. وأضاف إلى طبعته مقدَّمة جليلة، وساعده بتصحيح هذه الطبعة يوسف الباني المارونيّ معلِّم اللغتين السريانيّة والعربيّة في مدرسة مجمع انتشار الإيمان المقدَّس. وقد أخذت هذه الطبعة عن نسخة قديمة كانت في مكتبة مدرسة الموارنة مرسلة من بطريركهم إلى البابا غريغوريوس الثالث عشر (لا يذكر الأب مرهج في مقدِّمته اسم البطريرك مرسل هذه النسخة ويلزم أن يكون البطريرك ميخاييل الرزّي أو أخوه البطريرك سركيس الرزّي اللذين كانا في أيّام البابا المومأ إليه). وهذه الطبعة السريانيّة والعربيّة ما زالت مستعملة في كنايس طايفتنا وعنها ترجم المطران جرمانوس فرحات سنة 1729 إلى العربيّة البشاير (البشائر) الإنجيليّة التي تستعملها كنيستنا المارونية كما سيجي. وقد قابلت في مدَّة إقامتي في رومة سنة 1867 الماضية من كلِّ بشارة ستَّة فصول من طبعة الأناجيل هذه السريانيّة على النسخة المطبوعة في البوليكلوتا اللندنيّة والإسبانياويّة فوجدت الفرق نادرًا جدًا وغالبًا يلاحظ الحروف ولم أرَ نقصًا جوهريًّا إلاّ في بشارة لوقا ص 3 عد 1 حيث حذف الطباع سهوًا من نسخة الأب مرهج "وهيرودس رئيس الربع على الجليل وفيلبّوس أخوه رئيس الربع على إيطوريا".

كرامة الترجمة السريانيَّة

"إنَّ جميع العلما يقرُّون بأنَّ الترجمة السريانيّة خاصّة القديمة المعروفة بالبسيطة والمستعملة في الكنايس السريانيّة، تستحقُّ جزيل الاعتبار لقدمها، ولأنَّها توضح أصل النصّ كأنَّها مرآة، وتُثبت صحته وعدم تحريفه كما يتكلَّم والتن. وخاصّة في العهد الجديد حيث أثبت لودوفيكوس دي دباو في توفيق اللغات الثلث (الثلاث) أنَّ المعنى الصحيح للآيات المشكلة في العهد الجديد لا ينبغي طلبه من غير السريانيّة. فإنَّ عبارات الإنجيليِّين والرسل ليس من يقول إنَّها كانت يونانيّة فإنّ الرجال القدِّيسين تصوَّروا بالسريانيّة ما كتبه بعضهم باليونانيّة، فضلاً عن إنّها كانت لغة المخلِّص نفسه، وقد أنذر وتكلَّم بها وبقي في العهد الجديد كلمات كثيرة منها حُفظت في الترجمة إلى كلِّ اللغات. وقال القدّيس باسيليوس الكبير في ميمر 2 من كتاب الأيَّام الستّة: "إنّ لغة السريان هي أكثر تفسيرًا وأوفر توضيحًا، ولقربها من العبرانيَّة تُوصل إلى معاني الكتب المقدَّسة بأكثر قرب". إلاّ أنَّ الترجمة السريانيّة البسيطة كانت ناقصة عد 17 وعد 18 من الإصحاح الثاني والعشرين من بشارة لوقا وهما "وأخذ كاسًا فشكر وقال خذوا هذا وأقسموه ما بينكم. إنّي أقول لكم لا أشرب من ابنة الكرمة حتّى يأتي ملكوت الله". فهذان العددان أهملا بالبسيطة لأنَّهما يلاحظان كأس فصح اليهود، وهما موجودان في اليونانيّة والسريانيّة المصوَّرة والترجمة عنها وفي البوليكلوتات، ولذلك وضعهما الأب مرهج في طبعته بين علامتين. وكذا الترجمة البسيطة كانت ناقصة من قصّة الزانية الموردة في ص 8 من بشارة يوحنّا. ولم تكن هذه القصّة في الترجمة المصوَّرة أيضًا، ربَّما لعدم وجودها في بعض النسخ اليونانيّة، وظنَّ أنَّ سبب حذف هذه القصَّة من النسخ هو أنَّها كانت من جملة الكتب والأجزا القانونيّة المتأخِّرة وهي بعض أسفار وأجزا. كانت بعض الكنايس الشرقيّة لا تعتبرها قانونيّة في الأجيال الأولى، إلى أن تثبَّتت قانونيَّتها باتفاق الكنيسة العام وهذا ما يدلُّ على قدميَّة الترجمة السريانيّة".

الخاتمة

أخذنا من مقدّمة كتاب المطران يوسف الدبس تحفة الجيل في تفسير الأناجيل ما يتعلّق بالكتاب المقدّس في الترجمة السريانيّة. معلومات واسعة وأبحاث كثيرة، تدلّ على سعة اطّلاع وحسّ مرهف في تمييز الصحيح من الأقلّ صحّة. وما أوردناه هنا يصحّ لأن يأخذه باحثٌ في عصرنا، فيضع الهوامش والحواشي. ويواصل قراءة النصوص التي لم تصل إلى يديّ هذا العالِم الذي رفض أن يأخذ مقدّمة لكتابه من عالم الغرب. بل كتب هو نفسه عن تقليده السريانيّ، بانتظار الكلام على التقليد العربيّ. وهكذا جعل مدماكًا في دراسة الكتاب المقدّس، بين المداميك التي وضعها الذين سبقوه، فكان محطّة هامّة لا يُستهان بها في التعرّف إلى مثل هذا التراث العريق.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM