الأعياد وأهمّيّتها.

 

 

الأعياد وأهمّيّتها

أحبّائي، نتابع قراءة سفر الخروج. وصلنا إلى الفصول الأخيرة. بعد هذه الخيانة الكبيرة على الجبل، وعبادة العجل الذهبيّ، كان لا بدّ من تجديد الوصايا. هذا لا يعني أنّ الربّ يتراجع عن وصايا أعطانا إيّاها. فوصيّة الربّ هي هي، وهي في خدمة الإنسان وهي من أجل سعادة الإنسان. وإن هو كرّرها المرّة بعد الأخرى، وكرّرها بواسطة أنبيائه، فهذا لا يعني أنّه تراجع، بل يذكّرنا بها لأنّنا نحن ننسى بسرعة هذه الوصايا التي جُعلت من أجل حياتنا. هي وصايا تتكرّر وتُعطى من جديد، واليوم يشدّد النصّ الذي سنقرأ على أهمّيّة هذه الأعياد.

وجود الأعياد في حياتنا مهمّ، حتّى نحسّ (نشعر) بحضور الله، هذا الجديد الذي يتجدّد يومًا بعد يوم. لهذا نقرأ سفر الخروج (34: 22 - 28) يقول النصّ:

»عيّدوا عيد الحصاد، حين تحصدون بواكير الحنطة، وعيد جمع الغلّة، في نهاية السنة. ثلاث مرّاتٍ في السنة يحضر جميع رجالكم أمامي، أنا السيّد الربّ إله إسرائيل، وأنا أطرد الشعوب من أمامكم وأوسّع حدود أرضكم، ولا يطمع أحدٌ بأرضكم حين تصعدون لتَحضروا أمام الربّ إلهكم ثلاث مرّاتٍ في السنة. لا تقدّموا لي ذبيحة مع خبزٍ مختمر، ولا تحتفظوا بشيء من ذبيحة عيد الفصح إلى الغد. جيئوا ببواكير غلاّت أرضكم إلى بيت الربّ إلهكم. لا تطبخوا الجدي بلبن أمّه«.

وقال الربّ لموسى: »اكتب هذا الكلام لأنّي بحسبه قطعتُ عهدًا معك ومع بني إسرائيل«. وأقام موسى هناك عند الربّ أربعين يومًا وأربعين ليلة، لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماءً. فكتب على اللوحين كلام العهد وهي الوصايا العشر«.

1 - في العيد نتذكّر الوصايا

إذًا قرأنا، أحبّائي، سفر الخروج (34: 22 - 28). النهاية واضحة. كتب على اللوحين كلام العهد وهي الوصايا العشر. من كتب؟ لا الربّ بل موسى، هذه الوصايا التي أعطيت له وحطّمها، لأنّ الشعب خان الوصيّة الأولى وبالتالي سائر الوصايا. هذه الوصايا أعاد كتابتها موسى حتّى يقول لنا، نحن ضعفاء أمام هذه الوصايا، ويجب أن نتّكل دومًا على حضور الربّ، على قدرة الربّ في حياتنا، لكي نكون أمناء لهذه الوصايا التي أرادها الله لنا. وأوّل هذه الوصايا العيد. كيف نعيّد؟

يذكر النصّ ثلاثة أعياد، عيد الحصاد، ما يسمّى اليوم في العالم المسيحيّ، عيد العنصرة. عيد جمع الغلّة أو عيد المظالّ في نهاية السنة، ما يقابل بشكلٍ خاصّ عيد الشعانين وعيد التجلّي. وأخيرًا عيد الفصح الذي يقابل في المسيحيّة عيد الفصح أو العيد الكبير الذي يذكّرنا بموت يسوع وقيامته. ولماذا هذه الأعياد؟ هذه الأعياد هي هنا لتذكّرنا بالوصايا. فالناس كانوا يأتون إلى المعبد القريب، أو يمضون إلى أورشليم.

وهناك كان اللاويّون يذكّرون المؤمنين الآتين إلى الحجّ بالوصايا. يذكّرونهم بتاريخ الربّ معهم، بخلاصات الربّ، الربّ خلّصهم أكثر من مرّة. هذه الأعياد هي إذًا مناسبة تجتمع فيها الجماعة، تأتي من أماكن متعدّدة، وتسمع وصايا الله، تسمع كلام الله، وتسمع تاريخ الله. من هنا هذه الأعياد هي مناسبة ليعيش الشعب حضور الربّ معه، وكلامَ الربّ الحيّ.

عندما يأتي مؤمن ويذكر كيف نجَّاه الربّ أو كيف هو عاش إيمانه، ليس فقط على مستوى الوصايا بل على مستوى أعمال الرحمة، يدلّ على أنّ هذه الوصايا ليست كلمات فارغة في الهواء، بل هي تتجسّد في هذا أو ذاك، في هذه أو تلك، في جميع المؤمنين مهما ابتعدت المسافات بينهم، أو مهما ابتعدوا عن هيكل أورشليم الذي هو مركز حضور الله.

2 - عيد الحصاد

ثلاثة أعياد: العيد الأوّل، عيد الحصاد، هذا العيد الذي كان في الأصل عيدًا وثنيٌّا مارسه سكّان فلسطين وسوريا ولبنان والأردنّ والعراق. هؤلاء كانوا عندما يحصدون القمح يعيّدون مع الربّ، ويأخذون بعض الشيء ويعطونه للفقير، للغريب، لليتيم والأرملة. ثمّ أخذ هذا العيد معنًى جديدًا، لمّا طبّق في جبل سيناء. بما أنّ عيد الفصح كان البداية، فعيد الحصاد بعد أربعين يومًا، بعد خمسين يومًا أي بعد خمسة أسابيع صار مناسبة عطيّة الشريعة على جبل سيناء. والكنيسة المسيحيّة أخذت هذا العيد، وما قالت هو إعطاء الشريعة بل إعطاء الروح القدس كما كان ذلك يوم العنصرة، نالت الكنيسة الروح الذي هو شريعة جديدة لا تتوقّف عند أعمال محدّدة، بل تعطينا روحًا، وهذه الروح، تتجسّد في أعمالٍ نستنبطها، نخترعها نحن كي يكون الله حاضرًا فينا وبواسطتنا في كلّ إنسانٍ نلتقي به على طرقات حياتنا.

عيّدوا عيد الحصاد حين تحصدون بواكير الحنطة. والبواكير هي للربّ الذي يبارك سائر الغلّة. وهنا نلاحظ أنّ هذه البواكير تذهب إلى خدمة المعبد، كما تذهب إلى الفقير والغريب واليتيم والأرملة. هذا يعني أنّنا نعطي أفضل ما عندنا للمحتاجين، لا نعطي الفضلات. بل نعطي القسم الأوّل، نعطي البواكير. ذاك كان العيد الأوّل عيد الحصاد. ينتهون من عمل الحصاد ويجتمعون حول المعبد، حيث يشكرون الربّ ويسمعون أعماله من خلال الكتاب المقدّس.

3 - عيد المظال والفصح

والعيد الثاني هو عيد جمع الغلّة، في نهاية السنة. نتذكّر هنا أنّ السنة في وقتٍ من الأوقات كانت تنتهي في الخريف يعني ساعة يُجمع العنب ويعصر. ساعة يُجمع الزيتون ويعصر، وساعة تجمع آخر الفواكه من تفّاحٍ من رمّانٍ من تينٍ وغيره، ويجفّف من أجل السنة الآتية. هو عيد جمع الغلّة في نهاية السنة. وعندما كانت الغلّة تُجمَع كان الناس يعيشون العيد. خلال هذا الوقت كانوا ينصبون الخيام بقرب أرزاقهم حتّى لا تُسرَق وحتّى يبدأوا العمل باكرًا وكلّ يوم.

من هذا المنطلق ارتبط عيد جمع الغلّة في نهاية السنة، أو عيد المظالّ، ارتبط بإقامة الشعب العبرانيّ في البرّيّة. وهناك برفقة الربّ أقاموا. الربّ في وسطهم يباركهم واحدًا واحدًا. وهنا هذه الخيام، وهذه المظالّ التي تُصنع، إنّما هي لتدلّ على بركة الربّ، على فترة معيّنة نجمع فيها الغلال، بل على طوال السنة حيث يجعل الربّ البركة في معاجننا، في الموضع الذي نضع فيه الحبوب وغيرها من الأطعمة. والعيد الثالث هو عيد الفصح أو العيد الكبير. هذه المناسبة، هذا العيد يبدأ الربيع، بعد حصاد الشعير.

ويذكّر الربّ أكثر من مرّة أنّ على المؤمنين أن يأتوا ثلاث مرّات. هنا يقول: »يحضر جميع رجالكم أمامي«. لا شكّ كان يأتي الرجال والنساء والأولاد. وهذا واضح مثلاً عندما يخبرنا سفر صموئيل في البداية، كيف كان يمضي والد صموئيل هو وامرأته الأولى وامرأته الثانية والأولاد، فيذهبون كلّهم ويعيّدون معًا. كان المعبد في ذلك الوقت في مدينة شيلو.

4 - الحجّ في هذه الأعياد

إذًا الرجال. ذكر الرجال، ولكن عمليٌّا، الجميع يصعدون إلى العيد، الجميع يعيشون العيد. وفي آ 24 نقرأ وصيّة تطرح علينا سؤالاً. ما معنى أوسِّع حدود أرضكم وتذهبون بكلّ بساطة إلى العيد؟ نتذكّر هنا أنّ المؤمنين كانوا بعيدين. إذًا هم لا يستطيعو أن يأتوا إلى العيد. كانت هناك حواجز، كانت هناك حدود بين أرضٍ وأرض. الربّ هو الذي يفتح الطريق أمام الذاهبين إلى الحجّ.

أوّلاً هناك فتح الحدود أمام الذاهبين إلى الحجّ، ثمّ الذين يتركون أرضهم بعض الوقت لن يخافوا أن يأخذها لهم آخرون. كلاّ ثمّ كلاّ. هي طريقة بها يقول النصّ إنّ الربّ يأتي بكم إلى هذا الاجتماع، يأتي بكم إلى هذه الأعياد، يحرسكم في الطريق، ويحرس أرضكم حين تكونون بعيدين عنها. وكما قال في آ 23، في البداية، ثلاث مرّاتٍ في السنة يحضر رجالكم إلى هنا. كذلك قال في الآية 24: حين تصعدون لتحضروا (لم يحدّد) أمام الربّ إلهكم ثلاث مرّات في السنة.

إذًا لا نخاف لا الشمس ولا القمر ولا الأعداء، ولا الحيّات ولا الوحوش، نمضي لنلتقي بالربّ في معبده المقدّس. هناك نعيّد مع الربّ، نسمع كلامه، ونأخذ زادًا روحيٌّا للأيّام الآتية. ويشدّد في عيد الفصح أنّ ما نأكله في ذبيحة عيد الفصح، نأكله في ليلةٍ واحدةٍ ولا يبقى شيء إلى الغد. ما بقيَ في الغد يُحرق.

والشيء الجميل أيضاً يقول: »لا تأتون فارغي الأيدي«، كلاّ، بل تحملون معكم هديّة. أنتم تأتون إلى ملك الملوك، إلى ربّ الأرباب فتحملون معكم هديّة. هذه الهديّة هي البواكير، هذه الهديّة هي ما نقدّمه للفقراء، فقراء شعبنا. جيئوا ببواكير غلاّتكم إلى بيت الربّ إلهكم.

وتأتي بعض الأمور القديمة. مثلاً لا تقدّموا لي ذبيحةً مع خبزٍ مختمر، كما قلنا الخمير علامة الفساد. لا تطبخوا الجدي بلبن أمّه، هي أيضاً عادة قديمة جدٌّا وظلّ الشعب العبرانيّ محافظاً عليها، بل حتّى اليوم الشعب اليهوديّ ينتبه إلى هذه الأوامر. وبعد كلّ هذه الوصايا التي أعطيت مرّة أخرى بيد موسى فكتبها، بفم موسى فأعلنها، قال الربّ لموسى: »اكتب هذا الكلام، لأنّي بحسبه قطعت عهدًا معك ومع بني إسرائيل«.

إذًا هي معاهدة بين ملكٍ وشعب، بين أبٍ محبّ وأولاده. بين عريس وعروسه هناك عهد. كما أنّ الخاتم، المحبس، يشكّل عهدًا بين الرجل وامرأته، بين العريس وعروسه، كذلك الربّ جاء يقطع عهدًا مع بني إسرائيل. ونتذكّر كلمة قطع. يمكن أن نقول أقام عهدًا، هيّأ عهدًا، ولكن استُعمل »قطع« لأنّهم كانوا يقطعون الذبيحة قمسين ويمرّ فيها المتعاهدان. وهكذا ظلّت العبارة تشير إلى عهد بين الربّ وبين شعبه.

وأقام موسى عند الربّ أربعين يومًا وأربعين ليلةً لا يأكل خبزًا ولا يشرب ماءً. هناك صيام، صيام طويل، عاشه موسى مع الربّ. هذا الصيام دام أربعين يومًا وأربعين ليلةً. فالصوم يمنعنا من بعض الطعام لنجوع إلى طعام آخر، طعام كلام الربّ، طعام الاستماع إلى الربّ. فالإنسان الشبعان المتخم، لا يستطيع أن يفكّر، لا يستطيع أن يصلّي، لا يستطيع أن يسمع. لهذا عاش موسى، كلّ هذا الزمن، زمن الصيام، أربعين يومًا.

نتذكّر هنا صيام المسيح أيضاً في بداية رسالته. أربعين يومًا كما تقول الأناجيل الإزائيّة. صام أربعين يومًا وفي النهاية جاع كما يجوع أيّ إنسان. وهكذا كان في هذا المشهد موسى الصورة البعيدة عن يسوع المسيح. صام يسوع أربعين يومًا وأربعين ليلةً قبل الانطلاق في عمل الرسالة. وموسى قبل بناء خيمة الاجتماع وتنظيم الشعب قبل موته.

أقام موسى هناك عند الربّ أربعين يومًا وأربعين ليلةً. نلاحظ: عند الربّ في حضرة الربّ. فالصوم لا يكفي إن لم ترافقه الصلاة. والصوم لا يكفي وحده، فيحتاج انفتاحًا على حضور الربّ، جوعًا إلى كلام الربّ. موسى لا يصوم في أيِّ مكان كان، لكنّه يصوم قرب الربّ، يصوم في حضرة الربّ. من يدري؟ قد يصوم في خيمة الربّ.

أقام موسى هناك عند الربّ مدّة طويلة. والعدد أربعون هو زمن المحنة، زمن المحنة التي تنتهي باللقاء بالربّ. يعيش موسى هنا محنة الشعب. وكلّ يوم بسنة. الشعب سيعيش أربعين سنة حتّى يلتقي بالربّ في النهاية في أرض الموعد أمّا موسى فيعيش أربعين يومًا. عاش الشعب أربعين سنة أمّا موسى فيعيش أربعين يومًا. وكلّ يومٍ بسنة. وبعد أن صام كلّ هذا الصيام عاش وصايا الله وما أرادها أن تكون فقط في قلبه، في حياته وعلى شفتيه، بل كتبها على اللوحين. وجعل هذين اللوحين في تابوت العهد.

ثمّ يوضع هذا التابوت في الهيكل. هو كلام الله حاضر مع شعبه، يذكّرهم بمتطلّباته، الربّ حاضر بكلمته. والوصايا العشر تسمّى الكلمات العشر. وهكذا، أحبّائي، تجدّد العهد مرّة ثانية بعد خيانة الشعب في سيناء. تجدّد العهد وهكذا كان للشعب العبرانيّ لوحان آخران فيهما كلام العهد، فيهما الوصايا، الوصايا العشر، فلا يبقى على موسى إلاّ أن ينزل من الجبل. ولكنّه لا ينزل فارغ اليدين، فيده مملوءة باللوحين لوحي الوصايا، ووجهه يشعّ من حضور الله، وقلبه يمتلئ من محبّته. فيا ليتنا نتعلّم من كلّ لقاءٍ بالربّ ألاّ نترك هذا اللقاء فارغي اليدين والقلب والعين والأذن، بل نمتلئ من الربّ ونحمل هذا الامتلاء إلى إخوتنا، آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM