تجديد العهد.

 

 

تجديد العهد

1- أمانة الله وثباته

أحبّائي، نتابع قراءَتنا لسفر الخروج، ونرافق موسى في مسيرته. لماذا يرافق الشعبَ الذي يرتفع تارة وينحدر تارة. مرّة يسلّم أمره للربّ فيقول: الربّ هو إلهنا ونحن شعبه. ومرّة يترك الربّ فيتعبّد للآلهة الكاذبة. تارة يكون أمينًا وطورًا يكون خائنًا.

ولكن الربّ يبقى هو هو، ومشروعه لا يتبدّل. يمكن أن يتأخّر لكي يمشي مشيتنا ويسير مسيرتنا، بما فيها من اندفاع في البدء، وتراخٍ وتراجع. ولكنّه يعيد الكرّة، يعيد المحاولة بعد المحاولة. مرّة أولى أعطى وصاياه على جبل سيناء، وهو الآن يستعدّ لأن يعيد كتابة هذه الوصايا، التي كان يجب أن تدوّن لا على الحجر بل في القلوب، لا بأقلام من حبر بل بروح الله الحيّ. وهكذا نفهم أنّ الربّ أعاد كتابة الوصايا بعد أن حمل إليه موسى لوحين آخرين (34: 1).

أنا أكتب عليهما الكلام الذي كان على اللوحين الأوّلين. ولكن لا شكّ في أنّ هذه الكتابة ستُمحى. هذا إذا كان موسى لا يكسر اللوحين كما فعل في المرّة الأولى على جبل سيناء. في النهاية، لا يمكن أن تحفر وصايا الله أن يُحفر كلام اله إلاّ في القلوب. حين يحفره يسوع المسيح بالذات، يكون هو العهد الجديد الأبديّ. ومع ذلك هناك محطّات من تاريخ الشعب القديم من أجل تجديد العهد. هذا التجديد سيتمّ مرّة كلّ سنة، وسيرينا مثلاً سفر يشوع كيف تجدّد العهد في شكيم. وهنا بعد الخطيئة الكبيرة، بعد هذه المعصية التي دلّ فيها الشعب على خيانته للربّ، أراد موسى أن يجدّد العهد.

صعد موسى إلى الجبل كما دعاه الربّ، وهناك اكتشف اكتشافًا رائعًا بدّل نظرته إلى الأمور. فحين رأى الشعب يعبد العجل الذهبيّ، حطّم الوصايا بعد أن ضاعت الوصيّة الأساسيّة. ولم يكتفِ فقط بأن يصبّ غضبه على حجرين، على لوحي حجر، بل صبّ غضبه على الشعب، وترك اللاويّين يضربون ويقتلون ويعاقبون. ولكنّه سيكتشف هنا على الجبل أنّ الربّ بطيء عن الغضب، أنّ الربّ يتأخّر، لا يغضب بسرعة، لا يعاقب بسرعة، فهو إله المراحم، إله الحنان، إله الأمانة إله الوفاء.

حين اكتشف حضور الربّ بهذا الشكل تبدّل كلّيٌّا وعرف خطأه. ويا ليتنا نحن أيضاً نكتشف حضور الربّ من خلال أمور بسيطة، أمور عمليّة أمور في حياتنا، من خلال التاريخ وأحداث التاريخ. يا ليتنا نفعل كما فعل موسى: أحنى رأسه إلى الأرض ساجدًا. وقال يا ربّ إن كنت الآن أحظى برضاك فسرْ فيما بيننا. هؤلاء الشعب قساة الرقاب، فاغفر لنا آثامنا وخطايانا واقبلنا مُلكًا لك.

2 - النصّ الكتابيّ

فقال الربّ لموسى: »ها أنا أقطع عهدًا: أصنعُ أمام جميع شعبك معجزات لم يشاهد أحد مثلها في كلّ الأرض بين جميع الأمم، فيرى كلّ الشعب الذي أنت فيما بينهم فعل الربّ. وما أفعله معكم رهيب. فاعملْ بما أنا آمرك به اليوم. ها أنا أطرد من أمامكم الأموريّين والكنعانيّين والحثّيّين والفرزّيّين والحويّين واليبوسيّين. لا تعاهدوا سكان الأرض التي أنتم سائرون إليها لئلاّ يكون ذلك شركًا لكم. بل، اهدموا مذابحهم، وحطّموا أصنامهم، واقطعوا غاباتهم المقدّسة لآلهتهم. لا تسجدوا لإله آخر، لأنّي أنا الربّ إله غيور. لا تعاهدوا سكان تلك الأرض، بحيث يدعونكم حين يعبدون آلهتهم ويذبحون لهم فتأكلون من ذبائحهم« (34: 10 - 15).

3 - انحناء السجود والتوبة

»فأسرع موسى وأحنى رأسه إلى الأرض ساجدًا«.

لا شكّ، أمام الربّ هي انحناءات السجود، والسجود العميق. فنحن من الأرض نلتصق بالأرض، والربّ هو من أعلى السماء. هي فكرة مهمّة جدٌّا من الكتاب المقدّس ولا تنفي الفكرة الأخرى حيث الدالّة تدفع بالإنسان إلى أن يقف في حضرة الله كالأبناء الأحبّاء.

والسجود هنا هو أكثر من سجود عبادة، أكثر من سجود، انحناء، أمام الله القدير. هو أيضاً سجود التوبة. موسى يسجد باسم شعبه الذي خطئ إلى الربّ، ويطلب المغفرة، يطلب المسامحة. هو صورة بعيدة عن يسوع المسيح الساجد في بستان الزيتون في جتسماني، الساجد سجود شعبه، سجود البشريّة كلّها قبل أن يذهب إلى الموت. سجود باسم الآخرين، وليس باسمه وحده فقط. »أسرع موسى وأحنى رأسه إلى الأرض ساجدًا«.

هذا ما نسمّيه بلغتنا الرهبانيّة مطّانيّة: يعني يلامس جبيننا الأرض ويدانا أيضاً، لا بل كلّ جسمنا يلامس الأرض. وحين جعل موسى نفسه في هذه الوقفة المتواضعة، الخاطئة، استطاع أن يكلّم الربّ. هنا نتذكّر في إنجيل لوقا ذاك العشّار مع رفيقه الفرّيسيّ. العشّار من بعيد ركع، لامس جبينُه الأرض: ارحمني أنا الخاطئ. أمّا الآخر، الفرّيسيّ، فوقف وكاد يقترب من اله حتّى يقول له: إنّه يصوم، يصلّي ويعشّر أمواله.

ويقول الإنجيل: العشّار عاد مبرّرًا. أمّا الفرّيسيّ فعاد كما أتى. لا بل زاد خطيئة كبرياء على سائر الخطايا: ميّز نفسه عن الخطأة، قال: لست مثل هذا العشّار، لست مثل الخاطئين الأشرار...

وسيكون يسوع واضحًا لمّا جاءته تلك الخاطئة. لم يقف مع الفرّيسيّ. اعتبر سمعان الفرّيسيّ نفسه أنّه قدّيس، أنّه بارّ تجاه هذه الخاطئة المعروفة في المدينة. كلاّ لم يقف يسوع معه، بل وقف مع المرأة ودعا الفرّيسيّ أن يكون مع يسوع ومع المرأة. إذا كانت المرأة خاطئة، فالفرّيسيّ أيضاً هو خاطئ.

4 - مسيرة الإيمان

وهنا موسى اعتبر نفسه خاطئًا مثل شعبه. تضامن مع شعبه، وصلّى من أجل شعبه.

قال: »يا ربّ، إن كنتُ الآن أحظى برضاك، فسرْ فيما بيننا«. لماذا تتكرّر هذه الكلمة: سرْ فيما بيننا. في فـ 33 تكرّرت أكثر من مرّة: إذا كنت لا تسير معنا، فهذه المسيرة لا نراها. لا نقدر أن نسيرها، وهذه الطريق هي طريق روحيّة. لا نفهمها لا نحسّ بها إلاّ من خلال الإيمان.

موسى يحتاج إلى الإيمان أو بالأحرى الشعب يحتاج إلى الإيمان. مرّة تساءلوا: هل الله بيننا أم لا؟ وهذه الحالة تدلّ على نوع من اليأس، من التردّد، من الشكوك ترافق كلّ واحد منّا. أين أنت يا ربّ في صعوباتنا؟ أحسسنا أنّك لست معنا، في تجربتنا أحسسنا أنّنا بعيدون عنك. في الواقع الله هو الحاضر، الحاضر ولاسيّما في الصعوبات، في التجارب، في الآلام، في الضياع. الربّ هو هنا، وحين نناديه لن يأتي هو إلى هنا. إنّه قد سبقنا. بل النداء لنا لنكون حاضرين أمام حضوره، لنعرف أنّه حقٌّا فيما بيننا، وهكذا نُنعش فينا الإيمان.

في الواقع، الربّ يسير مسيرتنا، يمشي معنا، وهو حاضر بيننا. ولكنّنا نحن نحتاج إلى أن ندعوه حتّى يصبح حضوره مجسَّدًا فينا، في قلوبنا، في عيوننا، فيدفعنا في الانطلاق إلى الأمام. ولماذا يقول موسى هذه الصلاة: إن كنت أحظى برضاك؟ لأنّه أمام شعب خاطئ. الربّ يرفض أن يسير مع شعب خاطئ. تلك كانت النظرة القديمة حيث ينفصل الله عن شعبه الخاطئ ويعاقبه. ولكنّ هذه النظرة ليست نظرة الربّ الرحيم الحنون. فمع أنّ الشعب هو هذا الشعب القاسي الرقاب، فالربّ لا يتخلّى عنه. هو يغفر له، هو يقبله كما في الماضي.

5 - الربّ إله الغفران

أجل، الربّ هو ذاك الذي يغفر لنا آثامنا وخطايانا. وإن كان الخاطئ قاسي الرقاب، فالربّ مستعدّ أن ينتظره. يكفي أن يصبح قلبه مفتوحًا، قلبه مستعدٌّا لأن يقول ما قاله صموئيل في تلك الليلة: تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع. إن كنت أحظى برضاك، فسرْ فيما بيننا. في الواقع الربّ ما زال يسير وسط شعبه، ما زال يسير فيما بيننا. يكفي أن نجتمع باسمه حتّى يكون هو بيننا.

أمّا الصعوبات فحين نكون قساة الرقاب، نكون خطأة، أن نكون ضالّين. ومع ذلك، فهو في النهاية يستقبلنا كما استقبل الأب السخيّ ابنه العائد إليه من البعيد.

»فاغفر لنا آثامنا وخطايانا واقبلنا مُلكًا لك«.

يعني أنت ستكون الملك في حياتنا. الربّ هو إله الغفران، هو الذي يتقبّلنا كما نحن. هكذا تقبّل الابن الضالّ، الابن الشاطر العائد إليه: ضمّه بيديه، عانقه، منعه من أن ينسى نفسه وما كان عليه في الماضي. هو كان الابن وترك البيت الأبويّ. وهذا الأب لا يرضى أبدًا أن يصبح ابنه أجيرًا في بيته. كلاّ. هو الابن ويبقى الابن. مهما مضى في البعيد، مهما بدّد ماله، مهما عرف البغايا، يبقى ذلك الابن. والربّ الذي اختار شعبه، الذي يختار كلّ مؤمن من مؤمنيه، هو طويل الروح، طويل الأناة، بطيء عن الغضب، ويستعدّ دومًا أن يستقبل العائد إليه. اغفر لنا آثامنا وخطايانا، وعند ذلك نصبح مُلكًا لك. فغفران اله يخلق الإنسان من جديد، عندئذٍ يستطيع الإنسان، وكل واحد منّا، أن يصبح مُلك الله.

نتذكّر هنا الخاطئة في إنجيل لوقا: لمّا غفر لها يسوع صارت امرأة جديدة، صارت تعرف أن تحبّ المحبّة الحقيقيّة.

وهنا حين يغفر الربّ آثام شعبه وخطاياه يحوّله. يصبح هذا الشعب بحسب قلب الربّ. عندئذٍ يقبله مُلكًا له.

6 - من أجل انطلاق جديد

وهكذا انطلقنا في طريق تجديد العهد. صار الشعب مستعدٌّا بواسطة موسى، بصلاة موسى، لكي يجدّد العهد الذي قطعه في سيناء ونقضه في الصحراء عند عبادته العجل المسمّن.

»فقال الربّ لموسى ها أنا أقطع عهدًا«.

دائمًا كلمة قطع، ليُقال: أقيم عهدًا. أقطع عهدًا هي كلمة قديمة. حين يكون عهد بين اثنين، تذبحُ الذبيحة، تقطع قطعتين، ويمرّ المتعاقدون بين القطعتين: فمن يخون العهد، يقطع مثل هذه الذبيحة المقطوعة أمامهم. هكذا ظلّت هذه العبارة مستعملة: أقطع عهدًا، أقيم عهدًا. هذا العهد، عهد سيناء، ما زال حاضرًا في قلب الربّ. مهما كانت خطيئة شعبه كبيرة.

وعندما يُقطع العهد، فما تكون النتيجة؟ القويّ يدافع عن الضعيف، الكبير يحمي الصغير، والصغير يعد بالأمانة لما يطلبه منه الكبير. هنا الربّ يدلّ أنّه يحافظ على شعبه، أنّه أمين، أنّه يغدق عليه خيراته.

قال الربّ: »أقطع عهدًا. أصنع أمام شعبك معجزات لم يشاهد أحد مثلها في كلّ الأرض بين جميع الأمم«.

والربّ يميّز، لا على مستوى الشعب وحسب، بل على مستوى الأفراد أيضًا. يكفينا أن ننظر القدّيسين في الكنيسة وما يفعله الربّ بواسطة أيديهم من معجزات.

مريم العذراء قالت أيضاً: الربّ صنع بي عظائم، صنع بي أعمالاً عظيمة، صنع بي معجزات. وحتّى اليوم ما زالت المعجزات حاضرة، مثلاً في لورد فرنسا، أو في فاطيما البورتوغال أو في أماكن أخرى من المعابد التي تباركت بظهور العذراء فيها. أصنعُ أمام شعبك معجزات. في الواقع الربّ ما زال يصنع المعجزات اليوم ليدلّ على حضوره وعلى أنّه هو الذي يبادر فيقطع عهدًا مع شعبه.

7 - في رفقة المعجزات

»لا يشاهد أحد مثلها في كلّ الأرض بين جميع الأمم«. هي معجزات خاصّة وعجائب لا تُرى كلّ يوم. وعندئذٍ تكون النتيجة بأن يرى كلّ الشعب الذي أنت فيما بينهم فعْلَ الربّ: فما أفعله معكم رهيب.

الربّ ليس فقط ذاك الذي يتكلّم. يمكنه أن يتكلّم من البعيد، ولا يتأثّر بما يحصل على الأرض، فيصبح الإنسان ذئبًا لأخيه الإنسان، ويستثمر القويّ الضعيف، والغنيّ الفقير، والمقتدر ذاك الذي لا يملك شيئًا.

هنا يرى الشعب فعل الربّ، ماذا يفعل الربّ. ويتابع النصّ فيقول: ما أفعله معكم رهيب. يجعل الناس يخافون. يجعل الناس يرون هذه القدرة العظيمة التي يتمتّع بها الربّ. فهو الإله الصباؤوت، ربّ الأكوان، ربّ الجنود، الربّ القدير. »فيرى كلّ الشعب الذي أنت فيما بينهم فعْل الربّ.« لا شكّ في أنّ الشعب ينتظر أن يرى أفعال الربّ لتعود إليه الثقة بالربّ، الاتّكال، الأمان، وموسى يحتاج إلى معجزات حتّى يفهم الشعبُ أنّ الذي يقوده، وإن كان ضعيفًا، وإن كان راعي غنم فيما مضى، هذا الموسى قدير بقدرة الله الحاضر معه.

»فيرى كلّ الشعب الذي أنت فيما بينهم فعْل الربّ وما أفعله معكم رهيب«.

نتذكّر هنا كلّ ما فعله الربّ بالنسبة إلى كلّ واحد منّا. هو فعلَ وما زال يفعل. في الماضي وفي الحاضر. لا شكّ، نحن نذكر أعماله في الماضي، نتذكّر أمانته، لأنّنا نحن الذين نتقلّب أمّا هو فيبقى من الأزل إلى الأبد. بدأ الربّ، وبادر وقال: أصنعُ، أفعل، ماذا يبقى على الإنسان أن يفعل؟ أن يردّ على الربّ بالطاعة.

»فاعمل بما أنا آمرك اليوم«.

ومن خلال هذا الأمر الذي يتوجّه إلى موسى، نفهم الأمر الذي يتوجّه إلى كلّ الشعب: فاعملْ بما أنا آمر به اليوم. وضمنيٌّا يجب على الشعب أن يعمل بما يأمره الربّ. وهكذا يكون العهد عهدًا. الربّ يبدأ فيفعل، والشعب يتجاوب فيفعل ما يأمره به الربّ. ويحفظ هذه الوصايا التي أعيدت كتابتها على لوحي حجارة، فكانت الشاهد على عهد تجدّد بين الله وشعبه.

وفي أيّ حال كلّ عهد يبقى محطّة في محطّات عديدة، حتّى نصل إلى المحطّة الأخيرة، مع يسوع المسيح والعهد الجديد بدمه. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM