إنحت لوحَيْ حجر كالأوّلَين.

 

إنحت لوحَيْ حجر كالأوّلَين

أحبّائي، ونتابع المسيرة مع الشعب العبرانيّ في البرّيّة بقيادة موسى. خبرة تشبه إلى حدّ بعيد خبرة سيناء. على سيناء أقام موسى مع الشعب، وبعد أن تأكّد من حضور الربّ مع شعبه انطلق. وهنا نعود إلى الخبرة عينها. على جبل سيناء، نال موسى لوحي الوصايا، وهنا سيكون لوحا الوصايا رفيقين للشعب. ونقرأ سفر الخروج الفصل 34 من 1 إلى 9.

وقال الربّ لموسى: »انحت لك لوحي حجر كالأوّلَين، وأنا أكتب عليهما الكلام الذي كان على اللوحين الأوّلين اللذين كسرتَهما. وكن مستعدٌّا في الصباح، واصعد إلى جبل سيناء، وقف أمامي هناك على رأس الجبل، ولا يصعد أحد معك، ولا يظهر أحد في كلّ الجبل، حتّى الغنم والبقر لا ترعى تجاهه«.

فنحت موسى لوحي حجر كالأوّلين، وبكّر في الصباح وصعد إلى جبل سيناء، كما أمره الربّ وأخذ، في يده لوحي الحجر.

فنزل الربّ في السحاب ووقف عنده هناك ونادى باسمه هو الربّ. ومرّ الربّ أمامه ونادى: »الربّ الربّ إله رحيم حنون، بطيء عن الغضب وكثير المراحم والوفاء، يحفظ الرحمة لألوف الأجيال، ويغفر الإثم والمعصية والخطيئة، لا يبرّئ الأثيم، بل يعاقب آثام الآباء في البنين وبني البنين إلى الجيل الثالث والرابع«.

فأسرع موسى وأحنى رأسه إلى الأرض ساجدًا، وقال: »يا ربّ إن كنتُ الآن أحظى برضاك فسر فيما بيننا. هؤلاء الشعب قساة الرقاب، فاغفر لنا آثامنا وخطايانا واقبلنا مُلكًا لك«.

1 - عودة إلى بدء

»وقال الربّ لموسى: انحت لك لوحي حجر كالأوّلَين وأنا أكتب عليهما الكلام الذي كان على اللوحين الأوّلين اللذين كسرتهما«. نتذكّر ما فعله موسى حين عاد من الجبل، ورأى الناس ورأى شعبه يعبدون العجل الذهبيّ. حطّم الحجرين، لوحي الوصايا. اعتبر أنّ الشعب خان العهد، فما الحاجة إلى هذين اللوحين اللذين يمثّلان العهد بين الله وشعبه. لا حاجة إلى مثل هذا العهد. ولكن الربّ هو الذي يبادر ويعيد المحاولة ويكون موسى ذاك الذي يهتمّ بتهيئة اللوحين، لوحي الوصايا. لا يحقّ له أن يفعل شيئًا جديدًا بعد أن أعلن:

»هؤلاء الشعب قساة الرقاب، فاغفر لنا آثامنا وخطايانا واقبلنا ملْكًا لك«.

نحن سلّمنا إليك أمورنا، ولكن الربّ هو الذي يأخذ المبادرة، فيتجاوب موسى مع المبادرة، ويدعو الشعب إلى أن يدخل معه في هذا العهد. هو عهد آخر، عهد جديد بالنسبة إلى عهد سيناء الذي صار قديمًا بل كاد يُلغى بعد أن خان الشعب ربّه. ولكن الربّ يغفر.

نتذكّر هنا هوشع النبيّ الذي صوّر بزواجه من جومر الزانية، حبَّ الله لشعبه. أخذها من عالم الزنى، ولكنّها خانت زوجها. فعاد وأخذها مرّة ثانية. وهذا ما يفعل الربّ. بعد لوحي الحجر الأوّلين اللذين كسرهما موسى، سيهيّئ موسى لوحين آخرين يكتب الربّ عليهما الكلام الذي كان على اللوحين الأوّلين. هذا يعني أنّ الربّ لا يعطي شعبه عهدًا جديدًا، بل هو يعيد العهد الأوّل إلى بهائه. فنظرة الربّ إلى البشريّة هي هي منذ البداية.

على مستوى الإيمان، يسوع المسيح هو الوسيط بين الله والبشر، بين السماء والأرض. لا شكّ في أنّه ظهر في ملء الزمن، ولكنّ عمله، ولكنّ ظهوره هو منذ بداية الخليقة، بل إنّ الربّ حين قال: لنخلق الإنسان على صورتنا ومثالنا« كان يفكّر بابنه يسوع المسيح صورة الله غير المنظورة.

»وأنا أكتب عليهما الكلام«. يكرّر الربّ، يعمل مرّة ثانية ما قام به مرّة أولى. هو يستعدّ أن يعيد الخبرة مع شعبه.

2 - استعدّ موسى لاستقبال الله

في أيّ حال سبق لموسى وقال للربّ: أنت لا تستطيع أن تستغني عن شعبك. إن مات هذا الشعب في البرّيّة، يقول المصريّون: لم يستطع الله أن يتابع المسيرة مع شعبه، ففضّل أن يفنيهم في البرّيّة، في صحراء سيناء.

وقال الربّ لموسى: انحت لك لوحي حجر كالأوّلين وأنا أكتب عليهما الكلام الذي كان على اللوحين الأوّلين اللذين كسرتهما: نتذكّر هنا الكلام عن الوصايا. فالكلمة صارت وصيّة، والربّ أوصى بها.

»وكن مستعدٌّا في الصباح«.

هذا الاستعداد هو استعداد خارجيّ، من اغتسال، من تطهّر من أجل لقاء الربّ.

واستعداد داخليّ ولا شكّ. استعداد داخليّ طوال الليل. وهنا نسير في الخطّ ذاته مع الإنجيل: لمّا أراد يسوع أن يختار رسله، استعدّ طوال الليل قبل أن يختار الرسل على الجبل، فكان موسى صورة بعيدة عنه.

كن مستعدٌّا في الصباح. إذًا في الصلاة، في التطهّر، في الاستعداد. واصعد على جبل سيناء، وقفْ أمامي هناك على رأس الجبل

كان الأقدمون يعتبرون أنّ الربّ ينزل على الجبل، رأس الجبل. هناك تلاصق السماء والأرض. وإن أراد الربّ أن ينزل يكون رأس الجبل موطئ قدميه. فحالما يأتي الربّ يكون موسى ذاك الذي يستقبله، كما يأتينا ضيف كبير أو يأتي الملك أو تأتي مقامات هامّة. نحن نقف وننتظر حتّى نستقبل ذلك الآتي إلينا. وهنا بدا الربّ وكأنّه ابتعد عن شعبه فلا يريد أن يرافقه. إذًا هو سينزل على رأس الجبل، وموسى يكون هناك فيستقبل الربّ الذي يستعدّ لأن يسير مع شعبه على ما قال له في آ 9: فسِرْ فيما بيننا.

وقال له الربّ: »واصعد إلى جبل سيناء وقف أمامي هناك على رأس الجبل«. موسى وحده بارّ. موسى وحده لم يلامس الشرك وعبادة الأوثان. أمّا الآخرون فلا يحقّ لهم أن يصعدوا. لهذا قال:

»لا يصعد أحد معك، ولا يظهر أحد في كلّ الجبل«.

3 - وحده على الجبل سمع الأوامر

الجبل مقدّس بعد أن وطئته قدما الربّ. إذًا لا يصعد عليه إنسان. منع موسى الجميع، وهذا المنع يصل حتّى إلى الغنم والبقر التي ترتبط بالإنسان بشكل أو بآخر. مهمّ جدٌّا ما نقرأ في الكتاب المقدّس ارتباط الخليقة، النبات، الحيوان، الجماد، بالإنسان.

في سفر يونان، لا يصوم فقط الملك وجميع شعبه، بل يصوم حتّى البهائم. هي ترافق الإنسان في صومه، في توبته.

وبما أنّ الإنسان خاطئ ولا يحقّ له أن يصعد الجبل، فالغنم والبقر أيضاً لا ترعى، لا تصعد الجبل.

وسيقول لنا بولس الرسول في روم 8: حين تعود البشريّة إلى الربّ، تعود الخليقة كلّها التي هي اليوم تئنّ وتنوح منتظرة افتداء أبناء الله

طلب الربّ من موسى. ماذا فعل موسى؟ نحت موسى لوحي حجر كالأولين.

كان بالإمكان أن يقول موسى للربّ: نحن حفرنا أوّل لوحي حجر وما استفدنا بشيء. كلاّ. الربّ طلب وموسى سمع. مهما كان طلبه قاسيًا. مهما كان طلبه مقفلاً على البعيد: ماذا ترى سيفعل الشعب؟ مرّة أولى خان العهد فكسر موسى لوحي الوصايا. أتراه سيكسر هذين اللوحين مرّة أخرى؟ لأنّ الشعب، كما يقول عنه فيما بعد، شعب قساة الرقاب مستعدّون في كلّ دقيقة أن يخونوا الربّ ويعبدوا الآلهة الكاذبة. وهذا ما سيكون حين يدخلون إلى أرض كنعان.

فنحت موسى لوحي حجر كالأوّلين.

دائمًا رجال الله هم الذين يسمعون كلام الربّ، ينفّذون ما يأمر به الربّ. ففعل موسى كما يفعل كلّ المؤمنين حين يدعوهم الربّ في الصباح الباكر. وبكّر في الصباح. هكذا فعل إبراهيم لمّا طلب منه الله أن يقدّم ابنه ذبيحة.

في الصباح الباكر انطلق إبراهيم. وموسى بكّر في الصباح، وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الربّ.

هو لا يحقّ له أن يصعد إلى جبل سيناء مهما كانت نوعيّة حياته. لكن أمرَه الربّ وهو يلبّي هذا الأمر، وطلب منه أن يحمل لوحي الحجر، فحمل في يده لوحي الحجر.

بكّر في الصباح وصعد إلى جبل سيناء كما أمره الربّ وأخذ بيده لوحي الحجر.

4 - أتى موسى فكان الربّ بانتظاره

الربّ طلب ونحن نلبّي طلبه بسرعة، ومنذ بداية النهار لا نتأخّر.

»فنزل الربّ في السحاب، ووقف عنده هناك ونادى باسمه هو الربّ«.

نزل الربّ في السحاب. نتذكّر دائمًا هذه الكلمات. هذه الصور تعتبر أنّ السماء فوق، والأرض تحت، والربّ ينزل من فوق إلى تحت. ولكن كيف ينزل؟ هو بحاجة إلى مطيّة: إلى جواد يحمله. هذه المطية هي السحاب. إذًا اكتشف موسى الربّ من خلال السحاب الذي غطّى الجبل. هذا السحاب يرمز إلى البخور الذي كان يملأ الهيكل ويتحدّث عنه سفر الملوك الأوّل، الفصل 18: لمّا أراد سليمان أن يدشّن الهيكل يقول الكاتب: امتلأ الهيكل من السحاب، من الدخان، من البخور، حتّى إنّ الناس لم يقدروا أن يقفوا بسبب حضور مجد الله.

إذًا السحاب هو صورة عن مطيّة الربّ لكي يصل إلى الأرض. هنا لا ننسَ أنّ السحاب هو الذي يرسل المطر، فيدلّ على بركة الله على شعبه وعلى أرضه.

وهنا صار السحاب ليس فقط علامة البركة بل علامة حضور الله. »ووقف الربّ عنده«، عند موسى هناك. كأنّه صديق يريد اللقاء بصديقه. صورة »ملموسة« تعبّر عن خبرة عميقة جدٌّا. الله ينتظرنا دائمًا. يعطينا موعدًا، ويسبقنا دومًا.

نتذكّر ما قرأنا في آية 2: صعد موسى ووقف على رأس الجبل. وهنا جاء الربّ ووقف قرب موسى، ونادى قال: أنا هو الربّ. أنت تسأل وأنا أقول لك: أنا هنا.

5 - مرّ الربّ ونادى

ومرّ الربّ أمامه ونادى: الربّ، الربّ إله رحيم حنون بطيء عن الغضب.

في 33: 22 و23 قال: الربّ لموسى: »وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة وأغطّيك بيدي حتّى أمرّ. ثمّ أزيح يدي فتنظر ظهري، وأمّا وجهي فلا تراه«. وهو الربّ في 34: 5: يمرّ الربّ أمام موسى. هو سيرى كما قلت. يرى ظهره لا يرى وجهه هناك. ونادى باسمه هو الربّ. يعني سمع موسى صوت الربّ. لا شكّ بهذا الصمت، صمت الجبل، بهذا السكوت الذي يسيطر على الجبل، يستطيع موسى وكلّ واحد منّا أن يسمع صوت الربّ، أن يتعرّف الى اسم الربّ، أن يفهم ظهور الربّ وحضوره.

ومرّ الربّ أمامه ونادى. إذًا مرور الربّ يترك وراءه مجده.

أوّلاً هناك نداء، وهذا النداء هو في أعماق القلب. ماذا قال الربّ في هذا النداء؟

الربّ... الربّ إله رحيم حنون بطيء عن الغضب وكثير المراحم والوفاء.

أوّلاً الربّ الربّ. التكرار مهمّ جدٌّا. حين ينادي الربّ أحد الأشخاص: موسى، موسى. إبراهيم، إبراهيم. والتكرار يدلّ على الحقيقة، على الواقع، على حضور الربّ. هنا التكرار يرتبط بالربّ. الربّ الربّ. أنا هو الربّ أنا يهوه، وهذا الربّ هو أوّلاً إله رحيم. ذاك الذي عبدناه كإلوهيم (أللهمّ، ألله)، كالإله، هو نفسه الربّ. هو رحيم. هو حنون. الرحيم يعني يعامل أبناءه بالرحمة كما تعامل الأمّ أبناءها. وهو الحنون يعني يحنّ على أولاده، ينحنو عليهم، يكون بقربهم، يكون على مستواهم. هذا الإله الرحيم الذي خانه الشعب، أترى سيفعل كما فعل موسى حين أمر اللاويّين أن يقتل الواحد أخاه وأخته وجاره؟ كلاّ. هذا الإله هو غير ما يظنّ الإنسان. الإنسان يريد سريعًا أن ينتقم لله، وكأنّ الله إله الانتقام. كلاّ.

6 - ربّ حنون، رحوم

هو كثير المراحم والوفاء، يحفظ الرحمة لألوف الأجيال. ليس فقط مع جيل وجيلين وثلاثة وأربعة، بل لألوف الأجيال، يعني إلى عدد لا يُحصى، إلى عدد كبير جدٌّا. هذا الإله هو بطيء عن الغضب، لا يعاقب إلاّ في النهاية. يعاقب مُكرهًا، كما يعاقب الأب ابنه لكي يؤدّبه والأمّ ابنتها لكي تؤدّبها. ولكنّه لا يعجّل في الغضب والانتقام، كما هو الأمر في نظرتنا البشريّة.

هو كثير المراحم، هو الأمين وكثير الأمانة. لا يتبدّل يومًا بعد يوم، يبقى هو هو حتّى إن نحن خنّاه. فهو يبقى أمينًا. يحفظ الرحمة لألوف الأجيال، ويغفر الإثم والمعصية والخطيئة. إذًا هذه الخطايا كلّها معًا، الخطيئة الكبرى التي عاشها الشعب العبرانيّ هو غفرها مغفرة كبيرة. لا يبرّئ الأثيم. إذا كان هو الذي يغفر فهو لا يمكن أن يقبل للأثيم، للخاطئ، أن يبقى على إثمه ويعتبر أنّ إثمه يمرّ من دون عقاب. هذا لا يعني أنّ الله هو الذي يعاقب، ولكن الإثم الذي فينا هو يحمل عقابه في كلّ واحد فينا.

وهذا الإثم ينتقل من الآباء إلى البنين. يعني كلّ واحد منّا يتأثّر بوالديه على مستوى الصحّة، على مستوى الحياة، على مستوى الأخلاق، على مستوى التصرّفات. هناك ارتباط الأبناء بآبائهم. ولكن نلاحظ الفرق الكبير في تصرّف الله: يعاقب إلى الجيل الثالث والرابع، لكنّه يحفظ الرحمة إلى ألوف الأجيال. يعني عقابه محدود في الزمان والمكان، وعلى مستوى الأشخاص. أمّا رحمته فلا حدود لها.

وهكذا، أحبّائي، سرنا المسيرة الجديدة. كانت مسيرة أولى ما أُلغيت. ولكن الربّ جدّدها، أعطاها وجهًا آخر. طلب من موسى أن يهيّئ لوحي حجر يكتب عليهما الوصايا. فهو مستعدّ أن يقوم بمحاولة ثانية مع شعبه مهما كان هذا الشعب خائنًا، مهما كان خاطئًا. مهما كان قساة الرقاب، فالربّ مستعدّ أن يحاول مرّة أخرى.

وفي النهاية من ينتصر؟ أغضب الله؟ كلاّ. بل رحمته ووفاؤه وأمانته. فهو إن عاقب يعاقب في مدًى محدود، وإن رحم فهو يرحم إلى ألف جيل. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM