اللقاء بين الربّ وبين موسى.

 

اللقاء بين الربّ وبين موسى

1- طلب موسى

أحبّائي، نتابع هذا المشهد الرائع، مشهد اللقاء بين الربّ وبين موسى. أمّا الإطار فهو إطار مسيرة جديدة ينطلق فيها موسى مع شعبه. نقرأ إذًا سفر الخروج الفصل 33 آية 12 - 13.

وقال موسى للربّ: »قلت لي: أصعدْ هؤلاء الشعب إلى تلك الأرض، ولم تخبرني من تُرسلُ معي. وقلتَ لي عرفتُك باسمك ورضيتُ عنك. فالآن، إن كنتَ رضيتَ عنّي، فأرني طريقك حتّى أعرفك واحتفظ برضاك. ألا ترى أنّ هذه الأمّة هي شعبك«. هنا، أحبّائي، نلاحظ كلمة أرني، اجعلني أرى. ماذا يطلب موسى؟ أن يرى طريق الربّ، لأنّ الربّ رأى أنّ هذه الأمّة هي شعبه.

وسوف نرى ماذا يطلب موسى في آية 18. يطلب أن يرى مجد الربّ. »فالآن إن كنت رضيت عنّي أرني طريقك فأحتفظ برضاك. ألا ترى هذه الأمّة؟ هي شعبك. فقال له الربّ: »أنا أسير معك وأهديك«. والكلام في آية 14 يوصلنا مباشرة إلى المسيح في إنجيل يوحنّا فصل 14. سألوا يسوع: نحن لا نعرف الطريق فكيف نمشي؟ أجاب يسوع: أنا الطريق والحقّ والحياة.

هنا تقول آية 14: أنا أسير معك وأهديك. الربّ هو النور الذي ينير الدرب، هو الغمام الذي يغطي الدرب من حرّ الشمس. ويسوع هو الطريق. نمشي على خطاه. نمشي معه. نمشي برفقته، هو طريقنا يحملنا في هذه الطريق لكي يوصلنا إلى الآب.

ونقرأ آية 15: فأجاب موسى: »إن كنت لا تسير معي فلا تُصعدنا من هنا«. ولكن الربّ سبق ووعده. قال له: أنا أسير معك. إنّما نلاحظ هنا تردّد موسى كتردّد كلّ واحد منّا. كأنّنا نريد أن يقول لنا الربّ أكثر من مرّة: أنا أسير معكم، أنا رفيق الدرب، أنا الذي ينير خطاكم. هذا التردّد من قبل الإنسان يتقبّله الربّ بطول البال، بالصبر، بالأناة. هو يعرف أنّنا مقسّمون، غير ثابتين، فنسأل أكثر من مرّة: إن كنت لا تسير معي.

2 - وكرّر الطلب

إن كنت لا تسير معنا. مرّتين تكرّرت العبارة مع أنّ الربّ في آية 14 سبق فقال له: أنا أسير معك. أمّا هو فيقول له مرّتين: إن كنت لا تسير معي لا تصعدنا. ثمّ يقول في آية 16:

»كيف نعرف أنّك ترضى عنّا إن كنت لا تسير معنا؟«.

كم نحن بحاجة إلى الإيمان كي نفهم كلمة الربّ من المرّة الأولى. هو يسير معنا. انتهى الأمر. هذا يعني ثقة عميقة واتّكالاً كبيرًا. رغم الصعوبات، رغم أنّنا لا نرى. هذا هو الإيمان. نتعامل مع ما لا يُرى وكأنّنا نراه. وإن كان موسى قد قال: إن كنت لا تسير معي، فلأنّه في هذه الصحراء لا يجد أيّ مَعلَم بشريّ من المعالم، بل رمل ورمل على مدّ النظر.

إن كنت لا تسير معي فلا تصعدنا من هنا. وأضاف:

»كيف لأحد أن يعرف أنّك راضٍ عنّي وعن شعبك إن كنت لا تسير معي. فنتميّز أنا وشعبك عن كلّ شعب على وجه الأرض«. هناك افتخار بأن يكون أيّ شعب من الشعوب خاصّة الربّ، مميّزًا عند الربّ. هناك افتخار أيّ افتخار عندما أرى نفسي أنا المؤمن مميّزًا لدى الربّ. ولكن الربّ يريد أن يميّز الجميع. فعليّ أنا أن أقبل هذا التمييز. الربّ ينظر إلى الجميع، وينظر إلى كلّ واحد كأنّه فريد في نظره. فما أكبر الإنسان! وهنيئًا للإنسان الذي ينفتح على هذا النظر الذي يبدّل الحياة.

آباء الكنيسة يقولون: الربّ خلق بكلمته، بل بنظرة منه. بل أقلّ من نظرة. في السريانيّة، رمزا. ويعني إشارة صغيرة، غمزة صغيرة من طرف عينه تخلق الإنسان. وهنا عندما ينظر الربّ إلينا، عندما نقبل نظره، تكون عيوننا على يده لنعرف مشيئته. فهنيئًا لنا. هو ينظر إلينا، ينظر إلى كلّ واحد منّا. يقع نظره علينا. فقد نهرب نحن كما فعل قايين، نهرب إلى الأرض البعيدة فنكون من الخاسرين. إنّه ينظر إلينا ويحبّنا.

3 - ما قُلتُه أفعله

»فقال الربّ لموسى وهذا الذي قلته أفعله«.

يعني الربّ سمع صوت موسى. طلب منه أن يسير معه، فقال له: كما تشاء. أنا أسير معك. طلب منه أن يهديه في الطريق. قال: كما تشاء. أنا أهديك. طلب منه أن يسير مع شعبه، أن تسير معنا. قال: أنا أسير معكم.

نلاحظ الربّ. بهذا الحنان وهذه المحبّة يتصرّف مع الإنسان مع كلّ إنسان، حتّى مع كلّ هؤلاء الذين تخلّوا عنه وعبدوا العجل الذهبيّ، وأشركوا في إيمانهم الإيمان بإله واحد. إذًا، أنت يا موسى قلتَ وأنا الربّ أفعل. عادة الإنسان يقول: أنت يا ربّ تقول وأنا أفعل. أنا أقول للربّ لتكن مشيئتك. ولكنّ الربّ يتنازل مع أحبّائه: أنتم طلبتم وأنا أفعل ما طلبتم منّي. والجواب: لأنّي رضيت عنك يا موسى وعرفتك باسمك.

فقال موسى: »أرني مجدك«. فقال الربّ: »سأعرض كلّ جلالتي أمامك، وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك« (آ 18). كلّ هذا المقطع أردنا أن نقرأه مرّة ثانية ونتعمّق في نصوصه ونتأمّل فيها لكي نكتشف من هو الربّ، لكي نكتشف أين يظهر الربّ. الربّ يُظهر عمله خصوصاً حين يتحنّن، وحين يرحم، لا حين يغضب، لا حين يعاقب، لا حين يسمّونه ذاك الذي يفني الإنسان. فهو ما أراد يومًا موت الخاطئ بل أن يعود عن ضلاله ويحيا.

فقال الربّ: »سأعرض كلّ جلالتي أمامك، وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك، وأتحنّن على من أتحنّن، وأرحم من أرحم«. وقال: »أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه لأنّ الذي يراني لا يعيش«. وقال الربّ: »هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة وأغطيّك بيدي حتّى أمرّ. ثمّ أزيح يدي فتنظر ظهري وأمّا وجهي فلا تراه«.

4 - وها هو يظهر لموسى

من هذا الكلام، أحبّائي، نفهم أنّ موسى لا يرضى بأن يرى الطريق. »أرني طريقك« (آية 13). وأنّ موسى لا يكتفي بأن يرى مجد الربّ من خلال الخلائق، من خلال عمله مع الإنسان. فهو في النهاية يتمنّى أن يرى وجه الربّ. كما يقول المزمور: وجهك، يا ربّي، أنتظر.

فالوجه هو الحياة الحميمة جدٌّا. هكذا فسّر الروحيّون نشيد الأناشيد عندما قالت العروس: ليقبّلني بقبل شفتيه. يعني يصبح وجه المؤمن تجاه وجه الله. قال الآباء: عندما يكون الإنسان خاطئًا، يقبّل رجلي المعلّم على ما فعلت الخاطئة في إنجيل لوقا 7: 36 - 50. وإن ارتفع بعض الشيء، إن اقترب من يسوع، صار كالتلميذ لدى المعلّم. يقبّل يده. ولكن حين تصبح العلاقة حميمة بين المؤمن وبين الله، يستطيع أن يكون أمام الربّ وجهًا لوجه، ويقول له كما تقول العروس: ليقبّلني بقبل شفتيه. أمّا الآن فما زلنا على مستوى المجد، هذا المجد الذي رأيناه في الطبيعة، في السماوات، في الأرض، في الشمس، في القمر، في الكواكب، في النجوم، في كلّ الجمالات. كلّ هذه الجمالات التي تقدّم لنا الطريق لنرى أمامنا من هو ربّ الجمال، مع هذه العظمة التي تفتحنا على الذي خلق كلّ عظمة.

ولكنّ هذا المجد يظهر بشكل خاصّ عندما يمارس الربّ حنانه ورحمته.

5 - على أنّه إله الرحمة والحنان

قال أتحنّن على من أتحنّن وأرحم من أرحم.

بمعنًى أوّل، نظنّ أنّ الربّ يختار الذين يتحنّن عليهم. وكأنّي به يرمي الآخرين في جهنّم، في الهلاك، بحيث لا يغمرهم بحنانه. مثل هذا التفسير بالتأكيد خاطئ.

فالربّ هو الحنان، ولا يطلب إلاّ أن يمارس حنانه. والربّ هو الرحمة ولا يطلب إلاّ أن يمارس رحمته. الصورة البعيدة عنه هي صورة الأمّ التي تودّ أن تغدق محبّتها على أولادها، وتدلّ على هذه المحبّة بأعمق أعماقها. إذا كانت أمّهاتنا على هذا المستوى، فماذا يكون الربّ يا ترى؟ هو ذاك الذي لا يطلب إلاّ أن يتحنّن، إلاّ أن يرحم. لكن إذا نحن أغلقنا قلوبنا، أغلقنا عيوننا، أغلقنا آذاننا على هذا الحنان وعلى هذه الرحمة، فنحن لا نستفيد. في الواقع هذا الكاتب يصل بنا إلى هذه النتيجة حيث حنان الربّ يلتقي بقلبنا المفتوح، حيث رحمة الربّ لا تجد القلب القاسي الذي يرفض ويهرب من الربّ على ما يقول هوشع النبيّ:

أنا علّمتهم المشي، حملتهم على ذراعيّ. أمّا هم فابتعدوا عنّي. أمّا هم فأداروا ظهرهم للربّ.

لهذا نفهم أنّ الربّ يتحنّن على من يقبل حنانه. يعني حنان الربّ مثمر يعمل مع الذين ينفتح قلوبهم على هذا الحنان وعلى هذه الرحمة.

وكما قلت، لم يكتفِ موسى بأن يرى مجد الله كما لم يكتفِ بأن يرى فقط طريق الله. هو يريد أن يرى وجه الله .لهذا كانت الآية 20: »أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه لأنّ الذي يراني لا يعيش«. يعني لا يبقى على قيد الحياة.

6 - ونحن نراه بعد أن يمرّ

في الواقع، أحبّائي، لا نستطيع أن نرى االله وجهًا لوجه على هذه الأرض. نحن هنا على مستوى الإيمان، لا على مستوى العيان. نحن نؤمن بالله ولا نعاين الله. نحن على الأرض فلا نراه بعيوننا. فإن كنّا نراه حقٌّا بعيوننا فهذا يعني أنّنا لم نعد على قيد الحياة البشريّة، لكن صرنا في السماء.

»أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه«.

وحده يسوع المسيح يقدر أن يرى وجه الله وجه الآب. من رآني رأى الآب.

وقال الربّ: »هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة، وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة وأغطّيك بيدي حتّى أمرّ«.

نلاحظ هذه الصور الرائعة التي تفهمنا أنّنا لا نستطيع أن نرى وجه الله. يعني لا نراه قبل أن يأتي. نحن نكتشف الله بعد أن يذهب، بعد أن يكون مرّ أمامنا، عندئذٍ نكتشف وجهه، نكتشف عمله.

نتذكّر هنا أعمال الرسل الفصل 12، لمّا نجا بطرس من السجن. هناك نجاة عاشها دقيقة دقيقة بل ثانية ثانية، ولكنّه لم يفهم إلاّ بعد أن تركه الملاك. قال: الآن علمت أنّ الربّ أرسل لي ملاكه، أنّ الربّ كان حاضرًا بجانبي وهو الذي نجّاني.

وهذا مهمّ جدٌّا أن نعرف أنّنا لا نكتشف حضور الربّ إلاّ بعد أن يمرّ هذا الحضور، فيطبعنا بطابعه على مثال عروس نشيد الأناشيد. هذا العريس قرع الباب فلم تفتح له عروسه. ولكنّه ترك عطره على مسكة الباب. عرفت العروس. ولكن متأخّرة، أنّ الربّ، أنّ العريس جاء يزورها فلم تفتح له في الوقت المناسب. فكم يجب أن نكون حاضرين حين يمرّ مجد الربّ على حياتنا.

7 - ومرّ مجد الربّ

ونلاحظ بشكل عامّ أنّنا لا نتكلّم مباشرة عن الربّ. بل عن مجد الربّ.

»حين يمرّ مجدي«.

بشكل مباشر عن الربّ لا نستطيع أن نتكلّم. هذا ما اعتاد أن يفعل العبرانيّون، الشعب اليهوديّ، حين الكلام عن الربّ. يقولون إصبع الربّ. عين الربّ. ذراع الربّ. يد الربّ. لماذا؟ حتّى لا نحسّ الربّ شخصاً قريبًا منّا. هو لا شكّ قريب بعمله، ولكنّه بعيد بظهوره لأنّه نار محرقة.

قال الربّ: »هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة«.

بجانبي. يعني موسى يمشي مع الربّ، كما مشى تلميذا عمّاوس مع يسوع بعد قيامته. هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة. نتذكّر أنّنا على جبل سيناء، على جبل حوريب، المشهور بصخوره الناتئة وحجارته المبعثرة، بسبب الرياح والعواصف والثلوج والبرد.

»تقف فيه على الصخرة وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة«.

هنا نتذكّر هذه الصور، هذه الإيقونات التي يظهر فيها إيليّا الذي مضى إلى هناك أيضاً لكي يلتقي بالربّ. هو في فجوة. هو في مغارة. وهكذا حين يمرّ الربّ يشعر إيليّا أنّ الربّ قد مرّ من خلال النسيم بل من خلال الصمت العميق.

»وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخر وأغطّيك بيدي«.

يعني لا تستطيع أن ترى الأمور بوضوح. يدي تغطّيك على مستوى الإيمان. نتذكّر هنا ظهور الربّ في الغمام. فالغمام أو السحاب يرينا الله وفي الوقت عينه يستر الله عنا. ويدُ الربّ هنا تغطّي موسى ولكن يشعر موسى حين يمرّ الربّ أنّ الربّ قد مرّ. هي الشمس مرّت، هي النار أحرقت، وإن لم يكن موسى يراها. فعملها حاضر.

نتذكّر هنا أيضاً تلميذي عمّاوس. كان يسوع القائم من الموت يكلّمهما. لم ينتبها في الحال، لكنّ قلبهما كان يشتعل. لهذا قال الواحد للآخر: »أما كانت قلوبنا مضطرمة حين كان يحدّثنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟ وهذه اليد يد الربّ التي تغطّي موسى. هي في الواقع تخبّئ نارًا محرقة تخبّئ نورًا عظيمًا سيصل إلى قلب موسى، وإن لم يكن رأى هذا المجد بعينيه.

»ثمّ أزيح يدي فتنظر ظهري وأمّا وجهي فلا تراه«.

نلاحظ دائمًا في هذه النصوص أنّ الإنسان لا يمكن أن يقف كلّيٌّا على مستوى الله فالله يبقى السامي، يبقى المتعالي. هناك مسافة بين الله والإنسان. والإنسان كما قلت لا يعرف ظهور الله، لا يعرف مجد الله إلاّ بعد أن يكون مرّ هذا الظهور ، مرّ هذا الوجه، مرّ هذا العمل، فيكتشف الإنسان هذا المجد كما اكتشفت عروس النشيد عطر عريسها لمّا أمسك مسكة الباب.

هكذا، أحبّائي، اكتشفنا شيئًا فشيئًا مسيرة موسى الذي انطلق من واقع شعبه فطلب أن يرى طريق الربّ.

يا ليتنا نطلب نحن أيضاً أن نرى طريق الربّ. أبعد من ذلك. طلب أن يرى مجد الربّ. مجد الربّ حاضر في الخليقة وفي كلّ واحد منّا. ولم يكتفِ موسى بذلك، بل أراد أن يرى وجه الربّ. ونحن معه ننشد المزمور: وجهك يا ربّ نلتمس. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM