أرني مجدك.

 

أرني مجدك

أحبّائي، الربّ يكون معنا. نحن الآن في الحلقة المئة من سفر الخروج مع عنوان الحلقة ما قال موسى للربّ: أرني مجدك. سبق لنا وقرأنا خر 33: 12 - 22، وها نحن نستعيد آ 18 - 22 لكي نتأمّل فيها.

فقال موسى: »أرني مجدك«.

فقال الربّ: »سأعرض كلّ جلالتي أمامك، وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك، وأتحنّن على من أتحنّن، وأرحم من أرحم«. وقال: »أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه، لأنّ الذي يراني لا يعيش«. وقال الربّ: »هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة، وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة وأغطّيك بيدي حتّى أمرّ، ثمّ أزيح يدي فتنظر ظهري وأمّا وجهي فلا تراه.

1 - أنا معك

قبل أن نشرح آية 14 »وقال له الربّ أسير معك وأهديك« نتذكّر الإطار، إطار هذا المقطع. موسى توسّل من أجل شعبه. فغفر الربّ خطيئة شعبه وطلب من موسى أن ينطلق. قال له: أصعدْ هؤلاء الشعب إلى تلك الأرض. تلك الأرض هي أورشليم حيث يقيم الربّ وحيث يلتقي به المؤمنون.

ولكنّ موسى لا يريد أن يصعد مع هذا الشعب. لا يريد أن يكون وحده. هو يخاف، والإنسان يخاف أمام المجهول، يخاف من ضعفه، يخاف من خطيئته، ويخاف من هذا الشعب الذي ما إن غاب موسى عنه بضعة أيّام حتّى عبد العجل الذهبيّ وخان الربّ الذي أخرجه من أرض مصر.

موسى يطلب من الربّ أن يوضح له: من يسير معنا؟

فقال له الربّ: »أنا أسير معك وأهديك« (آ 14).

»أنا« مهمّة جدٌّا. هذه الـ»أنا« تعني أنا يهوه، أنا الربّ الحاضر في شعبي. أنا الربّ أنا الحاضر. مع أنّي بعيد فأنا قريب جدٌّا. لهذا أنا أسير معك. وهل يمكن للربّ الذي هو روح سرمديّ الذي يقيم في أعلى السماوات، أن يسير مع شعب من الشعوب؟

في الواقع الربّ تنازل وأراد أن يرافق شعبه، بل أن يرافق البشريّة. منذ البداية منذ الإقامة في الفردوس كان الربّ يتمشّى عند برودة المساء مع آدم، وهو هنا يريد أن يسير مع موسى. أن يسير مع شعبه.

أنا أسير معك. وهذه الـ»معك« ترد كلّ مرّة يطلب أحد المختارين من الربّ: من الذي يؤمّن لي الحماية؟ أنا خائف. يقول له الربّ: أنا معك أسير، أنا معك لكي أهديك الطريق. لا ننسَ أحبّائي، نحن في البرّيّة، نحن في صحراء سيناء. من ينير الطريق لهذا الشعب الذي لا يعرف الكثير من سيناء وهو الخارج من العبوديّة؟

2 - أنا أهديك

أنا أهديك. في الليل بواسطة النار. النار تهدي الماشين في الليل. وا؟ هو تلك النار وذاك النور.

وفي النهار الغمام. علامتان حسّيّتان تدلاّن على حضور ا؟ مع موسى ومع شعبه. إذًا لا تنتظر من البشر أن يهدوك. فالربّ هو الذي يهديك، وإن كان من بشر فالربّ هو الذي سيرسلهم.

من سائر الأسفار، خصوصاً سفر العدد، نفهم أنّه كان هناك أناس رافقوا الشعب العبرانيّ في البرّيّة يهدونهم يقودونهم في هذه الطريق المليئة بالتعرّجات. ولكن الربّ هو الهادي الأوّل والأخير.

قال له الربّ. تكلّم الربّ مع موسى وأعطاه العلامة وأعطاه الكلام. والربّ عندما يقول فهو يفعل. أنا هو. أنا معك. أسير معك وأهديك الطريق بحيث لا تضلّ.

هنيئًا لموسى وهنيئًا لشعبه بهذه الرفقة التي لا يمكن إلاّ أن تقود إلى مبتغاها، إلى هدفها. وهنيئًا لنا إن عرفنا في حياتنا كأفراد، وفي حياتنا كجماعات، أنّ الربّ هو الذي يسير معنا ويهدينا. هذا يعني أنّنا نسمع صوته، أنّنا نفتح عيون الإيمان لكي نرى الطريق التي يدلّنا عليها.

»فأجاب موسى: إن كنت لا تسير معي فلا تُصعدنا من هنا«.

موسى يضع الشرط الأساسيّ. هو يمشي باسم الربّ، وإذا لم يكن الربّ معه فباسم من ينطلق؟

لهذا رفض المسير مهما كانت الأمور مسهّلة على المستوى البشريّ، على المستوى المادّيّ. إن كنت لا تسير معنا فلا تصعدنا. يعني نفضّل أن نكون هنا في موضع أمين، في موضع يساعدنا على أن نبقى على قيد الحياة. ربّما يكون موسى وشعبه في إحدى الواحات.

3 - رفقة الربّ حماية

إن كنت لا تسير معي لا تصعدنا من هنا. هذه الثقة الكبيرة تنتقل من قلب موسى إلى قلب ا؟.

»كيف لأحد أن يعرف أنّك راضٍ عنّي وعن شعبك إن كنت لا تسير معنا«.

نحتاج أن يرى الناس أنّ الربّ يسير معنا. وحين يعرفون أنّ الربّ يسير معنا، يخافون ولا يهاجموننا.

قال المزمور 23: »تهيّئ مائدة تجاه مضايقيّ«. يعرفون، يعرف مضايقيّ أنّ الربّ معي، عندئذٍ لا يتجرّأون أن يهاجمونا، أن يعادونا.

إن كنت لا تسير معنا كيف نعرف أنّك راضٍ عنّا، فنتميّز أنا وشعبك عن كلّ شعب على وجه الأرض.

نتذكّر هنا أنّ هذا الشعب الذي قاده موسى، هؤلاء الرعاع الهاربين من مصر، فهموا أنّهم يخصّون الربّ. في الواقع كلّ شعب يخصّ الربّ. يبقى عليه هو كشعب أن يتجاوب مع نداء الربّ. ويمكن أن نقول الشيء عينه عن كلّ إنسان، عن كلّ مؤمن: هو يخصّ الربّ إن أراد أن يسلّم نفسه إلى الربّ.

إذًا هنا الربّ لا يختار إلاّ الذين يقبلون اختياره، يقبلون نداءه ويتجاوبون معه.

كيف لأحد أن يعرف أنّك راضٍ عني وعن شعبك إن كنت لا تسير معنا، فنتميّز أنا وشعبك عن كلّ شعب على وجه الأرض.

»فقال الربّ لموسى: وهذا الذي قلته أفعله لأنّي رضيت عنك وعرفتك باسمك« (آ 17).

طلب موسى من الربّ. ما طلب من أجل نفسه، بل طلب من أجل شعبه. وقد قال فيما سبق. إن كنت لا تريد أن تخلّص الشعب فأنا لا أريد الخلاص. إن كان الشعب سوف يهلك، فأنا أتمنّى أن أهلك مع شعبي. هو يطلب من أجل الشعب، مع أنّه ما خان الربّ كما خانه الشعب عندما عبد العجل المسمّن، مع أنّه ابن الخلاص، إلاَّ أنّه لا يريد أن يخلص وحده. لهذا نسمعه يصلّي، يطلب إلى الربّ من أجل شعبه.

4 - رضى الشعب من رضى موسى

هل الربّ يرضى عن شعبه أم لا؟ هل الربّ يريد أن يسير مع شعبه أم لا؟

بعد الخروج من البحر، سار الربّ مع شعبه، ولكن كانت خطيئة الشعب كبيرة جدٌّا. خان الشعب الربّ. صنع له عجلاً من ذهب. أترى الربّ يغفر ويغفر حتّى النهاية، أم ينسى بعض الوقت كما يفعل البشر بعضهم مع بعض؟

سنرى فيما بعد كيف أنّ الربّ يتحنّن، الربّ يرحم. وعندما يغفر فهو يغفر حقٌّا بدون رجوع أبدًا. فعطاياه لا ندامة فيها. قال الربّ لموسى: هذا الذي قلتَه، هذا الذي طلبتَه، أفعله، لا كرامة للشعب، لكن لأنّي رضيت عنك أنت، لأنّي عرفتك باسمك. موسى هو المتشفّع من أجل هذا الشعب، ولولا رضى الربّ عليه لما كان رضي الربُّ عن شعبه، ولو لم يعرفه الربّ ويعرفه باسمه لما كان أراد أن يعرف اسم الشعب، ويعرف كلّ واحد من هذا الشعب.

رضيت عنك. من أجمل الكلمات عندما يرضى الربّ عنّا. يقول بولس الرسول: إن كنت أبحث عن رضى الناس فلست عبدًا ليسوع المسيح. لكنّي أبحث عن رضى يسوع المسيح. وهنا هذا المديح الرائع بالنسبة إلى موسى: رضي ا؟ عنه. فهم الكتاب وفهم التقليد اللاحق أنّ الربّ رضي عن موسى، وعلامة الرضى كانت أنّه أوصل الشعب على مشارف أرض الميعاد. رضيت عنك وعرفتك باسمك. هذا يدلّ على دعوة خاصّة. الربّ يعرف كلّ واحد باسمه. خصوصاً إذا كانت قد أعطيَتْ له دعوة خاصّة، نداء خاص مثل موسى. الربّ يعرف كلّ واحد باسمه منذ الحبل به في حشا أمّه. الربّ يعرفه، وهذه المعرفة الأساسيّة منذ البداية هي التي تعطينا هذه الدالّة، تعطينا هذه الجرأة، تعطينا الثقة بأنّ الربّ سيفعل بنا أمورًا عظيمة. هل اكتفى موسى بهذا الكلام؟ كلاّ.

5 - طلب موسى أن يرى

سمعت أذناه صوت الربّ ولكنّه يطلب أكثر. يطلب أن يرى وجه الربّ، أن يرى مجد الربّ.

نتذكّر هنا أيّوب. قال: سمعت عنك سمع الأذن. ولكن حين سمع أيّوب سمع الأذن، لم يكتفِ. هو لم يقبل بما قاله الإيمان الشعبيّ: الربّ أعطى، الربّ أخذ. لم يكتفِ بما سمعه من أصدقائه الثلاثة بلدد الشوحيّ ورفيقيه. لم يكتفِ بما سمعه من ذاك الصوت النبويّ. كلاّ لم يكتفِ أيّوب بما سمع. هو يريد أن يرى. وهذا هو وضع موسى: أريد أن أرى.

»أرني مجدك«. نلاحظ، هنا أحبّائي. لا يقول: »أرني وجهك«. لا يستطيع الإنسان أن يرى وجه ا؟ أبدًا لهذا قال الربّ: أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه.

نحن لا نستطيع أن نرى وجه ا؟ إلاّ بعد الموت، إلاّ في الحياة مع ا؟ إلى الأبد.

ما هو المجد؟ المجد هو تعبير ملموس عن حضور ا؟. فالطبيعة تعبّر عن مجد ا؟ كما يقول المزمور 19: السماوات تنطق بمجد ا؟ والفلك يخبر بأعمال يديه. يكفي أن ننظر إلى السماء، أن ننظر إلى الأرض، إلى الشمس، إلى القمر، إلى الكواكب، حتّى نكتشف مجد ا؟. وخصوصاً ننظر إلى الإنسان المخلوق على صورة ا؟ ومثاله فنرى مجد ا؟.

قال موسى: أرني مجدك. يريد أن يرى. نتذكّر هنا أيضاً تلميذي عمّاوس اللذين رافقهما يسوع على الطريق. تحدّث معهما، اشتعل قلباهما، ولكن عند كسر الخبز في عمّاوس رأيا. وعندما رأيا آمنا، انفتحت أعينهما. كانت مغلقة، كانت مسكّرة، انفتحت.

وهنا موسى يريد أن يرى. يريد من الربّ أن يفتح له عينيه، أن يرفعه إلى رؤية الربّ. وسيقول بالنصّ: وجهًا لوجه.

6 - أجابه الربّ

»فقال الربّ: سأعرض كلّ جلالتي أمامك وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك«.

سأعرض كلّ جلالتي. الجلالة، العظمة، البهاء. كشفُ هذا المجد.

سأعرض كلّ جلالتي أمامك. إذًا أمام موسى سيقف الربّ. والربّ يقدّم مجده، يقدّم عظمته، فيعرف موسى بأيّ شخص ربط حياته، بأيّ شخص تعلّق فصارت حياته جزءًا من رسالته أو بالأحرى كلّ حياته صارت رسالته.

»وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك«. أي أقول لك: أنا يهوه وأنت تسمع. نلاحظ، أحبّائي، هنا أنّنا لسنا أمام الخبرة الأولى التي عاشها موسى في البرّيّة.

هناك قرب العلّيقة المتّقدة سأل الربّ عن اسمه فقال له: أنا هو، أنا الكائن، أنا هو الحاضر في قلب شعبي وفي حياة شعبي. قال الربّ لموسى تجاه العلّيقة المتّقدة: أنا الربّ، أنا يهوه. وها هو يقول له مرّة ثانية.

لماذا، أحبّائي، هذا التكرار؟

من جهة ا؟، لا حاجة إلى التكرار. فالربّ يقول كلمته. بالنسبة لنا، هذه الكلمة هي في حاضر في قبلها وفي بعدها.

أمّا بالنسبة إلى الربّ، فكلامه في الحاضر الدائم. يكفي أن نسمعه من عشرين سنة أو من خمسين سنة. يبقى هذا الكلام حاضرًا يومًا بعد يوم، وإن كان الربّ يجدّده أو يحرّك مسامعنا، يحرّك قلبنا حتّى نسمع هذا النداء وكأنّه نداء جديد.

7 - ولبّى طلبه

هي العادة على مستوى البشر. الإنسان ينسى. ثمّ الإنسان يملّ ويضجر. هذا ما ينبّهنا منه كاتب الرسالة إلى العبرانيّين. الضجر هو الخطيئة الكبرى. نعتاد على ا؟، نتعوّد على صوته فيصبح صوته مثل سائر الأصوات. نعتاد على التلفّظ باسمه مثل سائر الأسماء، ولهذا جاءت الوصيّة لا تحلف باسم ا؟ بالباطل، لا تذكر اسم ا؟ هنا وهناك. وسوف يتنبّه اليهود إلى هذا الأمر بحيث لم يعودوا يتجرّأون أن يتلفّظوا باسم الربّ.

اسم الربّ كلّه جلالة، كلّه مهابة. لا يمكن أن نجعله مع سائر الأسماء. صوت الربّ هو صوت عميق يحرّك الحياة، يخلق فينا الإنسان الجديد. لا نستطيع أن نجعله مع سائر الأصوات. وجه الربّ هو وجه سامٍ، وجه رفيع، وجه متعالٍ. لا نستطيع أن نجعله مع سائر الوجوه.

طلب موسى: أرني مجدك. والربّ يلبّي نداء محبّيه. يلبّي طلب محبّيه كما لبى طلب موسى. سوف يريه مجده. هذا المجد الذي يدلّ على عمل الربّ في الكون، على حضور الربّ في الكون، في الجماعات وفي كلّ إنسان من الناس.

ولكن الربّ لا يريد أن يكون بالنسبة إلى موسى تلك النار المحرقة.

قدرة الربّ وحضوره يشبهان الشمس بالنسبة إلى كلّ من يقترب منها. نحن نبقى بعيدين عن الشمس لئلاّ نحترق. والربّ عندما يريد أن يُري موسى مجده، يُبقي المسافة. فالمسافة مهمّة بين ا؟ والإنسان، بين الإله القدّوس وكلّ واحد منّا مع ضعفه وخطيئته.

سأعرض كلّ جلالتي أمامك وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك. وهكذا لبّى الربّ طلب موسى. قال »أرني مجدك«، وها هو يريه هذا المجد.

وإن شاء ا؟ في الحلقة التالية نفهم كيف يظهر مجد الربّ.

يا ربّ أرنا مجدك، مجدك في الخليقة، مجدك في الإنسان، وخصوصاً مجدك عندما تغفر. عندما فتحت باب هذا المجد اكتشفناه على وجه ابنك يسوع المسيح الذي جاء إلينا، رافقنا في حياتنا، أعطانا حياته، رافقنا في موتنا فأعطانا قيامته. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM