الربّ حاضر ويرافق شعبه,

 

الربّ حاضر ويرافق شعبه

1- حضور الربّ

أحبّائي، نتابع قراءتنا لسفر الخروج مع هذه الخبرة الرائعة خبرة حضور الربّ. أمّا في حلقة اليوم فلا نكتفي بالقول إنّ الربّ حاضر في شعبه. فالربّ يرافق شعبه. هذا معنى حلقتنا اليوم: الربّ يرافق شعبه ويرافق كلّ واحد منا. هو لا يتركنا أبدًا كما يقول المزمور: لا يسمح أن تعثر رجلنا بحجر. وإن عثرت فهو الذي يهتمّ بنا كما اهتمّ السامريّ بذلك الجريح على الطريق بين أريحا وأورشليم.

الربّ يرافق شعبه. هذا ما أراد أن يُفهمه موسى للشعب. هدّده الربّ: أنتم شعب قساة الرقاب. وهم قد تابوا: خلعوا زينتهم فدلّوا على توبتهم.

وفي حلقة سابقة عرفنا أنّ الخيمة، عندما تحلّ عليها السحابة، يُغلق بابها ويكون الربّ حاضرًا هنا.

ولكن أترى لا يكون الربّ حاضرًا إلاّ ساعة تُنصب الخيمة؟

فهل حضور الربّ يرتبط بخيمة؟ يرتبط بهيكل، ببعض الحجارة؟ فيسوع سوف يقول عن الهيكل: لن يبقَ فيه حجر على حجر إلاّ ويُهدم. وفي الواقع سيُهدم الهيكل سنة 70 بعد المسيح على يد الرومان. فإن زال هيكل الحجر، ماذا يفعل المؤمنون؟ هل يضيعون؟ أم يظلّون مرتبطين بالربّ؟ سيقول خصوصاً إسطفانس في محاكمته التي سيُرجم بعدها. سيقول لليهود: مثل هذا الهيكل يصبح كصنم فلا يميّزه شيء. وخيمة الاجتماع يمكن أن تصبح »صنمًا« إن كانت فقط تمثّل حضور الربّ حين ينزل الشعب في مكان من الأمكنة.

الربّ ليس محصورًا في مكان. الربّ ليس إله هذا المكان أو ذاك، هذه الأرض أو تلك. الربّ هو إله شعب، هو إله الشعوب كلّها، هو إله المؤمنين وكلّ المؤمنين، بل كلّ إنسان لأنّ كلّ إنسان مصنوع على صورة ا؟ ومثاله. فحيث يكون إنسان هناك ا؟ حاضر، وحيث تكون طبيعة جميلة هناك ا؟ حاضر. كما يقول سفر الحكمة: عندما ننظر إلى جمال الطبيعة نفهم كم ربّنا أجمل منها.

وهكذا في هذه الحلقة، أحبّائي، سنفهم أنّ الربّ ليس مرتبطاً بموضع من المواضع، ولا بشيء من الأشياء، ولا بغرض من الأغراض ولو كان خيمة الاجتماع التي ضمّت فيما ضمّت تابوت العهد وفيه الوصايا وجرّة المنّ وعصا هارون.

2 - نصّ الكتاب

وقال موسى للربّ: »قلتَ لي أصعِدْ هؤلاء الشعب إلى تلك الأرض ولم تخبرْني من ترسل معي، وقلت لي: عرفتك باسمك ورضيت عنك. فالآن إن كنت رضيت عنّي فأرني طريقك حتّى أعرفك وأحتفظ برضاك. ألا ترى أنّ هذه الأمّة هي شعبك«.

فقال له الربّ: »أنا أسير معك وأهديك«.

فأجاب موسى: »إن كنتَ لا تسير معي، فلا تصعِدْنا من هنا. كيف لأحد أن يعرف أنّك راضٍ عنّي وعن شعبك إن كنت لا تسير معنا، فنتميّز أنا وشعبك عن كلّ شعب على وجه الأرض؟«.

فقال الربّ لموسى: »وهذا الذي قلتَه أنت أفعله أنا، لأنّي رضيتُ عنك وعرفتك باسمك«.

فقال موسى: »أرني مجدك«.

فقال الربّ: »سأعرض كلّ جلالتي أمامك، وأنادي باسمي أنا الربّ على مسمعك، وأتحنّن على من أتحنّن، وأرحم من أرحم«. وقال: »أمّا وجهي فلا تقدر أن تراه، لأنّ الذي يراني لا يعيش«، لا يبقى على قيد الحياة.

وقال الربّ: »هنا مكان بجانبي تقف فيه على الصخرة، وحين يمرّ مجدي أجعلك في فجوة الصخرة وأغطّيك بيدي حتّى أمرّ، ثمّ أزيح يدي فتنظر ظهري وأمّا وجهي فلا تراه« (33: 12 - 23).

3 - رضى الربّ

- وقال موسى للربّ: قلتَ لي.

لا يتصرّف موسى إلاّ بناءً على ما يقوله له الربّ. الربّ يأمر وموسى هو الذي ينفّذ.

- أصعدْ هؤلاء الشعب إلى تلك الأرض.

أنا مستعدّ يا رب أن أصعد هذا الشعب إلى تلك الأرض، إلى أورشليم، إلى الهيكل حيث حضور ا؟.

- ولم تخبرني من ترسل معي.

أحسّ موسى بضعفه بعجزه. هو يحتاج إلى رفيق يسير معه. لهذا سأل الربّ: من ترسل معي؟ وفي الواقع وعده الربّ أن يرسل معه ملاكًا. غير أنّ موسى لم يرضَ. فهو يريد الربّ نفسه أن يرافقه ويرافق شعبه. ومهمّ جدٌّا أن نعرف أنّ موسى هو عارف برضى الربّ عليه، عارف بأنّه يسير مع الربّ والربّ يسير معه، لكنّ موسى يطلب أكثر من ذلك، فيقول إن أنتَ راضٍ عنّي وعن شعبك، يجب أن تسير لا معي وحدي، بل أن تسير معنا. أنا وشعبك. قلتُها وأكرّرها مهمّ جدٌّا هذا التضامن بين موسى وبين شعبه. وهو صورة بعيدة عن تضامن يسوع معنا في الألم، في الموت، فنتضامن معه في القيامة. لم تخبرني من ترسل معي.

- قلت لي عرفتك باسمك ورضيت عنك.

جميلة جدٌّا هذه الكلمات. كلّ كلمة نتوقف عندها. قلتَ لي أنت. إذًا أنا لا أنتظر رضى الناس. قال لنا بولس الرسول: إن كنت أبحث عن رضى الناس فلست عبدًا ليسوع المسيح.

وموسى لا يطلب إلاّ ما يقوله الربّ له. ماذا يقول الناس؟ بماذا يمتدحونه؟ كيف يكرّمونه؟ كيف سيحاولون التعبّد له فيما بعد بحيث أخفي قبره؟ وهذا كلّه لا يهمّ موسى. ما يهمّه هو ما يقول له الربّ. قلتَ لي عرفتك باسمك. إذًا موسى ليس شخصاً من الأشخاص، ليس شخصاً مثل سائر الأشخاص. فالربّ يعرفه باسمه، يناديه باسمه: يا موسى. لا يقول له: أنت الذي تقف هناك، أنت الراكع هناك، أنت الرقم 255. كلاّ. بل يدعوه باسمه والاسم هذا مهمّ جدٌّا. هو علامة الحضور الحميم والإقامة مع البعض الرفقة. يمكن أن نسمّي فلانًا ابن تلك القبيلة أو ابن تلك الأمّ أو ابن ذلك الأب، أمّا أن أدعوه باسمه فهي علاقة حميمة. اسمه الأوّل بولس، جان إلى آخره.

4 - عرفتك باسمك

ولا أتوقّف عند اسم من الأسماء. وهنا قال: عرفتك. والمعرفة دائمًا ليست قضيّة عقل، ليست: تذكّرت اسمك. يمكن أن أذكر الأسماء العديدة. ولكن هنا المعرفة هي علاقة. المعرفة في النهاية هي علاقة الرجل مع امرأته، العلاقة الزوجيّة. وكأنّي بالربّ صار في علاقة بينه وبين موسى كما بين العريس وعروسه على ما يقول نشيد الأناشيد. هذه المعرفة الحميمة هي بداية مسيرة من الحبّ، مسيرة من العطاء، مسيرة من التضحية، مسيرة من الاتّحاد بين ا؟ وبين موسى. وفي النهاية بين ا؟ وبين كلّ واحد منّا. يستطيع أن يعيش الخبرة التي عاشها موسى، خبرة ا؟ الذي يعرفنا بأسمائنا. وهذه الخبرة نعرفها انطلاقًا من إرميا: الربّ عرفه وهو في بطن أمّه. أو بولس. الربّ عرفه يقول: الربّ فرزني في بطن أمي وجعلني في خدمته.

كلّ واحد منا يقدر أن يختبر هذا الشيء العظيم. الربّ يعرفنا بأسمائنا. الربّ بعرفنا ويريد لنا أن نعيش معه حياة حميمة. »عرفتك باسمك ورضيت عنك«.

رضى الربّ هو أهم شيء. رضى الناس يمكن أن يكون حسب المنفعة وحسب الأوهام، وحسب أمور بشريّة عديدة تزول سريعًا. لكنّ رضى الربّ هو شيء مهمّ جدٌّا. وهذا الرضى الذي نقرأه هنا هو صورة بعيدة عن رضى. قاله الآب ليسوع يوم العماد في نهر الأردنّ: هذا هو ابني الحبيب عنه رضيت أو أنت ابني الحبيب عنك رضيت.

نستطيع أن نأخذ الكلمة عينها: هذا الرضى على موسى كما على يسوع. ولكن شتّان ما بين علاقة الآب بالابن الوحيد في قلب الثالوث الأقدس، وعلاقة ا؟ مع إنسان من الناس يبقى مخلوقًا، يبقى معرَّضًا للضعف والخطأ والزلل.

ومع ذلك نفهم هنا ما يمكن أن يقال لنا نحن أيضاً: رضيت عنك يا ابني أيٌّا تكون. في النهاية مع يسوع المسيح هذا الرضى الذي ناله يسوع يوم العماد على نهر الأردنّ هو في الواقع يصل الى كلّ واحد منّا. بما أنّ يسوع هو متضامن معنا، فإن لم نكن راضين الربّ كلّ الرضى فهو يأخذ رضانا الضعيف ويكمّله، حتّى يمكن لكلّ واحد أن يقول له ا؟: هذا ابني الحبيب، هذه ابنتي الحبيبة، أنا رضيت عنك، رضيت عنكِ.

5 - أرني طريقك

»فالآن إن كنت رضيتَ عنّي فأرني طريقك حتّى أعرفك وأحتفظ برضاك« (آ 13).

إن كنت رضيت عنّي. نحن لسنا هنا أمام أداة شرطيّة، بل أمام خوف من الضعف. فإن كنت أنا ضعيفًا يمكن أن ترضى عنّي. إذًا، احتاج موسى إلى علامة تدلّ على أنّ ا؟ يرضى عنه. فماذا طلب؟ أنت راضٍ عنّي بيّن لي هذا وكيف ذلك؟

»أرني طريقك حتّى أعرفك وأحتفظ برضاك«.

أرني طريقك. نوّرني في أعماق قلبي. وكما قلنا مرارًا، من خلال إنارة القلب، نكتشف الطريق التي يقدّمها لنا الربّ.

إن كنت رضيت عنّي أرني طريقك.

نحن نحتاج دومًا إلى الربّ لكي يدلّنا على الطريق الذي يريده هو لنا. قال لنا في يوحنّا: لستم أنتم اخترتموني بل أنا اخترتكم. وحين يختارنا الربّ يختار لنا الطريق التي نسير فيها. فالمشروع مشروع ا؟ لا مشروع البشر، لا مشروعي أنا وأنتَ وأنتِ. هو مشروع ا؟ ونحن ندخل في هذا المشروع.

أرني طريقَك. لا طريقي أنا، بل طريقَك أنت وأنا أسير على طريقك. وهنا نتذكّر صلاة الأبانا، الصلاة الربّيّة: لتكن مشيئتك لا مشيئتي أنا. أريد طريقك أنت لا طريقي أنا. نتذكّر هنا أعمال الرسل الفصل 16.

حين حاول بولس وبرنابا أن يختارا طريقًا آخر، راحا إلى الشمال. الطريق مسدود. إلى اليمين. الطريق مسدود. حاول هذا الرسولان أن يأخذا طريقهما بحسب المفهوم البشريّ، حيث لا المخاطرة، حيث لا خطر البحر، حيث لا وجود للشرّ. ولكن الربّ، يقول أعمال الرسل، روح الربّ منعهما، أغلق الطريق في وجههما. لا شكّ كانت هناك أمور عمليّة. ولكن الربّ يريدينا أن نسير لا في الطريق الذي نخطّه. نحن عادة نختار الطريق الواسع. والربّ كلاّ. طريقه غير طريقنا. هو الطريق الضيّق يختاره لنا فنشعر مع موسى كم نحن بحاجة إلى الصلاة وإلى التضرّع لكي لا نحيد عن طريق الربّ، لكي نطلب طريق الربّ. نحن عارفون بضعفنا ولذلك نقول له: يا ربّ أرني طريقك، الطريق الذي نسير عليه رغم معاندتنا، لأنّنا كلّنا قساة الرقاب مثل الشعب في البرّيّة. فأرني طريقك حتّى أعرفك.

6 - معرفة تتجدّد، تتعمّق

»قلت لي عرفتك«.

لماذا يطلب موسى أن يعرفه؟ ما قال له عرفتك أنا. وكأنّه هو البداية. ا؟ يعرفنا فيتيح لنا أن نعرفه. أجل الربّ يعرفنا ونحن نعرفه، ومعرفتنا تتجدّد يومًا بعد يوم. أعرفه اليوم ويجب أن أعرفه غدًا وبعد غد، لأنّ خبرتنا تتعمّق يومًا بعد يوم، ومعرفتي ؟ اليوم هي غيرها غدًا، لأنّي أدخل في أعماقه، أغتني. فالربّ ليس صنمًا، ليس شيئًا ألمسه وأعرف أنّه هكذا وأنتهي. كلاّ.

الربّ هو الغنى الذي لا حدود له، وأنا لو لم أعرفه من قبل لما حاولت أن أعرفه مرّة ثانية. عرفته بعد أن ذقت طعم حياتي مع الربّ. ذوقوا وانظروا ما أطيب الربّ. أريد أن أتذوّق أكثر. هذا ما اكتشفه القدّيسون، وما يُطلب من كلّ واحد منّا أن يكتشفه: حتّى أعرفك: عرف موسى الربّ، ولكنّه يريد أن يزداد معرفة، أن يتعمّق في معرفته فيصل هكذا إلى الحياة الصوفيّة حياة التنسّك مثل هؤلاء القدّيسين الكبار: تريز دافيلا، يوحنّا الصليب، تريز الصغيرة وغيرهم من القدّيسين.

»حتّى أعرفك وأحتفظ برضاك«. أنت رضيت عنّي، ولكن يمكن أن أخسر هذا الرضى وكيف ذلك؟ حين أخطأ، حين أبتعد عنك، حين أريد أن أبني حياتي بيدي، حين أريد أن آخذ طريقًا غير الطريق الذي تخطّه لي. حينئذٍ أخسر ا؟. يا ربّ ساعدني حتّى أعرفك وأحتفظ برضاك. وإذ موسى يكلّم الربّ في أعماق صلاته الشخصيّة، لا ينسى شعبه. كان يمكن لموسى أن يقول: أنا في عزلتي، أنا كحبيس مع الربّ، أتكلّم مع الربّ، فلا أهتمّ بالآخرين. كلاّ ثمّ كلاّ. إذ هو في عمق صلاته مع الربّ، في عمق معرفته للربّ وحفظ رضاه، نراه يتطلّع إلى شعبه يقول في آية 13:

»ألا ترى أنّ هذه الأمّة هي شعبك«؟

يعني لا يكفيني أن ترضى عنّي. أريد أن أرى هذا الرضى يصل إلى الأمّة.

نتذكّر هنا إبراهيم لمّا توسّل من أجل سدوم وعمورة: نال حضور الربّ، التقى به عند السنديانة في ممرا قرب حبرون. اعتبر أنّه يحقّ له أن يصلّي من أجل هذه المدينة الخاطئة. وموسى في عمق لقائه بالربّ، اعتبر أنّه يحقّ له أن يقدّم له هذه الأمّة التي هي شعبه. ولا شكّ في أنّ الربّ سوف يسمع له.

هذا، أحبّائي، هو معنى هذا المقطع الصغير الذي قرأناه في هذه المناسبة. ولكن توقفنا فقط على آية 12 و13 من الفصل 33، لأنّ فيهما من العمق الشخصيّ ما يجعلنا نعيش نحن أيضاً شخصيّة موسى، فنفهم أنّ الربّ يعرفنا باسمنا، أنّه يرضى عنّا. ونفهم أيضاً ضعفنا فيمكن أن نتخلّى عن هذا الرضى، أن نترك طريق الربّ. هنا يقول لنا مار بولس: »نحمل هذا الكنز في آنية من خزف«. يمكن أن تنكسر آنية الفخار. ففي النهاية القوّة ليست منّا بل من ا؟. ونحن الآن في تأمّلنا، في صلاتنا، نفتح قلوبنا على الربّ، نطلب رضى الربّ، نسأله أن ينير لنا الطريق، أن يعرّفنا طريقه هو، لا طريق البشر، لا طريقًا نريده نحن لنفوسنا وعلى قياسنا. فالربّ يأخذنا إلى البعيد البعيد، وهنيئًا لنا إن قبلنا أن نسير معه كما سار تلميذا عمّاوس فسمعا كلامه. وفي النهاية شاركاه في كسر الخبز فتراءى لهما. كان ذلك الحاضر معهما وكان لهما لذّة اللقاء مع الربّ ورؤيته بعد القيامة، آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM