الربّ بين العقاب والرحمة.

 

الربّ بين العقاب والرحمة

أحبّائي، سلام الربّ يكون معنا، وكلمته تضيء على حياتنا فتفهمنا أنّ الكلمة تخرج من فم الربّ بواسطة أنبيائه وتصل إلى الأرض ولا تعود إلاّ وتحمل معها ثمارًا. قد يزول النبيّ، قد يموت النبيّ، ولكنّ الكلمة تبقى حرّة، وهي تغتني يومًا بعد يوم. قد يسأل الناس والعلماء: من كتب هذا النصّ أو ذاك النصّ؟ من كتب سفر الخروج أو من كتب نبوءة إشعيا أو نبوءة إرميا؟ في الأساس الله هو كاتب الكتاب المقدّس. واستعمل الأيدي البشريّة. هناك من تكلّم، هناك من تأمّل، وهناك من كتب على مراحل. فوصلت إلينا النصوص الإلهيّة في شكلها الحاضر. ونحن ننطلق منها لنكتشف الخبرة الأولى التي كانت في هذا النصّ.

ونقول كما قلنا مرارًا، الإنسان يموت، ذاك الذي قال الكلمة مات، ذاك الذي كتبها مات، أمّا الكلمة فهي حيّة لأنّها تعبّر عن خبرة الإنسان، كلّ إنسان مع الله. فأنا عندما أقرأ هذه الكلمة أُدخل نفسي فيها، لا أبقى خارجًا عنها، بل أدخل فيها، أحسب نفسي واحدًا من الشعب، أحسب نفسي واحدًا من الكهنة، أحسب نفسي مكان هارون.

وهنا ننطلق من هذا النصّ من سفر الخروج 32 حيث نتحدّث عن عبادة العجل الذهبيّ ونتيجة الحوار بين الله وبين موسى: هل ستتغلّب القساوة والعقاب أم سستتغلّب الرحمة؟ لهذا نعود إلى قراءة سفر الخروج 32 ونتابع ما قرأناه في المرّة السابقة.

فقال الربّ لموسى: »قُم انزل. فُسد شعبك الذي أخرجتَه من أرض مصر. حادوا سريعًا عن الطريق الذي أمرتُهم بسلوكه، فصنعوا لهم عجلاً مسبوكًا، وسجدوا له، وقدّموا الذبائح وقالوا: هذه آلهتكم، يا بني إسرائيل، آلهتكم التي أخرجتكم من أرض مصر«. وقال الربّ لموسى: »رأيتُ هؤلاء الشعب، فإذا هم شعب قساة الرقاب. والآن دع غضبي يشتدّ عليهم فأفنيهم، وأجعلك أنتَ أمّة عظيمة« (32: 7 - 10).

1 - الكلمة تتوجّه إليَّ اليوم

إذًا قرأنا سفر الخروج 32: 7 - 10. وأعود إلى ما قلته في بداية الحلقة، إلى أهمّيّة أن يجعل كلّ واحد منّا نفسه في هذا النصّ. أن لا يقرأه من الخارج وكأنّه تقرير صحافيّ لا يهمّني من كثير أو قليل.

أوّلاً هذا الشعب الذي يريد أن يرى، يريد أن يلمس الآلهة. دائمًا الله يدعونا إلى الإيمان، إلى تعدّي الملموس والمنظور والمسموع. حتّى في الإنجيل قال المسيح لتوما: رأيتني آمنت، طوبى للذين لم يروني وآمنوا. فالمسيرة التي يدعو الربّ شعبه وكلّ مؤمن من المؤمنين، هي مسيرة الإيمان. يعني ننطلق من المادّة، ونحن مجبولون من تراب الأرض، ولكن نرتفع فوق المادّة.

وهنا، أنا من الشعب أطرح على نفسي السؤال: من هو الإله الذي أعبد؟ أهو صنم أجعله في حياتي، أجعله في خدمتي، أجعله في أمري فيصنع إرادتي؟ وإن لم يفعل ما أشاء أتركه، أتغاضى عنه. مرّات كثيرة في عباداتنا، إلهنا هو صنم، ونتعامل معه كأنّه صنم. نلمس التمثال، نقبّله ونتبرّك به. أمّا الرب فيدعونا إلى أن نتجاوز ما يمكن أن نلمسه ونراه.

ولن أقول عبادة الأشخاص والمؤسّسات التي نعتبر أنّها تحمل الخلاص إلينا. وأجمل ما نقرأ في هذه الأيّام أو في القرن العشرين، في القرن السابق، كيف أنّ عددًا من الكتّاب جعلوا نفوسهم بمقام الله. هم خالدون، هم معلّمون. صاروا مع يسوع المسيح، بل مع ا؟، معلّمين للبشريّة، ونحن تعلّقنا بهم.

يمكن أن أكون واحدًا من هذا الشعب، يمكن أن أكون هارون نفسه بالمسؤوليّة التي أتحمّلها. أقفُ صامدًا في هذه المسؤوليّة، أم أنا أساير الشعب أو أستبقه. أسرع هارون وصنع صنمًا على صورة عجل. بل هو نادى لمّا رأى الشعب متحمّسًا، فتحمّس معه. بنى أمام الصنم مذبحًا ونادى وقال: هذه آلهتكم. كانت أمور بسيطة لو توقفت عند الهتاف: هذه آلهتكم يا بني إسرائيل. ولكن بنى مذبحًا. والمذبح والذبائح تدلّ على علاقة وثيقة بين الإله ومقدّم الذبيحة. تنكّروا للعلاقة السابقة بينهم وبين الإله الواحد، وأرادوا أن يتعلّقوا بالآلهة المتعدّدة.

2 - غدًا عيد

غدًا عيد الربّ. صار هناك عيد للعجل، عيد للثور في الجماعة. ولا ننسَ وراء كلّ هذا التعبّد للبعل الصراع الذي كان بين الإله الواحد وبين البعل الذي انبرى يهاجمه إيليّا النبيّ على جبل الكرمل. دعاهم هارون، فرحوا بالدعوة، ربّما لم يكونوا يحتاجون إليها. فبكّروا في الصباح. وكلمة بكّروا مهمّة جدٌّا. تدلّ على الاستعداد، على الحماس، على الاندفاع. الكلمة نفسها نقرأها مع إبراهيم لمّا دعاه الربّ لأن يقدّم ابنه: بكّر في الصباح. وهنا عبّاد العجل بكّروا في الصباح، فلم يضيّعوا ساعة واحدة ولا دقيقة واحدة حتّى يكون يوم العيد، عيدًا كاملاً.

ولكن نلاحظ. قال: غدًا عيدٌ للربّ، وهنا الكذبة الكبرى. هذه الآلهة هي الربّ وهذا لا يمكن. يا ليت هارون قال غدًا عيد للآلهة، لكان صادقًا مع نفسه. ولكن الضلال الكبير برز عندما قال: هذا عيد للربّ. فهذا العجل هو الربّ، والآلهة هي الربّ؟ وهكذا راح الشعب في ضلال كبير بسبب هارون رئيس الكهنة آنذاك. فبكّروا في الصباح وأصعدوا محرقات وقدّموا ذبائح سلامة. ومن يصعد المحرقات؟ الكهنة. ومن يقدّم الذبائح؟ الكهنة. الكهنة هم في المقدّمة، سايروا الشعب، أرادوا أن يكونوا من الشعب ومع الشعب. فما رفعوا الشعب، بل انحدروا إلى مستوى شعب يطلب الأصنام لكي يعبدها.

3 - بين صوت الله وصوت البشر

»وجلسوا يأكلون ويشربون«. ففي ذبائح السلامة، مقدّم الذبيحة يأكل ويشرب مع الأصدقاء، مع الكهنة ومع الأقرباء. ثمّ قاموا يمرحون. وهكذا كانوا يعيّدون لبعل، هم يعيّدون للإله الواحد، للربّ الواحد الذي حسبوه آلهة أخرجتهم من أرض مصر. ماذا ستكون ردّة الفعل عند الربّ؟

»فقال الربّ لموسى«. هنا، عندما نقرأ هذا الكلام »قال الربّ« نتخيّل الربّ يتكلّم كما أتكلّم أنا مع صديقي أو أختي أو أخي، كلاّ. كلام الربّ يعني موسى الذي يحمل كلمة الربّ، الذي سمّي كليم الربّ، عندما رأى هذا المشهد، سمع في أعماقه صوتًا من عند الربّ. وفهم أنّ عليه أن يتحرّك. إذا انتبهنا، هي الكلمة نفسها قالوها لهارون: قم اصنع لنا آلهة. وهنا الربّ قال لموسى: قم، انزل. من أطاع هارون؟ الشعب الذين يريدون أن يعبدوا الأوثان، الذين يريدون أن يسيروا في رغباتهم وشهواتهم ومشاريعهم. أمّا موسى، فمَن أمره وقال له: قم؟ الربّ.

قم وانزل. هذا الشيء واضح أيضاً في سفر صموئيل. شاول الملك من يطيع؟ صوت الربّ أو صوت الجيش؟ أطاع صوت الجيش فكان الضياع التامّ. قال الربّ لموسى: قم وانزل. لماذا ينزل موسى وهو يقيم مع الربّ في حوار، في صلاة، في صمت، في تأمّل؟ فسد شعبك الذين أخرجتهم من أرض مصر. هنا نلاحظ: أخرجتُهم أنا، أو أخرجتَهم أنت؟ يمكن أن يكون أخرجتَهم أنت، كأنّ الربّ يريد أن يتبرّأ منهم. فسد شعبك. فإذًا هذا الشعب لم يعد شعب الله، صار شعب موسى. فكأنّي بالربّ يحكم على موسى من خلال شعبه.

فسد شعبك الذين أخرجتهم من أرض مصر. لا شكّ في أنّ الربّ أخرجهم، ولكن بعد هذا الفساد لم يعد هذا الشعب شعب الربّ بل صار شعب موسى. فكأنّي بالربّ ما عاد يعترف بهم أنّهم شعبه. في أيّ حال سيقول له: سأفنيهم وأجعلك أنت أمّة عظيمة. يعني أنطلق معك من جديد. مثل هذا الشعب يئستُ منه ولا أريد أن أتابع الطريق معه.

قم، انزل، فسد شعبك الذين أخرجتهم من أرض مصر. نلاحظ دومًا في هذه الأسفار الخمسة، أسفار الشريعة، الخبرة الأساسيّة التي عاشها الشعب وهي خبرة الخلاص، خبرة الخروج من العبوديّة. هذا الخلاص لا يمكن أن يفعله إلاّ الله. وهذا الخروج لا يمكن أن تتبعه عودة أبدًا. خرجتم من أرض مصر لا على المستوى السياسيّ والمادّيّ والجغرافيّ، بل على مستوى العبادة فلا يمكنكم الرجوع إلى أرض مصر، إلى ثورها، إلى عجلها، إلى البقر التي فيها تكرّم.

4 - طريق الله

أخرجتهم من أرض مصر. هذه الخبرة يعود إليها الشعب دائمًا، فيفهم أنّ إلهه إله الخلاص، أنّه وحده يخلّص. قال الربّ: »حادوا سريعًا عن الطريق الذي أمرتهم بسلوكه«. الطريق، الربّ هو الذي رسم الطريق لشعبه. نتذكّر هذه البرّيّة الشاسعة، بريّة سيناء، إن استطاع الشعب أن يمشي، فلأنّ الربّ هو الذي رسم له الطريق. كان له عمود نار في الليل وغمام في النهار بحيث لا يضلّ الطريق أبدًا.

ومن خلال هذا الطريق الذي يمشونه على أرجلهم، هناك طريق من نوع آخر، هو السلوك، السلوك الذي يسلكه الإنسان. فالطريق المادّيّة ترمز إلى طريق من نوع آخر على مستوى الأخلاق والحياة الروحيّة. هذا الشعب لم يسيروا في الطريق التي رسمها الربّ بل حادوا عنها. أرادوا لهم طريقًا من نوع آخر. أو هم أرادوا له طريقًا من نوع آخر، تركوا عبادة الإله الواحد وتعلّقوا بعبادة الأصنام. »الطريق الذي أمرتهم بسلوكه«. هناك أمر الله الذي لا يمكن أن نتركه. وهناك أوامر البشر. دعاهم هارون فقال لهم »غدًا عيد«. فقاموا إلى العيد، وكانت طريق غير الطريق التي رسمها الله لهم. كيف حادوا؟

صنعوا لهم عجلاً مسبوكًا، سجدوا له وقدّموا الذبائح. إذًا ثلاث خطايا خطيرة في نظر الوصايا العشر. صنعوا لهم عجلاً مسبوكًا، ممنوع. لا تصنع لك تمثالاً، صورة شيء من السماء وعلى الأرض. ثمَّ سجدوا له، سجدوا للحجر، للحديد، للذهب، للفضّة، سجدوا له. بينما قيل: للربّ وحدك تسجد وإيّاه وحده تعبد. هذا السجود الذي يدلّ على الاستسلام، على الخضوع، على الطاعة. سجدوا لمن لا يستطيع أن يعطيهم شيئًا أو يكلّمهم كلامًا، وبالتالي لا يستطيع أن يأمرهم البتّة. ودلّوا على الاستسلام التامّ وعلى الاتّحاد به حين قدّموا الذبائح. ويقول بولس الرسول من قدّم الذبائح للأصنام إنّما يقدّمها للشياطين.

5 - حادوا عنها

انتقل الشعب من مخيّم إلى آخر. من مخيّم الإله الواحد إلى مخيّم الآلهة المتعدّدة. من مخيّم الربّ الذي لا يمكن الإنسان أن يعرفه إلاّ بالإيمان، إلى الربّ الذي يرونه يسير أمامهم. وانتقلوا من سجود إلى سجود، ومن مذبح إلى مذبح، ومن ذبائح إلى ذبائح. فسد الشعب، صار فاسدًا، فلم يعد يصلح لأن يكون شعب الله. وقالوا: هذه آلهتكم يا بني إسرائيل، آلهتكم التي أخرجتكم من أرض مصر.

تنكّر الشعب للإله وتعلّقوا بالآلهة. وعندما تكثر الآلهة لا نعود نعرف إلى من نلتجئ. تكثر الآلهة يعني أنّها ليست بآلهة. هذه آلهتكم يا إسرائيل. يجب أن نتعبّد لجميع الآلهة. من يدري هناك إله قد يضربنا، إذًا نرضيه بالذبائح. لا نترك ا؟ يبتعد عنّا بحيث يمكن أن يعاقبنا. نتذكّر هنا بولس الرسول لمّا رأى هيكل الإله المجهول في أثينة. أهل أثينة جعلوا لهم هيكلاً خاصٌّا بالإله المجهول، حتّى يأمنوا ضرباته. وكذلك فعل العبرانيّون وكأنّهم لا يعتبرون أنّ الله كلّيّ القدرة.

وقال الربّ لموسى: رأيت هؤلاء الشعب. هنا رأيت. حين كان الشعب في مصر، رأى الربّ مذلّتهم. والآن رأى الربّ خطيئتهم. رآهم وكلّهم شعب قساة الرقاب. الرقبة القاسية هي لا تريد أن تسير حيث يوجّهها موجّهُها. هم شعب قساة الرقاب. ليسوا ليّنين. هم غير مستعدّين أن يسيروا حسب الطريق التي رسمتُها لهم. وماذا ستكون ردّة الفعل الأولى.

نقرأ في 32: 10: »والآن دع غضبي يشتدّ عليهم فأفنيهم وأجعلك أنت أمّة عظيمة«. تلك هي ردّة الفعل الأولى لدى موسى وبالتالي لدى الإنسان. دع غضبي، الغضب هو طريقة بها نعبّر عن رفض الله لما يصنعه الإنسان. الله لا يغضب كما نغضب فيحمرّ وجهه وتزرقّ عيناه. الله يغضب يعني يدلّ على رفضه مثل هذه العبادات، عبادات الأصنام، سواء كانت الحجر أم البشر. في الواقع صار موسى بالنسبة إلى الشعب كأنّه صنم. تعلّقوا به ونسوا الكلمة التي حملها ذاك الذي سُمّي كليم الله.

والآن دع غضبي يشتدّ عليهم فأفنيهم، وأجعلك أنت أمّة عظيمة. فاعتبر الربّ أو بالأحرى موسى الذي تكلّم باسم الربّ، أنّ مشروعه فشل وأنّه لا بدّ من البداية الجديدة مع شعب جديد. ولكن إذا كان الشعب الأوّل فسد مع موسى. إذا كان الشعب الأوّل لم يكن ناجحًا بواسطة موسى، فهل ينجح الشعب الثاني؟ وكيف سيفعل الربّ مع موسى لتكون له أمّة عظيمة بعد أن فشل في التجربة الأولى؟

هي بعض الأمور من هذا الحوار بين الربّ وموسى، أو بالأحرى هو حوار داخليّ أحسّ به موسى، عبّر عنه وأراد أن يعاقب هذا الشعب الذي نسي الإله الواحد، وتعلّق بالأصنام. أترى سينتصر الغضب؟ كلاّ، بل ستنتصر الرحمة. وصلاة موسى ستدخلنا في منطق الرحمة، وتبعدنا عن منطق الغضب لأنّ الربّ ليس إله الأموات بل إله الأحياء. هو لا يريد موت الخاطئ بل عودته عن ضلاله لتكون له الحياة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM