المذبح ورواق المسكن .

 

المذبح ورواق المسكن

أحبّائي، الربّ يكون معنا ويرافقنا في اكتشاف هذه الكلمة التي ليست فقط مكتوبة بل صارت جسدًا، كما نقرأ في إنجيل يوحنّا: الكلمة صار جسدًا، صار بشرًا، فحلّ بنا وأقام بيننا.

إلى يسوع الكلمة تصل كلّ كلمة في العهد القديم، ومنه تنطلق كلّ كلمة في العهد الجديد وفي الكنيسة. هذه الكلمة نودُّ أيضًا أن نتأمّل فيها.

ونتابع مسيرتنا في سفر الخروج الفصل 27. نذكّر سامعينا هنا أنّه منذ فصل 25 ونحن نقرأ أمورًا تتعلّق بشعائر العبادة: تكلّمنا عن المنارة وعن أمور عديدة. واليوم نتكلّم عن المذبح.

ونقرأ سفر الخروج 27: 1. الربّ يكلّم موسى فيقول له:»وتصنع المذبح من خشب السنط، ويكون مربّعًا. طوله خمس أذرع، وعرضه خمس أذرع، وسمكه ثلاث أذرع. وتصنع قرونه على أربع زواياه كقطعة منه وتغشّيه بنحاس. وتصنع منافض لرماده ومجارفَه وأحواضه وملاقطه ومجامره وجميع أدواته من نحاس. وتصنع له درعًا على نحو شبكة من نحاس، وتصنع للشبكة أربع حلقات من نحاس في أربعة أطرافها. وتجعل الشبكة تحت حافّة المذبح من أسفل، بحيث ترتفع إلى نصف المذبح. وتصنع للمذبح قضيبين من خشب السنط وتغشّيهما بنحاس، وتُدخل القضيبين في الحلقات على جانبي المذبح ليُحمل بهما. تصنعه من ألواح مجوّفة على مثال ما أريتك في الجبل« (27: 1 - 8).

1 - المذبح

وتصنع المذبح.

المذبح هو اسم مكان في اللغة العربيّة. يدلّ على الموضع الذي فيه تُذبح الذبائح. نتذكّر هنا أنّ العهد القديم عرف الذبائح العديدة سواء ذبائح من أجل الخطيئة، سواء ذبائح سلامة، سواء ذبائح تحرق. الذبائح كانت عديدة، ولهذا كان الكلام هنا عن المذبح، الموضع الذي فيه تُنحر الحيوانات وتقدّم للربّ.

في المحرقة، تُحرق الذبيحة كلّها، يُحرق الحيوان كلّه. في ذبيحة السلامة، تُحرق بعض الأمور مثلاً مثل الشحم أو غيره. ويأخذ الكاهن حصّته، والباقي يأكله المؤمن مع الذين يرافقونه ليقدّم شكره إلى الربّ.

وهنا كما في كلّ ما يتعلّق بخدمة الله، نختار أفضل الخشب، نختار أفضل المعادن. الخشب هنا هو خشب السنط: خشب مهمّ جدٌّا خشب قاسٍ لا يحترق سريعًا بالنار. والمذبح يكون مربّعًا. طوله خمس أذرع وعرضه خمس أذرع. الشكل المربّع هو شكل الكمال، لهذا هناك بعض الطقوس المسيحيّة التي تحافظ على المذبح بشكل مربّع.

»وتصنع قرونه على أربع زواياه«. القرن يعني زاوية نافرة. لماذا هذه القرون؟

حتّى نستطيع أن نحرّك المذبح. فالمذبح لم يكن ملتصقًا بالأرض، بل موضوعًا فقط. وسوف نرى بعد قليل كيف أنّ له قضيبين نستطيع بهما أن ننقله من موضع إلى آخر. بما أنّه من خشب فحمله أو تحريكه سهل.

2 - قرون المذبح وسائر أدواته

تصنع قرونه على أربع زواياه. القرن يدلّ على القوّة. وقرون المذبح هي موضع مقدّس في المذبح. فإذا كان أحد الأشخاص ملاحَقًا بسبب خطيئة اقترفها، يمكنه أن يتمسّك بقرون المذبح. فقد يعفو عنه ذاك الذي يلاحقه. وفي أيّ حال، لا يحقّ له أن يقتله وهو متمسّك بقرون المذبح. هذا في الواقع ما صنع أحد المعادين لسليمان: ذهب وتمسّك بقرون المذبح. ويقول النصّ: »كقطعة منه وتغشّيه بنحاس«. يعني لا تلتصق قرون المذبح بالمذبح، بل تكون محفورة كجزء من المذبح. وتغشّيه بنحاس. مؤكّد هذا النحاس مهمّ جدٌّا، لئلاّ يحترق الخشب بسبب المحرقات العديدة على المذبح.

نلاحظ في الكتاب المقدّس خصوصًا ثلاثة معادن: الذهب، الفضّة، النحاس.

»وتصنع منافض لرماده ومجارفه وأحواضه وملاقطه ومجامره، وجميع أدواته من نحاس«.

المنفضة مهمّة جدٌّا. تحرق الذبيحة، وهناك الرماد فيجب أن يُجمع هذا الرماد. في أيّ حال، هذا الرماد كان يستعمل لأمور عديدة. وكما قلنا: »جميع أدواته من نحاس«.

ويتابع النصّ في آية 4: »وتصنع له درعًا على نحو شبكة من نحاس، وتضع للشبكة أربع حلقات من نحاس في أطرافها الأربعة...«. وهكذا يتنظّم بناء المذبح أو تشييد المذبح من خشب السنط« وتغشّيه بالذهب وله أربع قرون. وهناك حلقات نستطيع أن نحرّك بها المذبح من مكان إلى آخر.

3 - من المذبح الوثنيّ إلى المذبح المسيحيّ

هذا المذبح ليس خاصٌّا بالشعب العبرانيّ. فهو موجود عند كلّ الشعوب الشرقيّة القديمة: سواء عند الفينيقيّين، عند الأوغاريتيّين وغيرهم. وهذا المذبح ضروريّ. فعندما يذبح الإنسان ذبيحة، كأنّي به يقدّم نفسه ؟. وهذه الذبيحة، هذا الحيوان الذي يذبح يعتبر البدل عنه.

هذا المذبح انتقل أيضًا إلى العالم المسيحيّ. فهناك أيضًا في الكنائس المذبح الذي يمكن أن يكون بشكل طاولة خشب. من هنا أهمّيّة خشب السنط. وهناك العديد العديد من المذابح التي هي من حجر.

المذبح يتقدّس بالذبيحة، وفي العهد الجديد يسوع هو الذبيحة الوحيدة. لا شكّ ذُبح على الصليب، مات على الصليب، ولكن في كلّ قدّاس من قدّاساتنا، في كلّ احتفال من احتفالاتنا، نرتبط بالصليب. فيوم الخميس، خميس الأسرار يرتبط بيوم الجمعة، الجمعة العظيمة. وما فعله يسوع يوم الخميس هو رمز لما سوف يتحقّق يوم الجمعة.

لهذا السبب قال لبطرس عندما رفض أن يغتسل، عندما رفض للمسيح أن يغسل رجليه، قال له: إن لم أغسلهما فلا نصيب لك معي. هذا يعني أن غسل الأرجل هذا الذي هو بداية العشاء السرّيّ لا يتمّ إلاّ على الصليب. فمن لا يشارك في هذه الذبيحة لا يكون له من الخلاص شيء.

المذبح في العهد الجديد أيضًا يمثّل يسوع المسيح: هو المذبح وهو الذبيحة. هو المذبح، لم نعد بحاجة إلى ذبائح الحيوانات، فيسوع قدّم نفسه مرّة واحدة، فنال لنا الخلاص الأبديّ. إذًا يسوع هو المذبح، يسوع هو الذبيحة. لهذا السبب عندما نمرّ أمام المذبح ننحني لأنّه يمثّل المسيح.

هذا المذبح هو الأساس في الكنيسة لأنّ حول الذبيحة تتمّ سائر الصلوات مثلاً:

زيّاح القربان يرتبط بهذه الذبيحة التي تقام على المذبح. وكذا نقول عن سائر الرتب. كما نعرف أنّ الإفخارستيّا تبقى الذروة في حياتنا المسيحيّة وسائر الأسرار التي تمارس في الكنيسة ولا سيّما المعموديّة. ثمّ التوبة وسائر الأسرار ترتبط بالإفخارستيّا.

4 - رواق المسكن

وبعد المذبح يتحدّث النصّ في 27: 9 من سفر الخروج عن رواق المسكن يقول في آية 9:

»وتصنع رواق المسكن. ويكون له ستائر من جهة الجنوب، طولها في الجهة الواحدة مئة ذراع من كتّان مبروم. وأعمدتها عشرون، وقواعدها عشرون من نحاس«. ويتابع التصوير للرواق، رواق المسكن.

نتذكّر هنا أنّ الهياكل أو مراكز الصلاة كانت مؤلّفة من أكثر من موضع.

أوّلاً: هناك المكان المقدّس كلّ التقديس ما نسمّيه قدس الأقداس. هذا المكان يبقى مظلمًا عادة، ولا يدخله عظيم الكهنة إلاّ مرّة واحدة في السنة. وهذا ما نجده عندما نلاحظ السنة المقدّسة كيف يدخل قداسة البابا أو الأسقف في كاتدرائيّته إلى موضع من المواضع، يدخله بشكل احتفاليّ يطرق الباب. إذًا قدس الأقداس هو مخصّص لفترة، لوقت محدّد في السنة، ولا يدخله إلاّ عظيم الكهنة.

ثانيًا: هناك القدس أو المكان المقدّس. قدس الأقداس هو المكان المقدّس جدٌّا. أمّا القدس فهو المكان المقدّس. هو محفوظ للكهنة واللاويّين وفيه تُذبح الذبائح. هذا الموضع هذا القدس، له ستارة تخفيه عن الناس. لا يمكن للناس أن يرونه ولا يدخله إلاّ الكهنة واللاويّون.

ثالثًا: رواق الرجال ثمّ رواق النساء وأخيرًا رواق الغرباء.

القسم الأوّل يعني قدس الأقداس والقدس كان مسقوفًا، أمّا الباقي فلا حاجة إلى سقف، بل هو يحدّد ببعض الحجارة ليكون المكان مقدّسًا. هذا الرواق له ستائر من جهة الجنوب وله أعمدة.

5 - كما في هيكل سليمان

نتذكّر هنا أنّ الكاتب عندما كتب ما في سفر الخروج من الفصل 25 إلى فصل 31 إنّما عاد إلى هيكل سليمان.

كيف كان هيكل سليمان؟

تصوّر الكاتب أنّ هيكل سليمان كان في أساس المسكن، في البرّيّة، في صحراء سيناء، ونُقل إلى هنا.

في الواقع، العبرانيّون بنو إسرائيل أخذوا كلّ هذه العادات، كلّ هذه الترتيبات والتنظيمات عن الشعوب التي سبقتهم. فهم جاؤوا من الصحراء من البرّيّة بعد مصر بآلاف السنين وكذلك بعد بلاد الرافدين وتعلّموا الكثير من فينيقية وأوغاريت وغيرهما من الشعوب.

إذًا هنا الكاتب نظر في هيكل سليمان الذي بناه أبناء صيدا وصور، أبناء الشاطئ اللبنانيّ، وجمّلوه وحتّى صنعوا له كلّ ما يحتاج من أواني نحاس وغيرها.

فالرجل الذي قام بشغل المعاون اسمه حيرام. أمّه كانت من قبيلة من قبائل إسرائيل، لكن والده كان من عالم فينيقية.

الكاتب انطلق ممّا كان في هيكل أورشليم. وهيكل أورشليم حاول أن يقلّد الهياكل الموجودة حوله، وهكذا تصوّر ما كان في البرّيّة كأنّه صورة بعيدة عن الهيكل بينما العكس هو الصحيح. الهيكل هو الصورة، وما كُتب هنا أعيد قراءته إلى زمن سيناء.

وفي 27: 7 يقول له الربّ: على مثال ما أريتك في الجبل. تعوّد القدماء أن يروا في السماء الأساس لما هو على الأرض. لا يصنعون هيكلاً على الأرض إلاّ كالهيكل الذي في السماء. ولا يصنعون مذبحًا على الأرض إلاّ كالمذبح الذي في السماء. من هنا يقول له الربّ: مثلما أريتك في الجبل. هناك على الجبل رأى موسى الله، ورأى كيف تكون قصور العبادة. في الواقع كما قلت، أخذ العبرانيّون هذه الترتيبات عن الشعوب المجاورة، وطبعوها بطابع العبادة للإله الحيّ. فا؟ يبقى الملهم الأوّل لمثل هذه الأمور، وإن جاءت من هذا المحيط الشرقيّ. فكما في الحرب الله هو المنتصر، كذلك في الهيكل الله هو المهندس والباني. وهكذا يعود كلّ شيء إلى الله.

ونتابع القراءة في 27: 20 - 21: »وتأمر بني إسرائيل أن يجيئوك بزيت زيتون معصور نقيّ للمسرجة لتوقد به السرج دائمًا. وعلى هارون وبنيه أن يُبقوا السرج مضيئة أمام الربّ من المساء إلى الصباح في خيمة الاجتماع، خارج الحجاب الذي أمام تابوت العهد. هذه فريضة أبديّة يؤدّونها مدى أجيالهم عن بني إسرائيل.

المسكن هو المذبح، هو هنا. ما الذي يدلّ على حضور الله؟ يدلّ على حضور الله نور السراج الذي يضاء ليلاً ونهارًا. عندما يكون البيت مظلمًا، فهذا يعني أنّ لا أحدَ فيه، أنّ الناس غائبون.

وإن كان الهيكل مظلمًا لا نور فيه، هذا يعني أنّ الله غائب. لهذا السبب كانت السرج. يعني كلّ واحد معه سراج. السرج مضاءة دائمًا أمام الربّ من المساء إلى الصباح. يعني خلال الليل يجب أن يكون الهيكل مضاءً كما أنّ الشمس تضيئه في النهار.

وفي هذا الوقت كان عندنا زيت زيتون، زيت زيتون معصور نقيّ. نلاحظ هنا إذًا ما يحرق هو زيت الزيتون النقيّ لا أيّ زيت كان. مثل ما يقول سفر ملاخي: أنت لا تقدّم للأمير، للرئيس، هديّة من الطراز الثاني. كذلك يمكن أن يقول: نقدّم للربّ الزيت النقيّ لا الزيت الذي لا قيمة فيه. هو أسود.

المؤمنون هم الذين يحملون الزيت ولا يزالون حتّى اليوم في كنائسنا وفي معابدنا يحملون هذا الزيت فيضئون أمام الصورة أو في الكنيسة أو في أماكن مقدّسة.

حلّ محلّ السراج والزيت، الشمعُ في هذه الأيّام، ولكنّ مضمون النور، مدلول النور هو هو. الربّ حاضر في هيكله، وما يدلّ عليه هو هذا الضوء، هذا السراج الذي يضيء في الهيكل.

نتذكّر هنا عندما كلّم الربّ صموئيل: سمع الصوت ولم يعرف مصدر الصوت. ولكنّه حين سمع الصوت، حالاً ركض ليرى هل السراج مطفأ أو مضاء. هل هناك زيت في السراج أم الزيت نفذ من السراج؟ هذا يعني أهمّيّة هذه الأضواء في الليل.

7 - نور في الهيكل ونور في الكون

نفهم هذا الشيء حين نقرأ الفصل الأوّل من سفر التكوين.

في سفر التكوين يتحدّث الكتاب عن نيّرين، عن سراجين. هو ينطلق من الهيكل حيث يرى السراجين، ويتطلّع إلى هيكل آخر أكبر وأوسع، هو هيكل الكون. فالهيكل الصغير يدلّ على حضور الله بأنواره، والهيكل الكبير يدلّ على حضور الله بالشمس والقمر.

لهذا كان المزمور 19 يقول:

»السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بأعمال يديه«. ويذكر الشمس التي تمجّد الله. الشمس كانت تعبد. أمّا الآن فلا تُعبد. هي خليقة من الخلائق وهي تمجّد الله شأنها شأن سائر الخلائق.

وكذا نقول عن النور وعن النار، النار التي صارت نوعًا ما إلهًا. وربّما ارتبطت بها محرقات الأطفال. أجل، كانوا يحرقون الأطفال على الأسوار درءًا لخطر من الأخطار.

قد نكون هنا أمام أمور عديدة باقية في ذاكرة البشريّة القديمة.

يأتون بالزيت من أجل هذه السرج، وهكذا يكون المعبد، الهيكل، مضاءً دائمًا.

ونفهم هنا معنى وجود الشمع في الكنيسة خلال القدّاس أو أيّ احتفال مع أنّ الكهرباء حاضرة. ولكن مع ذلك نحافظ على هذا الرمز القديم، الزيت أو الشمع كعلامة على حضور الربّ.

وهنا نلتقي ببعض العادات في عالمنا اليوم، حيث العشاء على ضوء الشموع يُعتبر شيئًا مهمٌّا جدٌّا وشيئًا حميمًا.

وهكذا، أحبّائي، قرأنا الفصل 27 من سفر الخروج.

فيه كلام عن المذبح، كلام عن رواق المسكن، وأخيرًا عن أهمّيّة الزيت من أجل السرج من أجل كلّ سراج يوضع في الهيكل فيدلّ على حضور الله.

وما زالت الكنيسة اليوم تجعل هذا النور ليدلّ على حضور الربّ وخصوصًا في سرّ القربان المقدّس.

وهكذا نفهم أيضًا كيف أنّ أمورًا عديدة جاءت من العالم الوثنيّ، فمرّت في العالم اليهوديّ ووصلت إلى العالم المسيحيّ فهي ستأخذ رمزًا حلوًا وجميلاً في المعبد السماويّ مع موسى. المعبد السماويّ هو في البداية. ومنه أخذ »موسى« صورة المعبد في الصحراء وأخذ الشعب صورة الهيكل في أيّام سليمان. أمّا في العهد الجديد، فالمعبدُ الأخيرُ هو في النهاية جسد يسوع المسيح، هو الهيكل الذي وإن نقض وإن هدم، قام بعد ثلاثة أيّام، فدلّ على حضور الله في العالم. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM