المسكن وأثاثه .

 

المسكن وأثاثه

1 - عودة إلى ما قبل

أحبّائي، دخلنا في مسكن الله، دخلنا في الهيكل، ونتعرّف شيئًا فشيئًا إلى أساسه، إلى تابوت العهد، إلى المنارة، إلى المائدة والخبز الذي يوضع عليها.

وما نلاحظه هو أنّ هذه الأمور التي هي قديمة جدٌّا التي تعود إلى عصر سحيق سبق العبرانيّين بآلاف السنين، حمله الشعب العبرانيّ ودوّنه الكتاب المقدّس. ولا تزال المسيحيّة واليهوديّة وسائر الديانات تعيش منه. لا شكّ تطوّر كما قلنا. فخبز المائدة لم يعد خبزًا عاديٌّا بل صار جسد المسيح الذي أخذ الخبز وقال هذا هو جسدي.

والمائدة القديمة التي كانت توضع أمام الآلهة بكاساتها وجاماتها، تبدّلت على المستوى المسيحيّ فصارت كأس الخمر دم المسيح، حين يقول الكاهن: هذا هو دمي دم العهد الجديد. أمّا المنارة فلم تعد فقط نورًا يوضع في الكنيسة أو في الهيكل مع العلم أنّنا اليوم نضيء الشموع في كنائسنا خلال الاحتفالات، ولا سيّما خلال القدّاس الإلهيّ نضيء الشموع مع وجود الكهرباء والأنوار الكبيرة، أجل. حافظنا على الشموع. كما نضع أمام القربان سراج الزيت. حتّى اليوم كلّ هذا يرتبط بعالم قديم جدٌّا من العبادة. فهذا النور يرمز إلى نور من نوع آخر. وكما يحترق الزيت، يحترق فينا كلّ ما يعارض حضور الله في حياتنا. وإن كان هناك من شمع ولكن الشمع لم يكن موجودًا في ذلك الوقت، فهو يذوب كما يذوب الإنسان أمام الله.

وفي النهاية، الخبز يدلّ على المشاركة، مشاركة بين الإنسان والله، ومشاركة بين الإنسان والإنسان في طعام الله الواحد.

والنور أو المنارة أو السراج، يدلّ لا على نور خارجيّ وحسب، بل على أنّنا نحن نور العالم على مثال يسوع الذي كان نور العالم. واليهود أنفسهم يعتبرون أنّ الشريعة هي نور العالم. هذا النور يجب ألاّ يبقى حرفًا ميتًا، هذا النور يصبح حياتنا، يصبح مجسّمًا، مجسّدًا في كلّ إنسان.

وهكذا لن تعود الكلمة حروفًا مكتوبة فقط، ولن يعود السراج تحت المكيال، بل يكون على منارة ليضيء الداخلين إلى البيت ليضيء ما حوله.

2 - النصّ الكتابيّ

مع الفصل 26، نقرأ عن المسكن وأساسه. لن نقرأ، إخوتي أخواتي، كلّ هذا الفصل الذي يشدّد على تقسيم المسكن إلى عشر شقق، ولكن نعطي المعنى العامّ وننطلق، فنصل حالاً إلى الحجاب. كلّم الربّ موسى فقال:

»وتصنع المسكن ذاته عشر شقق من كتّان مبروم ونسيج بنفسجيّ وأرجوانيّّ، وقرمزيّ اللون مطرّز بكروبيم تطريز نسَّاج ماهر« (26: 1).

هنا نلاحظ وجود النسائج الغنيّة في هذا المسكن كما نرى كيف يتمّ تنظيم هذا المسكن بغرفه وشققه، وننتقل حالاً من 26: 1 إلى 26: 31، حيث نصل إلى الحجاب. الحجاب يعني بلغتنا الحديثة الستار. اليوم نجد الستائر العديدة. أوّلاً في بيوتنا على النوافذ أو على الأبواب، هناك الستائر والحجب.

وفي الطقوس الشرقيّة، ما زال الحجاب أو الستار يغلق موضع التقديس. فوراء الصور هناك الحجاب. يحجب المعبد بالمعنى الحصريّ عن عيون الشعب. ولا يزول هذا الحجاب أو هذا الستار إلاّ في وقت محدّد جدٌّا هو كلام التقديس أو الكلام الجوهريّ أو ربّما منذ بداية الاحتفال. ولكنّ هذا الحجاب، هذا الستار، يبقى مقفلاً طوال ساعات النهار ، ربّما يكون أيضًا من أجل حاجة عمليّة.

يعني عندما نكون في القدّاس أو في احتفال دينيّ يُرفع الحجاب، يُرفع الستار.

أمّا خلال النهار ساعة يصبح المعبد أو الكنيسة موضع تعليم، ومكان اجتماع، يُنزل الحجاب فيصبح الموضع موقعًا »دنيويٌّا« يستطيع أن يخدم مثلاً الكلمة أو التعليم أو أيّ اجتماع دنيويّ تقوم به الجماعة. ونقرأ النصّ الكتابيّ: قال الربّ لموسى:

3 - الحجاب

»وتصنع حجابًا من نسيج بنفسجيّ وأرجوانيّ وقرمزيّ اللون، من كتّان مبروم، مطرّز بكروبيم تطريز نسّاج ماهر، وتجعل الحجاب على أربعة أعمدة من خشب السنط مغشّاة بذهب وعقاقيفها من ذهب، ولها أربع قواعد من فضّة. وتعلّق الحجاب بمشابك. وتضع تابوت الشهادة هناك داخل الحجاب، فيكون الحجاب لكم فاصلاً بين القدس وقدس الأقداس. وتجعل الغطاء على تابوت العهد في قدس الأقداس، وتضع المائدة خارج الحجاب إلى الجانب الشماليّ من المسكن تجاه المنارة التي تضعها إلى الجانب الجنوبيّ.

»وتصنع ستارة لباب الخيمة من نسيج بنفسجيّ وأرجوانيّ وقرمزيّ اللون ومن كتّان مبروم مطرّز. وتصنع للستارة خمسة أعمدة من خشب السنط وتغشّيها بذهب، وتكون عقاقيفها من ذهب وتسبك لها خمس قواعد من نحاس«.

نلاحظ هذا التواصل على مستوى النسيج: بنفسجيّ أرجوانيّ قرمزيّ، يعني ما يقارب الأحمر والأحمر الفاقع. ثمّ نلاحظ وجود الكروبيم. دائمًا الكروبيم هم حاضرون هنا حتّى يغطّوا الله، يحجبوا حضور الله من أعين الفضوليّين. هذا النسيج يكون من كتّان، من كتّان مبروم، يعني أفضل الكتّان. لا يعطي الانسانُ الربّ إلاّ أفضل ما يمكن. وسوف نرى الذهب كما نرى السنط. وبعد الذهب، تأتي الفضّة ثمّ يأتي النحاس.

4 - بين القدس وقدس الأقداس

إذًا ما هو دور هذا الحجاب؟

الحجاب (آ 33) يفصل بين القدس وقدس الأقداس. نتذكّر أنّ الهيكل تألّف من رواق الوثنيّين ولم يكن مسقوفًا، لم يكن له سطح، ورواق النساء، ورواق الرجال، بعد ذلك يكون الهيكل بالمعنى الحصريّ. هناك إذًا القدس حيث تقدّم الذبائح، حيث المائدة، حيث توضع المنارة. وهناك قدس الأقداس الذي هو أقدس مكان في المعبد. ماذا يوضع في قدس الأقداس؟

يوضع تابوت الشهادة. في الفصل السابق تحدّثنا عن تابوت العهد، تابوت الشهادة. تابوت كما قلنا هي كلمة عبريّة تدلّ على الصندوق المقدّس، الصندوق المكرّس ؟. ولماذا هو مقدّس؟

لأنّه يحمل الوصايا، إنّه تابوت العهد. عهد الله مع شعبه. ما الذي يدلّ على هذا العهد؟ ما الذي يرمز إلى هذا العهد؟ الوصايا. وهنا هذا التابوت يدلّ على الشهادة. من جهة، التابوت يشهد، الوصايا تشهد، وكأنّي بها تدين المؤمن، تشهد له أو عليه. هي كمنارة تنير له طريقه، تشهد له بأنّ الله حاضر في هذا المكان، ولكنّها أيضًا تشهد عليه إن لم يكن أمينًا للوصايا.

»وتضع تابوت الشهادة هناك داخل الحجاب«.

إذًا هذا التابوت لم يعد فقط علامة العهد بين الله وشعبه، منذ أيّام سيناء وما بعد، بل هو يشهد على حضور الله اليوم وسط شعبه، ويشهد على هذا الشعب إن لم يكن عائشًا بحسب الوصايا.

وفي آ 33 يقول: »تُعلّقُ الحجاب بمشابك، وتضع تابوت الشهادة هناك داخل الحجاب، فيكون الحجاب لكم فاصلاً بين القدس وقدس الأقداس«.

5 - مع المسيح تمزّق الحجاب

هذا يعني أنّ هناك فصلاً بين المؤمنين وبين الله، وهناك حجاب أوّل بين المؤمنين وبين القدس، وحجاب ثانٍ بين القدس وقدس الأقداس.

وإذا كان الكهنة هم الذين يستطيعون أن يصلوا إلى القدس، فهم لا يصلون أبدًا إلى قدس الأقداس. وحده رئيس الكهنة كان يأتي إلى قدس الأقداس، مرّة في السنة. لا ليشاهد الله، بل ليكفّر عن خطايا الجماعة في يوم كيبور، يوم التكفير أو يوم الكفارة.

إذًا هذا الحجاب كان الفاصل بين الله وشعبه. كان عائقًا، كان حاجزًا بين الله وشعبه. لهذا السبب حين مات يسوع يقول الإنجيل: تمزّق الحجاب، حجاب الهيكل تمزّق. يعني لم يعد هناك حاجز بين الله والمؤمنين.

هناك أمر مهمّ سيشدّد عليه القدّيس يوحنّا حين يقول بفم يسوع: انقضوا هذا الهيكل وأنا أبنيه في ثلاثة أيّام. وكان يعني جسده.

إذًا حضور الله على الأرض لم يعد مغلقًا على أحد بعدما صار يسوع من على صليبه مشهدًا للملائكة والبشر. أجل ساعة مات يسوع على الصليب، تمزّق الحجاب فلم يعد أبدًا من حاجز بين الإنسان والله بحيث يستطيع الإنسان لا أن يصل فقط إلى القدس، بل يصل إلى قدس الأقداس.

بما أنّ يسوع هو في قدس الأقداس فنحن إخوته معه. من هنا تقول الرسالة إلى العبرانيّين: هو لا يستحي بإخوته بل يسمّيهم في تقرّب منهم، بعد أن صار شبيهًا بهم في كلّ شيء ما عدا الخطيئة.

إذًا في قدس الأقداس هناك تابوت العهد، تابوت الشهادة، »وتجعل الغطاء على تابوت العهد في قدس الأقداس«.

6 - الكفّارة وموضع المائدة والمنارة

لا يكتفي الكتاب بأن يجعل حجابًا بين القدس وقدس الأقداس، بل هو يجعل حجابًا آخر يكون غطاء على تابوت العهد في قدس الأقداس. فكأنّي به يخاف عليه، فيغطّيه تارة بالستار أو بالحجاب، وتارة بغطاء خاصّ حتّى لا يراه أحد ولا يلمسه أحد. صار الله بعيدًا، وهو الذي أراد أن يكون قريبًا من شعبه، قريبًا من كلّ واحد من المؤمنين.

نتذكّر مثلاً سفر الخروج الذي يقول: رأى الله، سمع الله أنين شعبه، سمع صراخهم. ولكن إن وُضع حجاب بعد حجاب، وحاجز بعد حاجز، فكيف للإنسان أن يصل إلى الله.

الحمد ؟ أنّ يسوع المسيح انتزع هذا الحجاب، فصرنا قريبين من الله، نتعامل معه بدالّة الأبناء الأحبّاء، ندعوه أبٌّا، أبانا، أيّها الآب السماويّ.

ويتابع النصّ: إذا كان الحجاب على قدس الأقداس، إذا كنّا لا نجد إلاّ تابوت العهد، تابوت الشهادة المغطّى، فماذا يبقى في القدس؟ آية 35 تقول:

»وتضع المائدة خارج الحجاب إلى الجانب الشماليّ من المسكن تجاه المنارة التي تضعها إلى الجانب الجنوبيّ«.

يعني من جهة توضع المائدة، ومن جهة ثانية توضع المنارة. اليوم مثلاً في كنائسنا، توضع عن اليمين صورة السيّد المسيح، وعن الشمال صورة العذراء مريم مع ابنها في حضنها. وهنا نظّم الكاتب أين توضع المائدة وأين توضع المنارة: واحدة من هنا وأخرى من هناك. وهكذا يستطيع الكهنة أن يأتوا إلى القدس ويبدّلوا الخبزات مرّة كلّ أسبوع، نهار السبت. ويضيفون الزيت للمنارة لكي تبقى منيرة في الهيكل.

فلو وضعت المائدة والمنارة في قدس الأقداس، لكانت تتبدّل الأمور مرّة كلّ سنة ساعة يدخل رئيس الكهنة، وهذا مستحيل. إذًا وضعت المائدة والمنارة في القدس، لكي يستطيع الكهنة أن يخدموا معًا.

7 - الستارة

36: »وتصنع ستارة لباب الخيمة من نسيج بنفسجيّ وأرجوانيّ وقرمزيّ اللون، ومن كتّان مبروم مطرّز، وتصنع للستارة خمسة أعمدة من خشب السنط، وتغشّيها بالذهب، وتكون عقاقيفها من ذهب، وتسبك لها خمس قواعد من نحاس«.

هذه الستارة هي غير الحجاب، الحجاب يوضع بين القدس وقدس الأقداس. وأمّا الستارة فتوضع بين القدس والمؤمنين، بحيث لا يقترب المؤمنون من القدس حيث يوجد المذبح والطاولة والمنارة. هم يستطيعون أن يروا كلّ هذا من بعيد. وكما أنّ هناك فصلاً بين الكهنة ورئيس الكهنة واللاويّين من جهة. هناك أيضًا فصل بين الكهنة وبين المؤمنين. غير أنّ هذا الفصل لن يدوم على مستوى العهد الجديد.

بمجرّد أن تولد في تلك العائلة، عائلة بني لاوي أو عائلة هارون، تكون كاهنًا، وتكون من عائلة كهنوتيّة ويكون أولادك وامرأتك العائلة الكهنوتيّة. لكن مع المسيحيّة لم يعد هناك حاجز بين الكهنة وبين المؤمنين. أوّلاً يسوع هو الكاهن الأعظم يسوع هو الكاهن الأوحد ولا كهنوت إلاّ حين نشاركه في كهنوته. هكذا صار جميع المعمّدين مشاركين في كهنوت يسوع المسيح. يمارسون كهنوتهم عندما يشاركون في الأسرار، يشاركون في الصلاة، يقدّمون حياتهم، يحملون الكلمة، كلمة ا؟. إذًا هم كهنة بأمور عديدة. زال الحاجز بين العوامّ أو العلمانيّين، وبين الكهنوت بالمعنى الحصريّ.

فالكنيسة لا تتكوّن فقط من قداسة البابا والمطارنة والكهنة والرهبان والراهبات بل من جميع المؤمنين.

8 - لا فصل بين الكهنة والمؤمنين

فالرسالة هي إلى البشريّة كلّها، الرسالة هي إلى الرجال والنساء، كما يقول يوئيل النبيّ: أفيض روحي على كلّ البشر فيتنبّأ بنوكم وبناتكم، شيوخكم وصبيانكم، رجالكم ونساؤكم، العبيد والأحرار، الأغنياء والفقراء، الجميع مدعوّون لأن يكونوا في كهنوت المسيح الواحد.

وهكذا فهذه الستارة التي كانت تفصل بين الكهنة وبين المؤمنين أيضًا اختفت. لا شكّ هناك كهنوت الخدمة، ولكن هذا الكهنوت يدخل في إطار الكهنوت العامّ.

فأنا ككاهن أوّلاً في كهنوت المسيح العامّ كما يقول أوغسطينس. أنا كمؤمن واحد منكم. ولكن كأسقف أنا راعي نفوسكم.

الكاهن، الأسقف، يشارك أوّلاً في الكهنوت العامّ قبل أن يشارك في الكهنوت الخاصّ الذي هو كهنوت الخدمة. وكان هناك فصل آخر بين اليهود (رجال ونساء) وبين الوثنيّين. وهكذا كان هناك رواق للرجال، ورواق للنساء، وأخيرًا رواق للوثنيّين.

ولا يحقّ لفئة أن تذهب إلى رواق الفئة الأخرى. ولكن ماذا حدث؟ اعتبر اليهود أنّ الوثنيّين منجّسون، وأنّ الموضع الذي يقيمون فيه ليسمعوا كلام الله هو نجس. ليس بمقدّس. لهذا السبب حين كانوا يقومون بتجاراتهم، كانوا يقصّرون الطريق بين موضع وآخر فيمرّون بالحيوانات وبالأمور العديدة في رواق الأمم. اعتبروه شيئًا دنيويٌّا، شيئًا لامقدّسًا، إذًا يستطيعون أن يتعاملوا فيه كما في أيّ مكان آخر.

ولكن يسوع لم يرض بهذا. لهذا يشدّد القدّيس مرقس في إنجيله قال: خذوا كلّ هذا من هنا. موضعه ليس هنا. فرواق الأمم مقدّس، شأنه شأن رواق الرجال، شأن رواق النساء، بل شأن القدس وقدس الأقداس.

هؤلاء المؤمنون هم مقدّسون والموضع الذي يقيمون فيه باسم الربّ هو مقدّس، سواء كانوا من اليهود أو من الوثنيّين.

هكذا، أحبّائي، تعرّفنا إلى المسكن بشكل عامّ، وتوقّفنا عند الحجاب الذي يفصل الكهنة عن المؤمنين. ولكن بالمسيح زال الحجاب وصرنا قريبين من الله. وزالت الستارة فصار شعب الله كلّه شعبًا كهنوتيٌّا يخدم الله بحياته وصلاته وخدمته حول كهنوت خاصّ من الأساقفة والكهنة. يُؤخَذون من الكهنوت العامّ، ويقومون بخدمة إخوتهم، ويتّحدون بالكاهن الواحد يسوع المسيح. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM