مائدة خبز التقدمة والمنارة .

 

مائدة خبز التقدمة والمنارة

1- عودة إلى هيكل سليمان

أحبّائي، نحن في قسم هامّ جدٌّا في سفر الخروج: ننظّم الليتورجيا، الخدمة المقدّسة، المعبد. كيف يُصنع تابوت العهد، خبز التقدمة، المنارة، السرج، وكلّ الأمور المتعلّقة بالعبادة في أرض إسرائيل؟

نقول هنا ما قلناه في حلقة سابقة: الكاتب الملهم يعود إلى ما كان في الواقع مع هيكل سليمان.

سنة 587 دُمّرت أورشليم، أُحرق الهيكل، لم يبقَ شيء من كلّ هذا التراث الغنيّ الذي حمله الشعب العبرانيّ من البلدان المجاورة سواء من مصر أو بلاد الرافدين ما يقابل تقريبًا العراق، من لبنان، وسورية، من فينيقية وأوغاريت وماري وإبلا وغيرها.

كلّ هذا الغنى جعله سليمان في هيكله بعد أن بناه له الفينيقيّون الذين أرسلهم أحيرام من صور وصيدا. ولكن حين أخذت المدينة على يد نبوخذ نصّر 587، لم يبق شيء من كلّ هذا الغنى.

عاد الكاتب الملهم إلى ما كان في الهيكل، وأراد أن يصوّره وكأنّه يقول للمؤمنين: إذا أردتم أن تعودوا إلى أمجادكم الماضية فأنا أعطيكم التفاصيل التي تساعدكم على إقامة المسكن الذي يليق بالله، هذا المسكن الذي فيه كلّ الغنى من الذهب والفضّة والنحاس، من الألبسة الأرجوانيّة والبنفسجيّة والزمرّديّة، ومن كلّ غنًى ولا سيّما خشب السنط الذي كان أغلى خشب عرفوه في برّيّة سيناء. وفي النهاية كانت الدلالة إلى التابوت، تابوت العهد، الصندوق المكرّس الذي يحمل الوصايا العشر، وبالتالي يدلّ على حضور الله بكلمته.

وهنا نتذكّر أيضًا لمّا غاب الهيكل (سنة 587) الذي كان مركز حضور الله مركز لقاء ا؟ مع شعبه. لمّا غاب الهيكل، حلّت محلّه كلمة ا؟، أي التوراة بالمعنى الواسع، أو الأسفار، أسفار الشريعة والأنبياء والكتب.

صارت كلمة الله العلاقة بين الإنسان وا؟. وبعد سنة 70 ب. م، ودمار الهيكل على يد الرومان مع وسباسيانس. ثمّ سنة 135 ساعة أصبحت ساحة الهيكل بدون أيّ بناء، ومُنع العبرانيّون أو اليهود من الذهاب إلى أورشليم، كان الوسيط بين الله وشعبه، كلمة الله. هذه الكلمة نجدها ملخّصة في الوصايا العشر التي جُعلت في تابوت العهد.

لهذا صار التابوت مركز حضور الله، الدلالة إلى حضور الله وسط شعبه. وهذا التابوت زال من الهيكل بعد سنة 587 ق. م. ساعة أحرق الهيكل على يد الجنود البابلييّن فأصبح قدس الأقداس، حيث كان ذلك التابوت، فارغًا. ويروي المؤرّخون أنّه لمّا دخل الجيش الرومانيّ قدس الأقداس، ظنّوا أنّهم سيجدون فيه الكنوز العديدة ولكنّهم في الواقع وجدوه فارغًا.

وهكذا مقابل ما نقرأه هنا وما قاله المؤرّخون عن هذا التابوت أي الصندوق الذهبيّ الذي كان يرمز إلى الله، هذا في الواقع ضاع وبقيت كلمة الله التي هي الوسيط بين ا؟ وشعبه.

2 - النصّ الكتابيّ

ونتابع، أحبّائي، قراءة سفر الخروج الفصل 25 آية 23.

»وتصنع مائدة من خشب السنط طولها ذراعان، وعرضها ذراع، وسمكها ذراع ونصف. وتغشّيها بذهب خالص وتصوغ لها حلية من ذهب تحيط بها. وتصنع لها حافّة مقدار شبر من حولها وحلية من ذهب على محيطها. وتصوغ لها أربع حلقات من ذهب لزوايا قوائمها الأربع على أن تكون الحلقات عند الحافّة مكانًا لقضيبين لحمل المائدة. وتصنع القضيبين من خشب السنط وتغشّيهما بذهب. وتصنع للمائدة صحونًا ومجامر وكؤوسًا وجامات للسكب من ذهب خالص. وتقدّم على المائدة خبزًا أمامي دائمًا«.

3 - المائدة

نتذكّر أوّلاً وجود هذه المائدة. في الهياكل الوثنيّة منذ قديم الزمان، كانوا يعتبرون أنّ الله يشارك الكهنة في المائدة، في الطعام، لهذا قرأنا في آ 29: صحون، مجامر، كؤوس، جامات للسكب، أيّ كلّ ما يحتاج إليه الإنسان ليحتفل بالعيد.

زالت الأمور الوثنيّة، ولكن بقيت الأمور التي تدلّ على أنّ الربّ يجتمع مع شعبه، يأكل معه، يعايشه، يعرف الآمه وصعوباته، ويعرف أفراحه كما يعرف أحزانه.

نتذكّر أيضًا أنّ الشعب كان فقيرًا، فلم يكن له موائد يأكل عليها. الموائد كانت فقط في قصور الملوك والعظماء. وفي بعض الشعوب الفقيرة منذ مئة سنة لم يكن في البيت مائدة واحدة ولا سيّما في البلدان التي لا تمتلك الخشب الضروريّ من أجل صنع المائدة، صنع الطاولة.

أمّا الربّ فطلب من موسى مائدة لا كالموائد، لا من أيّ خشب كان، بل من خشب السنط. وهذه المائدة لا يظهر عليها الخشب، بل تُغشّى بالذهب وليس أيّ ذهب، كان الذهب الخالص أفضل الذهب. ما نلاحظه هو أنّ الشعب يقدّم أجمل ما عنده. فنحن هكذا تكون هدايانا فيما بيننا، فما نراه تكون هدايانا مع ا؟؟ ونضيف: هذه الهدايا التي من ذهب وغيره، يجب أن تعبّر عن غنى قلوبنا، عن سخاء أيدينا.

»تغشّيها بذهب خالص وتصوغ لها حلية من ذهب تحيط بها«. إذًا لا يرى الإنسان إلاّ الذهب. وكما بالنسبة إلى التابوت بأربع حلقاته، كذلك الطاولة لها أربع حلقات لكي نستطيع أن نحرّكها. وهناك كما بالنسبة إلى التابوت، قضيبان يحرّكان الطاولة.

4 - خبز المائدة

ماذا يوضع على هذه الطاولة، على هذه المائدة؟ الخبز. في الأساس كما قلنا كان يوضع الطعام والشراب من أفخر النبيذ، وكأنّ الربّ يريد أن يشارك كهنته وشعبه في طعامهم وفي شرابهم. أمّا في ذلك الوقت وابتعادًا عن كلّ ما يمتّ إلى الوثنيّة بصلة، لن يوضع على المائدة سوى الخبز. توضع خبزات يوم السبت، وتبقى أسبوعًا كاملاً، وتبدّل يومَ السبت التالي. هذه الخبزات، هذه الأرغفة، هي مقدّسة، وكأنّ الربّ يريد أن يكون بينه وبين شعبه الخبز والملح.

في سفر صموئيل نعرف أنّ داود لمّا جاع هو ورجاله أكلوا من هذا الخبز، خبز التقدمة المكرّس لله، والذي لا يأكله إلاّ الكهنة أسبوعًا بعد أسبوع. وسينطلق يسوع ممّا فعله داود لكي يبيِّن للفرّيسييّن أنّ الإنسان يمرّ قبل السبت وقبل الشرائع. لم يُصنع الإنسان للسبت، بل السبت للإنسان. صُنعت الشريعة للإنسان، لا الإنسان في خدمة الشريعة. استفاد إذًا يسوع من هذا المثل، ممّا فعله داود، لكيّ يبيّن أنّ الشريعة ليست فوق يسوع المسيح، فهو ابن الله والشريعة هو الذي يبدّلها.

وهذه الخبزات التي توضع على المذبح ما زالت حاضرة حتّى اليوم في طقوسنا خصوصًا في بعض الأعياد، وفي بعض الطقوس الشرقيّة يؤتى بالخبز، يسمّونه الأغريبنيّا. ويؤتى بالخبز في مناسبة تذكار الموتى، هذا الخبز الذي يكرّس للربّ.

إذًا المائدة ما زالت موضوعة حتّى اليوم، إنّما بشكل رمزيّ حيث يشارك الجميع في طعام لراحة نفوس أحد الموتى أو مشاركة في عيد مهمّ. وإذا رحنا أبعد من ذلك، هناك الإفخارستيّا، القربان المقدّس، الخبز والخمر اللذان يوضعان علىالمذبح ويتحوّلان إلى جسد المسيح وإلى دمه. ويمكننا أن نربط كلّ هذا بما فعله ملكيصادق لمّا حمل إلى إبراهيم الخبز والخمر.

فهذه المائدة المصنوعة هنا بيد الصنّاع الحاضرين والتي تحمل كلّ الغنى من الصحون والمجامر والكؤوس والجامات وما تحتوي هذه الصحون، هذه المائدة لم تكن فارغة. صارت فقط موضعًا للخبز الذي يقدّم كلّ أسبوع على مذبح الربّ.

وفي عاداتنا المسيحيّة صارت موضع طعام مشترك بعد القدّاس على مثال عشاء المحبّة (أغابي) بانتظار أن يكون هذا الخبز على المائدة جسد المسيح يرافقه النبيذ، ترافقه الخمر التي هي دم المسيح.

5 - المنارة

وبعد خبز التقدمة والمائدة نصل إلى المنارة في 25: 31 - 40.

يقول الربّ لموسى: »وتصنع منارة مطروقة من ذهب خالص، هي وقاعدتها وساقها. وتكون كاساتها بما في ذلك عقدها وأوراقها، قطعة واحدة منها. ويتفرّع عن جانبي المنارة، ست شعب، ثلاث من جانبها الواحد، وثلاث من جانبها الآخر. ويكون لكلّ شعبة من الشعب الستّ ثلاث كاسات على شكل زهرة اللوز بعقدتها وأوراقها.

»وفي عمود المنارة ذاتها أربع كاسات على شكل زهرة اللوز بعقدتها وأوراقها، وعقدة تحت كلّ شعبتين من الشعب الستّ المتفرّعة من عمود المنارة.

»وتكون العقد والشعب كلّها قطعة واحدة مطروقة من ذهب خالص. وتصنع سرجها سبعة، وتجعلها عليها لتضيء على جهة وجهها. وتكون ملاقطها ومنافضها من ذهب خالص. من وزنة ذهب خالص، تصنع المسرجة مع جميع هذه الأدوات. واحرص على أن تصنعها على مثال ما أريتك في الجبل«.

إذًا قرأنا 25 آية 31 إلى آية 40.

ونبدأ بالآية 40: يقول الربّ لموسى: واحرص على أن تصنعها على مثال ما أريتك في الجبل.

المعاني عديدة. أوّلاً: هناك إلهام من حضور إلهيّ جعل موسى يفهم كيف تكون العبادة لله، وكيف تكون وسائل العبادة لله، أدوات العبادة لله.

ثمّ نتذكّر دومًا أنّ كلّ ما يتعلّق بالعبادة على الأرض له صورة في السماء.

ففي سفر الرؤيا الفصل 4 نقرأ عن العبادة في السماء، ثمّ في ف 5، عن العبادة على الأرض. هي صورة عن العبادة في السماء. احرص على أن تصنعها على مثال ما أريتك في الجبل«.

مِمَّ سيصنع المنارة؟

المنارة يمكن أن نقول الشمعدان الكبير في نظرنا اليوم. وتعوّدنا على أن نرى كلّ هذا من الذهب الخالص. ويعطي النصّ التفاصيل لكي يكون هذا الشمعدان، هذه المنارة، بشكل فريد، بشكل منقطع النظير لم يَر مثله أحد.

يقول دائمًا: من ذهب خالص. ويتكرّر الكلام أكثر من مرّة. أمّا الشعبة فتكون بشكل زهرة اللوز. نلاحظ أنّنا صرنا في الأرض المزروعة. فشجر اللوز غير موجود في برّيّة سيناء. جمع الكاتب غنى الطبيعة من الذهب وغنى المزروعات من اللوز. فكأنّي به يجمع كلّ غنى الأرض لكي تمجّد ا؟ مع شعبه. ويبيّن أنّ هذه المنارة تتألّف من سبعة سرج. إذًا سراج ثمّ سراج وسراج. سبعة سرج. والسبعة عدد الكمال.

هذه السرج الموجودة في المنارة، في الشمعدان، هي ذات سبع إضاءات، نراه حتّى اليوم محفورًا في رومة على أحد المباني القديمة. هذا السراج، هذه المنارة بسبع سرج، ستكون رمزًا إلى الشعب اليهوديّ لأنّها أخذت مع الشعب بعد ان احتلّ تيطس ووسباسيانس هيكل أورشليم سنة 70 ب. م.

6 - المؤمن نور

وحتّى اليوم نجد هذه الصورة على الكتب العديدة كرمز إلى الشعب العبرانيّ الذي يحمل النور. هذه السرج، هذه المنارة، إنّما تدلّ على الشعب الذي يجب أن يكون نورًا في العالم. أمّا هل هو نور، فهذا أمر آخر؟

في هذا الخطّ نفهم كلام يسوع: أنا نور العالم. ومتى قال يسوع أنا نور العالم في إنجيل يوحنّا؟ في عيد المظال، ساعة كانت تُشعل الأنوار.

فهذه السرج، هذه المناراة، إنّما هي رمز إلى شعب يجب أن يكون نورًا بالتعليم الذي يحمله، بالحياة التي يعيشها.

من هنا سيقول الأدب اليهوديّ المتأخّر سواء في سفر الحكمة أو مع فيلون ابن الإسكندريّة أو مع غيره من الكتّاب، سوف يشدّد على أنّ الشريعة هي نور وهي نور لا بصفتها فقط كلامًا إلهيٌّا مكتوبًا، بل خصوصًا لأنّ الشعب يعيشها أو يُفرض عليه أن يعيشها. ويسوع تتجسّد فيه هذه الشريعة بل هو يوسّعها، يفجّرها فيصبح هو نور العالم.

ويقول: من يتبعني لا يمشِ في الظلام. وطلب أيضًا من المؤمنين من كلّ واحد منّا أن نكون نورًا للعالم. وطلب هنا خصوصًا فقال: احذروا أن يكون النور الذي فيكم ظلامًا. هذا النور الذي جاءنا من يسوع قد يتحوّل فينا إلى ظلام إن لم نكن أمناء لكلمة الله، لحضور الله، لعمل الله في حياتنا.

ما زال الشعب اليهوديّ حتّى اليوم يعتبر نفسه نورًا للعالم. نحن لا نحكم على الأشخاص، والمسيح قال لنا لا تدينوا لئلاّ تدانوا. ولكن لا شكّ أنّ هذه الشريعة، هذا الكتاب المقدّس التوراة، إن كان كُتب باللغة العبريّة (فتألّف من 39 كتابًا من سفر التكوين حتّى الأخبار الأيّام الأولى والثانية)، أو كُتب باليونانيّة (كما عرفته كنيسة الإسكندريّة 46 كتابًا)، هذا الكتاب يبقى نورًا للعالم.

منه انطلق العالم المسيحيّ. لا شكّ في أنّ يسوع أعطاه كامل نوره. كان ناقصًا فكمّله يسوع المسيح. وبعد يسوع المسيح هناك ديانات وشعوب ومنظّمات وبدع وشيع أخذت بهذا النور، نور الشريعة، وأرادت أن تعيش منه بحيث يتجسّد في أعضائها.

قال يسوع أنا نور العالم. ثمّ قال: أنتم نور العالم. هذا يعني أنّنا لا نحفظ فقط الشريعة، لا نبشّر فقط بالإنجيل، لا نعلن فقط كلام يسوع المسيح، بل نحاول أن نعيشه.

ويسوع يقول لنا: مهمّ جدٌّا أن تكونوا تلاميذي، يرى الناس أنّكم تلاميذي حين تعيشون المحبّة، حين تعيشون الإنجيل. الناس لا يستطيعون بعد أن يروا يسوع المسيح الذي صعد إلى السماء وجلس عن يمين الله الآب. والناس لا يتوقّفون عند كلمات مكتوبة يمكن أن تصبح حرفًا ميتًا أمام عدد كبير منهم. لكن إن تجسّدت كلمة الله، إن تجسّدت شريعة الله، إن تجسّد الإنجيل في حياة المؤمنين، عند ذلك يصبح كلّ واحد منّا شعلة نارٍ، سراجًا في هذه المنارة. الكنيسة، هي منارة، وحيث يكون المؤمنون هناك تستنير البشريّة، وحيث تصل كلمة الله هناك يصل نور الله.

فيا ربّ! أعطنا أن نكون نورًا ينبثق من نورك فينير العالم. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM