بناء االمذبح.

بناء المذبح

أحبّائي، سفر الخروج هو من الغنى، والغنى العميق للّقاء بالربّ، بحيث إنّ بضع آيات كانت كافية لتحدّثنا عن لقاء بالربّ، عن فرق واختلاف بين خوف ومخافة. وفي أيّ حال، سفر الخروج هو سفر مجيء الربّ إلى شعبه. وهو مجيء من خلال المحنة التي يمكن أن نُمتحن بها. لكن الطبيعة هي هنا لتُفهمنا قدرةالله أمّا المحنة فتفهمنا التنقية الضروريّة لنكون على مستوى الحبيب الذي يجيء إلينا.

في هذا الإطار نقرأ عدّة وصايا ظهرت هنا في سفر الخروج، في أوقات متعدّدة، ولكنّها ارتبطت بموسى. وأوّل هذه الوصايا ترتبط ببناء المذبح (20: 22).

فقال الربّ لموسى: قل هذا لبني إسرائيل: شاهدتم أنّي من السماء خاطبتكم. لا تصنعوا لكم آلهة من فضّة أو ذهب لتعبدوها مع عبادتكم لي. ابنوا لي مذبحًا من تراب، واذبحوا عليه محرقات وذبائح السلامة من غنمكم وبقركم. وأنا إلى كلّ موضع يُذكر فيه اسمي أجيء وأباركه. وإن بنيتم لي مذبحًا من حجارة، فلا تنحتوها، لأنّكم إن رفعتم إزميلاً عليها دنّستموها. ولا تَصعدوا إلى مذبحي على درج لئلاّ تنكشف عورتكم عليه.

1 - لا تصنعوا...

المبدأ الأوّل: الله وحده هو من نعبد. وكلّ وصيّة تُتلى، تسبق فتعطي ما عمله الله من أجل شعبه.

قال لهم: »من السماء خاطبتكم، شاهدتم الغيوم، الرعود، البروق، سمعتم صوتي من السماء«، السماء البعيدة التي لا يطالها الإنسان، السماء التي هي فوق متناول البشر، لم تعد بعيدة، بعد أن نزل الربّ من السماء أو بالأحرى كلّم شعبه من السماء. إذًا هذه الكلمة التي يحملها الربّ، لم تعد بعيدة عنّا، بل هي قريبة منّا ونحن نسمعها إذا شئنا ونحن نبدّل حياتنا بالنظر إلى هذه الكلمة.

آ 23: لا تصنعوا لكم آلهة من فضّة أو ذهب لتعبدوها.

اعتاد العبرانيّون وغيرهم من الشعوب المجاورة أن يصنعوا آلهة من فضّة، ذهب، حجر، خشب وغيرها.

يتوقّفون عند هذه المعادن، عند هذه الأشياء، وكأنّ الله في الفضّة والذهب. فالله لا يُلمَس، وإن افتكرنا أنّنا نستطيع أن نلمسه. أن نجعله في أيدينا وفي جيبنا، نكون أمام تجديف كبير على اسم الله.

2 - تمثال يهوه مع تماثيل أخرى

هو من لا تسعه السماوات وسماء السماوات. قال له سليمان: لا تسعك السماء ولا سماء السماوات، فكيف هذا الهيكل: ونحن نريد أن نجعل الله داخل صنم من فضّة أو من ذهب. ونتساءل: وما هو الشرّ من كلّ هذا؟

هو أنّهم لا يصنعون تمثالاً لله بل للآلهة؛ وهذه الآلهة غير موجودة. وإن وُجدت ارتبطت بالشياطين كما قال القدّيس بولس. هذه الآلهة هي عدم، هي باطل، ولا نفع منها. لها آذان ولا تسمع؛ لها عيون ولا ترى. لها فم ولا تتكلّم. لها يد ولا تفعل. لها رجل ولا تتحرّك. ما هذه الآلهة؟ نصنع لها تمثالاً من أغلى ما في العالم من فضّة أو ذهب، والشرّ كلّ الشرّ أنّنا نجعل هذه الآلهة، هذه الأصنام، بمحاذاة الله.

نقابل الله الذي هو الوجود الكلّيّ مع الأصنام التي هي عدم ولا شيء. تعبدونها مع عبادتكم لي. هذا ما قاله إيليّا النبيّ. لماذا تعرجون بين الجنبين: تارة تذهبون لتعبدوا بعل إله المطر. وتارة تأتون إلى يهوه الربّ الإله. وهكذا لا يسخط عليكم الربّ، ولا يغضب عليكم بعل. إذًا، صار بعل على مستوى الربّ: يا للتجديف الكبير على اسم الله الواحد، الذي هو قدّوس، الذي خلّص شعبه ويخلّص كلّ واحد منّا بحضوره وعمله. فالربّ يرفض أيّ رفض أن تكون عبادة لأيّ شيء أو لأيّ شخص. اليوم الأصنام تبدّلت شكليٌّا، ولكن عمليٌّا ما زالت الأصنام حاضرة بحياتنا. الصنم نلمسه، نسيطر عليه، أمّا ا؟ فهو بعيد عن سيطرتنا. هو إله حوار لا إله سيطرة. وكم هو مهمّ، إخوتي وأخواتي، في حياة الإيمان أن نحسّ يومًا أنّ الديانة التي نعتنقها تسيطر علينا تأخذ لنا حرّيّتنا، تجعلنا عبيدًا، كلاّ. إذا كانت الديانة بهذا الشكل، فبئس هذه الديانة.

3 - الحريّة ترفع الإنسان

عندما تتجمّد تحرّكاتنا تقتل فينا الحرّيّة. لا تريدنا أن نفكّر، أن نعمل إلاّ مثل آلة موجّهة. في الحقيقة، مثل هذه الديانة لا تفيدني بشيء، لا بل تحقّرني، تجعلني على مستوى الحيوان التي تقوده غريزته. وهناك شيع تخلق الخوف عند الناس. تقتل الشخصيّة عندهم. تمنعهم من التفكير فيصبحون آلة ميكانيكيّة تردّد ما يوضع فيها من كلمات. ويا ليت هذه الآلة ذكيّة مثل الحاسوب، الكومبيوتر. كلاّ يصبحون ببّغاء تكرّر ما يقال لهم أسبوعًا بعد أسبوع، ويمنع عنهم التفكير وأخذ المواقف.

مثل هذه الديانة، مثل هذه الشيع والبدع، تقتل الإنسان ولا ترفعه. بينما الربّ جعلنا على صورته ومثاله. جعلنا على صورته بالفهم والذكاء والعقل، جعلنا على صورته بالحرّيّة، بالإرادة، بالمسؤوليّة، بالمبادرة. وجعل الرجل والمرأة على صورته ومثاله، لأنّهم يخلقون أولادًا جددًا وخصوصًا يخلقون عالمًا جديدًا. هكذا يكون الإنسان على صورة الله. وإن نفينا منه إمكانيّة الخلق، قتلنا فيه صورة . لا شكّ في أنّ الذي نعبده ليس الله، وأنّ الناس الذين نتبعهم لا يقرّبوننا من الله، بل يبعدوننا عنه. لا يسمحون لنا أن نكون أشخاصًا أحرارًا، أصحاب إرادة.

آ24: ابنوا لي مذبحًا من تراب، واذبحوا عليه محرقاتكم وذبائح السلامة من غنمكم، وبقركم. وحيث لا يكون صخور وحجارة، يُبنى المذبح من تراب. تلّة ترابيّة تكفي لكي يراها الناس الذين يتحلّقون حولها. وتذبَح الذبيحةُ أو تحرق المحرقة. بعد ذلك سيحلّ الحجر محلّ التراب، ولكن الحجر لن يُشغل، لن ينحت، لن تمرّ عليه الإزميل.

4 - ذبيحة وذبيحة

الذبائح نوعان. نوع أوّل: محرقة الخطايا الكبرى. تحمل المحرقة كلّ خطايانا، لهذا تُحرَق الذبيحة كلّها، فتحرق معها خطايانا. وتقابلها ذبائح السلامة، ذبائح الوحدة، ذبائح المحبّة. يقدّمها المؤمن إلى الكاهن فيأخذ منها حصّة، والباقي يأكلها المؤمن مع الأهل والأقارب والأصحاب والأصدقاء والفقير واليتيم والأرملة. ولا ننسَ اللاويّ الذي صار فقيرًا في هيكل الربّ.

أمّا ما يُذبح فهو على نوعين: الغنم والبقر. هي حيوانات طاهرة. الإنسان يسأل والله يجيب. وهناك جواب عندما يقوم الإنسان بعمل يقترب فيه إلى الله. فهو لا شكّ سيجد الله قريبًا منه. الله يستقبله.

نستطيع أن نشبّه الربّ بربّ بيت أو بربّة بيت، برجل أو امرأة نزورهما فيستقبلاننا. ربّ البيت يستقبل الآتين إليه مهما كانوا، حتّى ولو كانوا أعداء له. يستقبلهم، ويستطيعون أن يلجأوا إليه. والربّ أيضًا هو هنا عندما نقدّم له محرقة أو ذبيحة، فهو يتقبّلنا كما تقبّل نوحًا بعد الطوفان.

يقول في آية 24: إلى كلّ موضع يُذكر فيه اسمي أجيء وأباركه.

نلاحظ هنا أنّ الكاتب لا يحدّد مثلاً خيمة الاجتماع في البرّيّة، أو حيث وُضع تابوت العهد. كلاّ: »في كلِّ مكان، يُحرَق لاسمي البخور، وتقرَّبُ تقدمة طاهرة،لأنّ اسمي عظيمٌ في الأمم« (ملا 1: 11). لا يقول: تأتون إلى الهيكل فرضًا، إكرامًا لي. بل قال: في كلّ موضع. وسنفهم ذلك على ضوء سفر النبيّ ملاخي حيث يقول لنا:

5 - في كلّ مكان

»في كلّ مكان الله يمكن أن يُعبَد«. وسفر يونان واضح. فالوثنيّون الذين ذهبوا إلى ترشيش، صلّوا على ظهر السفينة، وقدّموا ذبائح هناك على ظهر السفينة. لم يقولوا: عندما نعود إلى أورشليم نقدّم الذبائح. كلاّ. وصلاتهم استجيبت. لأنّهم عرفوا ماذا يستطيعون أن يعملوا لينجوا من هذه العاصفة التي كادت تودي بحياتهم.

إذًا إلى كلّ موضع. المكان يمكن أن يكون مقدّسًا أم لا، ما يقدّس المكان هو حضور الله، ما يقدّس المكان هو الجماعة التي تجتمع فيه. نحن بعاداتنا نقول الكنيسة. الكنيسة هي الحجر إذا شئتم. ولكن أهمّ من الحجر هي الناس الذين يأتون ويجتمعون في الكنيسة ويصلّون معًا.

وأنا إلى كلّ موضع يُذكر اسمي. الذكر ضدّ النسيان. عندما ننسى الله يكون نسياننا خطأً كبيرًا. أمّا ذكر الله فهو عمل عظيم جدٌّا. نذكر اسم الله، نذكر أعمال الله، نذكر حضور الله، نذكر معجزات الله. ولا ننساها إذا كنّا لا نريد أن ينسانا الل: كيف نتجرّأ نحن أن ننسى الله، أن لا نذكر اسمه؟ وقد قال لنا عندما تذكرون اسمي، تنادون اسمي: أيّها الربّ الإله، أيّها الربّ إلهنا، أجيء وأبارككم.

ذكرُ الاسم يقابل النداء. أتريدون من ابن ضعيف في خطر ينادي أباه ولا يسمع الأب الجواب، ولا يجيء ذلك الأب إلى ابنه. ويقول لنا يسوع: إن كنتم أنتم الأشرار تعطون أبناءَكم العطايا الصالحة، فكم بالأحرى أبوكم الذي في السماء. وإذا كنّا ندعو الله، نذكر اسمه، هل نشكّ ثانية صغيرة، دقيقة صغيرة، أنّه لن يجيء. بل هو يجيء، وما أسعدنا حين نستقبله في هذا المجيء. هو يقول عن نفسه إنّه يقرع الباب، وينتظر أن نفتح له ليدخل. كلّ موضع يذكر فيه اسمي أجيء وأباركه، لأنّ مجيء الربّ ليس للموت بل للحياة، ليس للّعنة بل للبركة، ليس للهدم بل للبناء، ليس للشرّ بل للخير. أبارككم، أعطيكم مواهب الروح ومواهب الجسد. مثل هذا الكلام يُخرجنا من إطار طقوس مجمّدة محجّرة، تبعدنا عن الله ولا تقرّبنا منه.

قيل عن أحد المصلّين الذين كانوا في الكنيسة. حين أبرقت السماء وأرعدت، توقّف وقال: والآن نصلّي. ماذا كان يفعل قبل ذلك؟ هل كان يقوم بعمل روتيني؟ عندما نذكر اسم الله، حقٌّا الله هو هنا. يردّ علينا. يقول لنا نعم. ها أنا آتٍ. ويباركنا ويمنحنا جميع النعم التي نحتاج إليها، هو يعرف ما نحتاج إليه قبل أن نسأله.

6 - مذبح من تراب، مذبح من حجر

ويتابع النصّ على مستوى بناء المذابح، قال في آية 24: ابنوا لي مذبحًا من تراب. ولكن تطوّر الأمر من صحراء سيناء إلى أرض فلسطين حيث الحجارة كثيرة. قال: وإن بنيتم لي مذبحًا من حجارة فلا تنحتوها.

لماذا؟ لأنّها يمكن أن تحمل صورة من الصور ورسمًا من الرسوم، فكأنّي بالمذبح يصبح صنمًا. كلاّ المذبح يرمز إلى حضور الله. هو من يتقبّل ما نقدّمه إلى الله.

لهذا السبب يقول النصّ: لأنّكم إن رفعتم إزميلاً عليها دنّستموها. إنّ هذا الإزميل قد يجعل من هذا الموضع المقدّس موضعًا دنسًا. يمكن أن يصبح صنمًا ووثنًا نتعبّد له دون الله. ثمّ عندما يعمل الإنسان بإزميله في الأرض، إنّما هو يطبعه بطابعه. فالطبيعة بحدّ ذاتها مطبوعة بطابع الحضور الإلهيّ. وحين يريد الإنسان أن يحلّ محلّ الله، فهو يدنّس الطبيعة ولا يقدّسها.

من هنا كان الحذر كبيرًا في بناء المذابح. تُؤخَذُ الحجارة من هنا إلى هناك. حجارة لم تُنحَت، حجارة جاءت من عالم الطبيعة، وتكون رمزًا إلى حضور الله. وينتهي هذا المقطع بما يلي في 20: 26 من سفر الخروج.

»ولا تصعدوا إلى مذبحي على درج، لئلاّ تنكشف عورتكم عليه«. هنا نتذكّر أمرًا معروفًا في ذلك الزمان: كان الكاهن شبه عريان. هذا ما نراه في جميع الحضارات خصوصًا في مصر. كان الملك الذي يقدّم الذبيحة عريانًا. وكان حليق الشعر، لكي يكون في عري تامّ، في ضعف تامّ، في استعداد تامّ لأن يخلقه الربّ من جديد.

وفي العالم العبرانيّ كان الكاهن يضع مئزرًا فقط يغطّي أعضاء جسمه. لهذا السبب حين يصعد تظهر أعضاؤه الخفيّة. كان المذبح في الشعب العبرانيّ بدون درج حتّى يحافظ الكاهن على الحشمة في شعائر العبادة، سواء كانت التقدمة محرقة أم ذبيحة.

الخاتمة

هكذا، أحبّائي، رافقنا موسى، يعطينا وصايا تتعلّق ببناء المذبح. وما قيل في الماضي عن المذبح يمكن أن يقال اليوم. يكون المذبح من خشب، من حديد، من زجاج، من حجر. المادّة أمر ثانويّ. المهمّ أنّ المذبح في حياتنا المسيحيّة يدلّ على المسيح، ونحن عندما نمرّ أمام المذبح ننحني. نحن لا ننحني أمام الحجر ولا أمام التراب، بل ننحني أمام ما يمثّله الحجر والتراب، يسوع المسيح. فهو يحمل إلينا ذبيحة الله، ويحمل إلى الله ذبيحتنا.

هنا نتذكّر أنّ تابوت العهد كان يرمز إلى حضور الله، وفي سفر الرؤيا، العرش يدلّ على الله. وليس بعجيب أن يدلّ المذبح على حضور الله، لأنّنا اليوم وعلى مستوى العهد الجديد، لا ذبيحة لنا إلاّ ذبيحة يسوع المسيح. من حيث إنّه مات، مات مرّة واحدة، ومن حيث إنّه حيّ فهو حيّ إلى الأبد.

إذًا يسوع هو الذي صار المذبح، المذبح الجديد، كما صار الذبيحة الوحيدة. ولا نحتاج بعد أن ندعو اسم الربّ، فالربّ حاضر معنا بشخص ابنه يسوع. وهو يحمل ذبيحتنا مع ذبيحة ابنه يسوع، لا من أجل خلاص مؤقّت. بل من أجل خلاص عتيد في ذبيحة يسمّيها الإنجيل: الذبيحة النهائيّة، العهد الأبديّ الجديد. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM