ظهور الله يرافق الوصايا
أحبّائي، بعد أن توقّفنا طويلاً عند الوصايا العشر التي تسلّمها موسى في ارتباط مع الظهور على جبل سيناء، نتابع قراءة سفر الخروج فصل 20 آية 18 - 20:
وكان جميع الشعب يشاهدون الرعود والبروق وصوت البوق، والجبل يصعد منه الدخان، فاضطربوا ووقفوا على بعدٍ، وقالوا لموسى: »كلّمْنا أنت فنسمع ولا يكلّمنا الله لئلاّ نموت«. فقال لهم موسى: »لا تخافوا! جاء الله ليمتحنكم ولتكون مخافته نصب عيونكم لئلاّ تخطأوا«. فوقف الشعب على بعد وتقدّم موسى إلى الضباب الذي كان فيه الله.
1 - أيضًا وأيضًا البرق والرعد
أحبّائي، يجب أن نعود إلى الفصل 19 وما تحدّث فيه الكاتب عن ظهور الربّ على جبل سيناء: ذكر الرعود والبروق وصوت البوق والسحاب.
وفي فصل 20 ذكر الشيء عينه. ما هو مهمّ هو أن نعلم أنّ الربّ يتكلّم من قلب الطبيعة. فالرعد يدلّ على صوته. نتذكّر هنا المزمور 29: صوت الربّ على المياه، صوت الربّ يحطّم الأرز، صوت الربّ يكسِّر أرزَ لبنان، صوت الربّ يصل إلى البرّيّة وإلى قادش.
وحتّى اليوم في عاداتنا عندما يُسمع الرعد، يُقال قدّوس. فكأنّ الرعد ما زال في حياتنا اليوم وكأنّه صوت الله.
والبرق يدلّ أيضًا على نور الله، على نار الله. لا ننسَ أنّ الله نار محرقة. نتذكّر ما فعله إيليّا بالنار حين جاء عليه بعض الأشخاص ليمسكوه.
وسوف يقول التلاميذ ليسوع لمّا اقتربوا من المدينة السامريّة ورفضت أن تستقبلهم لأنّ يسوع لم يكن مزمعًا التوقّف فيها. قالوا له: أتريد أن نطلب نارًا من السماء. إذًا النار تدلّ أيضًا على حضور الله. الطبيعة عنصر هامّ في الكلام عن الله.
في الأصل كان الشعب العبرانيّ يعيش في البداوة، ولا شيء جديد. الشمس في النهار. وفي الليل صفاء السماء وغيوم قليلة جدٌّا لا تذكر. ولكن لمّا وصل إلى أرض فلسطين، شاهد البروق، وسمع الرعود، وأحسَّ بالعواصف فبلَّله المطر. وربط كلّ هذا بالإله بعل.
الإله بعل هو زوج الأرض. هو الذي يُخصب الأرض. يرسل إليها المطر. وسيأتي وقت بعطي الشعب العبرانيّ للربّ يهوه الصفات التي كانت لبعل. فليس بعل هو الذي يرسل المطر بل الله، وليس بعل هو سيّد الرعود بل الله، وليس بعل هو سيّد البروق بل الله. كلّ هذا مع الغمام صار صورة عن حضور الله، عن عمل الله، عن قدرة الله، وحين ينزل مع كلّ هذا المطر، نكون أمام صورة عن عناية الله بشعبه ولا سيّما بأرضه التي تحتاج إلى المطر.
2 - الرعدُ بوق الله
شاهدوا الرعود والبروق. نستطيع أن نتوقّف عند صورة الرعد، ندرسها كما يدرس العلماء ظاهرة الرعد. يقال: عندما ترتطم غيمة بغيمة وسحابة بسحابة تعطي ضجّة وتعطي نورًا كما بين حجرين من الصوّان. ذاك هو المستوى العلميّ. أمّا الكاتب الملهم فلا تهمّه الأمور العلميّة أو هو يأخذ منها ما يحتاجه من أجل الكلام عن الله.
كان جميع الشعب يشاهدون الرعود والبروق. يمكن أن يشاهد البروق والرعود أي إنسان، سواء كان مؤمنًا أو لامؤمنًا، لكنّ الشعب سيرى في الرعود والبروق أكثر من ظاهرة كونيّة، أكثر من ظاهرة في السماء. وفي أيّ حال صوت الرعد هو هنا صوت البوق. يمكن أن يكون كلام آخر عن الرعود ويمكن أن يكون صوت أولئك الذين يهيّئون الناس لحضور الربّ، لمشاهدة الربّ.
صوت البوق سيكون في النهاية في يد الملائكة الذين يهيّئون الدينونة العامّة. هذا البوق يدعو الناس إلى الصلاة، وما زال حتّى اليوم في الأعياد الكبرى لدى العالم اليهوديّ.
وشاهد الشعب أيضًا الجبل يصعد منه الدخان. الجبل هو جبل سيناء، وهذا الجبل عُرف بالضباب، عرف هذه الغيوم التي تغطّي الجبل. والدخان هنا يدلّ أيضًا على حضور الله. حضور الله من خلال السرّ ومن خلال العلن.
إذًا الطبيعة هي هنا لكي تدلّ على حضور الله وعلى عمل الله. لهذا قال المزمور 19: »السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بأعمال يديه، النهار يخبر النهار، والليل يكلّم الليل«. صارت الطبيعة شخصًا حيٌّا يسبّح الله ويرفع إليه المجد.
3 - خوف وخوف
شاهد الشعب كلّ هذه الرعود والبروق، شاهد الجبل كيف امتلأ دخانًا، امتلأ ضبابًا، وسمعوا صوت البوق الذي يرفعه أولئك الذين يعملون مع موسى، فكانت النتيجة أنّهم اضطربوا، خافوا، شعروا بأنّ الموت قريب منهم، فوقفوا على بعد، لم يجسروا أن يقتربوا من الجبل الذي حسبوه موطئ لله. اضطربوا ووقفوا على بعد، وقالوا لموسى: كلّمنا أنت فنسمع، ولا يكلّمنا الله لئلاّ نموت.
كان خوف أوّل من الرعود والبروق لأناس لم يعتادوا على مثل هذا في أرض مصر التي لم تعرف المطر الكثير. وهناك خوف من نوع آخر، خوف أمام حضور الله. لا شكّ في أنّ صوت البوق دلّ الشعب وجميع الشعب علىأنّ هذه الرعود والبروق إنّما هي دلالة على حضور الله من وسط الدخان. بما أنّ الله نار آكلة، بما أنّ الاقتراب من الله صعب جدٌّا، وقد يقود إلى الموت لأن لا أحد يستطيع أن يرى الله ويحيا أو يبقى على قيد الحياة، لهذا طلب الشعب من موسى أن يكلّمهم هو فيسمعون: إذا كانت كلمته كلمة الله، فيستمعون له ولا يكلّمهم الله لئلاّ يموتوا.
يعني صار موسى الوسيط. صار موسى مهدّئ غضب ا؟. صار موسى ذلك الذي يقف بين الاثنين وكأنّي به يمنع النار من أن تحرق. كلّمْنا أنت فنسمع، ولا يكلّمنا الله لئلاّ نموت.
في النهاية صوت موسى هو صوت الله. وإذا لم نعرف في النهاية صوت الله من خلال أصوات البشر، فهذا يعني أنّ إيماننا ضعيف جدٌّا. وإذا كنّا ما زلنا ننتظر تدخّلات بشريّة من أجل حوار مع الله، يبقى الحوار غريبًا ولقاؤنا بالربّ بعيدًا.
4 - القرب من الله
كلّمنا أنت فنسمع ولا يكلّمنا الله فنموت. كانوا يعتبرون أنّ القرب من الله يعني الموت، لأنّه نار محرقة. ولكن في النهاية، سنفهم نحن مع يسوع المسيح أنّ الله ليس ذلك البعيد، ليس ذلك الذي نقف على بعد بالنسبة إليه. فإن كلّمنا الربُّ لا نموت، بل نحيا كما قال النبيّ هوشع، كلّ من يدعو باسم الربّ يحيا، كلّ من يدعو باسم الربّ يخلص. وقال لهم موسى: لا تخافوا. جاء الله ليمتحنكم ولتكون مخافته نصب عيونكم لئلاّ تخطأوا.
نلاحظ هنا، أحبّائي: لا تخافوا. ثمّ يقول: تكون مخافته فيكم. لا شكّ في أنّنا أمام معنيين لكلمة الخوف.
الخوف الأوّل هو الخوف على الذات. هو خوف العبيد، خوف من غضب الله، من ضربة الله. مثل هذا الخوف لا يريده الربّ. مثل هذا الخوف لا يرتبط أيّ ارتباط بالإيمان.
لا تخافوا. أي لا تخافوا غضب الربّ، لا تخافوا نقمة الربّ. فالله لا يأتي لكي يعاقبكم، لكي يحطّمكم، لكي يميتكم. فالله هو إله الأحياء لا إله الأموات. ويقول: جاء الله ليمتحنكم.
نتذكّر هنا عمل النار بالمعادن. النار لا تحرق المعدن، بل تأخذ منه كلّ ما هو غير معدن. الذهب يجب أن يتنقّى. لهذا يجب أن يوضع في النار حتّى تزول منه كلّ الرواسب من تراب وحجارة وغيرها. وهكذا حضور الربّ. هو كالنار يزيل منّا كلّ ما لا يريده، يزيل منّا الخطيئة، يزيل منّا الشرّ، يزيل منّا البغض. نتذكّر ما قاله يسوع في مثل الكرمة والأغصان: الربّ ينقّينا حتّى نعطي ثمرًا أكثر.
والنار تمتحننا لكي نكون كاملين، بارّين أمام الله. وهنا العظمة بهذه الكلمة: جاء الله. نحن لا نستطيع أن نصعد إلى الله، أن نذهب إلى الله، هو الذي يأتي ليزور شعبه ليزور كلّ واحد منّا. الله ليس ذلك القابع في السماء، لا يعرف أمور الأرض. بل هو جاء إلى شعبه.
لا شكّ في أنّه يحتاج إلى لسان البشر، إلى فم البشر، لكي يكلّم الناس، ولكن مجيئه حياة، حضوره حياة. جاء الله ليمتحنكم.
كم هو أمر مهمّ أن نفهم هذا المجيء، المجيء الإلهيّ في شعبنا، في حياتنا. الله ليس بغائب، الله هو حاضر ويستفيد من كلّ الظروف، من الصعوبات، من الفشل، من الألم، من الوجع، من المرض. يستفيد من كلّ شيء حتّى ينقّي شعبه وينقّي كلّ واحد منّا.
5 - مخافة الله
ويتابع النصّ:» لتكون مخافته نصب عيونكم«.
هنا المخافة غير الخوف. الخوف خوف العبيد، خوف على جلدنا، خوف على ضربة تصيبنا. أمّا هنا فالمخافة هي احترام عميق، هي محبّة عميقة نقابلها مع مخافة العروس التي لا تريد أن تغيظ عريسها، ومخافة العريس الذي لا يريد أن تحزن عروسه. هذه المخافة التي هي عمق المحبّة، ليست خوفًا من الآخر، بل خوف من أن يجرح الواحد الآخر، ممّا يدلّ على محبّة قليلة تجاه الآخر. لهذا السبب عندما تكون مثل هذه المخافة في قلوبنا، لا فقط نصب عيوننا، في قلوبنا، لا نعود نخطأ، وإن خطئنا لأنّنا ضعفاء لأنّنا محدودون، تكون زلّتنا سريعة وعودتنا أسرع.
تكون مخافته نصب عيونكم لئلاّ تخطئوا.
نعم نريد يا ربّ منك هذه المخافة، هذا التنبّه لحضورك، هذا الردّ من محبّتنا على محبّتك. وعندما تقيم هذه المخافة في قلوبنا، لا نعود نخاف من الصعوبات. نعرف أنّ محبّتك هي التي تجدّدنا، تخلقنا من جديد. لا تكتفي محبّتك بأن تعطينا وصايا من بعيد إلى بعيد تُفرَض علينا. وستصبح هذه الوصايا في الشعب اليهوديّ عددًا كبيرًا جدٌّا. ليس فقط عشر وصايا، لكن 613 وصيّة، فصار الشعب يخاف على نفسه ويخاف على حياته.
6 - استعداد ولقاء بالله
أمّا الربّ فهو لا يعطي وصايا، بل قبل كلّ شيء يبدّل قلوبنا، يعطينا قلبًا جديدًا. عندئذٍ نستطيع أن نعيش بحسب الوصايا. في الواقع كلّ الوصايا تلخّصت في وصيّة المحبّة.
تكون مخافته نصب عيونكم. تكون ملموسة، ترونها، تلمسونها بأيديكم، تسمعونها، فكأنّ هذه المخافة صارت شخصًا حيٌّا نراه، نسمعه، نلمسه لئلاّ نخطأ. ظنّ قايين أنّه يقدر أن يبتعد عن الله، فمضى إلى أرض نود، إلى البعيد، وهناك لا يراه الله.
وظنّ يونان أنّه إن مضى إلى أقصى الغرب، إلى البحر، لن تصل إليه يد الله. فكأنّ الله محصور في مكان وزمان. كلاّ ثمّ كلاّ. الله موجودٌ في الكون كلّه، فيملأ الكون بحضوره. ولولا لم يملأه، لكان هذا الحضور لا شيء، وتصبح الطبيعة إلى العدم.
فالربّ لا يريد فقط أن يكون حاضرًا، بشكل غامض، على الكون وعلى الخلائق، مهما كان مركزها. فحضوره هو حضور صديق مع صديق وحبيب مع حبيب. هو أمامنا، هو معنا، هو يرافقنا، ولهذا اختلفت المخافة من لا تخافوا. لا تخافوا على نفوسكم، أمّا المخافة فهي خوف من أن نغيظ الآخر الذي هو الله
7 - وصعود في الضباب
وهكذا فهم الشعب ولكنّه ظلّ على بُعد كما تقول آية 18: اضطربوا، وقفوا على بُعد.
ونقرأ في آية 21: فوقف الشعب على بُعد. هذا يعني أنّه لم يستعدّ بعد للّقاء الحميم الذي سيكون لموسى على الجبل.
وسبق فقرأنا فصل 19، حيثُ منع كلّ إنسان من الاقتراب من الجبل. في 19: 23 قيل: ارسمْ حدٌّا حول الجبل وحرّم عليهم أن يجاوزوه، وكلّ من كان يجاوزه كان يقتل بالسهام. يمكن أن يكون الشعب وقف على بعد. نبّهه موسى وحذّره، فظلّ ينظر إلى الله من بعيد، من خلال الرعود والبروق وصوت البوق والجبل. ظلّ الشعب عند منحدر الجبل، أمّا موسى فصعد إلى الجبل.
وتقدّم موسى إلى الضباب.
الضباب أو السحاب أو الدخان، يدلّ على مناخ، على جوّ يكون الله فيه حاضرًا. فالضباب يعطي من النور ما يكفي، ويعطي من الظلمة ما يكفي. وهكذا لا نحسب من جهة، أنّنا لا نرى الله، أنّ الله غير حاضر. ولكنّنا لا نحسب من جهة أخرى، أنّ الله واضح كلّ الوضوح، ونحن نعرفه كما نعرف بعضنا أو كما نعرف الأصنام.
وتقدّم موسى إلى الضباب الذي كان فيه الله. الله يظهر من خلال الضباب، الله حاضر. وهكذا انطلق موسى للقاءٍ مع الربّ كان على الجبل. حمل الوصايا إلى الشعب، أعطى الوصايا للشعب. قالوا له: »كلّمْنا أنت فنسمع«. وكلّم الشعبَ، فسمعوا.
ولكن أراد موسى أن يجعل الشعب يخطون الخطوة التالية، أن يلتقوا با؟. ولكنّهم لم يزالوا بعيدين. ما زال الخوف يسيطر عليهم، ولم يصلوا إلى المخافة التي هي بنت المحبّة، بنت الاحترام، بنت مراعاة الحبيب لحبيبته، والحبيبة لحبيبها، ما زالوا على مستوى الخوف، لذلك ظلّوا بعيدين.
أمّا موسى فتقدّم إلى الضباب الذي كان فيه الله وسيكون له حوار طويل مع الله الذي سوف يراه وجهًا لوجه. آمين.