أحبب قريبك كنفسك

 

أحبب قريبك كنفسك

أحبّائي، بعد الكلام عن محبّة الله: أحبّ الربّ إلهك، نصل إلى محبّة القريب: أحبب قريبك كنفسك. وإذا اعتبرنا أنّ الوصايا وُضعت في لوحتين، نقول: اللوحة الأولى تحدّثنا عن علاقتنا المباشرة مع الله واللوحة الثانية تصل بنا إلى القريب.

1 - وصيّة واحدة في لوحتين

هو تعلّقٌ به، محبّة له، ابتعاد عن الحلف، تكريم ليوم الربّ، ليوم السبت، كما قال النصّ: اذكر يوم السبت وكرّسه لي. في ستّة أيّام تعمل وتنجز جميع أعمالك، واليوم السابع سبت للربّ إلهك. لا تقم فيه بعمل أنت وابنك وابنتك وعبدك وجاريتك وبهيمتك ونزيلك الذي في داخل أبوابك لأنّ الربّ في ستّة أيّام خلق السماوات والأرض والبحر وجميع ما فيها وفي اليوم السابع استراح ولذلك بارك الربّ يوم السبت وكرّسه له.

تلك كانت اللوحة الأولى التي بدأت بهذه الكلمات: أنا الربّ إلهك لا يكن لك آلهة سواي. أمّا اللوحة الثانية فهي تتعلّق بشكل مباشر بمحبّتنا للقريب. وهنا لا ننسَ أنّ محبّة القريب تنبع من محبّة الله.

لهذا نقرأ سفر الخروج فصل 20: 12:

أكرم أباك وأمّك ليطول عمرك في الأرض التي يعطيك الربّ إلهك، لا تقتل، لا تزن، لا تسرق، لا تشهد على غيرك شهادة زور، لا تشته بيت غيرك، لا تشته امرأة غيرك، ولا عبده ولا جاريته ولا ثوره ولا حماره ولا شيئًا ممّا له.

هذه التي قرأناها تتلخّص أو تتوسّع في محبّتنا للقريب: أحبب قريبك كنفسك. ونعود هنا إلى الإنجيل.

2 - المحبّة خلاصة الشريعة والأنبياء

في يوم من الأيّام سأل أحد معلّمي الشريعة يسوع: ما هي أعظم وصيّة في الشريعة. ونحن نعرف كم كان عدد الوصايا كبيرًا بحيث لم يكن يستطيع الناس أن يميّزوا ما هو المهمّ وما هو الأهمّ. وبما أنّهم لا يستطيعون أن يحيطوا بكلّ هذه الوصايا، كانوا ضائعين، فحسبهم الفرّيسيّون ضالّين. إذًا ما هي أعظم وصيّة في الشريعة؟

أجابه يسوع: أحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك وبكلّ نفسك وبكلّ عقلك. هذه هي الوصيّة الأولى والعظمى. والوصيّة الثانية مثلها: أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك. على هاتين الوصيّتين تقوم الشريعة كلّها وتعاليم الأنبياء (مت 22: 35 - 40).

الشريعة والأنبياء. يعني كلّ العهد القديم يُبنى على وصيّة أولى: أحبّ الربّ. ووصيّة ثانية: أحبّ قريبك. وسيقول بولس في رسالته إلى رومة: لا يكن عليكم لأحد دين سوى محبّة بعضكم لبعض. هذا هو الدين الوحيد. كلّ واحد ينتظر منّي أن أحبّه، وأنا أوفيه هذا الدين. ولا ننسَ ارتباط الدَّين بالدِّين. الدين هو المحبّة. فمن أحبّ غيره أتمّ العمل بالشريعة. فالوصايا التي تقول لا تزنِ لا تسرق لا تقتل لا تشهد بالزور، تتلخّص في هذه الوصيّة. أحبّ قريبك مثلما تحبّ نفسك (روم 13: 8 - 9).

3 - من هو قريبي

نعم، أحبّائي، محبّة الله تجد امتدادها وكمالها في محبّة القريب. وكلّ الكتاب المقدّس نلخّصه في وصيّة المحبّة. في العهد القديم قال الربّ لأبناء شعبه: تحبّ قريبك كنفسك. لا شكّ في أنّ القريب كان ابن العائلة، ابن القبيلة، ابن الطائفة. يعني كان محصورًا جدٌّا، ولم يكن يومًا كلّ شخص ألتقي به في الطريق حتّى ولو كان عدوّي.

مع الإنجيل توسّعت النظرة إلى القريب. صار كلُّ إنسان قريبي. ولكن هذا لا يعني أنّنا نترك الطريقة التي قدّم بها العهدُ القديم الوصيّة. كلاّ، لماذا لا نبدأ ونحبّ القريب؟ لماذا لا نُلغي القول الشيطانيّ الذي يردّده البعض: الأقارب عقارب. أي لا نستطيع أن نأمن شرّهم. أستطيع أن أحبّ ابن الصين وابن الهند وابن اليابان. مثل هذا الحبّ لا يفرض عليَّ الكثير. ولكن لماذا لا أبدأ فأحبّ أخي وابن عمّي وابن خالتي وابن قريتي وابن طائفتي، المحبّة تبدأ من القريب القريب، وتمتدّ إلى البعيد البعيد.

وهناك أمر مهمّ جدٌّا: من كان لا مباليًا بقريبه، أغاظ الله. إذًا اللامبالاة هي الابتعاد عن المحبّة. لا شكّ أنّي ما اسأت إلى قريبي. وهكذا أعتذر. لكن أن لا أبالي به، أكون كأنّي أتركه يموت، كأنّي أتركه وذاته.

ثمّ من عادى أخاه، عادى الله أيضًا، لأنّ هذا الأخ هو ابن الله. فأنا إن عاديت الابن عاديت الأب. وهنا نفهم موقف الابن الأكبر في مثل الابن الضال، الابن الشاطر. رفض أن يسمّي الآتي من البعيد أخاه. فقال: ابنك هذا. ابنك، أنا لا أعترف به على أنّه أخي. ولكن حين يرفض أن يعترف بأخيه على أنّه أخوه، يبدو وكأنّه ينكر أباه ويجعل نفسه خارج البيت الوالديّ. وهذا ما يستعدّ ربّما أن يقوم به الابنُ الأكبر.

4 - اللامبالاة عداوة

اللامبالاة تغيظ الله، ومعاداة الأخ هي معاداة الله. هكذا تصرّف قايين. قال: لست حارسًا لأخي. بل هو عادى أخاه وقتله.

نلاحظ عند قايين اللامبالاة ثمّ المعاداة. وتتكرّر الفرائض في أسفار الشريعة، فتطلب من المؤمن أن يهتمّ بالفقير وصغار القوم، بالغريب واليتيم والأرملة، وكلّ الأشخاص الذين لا يستطيعون أن يستندوا إلى نفوسهم وليس لهم من يسندهم.

قال الربّ: لا تظلم القريب ولا تضيِّق عليه، فإنّكم كنتم غرباء في أرض مصر (خر 22: 21). هذا يعني أنّكم تألّمتم وتعرفون معنى الألم، فلماذا لا تراعون ذاك الذي يقيم بينكم. أنتم صرختم إليّ فسمعت لكم. لهذا إذا صرخ إليّ الغريب لأنّكم تسيئون معاملته، سمعت له. وقال الربّ أيضًا بلسان موسى: لا تسئ إلى أرملة ولا إلى يتيم. بما أنّ ليس لهما من يدافع عنهما، فالربّ يتولّى أمرهما. لهذا يتابع النصّ. إن أسأت إليهما وصرخا إليّ، فإنّي أسمع صراخهما فيشتدّ غضبي وأعاقب.

ويتابع النصّ: إذا أقرضتَ مالاً لفقير من شعبي، فلا تكن له كالمرابي. وإذا رهنت ثوب قريبك، عند مغيب الشمس تردّه له، لأنّه هو ستره الوحيد وكساء جلده ففيه ينام. يعني هذا كلّ ما له. فإن هو صرخ إليّ استجبتُ له لأنّي حنون (خر 22: 25 - 27).

5 - محبّة الأعداء

وتَذهب المحبّة فتصل إلى الأعداء ولا تَبقى محصورة في الأصدقاء. في هذا تقول الشريعة: إذا رأيت حمار مبغضك ساقطًا على الأرض، فلا تمرّ بقربه دون أن تساعده. وسوف يقول سفر الأمثال في هذا المعنى: إذا جاع عدوّك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه.

وهكذا سرنا في خطّ قريب من الإنجيل الذي يطلب منّا أن نحبّ أعداءنا، ونحسن إلى مبغضينا، ونبارك من يلعننا: ونصلّي لأجل من يسيء إلينا. هكذا نكون مثل الأب السماويّ (لو 6: 27 - 28).

ويتابع يسوع كلامه: من طلب منك شيئًا فأعطه، ومن أخذ ما هو لك فلا تطالبه به. هكذا نكون رحماء كما أنّ الله أبانا رحيم.

ويتابع يسوع في إنجيل لوقا (6: 36 - 38): لا تدينوا، لا تحكموا على أحد، اغفروا، أعطوا كيلاً ملآنًا، مكبوسًا، مهزوزًا، فائضًا. كلّ هذه الطريق كان الأنبياء قد فتحوها أمام العهد الجديد، فشدّد عاموس على العدالة الاجتماعيّة في معاملاتنا، وندّد بالأغنياء الذين يستغلّون الفقراء ولا سيّما على مستوى البيع والشراء. وكان إرميا قاسيًا على التعامل بين الإخوة في إطار من الكذب والمكر.

قال: هو من جماعة الغادرين. لسانه كقوس مشدودة من أجل الكذب. ويقول النصّ اليونانيّ: الكذب لا الحقّ تجده في الأرض. كلّ واحد يحذَر أخاه ولا يستطيع أن يثق به.

وأعطانا حزقيال صورة عن الرجل الصديق الصادق مع الله: يمارس الحقّ والعدل، لا يسيء إلى امرأة قريبه، لا يستغلّ العامل الذي عنده، لا يسرق أخاه. بل هو يعطي خبزه للجائع، ويكسو العريان ثوبًا، وإن أقرض مالاً لا يأخذ ربحه، يُبعد يده عن كلّ ظلم. ويجعل الصلح والسلام بين الإخوة (حز 18: 5 - 9).

6 - المحبّة العمليّة

هنا، أحبّائي، نلتقي بكلام يسوع، الذي لا يديننا على أمور نظريّة حين نقول: أنا أحبّ البشريّة، أحبّ الجميع. كلاّ. نحن نحبّ هذا الشخص. هو لا يديننا حتّى على عبادتنا وصلواتنا. فمن منّا لا يصلّي أقلّه في وقت الضيق، إن لم يكن إكرامًا لله، فأقلّه من أجل حاجة في نفوسنا. لا، لا يديننا الله على عبادتنا.

وسيقول في المزمور 50: من طالبك بالذبائح؟ أترى أحتاج إلى لحم الكباش والعجول؟ كلاّ. الله سيديننا على أعمال بسيطة جدٌّا. هذا ما نفهمه في مشهد الدينونة الأخيرة، في مت 25: 31 - 46.

هناك النظرة الإيجابيّة: كنت جائعًا فأطعمتموني. كونوا مباركين. كنت عطشانًا فسقيتموني، تعالوا يا مباركي أبي. ثمّ يقول: كنت غريبًا فما آويتموني، ومحبوسًا فما زرتموني. تلك هي النظرة السلبيّة. لهذا قال لهم يسوع: أنا لا أعرفكم. اذهبوا عنّي يا ملاعين إلى نار الأبد.

على هذا ستكون دينونتنا. على المحبّة العمليّة، على المحبّة اليوميّة، على مساعدة بعضنا بعضًا ولا سيّما مساعدة الفقراء والصغار والسجناء والمتألّمين والمرضى. إذا تعرّفنا إلى الصغار في هذا العالم، تعرّف إلينا الربّ في يوم الدينونة. فهو يقول لنا: كلّ ما فعلتموه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي فعلتموه. فهينيئًا لنا. ولكن لا سمح الله، سيقول أيضًا العكس: كلّ ما لم تفعلوه مع أحد إخوتي هؤلاء الصغار فمعي لم تفعلوه. فلماذا نغشّ أنفسنا؟ محبّة الله تتجسّد في محبّة القريب.

في هذا الإطار يقول يوحنّا في رسالته الأولى طالبًا منّا أن نضحّي بنفوسنا لأجل إخوتنا: من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه فكيف تثبت محبّة الله فيه؟ ويتابع الرسول كلامه: يا أبنائي، لا تكن محبّتنا بالكلام أو باللسان بل بالعمل والحقّ.

كم نبتسم حين نسمع أشخاصًا يقولون: أنا أحبّ البشريّة بشكل عامّ. ولكن نسأله: أخوك الذي بقربك أتحبّه؟ يا ليت الجواب يكون نعم. وهناك أشخاص يقولون: أنا أحبّ الإحسان، أحبّ الصدقة، أحبّ العيش بحسب ديني، لا بأس. ولكن هل أحسنت إلى أحد؟ هل عرفت أن تكتشف حاجة عند أخيك؟ إذا كان جوابك نعم فهنيئًا لك. وإلاّ فأنت كاذب مثل الفرّيسيّين الذين يقولون ولا يفعلون. وهكذا يلتقي المسيحيّ مع كلّ إنسان على الأرض. بل إنّ كلّ إنسان يصبح للمسيح تلميذ المسيح، إن هو مارس تلك المحبّة الأخويّة البسيطة.

7 - المحبّة أعمال

نتذكّر هنا كلام بولس بالنسبة إلى الختان: إن عشت بحسب الشريعة فأنت مختون. ولكن وإن كنت يهوديٌّا ولم تعش بحسب الشريعة، صارت ختانتك لاختانًا. في هذا المجال يحذّرنا القدّيس يعقوب من إيمان بغير أعمال، فنكون كشجرة بدون ثمرة. هذا يعني أنّه إن لم يكن عندنا ثمر، فلا إيمان لنا. وإن كان لنا من إيمان، كما نظنّ، فهو ميت عقيم. ويقول لنا يعقوب: الشياطين أيضًا يؤمنون وأعمالهم أعمال الشرّ.

وكيف نعرف إن كان عندنا إيمان أم لا؟ عند ذاك يقول لنا يعقوب: فلو كان فيكم أخ عريان أو أخت عريانة ولا قوت لهما، فماذا ينفع قولكم لهما: اذهبا بسلام استدفئا واشبعا، إذا كنتما لا تعطونهما شيئًا ممّا يحتاج إليه الجسد؟

أحبّائي، توقّفنا طويلاً عند المحبّة العمليّة التي تعلّمنا الإحسان والصدقة ومساعدة القريب في حاجاته المادّيّة. ولكن المحبّة الأخويّة ومحبّتنا بعضنا لبعض، واسعة وسع الكون. على المستوى المادّيّ والروحيّ، على مستوى علاقاتنا مع إخوتنا في الأمور العاديّة اليوميّة. هنا نتذكّر الإرشادات العديدة التي جعلها بولس الرسول بشكل خاصّ في نهاية رسائله. نقرأ مثلاً في الرسالة إلى أفسس:

»امتنعوا عن الكذب، وليتكلّم كلّ واحد كلام الصدق مع قريبه. إذا غضبتم لا تخطأوا، ولا تغرب الشمس على غضبكم. تخلّصوا من كلّ حقد ونقمة وغضب وصياح وشتيمة وما إلى ذلك من الشرور. ليكن بعضكم لبعض ملاطِفًا رحيمًا غافرًا كما غفر الله لكم في المسيح«. فالرحمة والحنان أفضل تعبير عن المحبّة العمليّة.

8 - الرحمة والحنان

ولمّا حدّثنا يسوع عن السامريّ الصالح قال عنه: تحنّن على الجريح، تحرّكت أحشاؤه. فقساوة القلب، والقساوة في الكلام، والقساوة في التصرّف، كلّ هذا يدلّ على ابتعادنا عن الإله الذي يشرق شمسه على الأشرار والأخيار، ويسكب غيثه على الأبرار والفجّار.

والمغفرة هي المحبّة العظيمة التي تدلّ على محبّة الله في قلوبنا. فإن كنّا لا نعرف أن نغفر، فهذا يعني أنّ قلوبنا لا تستطيع أن تتقبّل غفران الله.

لهذا قال لنا الربّ: إن كنتم لا تغفرون للناس زلاّتهم فأبوكم السماويّ لا يغفر لكم زلاّتكم. هو لا يقدر،لأنّكم لا تريدون. أمّا إذا غفرتم فهو يغفر لكم. عند ذاك يحقّ لكم أن تصلّوا قائلين: أبانا الذي في السماوات اغفر لنا كما نحن غفرنا.

إخوتي، تلك هي المحبّة الأخويّة التي هي امتداد لمحبّة الله. تبدأ بين الأخ وأخيه، والأخت وأختها، والكنّة وحماتها، بين الأقارب والأهل وأبناء المحلّة والقرية، وتمتدّ وتتوسّع فتصل إلى الكون كلّه.

هذه المحبّة لا تعرف قريبًا ولا غريبًا، لا تعرف صغيرًا ولا كبيرًا، لا تعرف غنيٌّا ولا فقيرًا. ففي وقت من الأوقات كلّ واحد منّا يحتاج إلى محبّة أخيه. فيا ليتنا أولئك المؤمنون الذين يأخذ الربّ قلبهم، فيحبّ به الناس. يأخذ يدهم ليعطي بها. يأخذ فمهم ليقول به كلام البنيان. يا ليت الربّ يأخذنا كلّنا لنكون عطيّة منه إلى كلّ جائع وعطشان إلى كلّ بائس وحزين. حينئذ يقول لنا: أنا أعرفكم من أين أنتم، تعالوا يا مباركي أبي. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM