أحبب الربّ إلهك

 

أحبب الربّ إلهك

إخوتي، أخواتي، بعد هذه القراءة للوصايا العشر كما وردت في سفر الخروج الفصل 20 من 1 إلى 17، نعود ونُجملها في حديثين: الأوّل: أحبب الربّ إلهك. والثاني: أحبب قريبك كنفسك. أمّا حديثنا اليوم فهو أحبب الربّ إلهك الذي يلخّص الآيات الأولى في الفصل 20 من سفر الخروج.

وتكلّم الربّ فقال: »أنا الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر من دار العبوديّة. لا يكن لك آلهة سواي، لا تصنع لك تمثالاً منحوتًا ولا صورة شيء ممّا في السماء من فوق ولا ممّا في الأرض من تحت ولا ممّا في المياه من تحت الأرض. لا تسجد لها ولا تعبدها لأنّي أنا الربّ إلهك، إله غيور أعاقب ذنوب الآباء في الأبناء إلى الجيل الثالث والرابع ممّن يبغضونني. وأرحم إلى ألوف الأجيال من يحبّونني ويعملون بوصاياي. لا تحلف باسم الربّ إلهك باطلاً لأنّ الربّ لا يبرّر من يحلف باسمه باطلاً. اذكر يوم السبت وكرّسه لي«.

قرأنا، إخوتي، سفر الخروج 20: 1 - 8، وقلنا: كلّ هذا يتلخّص في وصيّة واحدة: أحبب الربّ إلهك.

1 - الوصيّة العظمى

مرّة من المرّات جاؤوا يسألون يسوع وقد كانت لديهم 613 وصيّة: ما هي الوصيّة العظمى والأولى؟ قال يسوع: أن تحبّ الربّ إلهك من كلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك. فالله هو محبّة، وهو لا يريد أن نتعامل معه إلاّ على مستوى المحبّة. إذًا قضايا العقاب والله يضرب والله يحطّم، كلّ هذا يأتي في الدرجة الخامسة أو العاشرة إذا كان بعدُ له مكان عندما نقول الله محبّة.

نعم ا؟ محبّة وهو لا يريد أن نتعامل معه إلاّ على مستوى المحبّة. ولكن كيف نستطيع أن نرتفع إلى هذا المستوى ونحن مجبولون بالأنانيّة وحبّ الذات؟ كان القدّيس أوغسطينس يقول: هناك حبّ ا؟ حتّى بغض الذات. وبغض الذات حتّى حبّ الله. يبقى علينا أن نطهّر كلّ نظرة بشريّة فينا حتّى نقبل سرّ حبّ ا؟، مع العلم بأنّ هذا الحبّ يمرّ في الصليب. إنّ هذا الحبّ لا حدود له على ما قاله لنا يسوع في بداية مسيرته إلى ساعة الألم والموت والمجد. قال يوحنّا: لمّا علم يسوع أنّ ساعته قد أتت لينطلق من هذا العالم إلى الآب، أحبّ خاصّته، أحبّهم حتّى الغاية.

نعم هناك حبّ يصل بنا إلى بغض الذات، وهناك بغض الله الذي يصل بنا إلى حبّ الذات. ونحن نختار بين حبّ وحبّ. يجب أن نحبّ الله لأنّه هو أحبّنا أوّلاً وأرسل ابنه كفّارة عنّا. منذ البداية بدأت هذه المحبّة، منذ أوّل لفظة في عمل الخلق. فإن كان الله قد خلقنا فلأنّه أحبّنا. وقد قال مثلاً لإرميا: قبل أن تُصوَّر في الحشا، عرفتك واحببتك.

نلاحظ هذه المجّانيّة في الحبّ. وما قاله الربّ لإرميا يستطيع أن يقوله لكلّ واحد منّا. في الحشا عرفتك وأحببتك. يعني قبل أن تقوم بأيّ عمل صالح. إذا كان الكتاب تحدّث عن إبراهيم وما قاله لابنه من التعابير المليئة بالعاطفة، ابنك، وحيدك، إسحق الذي تحبّه، فكم يكون حبّ الله الذي يقول لنا الكتاب: إنّ أحشاءه أحشاء أمّ.

2 - اكتشاف حبّ الله

نحن نكتشف حبّ الله في أشخاص دعاهم الله فلبّوا الدعوة. دعا إبراهيم فسُمّي خليل الله، صديق الله، حبيب الله دعا موسى، فعاش موسى في حياة حميمة معه. كان يكلّمه وجهًا لوجه كما يكلّم الإنسان صاحبه. وهناك عبارة في بداية سفر التكوين تتحدّث عن الله الذي يتمشّى في الجنّة، جنّة قصره وفردوسه عند برودة المساء (تك 3: 8). أترى الله كان يمشي وحده؟ ربّما. ولكن أظنّ أنّه كان يمشي مع آدم ويخطّط معه من أجل عالم من الجمال والسعادة.

هكذا سيفعل يسوع مع تلميذي عمّاوس اللذين يئسا من كلّ شيء وسارا في ذاك الليل لا يعرفان أين تنتهي بهما الطريق. في الواقع انتهت في عمّاوس. بل من هناك ابتدأت في عودة إلى أورشليم، إلى الإخوة. تلك هي مسيرة الربّ مع كلّ واحد منّا. والأنبياء عرفوا محبّة الله. فاعتبر عاموس أنّه نجيّ الله، يناجيه وقد أحبّه حبٌّا شخصيٌّا، جعله يختاره ويرسله من الجنوب إلى الشمال. حبّ الله يمزّق قلب إرميا، ولكنّه يملأه في الوقت عينه بفرح عميق، أين منه أفراح هذه الدنيا.

شهد هوشع وإرميا وحزقيال مأساة حبّ الله الذي ينقلب غضبًا ورفضًا لما يحدث بينه وبين شعبه، بل بينه وبين كلّ واحد من أفراد هذا الشعب. هو العريس الذي يرى عروسه تخون حبّه، حبّ الغيرة، وهو لا يريد أن يشاركه أحد في هذا الحبّ. ومع ذلك فلا يجد إلاّ الخيانة ونكران الجميل. هل يعاقب الله الإنسان بعد ذلك؟ ولكن الحبّ في الله أقوى من كلّ خطيئة، ولهذا فهو يغفر ويخلق في شعبه قلبًا جديدًا، قلبًا يعرف كيف يحبّ. لم تكن عروسه مرحومة، لم تكن محبوبة، أمّا اليوم فقد صارت حبيبتي كما يقول الربّ في هوشع. وقال في إرميا: أحببتك حبٌّا أبديٌّا، لهذا اجتذبتك بالحبّ وأنا سأبنيك فتُبنَين يا أورشليم.

3 - الشعب عروس لعريس وابنٌ لأب

ويتحدّث الربّ عن شعبه كابن عزيز عليه، كولد يُسرّه. وحين يتذكّره تتحرّك له أحشاؤه. ويحدّث الربّ شعبه كما يحدّث الزوج زوجته: »أنا أذكر عهدي معك فتعلمين أنّي أنا الربّ وتتذكّرين فتستحين من نفسك ولا تعودين تفتحين فمك بعد أن غفرتُ لك كلّ ما فعلت«. ولكنّ الشعب ما زال يتعلّق بالأصنام. هو يستطيع أن يراها، ولكنّه لا يرى الله. يستطيع أن يلمسها ساعة لا يلمس الله فالله يبدو بعيدًا عن العيون، عن الآذان، عن القلب، عن اللمس.

هذه الأصنام هي بين أيدينا. وإن استعملناها، صار الله كأنّه بين أيدينا بحيث لا نعود نخاف منه. واعتبر الشعب أنّ بعل هو الإله الذي يعطي المطر، يعطي الخصب. لذلك ترك معبد الربّ وذهب إلى معابد البعل التي كانت منتشرة في أرض كنعان، من مصر إلى تركيا. وهكذا نقول عن سائر الآلهة. أجل، أضاع الشعب إلهه بين الآلهة المتعدّدة، واعتبر أنّ مصالحه تنمو مع الدول المجاورة وآلهتها. فكان يعرج بين الجانبين كما قال له إيليّا: تارة يعبد الله وطورًا البعل.

لم يعرف هذا الشعب أنّ حبّ الله له حبّ مجانيّ. هو لم يكن يستحقّ كلّ ما فعله لأجله، ومع ذلك فقد فعل له ما فعل. يبقى على الشعب أن يحبّ الربّ بكلّ قلبه، ويعبّر عن هذا الحبّ بأفعال العبادة والطاعة التي تفرض اختيارًا جذريٌّا، التي تطلب تمزّق القلب المتعلّق بأمور وأمور.

4 - جواب الحبّ على الحبّ

نعم هناك اختيار، يُنتج الردّ من قبلنا لنعطي ذواتنا. قال الربّ لموسى على جبل موآب: احذر أن تنسى الأمور التي رأتها عيناك: لا تصنع لك تمثالاً أو صورة إنسان ذكر أو أنثى ولا صورة حيوان. لا ترفع طرفك إلى السماء فتعبد الشمس والقمر والكواكب، وتنتظر منها أن تقرّر مصيرك. ولكن كلّ هذا يبقى صعبًا إن لم يحوّل الربّ قلب شعبه، فيقول المرتّل (مز 51: 12): قلبًا نقيٌّا اخلق فيّ يا ألله، وروحًا مستقيمًا جدّد في أحشائي.

أجل يجب أن ينزع الله من صدرنا قلب الحجر ويجعل مكانه قلبًا من لحم. عند ذاك نعرف رسوم الله وشرائعه.وهذه المحبّة التي ربطت بين الله والبشر في العهد القديم عبر عدد من الوقائع، سيفهمها أبناء العهد الجديد. أحبّ الله تقيّه، فردّ تقيُّه معلنًا حبّه لربّه. نعم دائمًا المبادرة هي ؟ وهو الذي يبدأ ويحبّ، ويدعونا لأن نحبّ. أحبّ الله الأتقياء فردّ الأتقياء وهم يعلنون حبّهم لربّهم. قال مز 73: 25: »من لي في السماء سواك وعلى الأرض لا أبغي أحدًا غيرك«.

هذه المحبّة قد ظهرت في مجيء الابن على الأرض. هكذا أحبّ الله العالم حتّى إنّه أرسل ابنه الوحيد بحيث لا يهلك من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبديّة. (يو 3: 16). وحبّ يسوع هذا للآب قاده إلى حبّ إخوته، قاده إلى الصلب والموت. وهو مثال لنا يعلّمنا كيف نقابل الحبّ بالحبّ. من يحبّني يحفظ وصاياي وأبي يحبّه وإليه نأتي وعنده نصنع منزلاً. وما هي الوصيّة؟: »أحبّوا بعضكم بعضًا مثلما أنا أحبّكم«. ونحن نقتدي بيسوع ونكون تلاميذه حين نحبّ بعضنا بعضًا. ويتابع القدّيس يوحنّا: أجل الله لم يره أحد قطّ، ولكن إذا عشنا المحبّة كان الله حاضرًا فينا، كان معنا. لا ننسَ أنّ الله هو محبّة، وحيث تكون المحبّة هناك يكون الله. ومحبّتنا لإخوتنا هي المعيار الحقيقيّ لمحبّتنا لله.

5 - من محبّة إلى محبّة

قال يسوع: حيث يجتمع اثنان أو ثلاثة يكون الربّ معهم. هنا نفهم أنّ المعيار الحقيقيّ لأخوّتنا، هو محبّتنا لله. فلا نغشّ أنفسنا. قال يوحنّا في رسالته الأولى. من قال أنا أحبّ الله وهو لا يحبّ أخاه، هو كاذب. فكيف يستطيع أن يحبّ الله وهو لا يحبّ أخاه. هو كاذب. فكيف يستطيع أن يحبّ الله الذي لا يُرى، ولا يحبّ أخاه؟ الذي يراه؟ واستخلص الرسول النتيجة وصيّة المسيح لنا هي: من أحبّ الله أحبّ أخاه أيضًا.

هنا لا نستطيع أن نكذب، لا نستطيع أن نتكلّم عن المحبّة بشكل عامّ. كلاّ. المحبّة هي أمر عمليّ نعيشه يومًا بعد يوم. فإن كانت تنبع يومًا بعد يوم، فلا يمكن إلاّ أن تثمر أعمال محبّة. اعتاد الناس مرارًا أن يعوّضوا عن محبّة ناقصة أو غائبة، بطريقة من الطرق في أعمال العبادة والصلاة لكي ينسوا ما به ظلموا إخوتهم، لكي لا تحنّ أحشاؤهم على الذين حولهم. لهذا نسمع الربّ بلسان الأنبياء يرفض الذبائح والعشور من أيدٍ مملوءة بالدماء. فيقول مثلاً بلسان إشعيا: حين تبسطون أيديكم للصلاة أحجب عينيّ عنكم لئلاّ أراكم. وحين تُكثرون من الصلاة أصمّ أذنيّ لئلاّ أستمع لكم. لماذا؟ لأنّ أيديكم مملوءة بالدماء.

إنّ هذا المؤمن أراد أن يُخفي عمله، عمل السرقة، عمل القتل وغيرها من الأمور، فاعتبر أنّه يعوّض على ذلك بالصلاة. كلاّ، قال الربّ: لا أستمع لكم. لماذا؟ لأنّ أيديكم مملوءة بالدماء. فما العمل؟ اغتسلوا، تطهّروا. وكيف ذلك؟ بشكل سلبيّ، أزيلوا أعمالكم الشرّيرة من أمام عينيّ ولا تعودوا تُسيئون إلى إخوتكم. وبشكل إيجابيّ، تعلّموا الإحسان والصدقة للمحتاج. كونوا عادلين في معاملتكم للغير. أغيثوا المظلوم، انصروا المظلوم، حاموا عن الأرملة. عند ذاك، لو كانت خطاياكم مثل القرمز تبيضُّ كالثلج، ولو كانت حمراء كصبغ الدود تصير بيضاء كالصوف.

نعم، أحبّائي، هكذا نحبّ الربّ من كلّ قلبنا من كلّ نفسنا ومن كلّ قدرتنا. هكذا نعيش معه عيش الصديق مع صديقه والحبيب مع حبيبه. تكون محبّتنا علاقة حميمة نعيشها في الصلاة والتأمّل والشكر والمديح. ونعيشها في محبّة للقريب. فإذا كانت الوصيّة الأولى تدعونا إلى أن نحبّ الله، فالوصيّة الثانية تشبهها وتكمِّلها وهي تدعونا لأن نحبّ القريب. هكذا تكون محبّتنا كاملة، هكذا تكون محبّتنا صادقة لا غشّ فيها ولا رياء. وإلاّ قال لنا يسوع: لا أعرفكم من أين أنتم.

وهكذا بدت المحبّة، محبّتنا لله النابعة من قلب الربّ. الربّ هو الذي بدأ فأحبّنا، وهو يدعونا إلى أن نحبّه. يدعونا أن نقابل المحبّة بالمحبّة، بصلاة عميقة، بصلاة شخصيّة، في تضحية على مثال المسيح الذي سارت به التضحية حتّى الموت. هكذا نحبّ الله من كلّ قلبنا وكلّ نفسنا وكلّ قدرتنا. فلا نترك شيئًا لنا. وحين لا نترك كلّ شيء لنا، نمتلك الربّ الذي يستعدّ بعد أن أفرغْنا قلوبنا من أشياء وأشياء، أن يقيم بيننا وفينا، أن يملأنا بحضوره، أن يملأنا بحياته. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM