حضور الله نور وحياة

 

 

حضور الله نور وحياة

1- الله هو الحاضر

أحبّائي، ما زلنا في سفر الخروج وفي الوصايا العشر، وما زلنا في الوصيّة الأولى: أنا الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من دار العبوديّة. أنا هو الربّ إلهك، لا يكن لك إله غيري. هذه الوصيّة تعني في النهاية أنّ الله هو الحاضر. »أنا هو«. هكذا سمّى الله نفسه أمام موسى. »أنا يهوه«. يهوه تقابل بالعربيّ: هو. وهذا الكلام الذي سيقوله يسوع، سيدلّ على حضوره في العالم وعلى حضوره الإلهيّ. وحين قال الربّ لموسى »أنا هو« يعني، أنا حاضر معك الآن، كما كنت حاضرًا معك في الماضي، وكما سأكون حاضرًا معك غدًا وبعد غد.

وهذا الحضور، حضور الله، هو ظاهر وإن كنّا لا نراه بعيوننا، ولكنّه يفعل. لا نسمعه بأذنينا، ولكنّه يتكلّم. هنا يورد القدّيس يوحنّا، كلام يسوع، حيث يشبّه الروح بالريح، بالهواء. الهواء ينفخ. نحن لا نرى الريح ولا نرى الهواء، ولكنّنا نكتشف النتيجة. الهواء يأتي من الشرق إلى الغرب، نرى الأشجار تتمايل والأوراق تتطاير.

وهكذا نرى حضور الربّ من خلال النتيجة في العالم، في الخلق، في الخلاص، في القدّيسين، في الأشخاص الطيّبين، في كلّ الذين يضحّون بحياتهم من أجل إخوتهم، من أجل بناء عالم يسوده العدل، تسوده المحبّة، يسيطر عليه الاتّفاق. حضور الله ظاهر في كلّ مكان، وإن كان الإنسان لا يدركه. أو هو لا يستطيع أن يدركه، لأنّ لا إيمان عنده. أو لا يريد أن يدركه لأنّه يرفض، لأنّه يريد أن ينعزل على مستوى الأرض.

إنسانٌ لا يريد أن يرتفع إلى أعلى من ا؟، يشبه الدجاجة والهرّة والكلب وغيرها من الحيوان، الذي يكتفي بالطعام والشراب والراحة. أمّا الإنسان فهو أرفع من كلّ هذا، هو يرتفع إلى مستوى ا؟. إن شاء، يستطيع أن يُدرك الله. يقول المزمور 139: إن صعدنا إلى السماء فا؟ هو هناك. وإن كان الإنسان مع الموتى في القبور فالله حاضر معه. إن حسبنا نفوسنا في الظلمة والله لا يرانا، فنورُه يحوّل الظلمة إلى نور، ويجعل الليلَ يضيء كالنهار.

2 - الله نور

نلاحظ هنا كيف أنّ حضور الله يظهر، وكيف يبدّل الأمور. الظلمة تتحوّل إلى نور، الليل يتحوّل إلى نهار. هذا ما حدث بالنسبة إلى الشعب العبرانيّ. نحن هنا في الرمز بلا شكّ. الشعب العبرانيّ السائر في البرّيّة. كان نورُ الربّ يسير أمامه، يضيء له الطريق. ويقول النصّ: حضور الربّ كان نورًا بالنسبة للشعب العبرانيّ، وكان ظلامًا بالنسبة إلى الشعب المصريّ. هنا لا نقابل بين شعب وشعب، لكنّ الشعب العبرانيّ المرتبط بالله نَعِمَ بنور الله. والشعب المصريّ الذي كان في ذلك الوقت مرتبطًا بالأوثان والأصنام، صار نور الربّ بالنسبة إليه ظلامًا. وعلى أيّ حال، ذاك هو وضعنا، أحبّائي، اليوم. من عرف أن يسير بهَديِ الربّ، أن يسير بكلمة الربّ، فالربّ يضيء له طريقه.

لهذا يقول المزمور 119: »كلمتك مصباح لخطاي ونور لسبيلي«. كلمة الله تكفي لكي تضيء طريقي، لكي تضيء سبيلي. وهذا أمر مهمّ جدٌّا، حتّى في أمورنا المادّيّة. يا ليتنا نعود إلى نور الربّ، نستلهمه تصرّفاتنا؟ وخصوصًا عندما نأخذ موقفًا يحرّك كلّ حياتنا، يوجّه كلّ حياتنا على مستوى الزواج مثلاً أو على مستوى اختبار الحياة الكهنوتيّة، الحياة الرهبانيّة أو تبديل وظيفة.

هناك أمور عديدة نحتاج فيها إلى نور يتعدّى نور البشر، يتعدّى النور العاديّ. النور العاديّ يوصلنا إلى خمسين مترًا، مئة متر فقط. في الليل، عندما يكون السائق وراء مقوده، إلى كم يقوده النور؟ مئة متر، مئتين متر، وبعد ذلك. أمّا نور الربّ فهو يضيء له حياته كلّها. فالإنسان يغمره نورُ ا؟، كما تغمر الشمسُ الأرض. ونقول الشيء عينه عن الله.

3 - الله حياة حياتنا

الله هو حياة حياتنا، حاضر معنا، حاضر في حياتنا وحاضر في مماتنا. في السماء: نحن معه، في القبر: هو معنا. حتّى في الجحيم ناره حاضرة، ولكنّها نار العقاب لا نار الثواب والمكافأة. في الظلمة: الله معنا، في النور الله معنا، في الحزن: الله معنا، في الموت: الله معنا، في الحياة: الله معنا.

وهذه الفكرة نكتشفها خصوصًا في المزمور 73: تمسكني بيدي اليمنى وإلى المجد تأخذني. الربّ يمسك بيدنا. كيفما مشينا هو يمسكنا بيدنا. ولماذا نخاف بعد ذلك؟ وعلى من يجب أن نتّكل إلاّ عليه؟ يده تهدينا، عينه تُمسكنا. إذا انتبهنا، أحبّائي، قلبنا الكلمات: اليد هي التي تمسك، والعين هي التي تهدي. ولكنّنا قلنا: يده تهدينا، عينه تمسكنا، لأنّ عمل الله ليس كعمل البشر.

ونعطي هذا المثل حين تمسك الأمّ طفلها. حين الإنسان يكون في حضن أبيه، في حضن أمّه، فممّ يخاف بعد ذلك؟ وهو الذي جبل الإنسان، جبل عواطفه، نسج الطفل في حشى أمّه، لهذا نعترف له. الله قال: أنا هو. إذًا هو حاضر، هو يتكلّم، هو الإله الحيّ، حاضر.

هناك حضور وحضور. حجر بقرب حجر حاضران، شجرة بقرب شجرة حاضرة، رجل أو امرأة بجانب رجل أو امرأة في وسيلة من وسائل النقل حاضران، جسمي يلامس جسمًا آخر غريبًا عنّي، لا أعرفه، لا أكلّمه، لا أنظر إليه، ولا يحقّ لي أن أنظر إليه. هذا حضور جماد. ولكن حين يحضر الربّ فهو يتكلّم. يعني يجعل علاقة بيني وبينه. وأخيرًا عندما يكون الله حاضرًا، فهو الإله الحيّ الذي ينفحني بالحياة.

من هنا يردّد الكاتب مرارًا: حيّ الله، يهوه هو الحيّ، يفترق عن آلهة الأمم الجامدة، التي لها عيون ولا ترى، وآذان ولا تسمع، وأفواه ولا تتكلّم. هذا الكلام ردّده الشعب عندما فهم أن لا إله إلاّ الإله الواحد، الإله الذي يعبدونه. أمّا آلهة الأمم المجسَّمة في الخشب والحجر والمعادن، فهذه الآلهة ليست بشيء. ويتابع إشعيا فيقول: أمّا الله فهو الذي لا يتعب ولا يحسّ بالعياء، هو مستعدّ أن يعمل دومًا من أجل شعبه، من أجل كلّ واحد منّا. ويقول المزمور 121: الربّ لا ينعس ولا ينام.

4 - الله القدُّوس

لمّا كان إيليّا على جبل الكرمل مع عبّاد البعل، قال لهم: اهتفوا، اصرخوا، صوّتوا، ربّما إلهكم ينام أو هو بعيد، لا يسمعكم، أمّا إلهنا فلا ينعس ولا ينام ولا هو الإله البعيد. ذُلّ شعبه فرآه، صرخ شعبه فسمعه. وهذا ما يمكن اليوم أيضًا أن نعرفه، في الذلّ، في الفقر، في الضعف، في الضيق، في الخطيئة، الربّ يرانا. نصرخ إليه فيسمعنا.

لهذا السبب في سفر أيّوب، صرخ أيّوب إلى الله، فسمع الله صوت أيّوب. أمّا الحكماء الثلاثة فلم يصرخوا إلى الله، فقط تكلّموا عن الله، والصرخة عادةً هي صرخة الإنسان المتألّم. تألّم شعبه فعلم الربّ بألمه واتّخذ قراره: سوف يرسل من يخلّص شعبه. »أنا هو«. الله هو حاضر، الله هو الذي يتكلّم، الله هو الإله الحيّ، الله هو الذي يفعل.

وأخيرًا، الله هو القدّوس. يعني الملتحف بالقداسة. والقداسة تعني أن يكون الشيء بعيدًا عن الآخرين، يعني لا يُستعمل كما يُستعمل كلّ شيء. مثلاً نقول: الكنيسة مقدّسة، المعبد مقدّس. يعني لا نستعمله الاستعمال العاديّ. هو مخصّص لله، وحين نقول الله القدّوس، يعني ليس هو مع كلّ شيء، مع الآلهة الجامدة، ليس مع البشر. هو فوق البشر.

إن هو شاء، صار قريبًا من البشر. لكن عمليٌّا، هو القداسة بالذات والبشر خاطئون. إذا الربّ ابتعد عن البشر، فالبشر يأتون إليه. هو ينقّيهم لكي يأتوا إليه، هو يطلب منّا أن نكون قدّيسين. نتذكّر هنا مسيرة البرّيّة، هذا الرمز الجميل عن الربّ. هناك صورتان: صورة أولى، خيمته وسط خيام الجماعة: يدلّ على أنّه قريب من كلّ واحد في الجماعة. وفي تقليد آخر، خيمته على حدود الجماعة، ليدلّ على أنّه ليس واحدًا منهم. هم يأتون إليه، هم يتقدّسون به.

لهذا، فالقداسة تجعل الله يسمو على البشر سموٌّا لا حدود له، وهذه القداسة تجعل هوّة بينه وبين البشر. نعم، نحن لسنا على مستوى الله، هو المتسامي، هو المتعالي، هو فوق الغيوم، فوق كلّ شيء.

5 - ولكنّه تنازل

إن هو أراد أن يتنازل، فهذا يتعلّق به لأنّه يحبّنا. لكن لو لم يكن هذا الحبّ عنده، لما تنازل، لما صار قريبًا منّا. يقول يوحنّا: صار بشرًا، أخذ لحمًا ودمًا من لحمنا ودمنا. حبلت به مريم العذراء كما تحبل كلّ أمّ بابنها. لا شكّ هو حبل عجيب، حبل بتوليّ، ولكنّه حبل. لحمه من لحم أمّه، دمه من دم أمّه. أخذ حياته الجسديّة من حياة أمّه.

لا شكّ هو الله في النهاية، ولكن ارتبط يسوع بمريم العذراء. فهي أمّه. لو لم يتجسّد الله، لو لم يصبح واحدًا منّا، لو لم يصبح شبيهًا بنا في كلّ شيء، لما تجرّأنا على الاقتراب منه. أبدًا ثمّ أبدًا. فالكتاب يقول دومًا: الله نارٌ محرقة، لا نستطيع أن نقترب منه. ولكنّ الكتاب يريد أن يبيّن لنا أنّ الله هو فوق الإنسان. يقول في هوشع: الله إله وليس بإنسان. يعني لا يتصرّف كما يتصرّف البشر. مثلاً: الإنسان ينتقم. هناك بعض المرّات نقرأ هذه العبارة عن الله، هي عبارة رمزيّة. الله لا ينتقم. الإنسان يعاقب، يغضب. الله لا يفعل بهذه الطريقة.

يختلف الله كلّ الاختلاف عن الإنسان. فالإنسان جسد، بشر، لحم ودم. الإنسان سريع العطب كالعشب، أمّا الله فباقٍ إلى الأبد. نتذكّر كلّ هذه الكلمات التي يقولها إشعيا النبيّ، فيدلّ على الإنسان الضعيف الذاهب إلى الزوال، الذاهب إلى الموت. أمّا الله فهو »هو« باقٍ إلى الأبد. سنوه لا تنتهي. ومع ذلك، هذا الإله القدّوس أراد أن يصبح منّا.

هذا هو سرّ التجسّد العجيب. الله صار إنسانًا. هو أراد. هذا لا يعني أنّه تخلّى عن لاهوته، ولكنّه أخذ منّا ليعطينا ما له. أخذ منّا جسدنا البشريّ ليعطينا من لاهوته. صار ابنَ البشر ليجعلنا أبناء الله. إذًا الله القدّوس هو بعيدٌ عن الإنسان، ولكنّه صار قريبًا في يسوع المسيح.

6 - العهد القديم على ضوء الجديد

هنا، كي نقرأ العهد القديم يجب أن نقرأه على ضوء العهد الجديد. فالمعاني لا تكتمل إلاّ على ضوء العهد الجديد. مثلاً في سفر التكوين الفصل 3: وكان الله يتمشّى في الجنّة عند المساء. يتمشّى وحده؟ كلاّ. يجب أن نضيف: يتمشّى مع آدم وحوّاء. يتمشّى مع أوّل عائلة. يتمشّى مع كلّ عائلاتنا. أما هكذا فعل يسوع مع تلميذَي عمّاوس؟ تمشّى معهما، سار معهما من أورشليم إلى عمّاوس.

وكلّ مرّة نقرأ هذه الأمور التي تجعل ا؟ قريبًا من الإنسان، نقرأها على ضوء العهد الجديد وإلاّ لا معنى لها أبدًا. ففي العهد القديم وفي ديانات عديدة حتّى التوحيديّة منها، الله هو البعيد البعيد، ولا يمكن أن يقترب من البشر. الله هو الذي يتكلّم ولا يحاور. فالإنسان يخضع ويطيع كما العبد يطيع سيّده. أمّا إلهنا فهو إله الحوار، يتكلّم معنا، يُصغي إلى إحتجاجاتنا، يسمع ثورتنا عليه، يتقبّلها كما الأب يتقبّل كلام ابنه، ويساعدنا شيئًا فشيئًا لكيّ نحوّل هذه الثورة فينا إلى عمل جديد، إلى انطلاقة جديدة.

بعض المرّات هناك انتقام، بحث عن انتقام، عن غضب، عن أخذ الثأر من الآخرين. يسمعنا الربّ وإن كان لا يريد هذا. يسمعنا، ويحوّل انتقامنا إلى مغفرة، وحبّ الثأر إلى محبّة. أجل الله هو السامي الرفيع، لكنّه تنازل بيسوع ليرفع ضعفنا. تقول الرسالة إلى العبرانيّين: لم يستحِ أن يسمّيهم إخوته. أجل، هو لم يستحِ أن يسمّينا إخوته. تألّم آلامنا، مات موتنا. الله هو البعيد. الله هو روح. لكنّه صار لنا في يسوع المسيح جسدًا وسكن بيننا.

7 - الإله البعيد القريب

هذا هو إلهنا البعيد إذا شئنا، ولكنّه القريب. لماذا نقول البعيد؟ لئلاّ نحسبه صنمًا من الأصنام، نجعله بين أيدينا، نجعله تحت أمرنا، نجعله خادمًا لنا. لهذا نفهم أنّه البعيد. يعني لا نستطيع أن نمسكه. وهذا واضح جدٌّا في نشيد الأناشيد. ساعة تعتبر الحبيبة أنّها أمسكت حبيبها، أنّها أمسكت الربّ، أنّ الربّ أصبح في عهدتها، فإذا هي يُطلب منها أن تبحث عنه من جديد.

وهذا أيضًا ما حدث بالنسبة إلى تلميذَي عمّاوس: حين وصلا إلى عمّاوس وكسر يسوع الخبز، عرفاه. ظنّا أنّهما معه كما كان في الماضي، يعني قبل موته وقيامته. ويقول الإنجيل: حين عرفاه اختفى. اختفى، فذهبا من جديد يبحثان عنه وبحثا عنه في الجماعة التي كانت ملتئمة في أورشليم، في العليّة، خوفًا من اليهود. هو قريب ولكنّه بعيد في الوقت ذاته، ليجعلنا دومًا نبحث عنه. وساعة نعتبر أنّنا وجدناه، فنحن سنطلبه، وسنطلبه أيضًا لأنّنا لا نستطيع أبدًا أن نستنفده. فهو الإله الذي يطلب منّا البحث بعد البحث كما يقول أحد الفلاسفة: بما أنّه اللا محدود، فنحن نحتاج إلى محاولات لا محدودة حتّى نقترب منه.

هذا، أحبّائي، هو معنى الوصيّة الأولى التي تأمّلنا فيها على أربع حلقات. »أنا هو الربّ إلهك. أنا هو الحاضر، أنا هو الكائن«. هذا ما يقوله الربّ. أمّا نحن، فليكن جوابنا: »لا نريد إلهًا غيرك، أنت أحببتنا نريد أن نحبّك، أنت أصبحت إنسانًا مثلنا فافعل فينا حتّى ترفعنا إلى لاهوتك، نحن أبناء البشر، اجعلنا أبناءً معك، يا يسوع المسيح الذي »صار لنا حكمةً وبرٌّا وقداسة«. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM