إله الخلق وإله الخلاص

 

إله الخلق وإله الخلاص

1- أين هو الله؟

أحبّائي، نحن في جوّ سفر الخروج ومع الوصايا العشر. سفر الخروج ف 20. وتكلّم الربّ فقال: أنا الربّ إلهك ... لا يكن لك آلهة سواي. مع حلقة ثالثة، ما زلنا في قلب الوصيّة الأولى: أنا الربّ إلهك. فهذه الوصيّة الأولى هي أساس كلّ الوصايا. وحين لا تعود هذه الوصيّة حاضرة، فلا حاجة إلى وصايا أخرى، فهي تسند جميع الوصايا. في الواقع الوصيّة هي نداء من عند الله. هي كلام من الله. لهذا تسمّى الوصيّة في الكتاب المقدّس، الكلمة. والوصايا العشر اسمها الكلمات العشر.

إذًا الوصيّة هي كلمة الله. فمن لا يؤمن بالله لا يستطيع أن يسمع كلمة الله. ومن لا يسمع كلمة الله لا مفهوم له عن الخطيئة. الخطيئة تعني أنّ هذا الإنسان عرف إرادة الله، عرف وصيّة الله، عرف كلمة الله. وهذه الكلمة إنّما تأتي في قلب حياتنا، في قلب تاريخنا. من هنا قال الربّ: »أنا هو الربّ إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من أرض العبوديّة«. طرح الشعب السؤال: أين هو الربّ؟ يريد أن يكلّمنا، يريد أن يُسمعنا صوته، يريدنا أن نسمع صوته، فكيف نفعل؟ أين هو الربّ فهل هو معنا أم لا؟

تلك كانت التجربة الكبرى في حياة الشعب، في البرّيّة، وأمام الصعوبات. لم يكن هناك ماء، لم يكن طعام، الطعام الشهيّ من سمك ولحم. خسروا ما تركوه في مصر. خسروا بصل مصر، بطيخ مصر وغيره من الخضر. أين هو الربّ؟ فكان كلام موسى: الربّ هو حاضر هنا، حاضر في حياتنا، حاضر في حياة شعبه.

2 - إله الوحي وإله الفلسفة

وما نحسّ به الآن إنّما هو امتداد لأوّل عمل خلاص قام به الربّ حين أخرج شعبه من مصر. منذ البداية، سمع الربّ صراخ شعبه. منذ البداية جاء الربّ وخلّص شعبه. تلك هي الخبرة الأساسيّة في الوصايا: خبرة الخروج، خبرة الخلاص الذي حمله الله لشعبه.

هنا، أحبّائي، من الأهمّيّة أن نفهم وننطلق في مسيرتنا مع الربّ من خبرة خلاص. كلّ واحد منّا اختبر خلاصًا لدى الربّ، خلاصًا روحيٌّا، خلاصًا مادّيٌّا، الأمر سيّان. لكنّ هناك خلاصًا في الأساس. فبدون خبرة في البداية، لا يمكن أن نتحدّث عن الله الحاضر في حياتنا. الله هو الذي سمع صراخ شعبه وجاء يخلّصه.

عند ذاك عاد الشعب إلى الأساس. الله ليس فقط ذاك الذي يخلّص بل هو أيضًا ذاك الذي يخلق. في البدء خلق الله السماوات والأرض، خلق النجوم والكواكب والشمس والقمر والنبات والحيوان، وفي النهاية خلق الإنسان. الله خلق منذ البداية، في البدء. هو الوجود منذ الأزل وهو الذي في البدء خلق السماء والأرض. قبله لم يكن شيء، بكلمة الله وُجد كلّ شيء. قال المزمور 33: قال، فكان كلّ شيء، وأمر فخلق كلّ موجود. هذا يعني أنّ الله بكلمة واحدة، بإشارة كما يقول الآباء وخصوصًا أفرام السريانيّ، بإشارة بسيطة، خلق الكون كلّه. والمخلّص هو الخالق. وهكذا دلّ على حضوره.

أجل، أحبّائي، حياتنا مع الله ليست نظريّات: حاول الفلاسفة اليونان من أفلاطون إلى أرسطو، أن يبحثوا انطلاقًا من الفلسفة عن الله. فاكتشفوا مثلاً مع أفلاطون ذاك الذي هناك في الأعالي يُرسل النفس فتقيم في الجسد بعض الوقت كما في سجن أو كما في قبر وتعود إليه. وهكذا يتوق الإنسان العائش على الأرض إلى الحياة مع الله، يتوق إلى المثُل. أرسطو انطلق من الحركة، وانتهى إلى المحرّك الأوّل الذي هو الله. إذا أردتم في عالم السيّارات: هو أوّل محرّك يحرّك البقيّة كلّها معًا، في تسلسل.

مثل هذه النظرة لا يمكن أن تصل بالإنسان إلى الإيمان، لا يمكن أن تصل بالإنسان إلى الصلاة. أبدًا. هي تخلق فيه فراغًا تجعله يفكّر فقط. ولكن خبرة الخلاص والخلق هي التي تقودنا إلى الإله الحيّ، إلى الإله الفاعل في الكون حين يخلق، وفي التاريخ حين يخلّص.

3 - إله البراهين وإله الحضور

أجل الربّ حاضر ووجوده يفرض نفسه. ونتذكّر سفر الحكمة كيف أنّ الإنسان رأى جمال الخليقة، عظمة الخليقة، قوّة الخليقة، ولم يصل إلى عظمة الخالق، إلى جمال الخالق، إلى قوّة الخالق. يا ليته عرف أنّ ربّها أعظم منها، أقوى منها. لهذا يقول الكتاب: »الذين لم يكتشفوا وجود الله لا عذرَ لهم. هم جهّال«.

فالربّ حاضر، ووجودُه يفرض نفسه. الخلق كلّ يوم يحدّثنا عن الله، كما يقول المزمور 19: »السماوات تنطق بمجد الله، والفلك يُخبر بعمل يديه«. اليوم يخبر به اليوم. يوم الثلاثاء يخبر يوم الأربعاء بما فعله الله. ويوم الأربعاء يخبر يوم الخميس بما فعله الله. والليل يخبر الليل. هذا الليل يخبر الليل التالي بما فعله الله.

الله حاضر كخالق، حاضر كمخلّص. وحضوره لا يحتاج إلى شرح وتفسير. في العالم الوسيط، في القرون الوسيطة، أخذوا يبحثون عن براهين تدلّ على وجود الله. مثلاً قالوا: بما أنّ هناك خليقة لا بدّ من وجود خالق. بما أنّ هناك شريعة تفرض ذاتها علينا، لا بدّ أن يكون هناك مشترع. بما أنّ لكلّ شيء غاية، لا بدّ أن يكون الله الغاية.

كلّ هذه الشروح تفيد المؤمن. ولكن لا تصل بنا أبدًا إلى الإيمان. ذاك الذي لا يؤمن يقرأ هذه الأمور، يحفظها غيبًا، يرى ما فيها من منطق، ولكنّه يتوقّف عند هذا المنطق. لكنّ الربّ حاضر. ووجوده يفرض نفسه، هو الحبيب الذي يحدّث كلَّ واحد منّا، يفرض نفسه علينا. ساعة لم نكن ننتظره، نجده في أعماق قلوبنا.

الله ليس فقط حاضرًا كالخالق، ليس فقط حاضرًا كالمخلّص، هو كالمحبّ الذي يبحث عن حبيب، يبحث عن كلّ واحد منّا ليجعله حبيبه، ليجعله عروسه. هو حاضر هنا في أعماق قلوبنا. نتذكّر في هذا المجال جدعون. كان يائسًا من الحالة التي يتخبّط فيها الشعب. أين هو الله؟ أنا لا أراه، لا أرى عمله، هو يتخلّى عن شعبه. ينسى شعبه. قال جدعون: إن كان الله معنا، فلماذا أصابنا هذا كلّه؟ نعم يُطرح السؤال وقتَ الصعوبة، وقتَ الشدّة: أين هو الله؟ سوف يرى جدعون أنّ الله في الواقع هو معنا، رغم ما أصابنا من شرّ ومهما نصل إليه من خلاص.

4 - الله حاضر وإن حسبناه غائبًا

فالربّ هو معنا في الضيق والشدّة، كما في الراحة والعسر، في الحزن والألم، كما في الفرح والسعادة. إذا كان الله معنا، لماذا أصابنا هذا كلّه؟ ولكنّ الله كان في تلك الساعة قريبًا ممّن ظنّه جدعون بعيدًا عنه، بعيدًا عن شعبه. في الواقع كان الله هنا، وهو لم يعرفه وهو لم يره. يحتاج الإنسانُ إلى الإيمان لكي يرى الله. لهذا قال لجدعون: سأكون معك. أنت تنطلق وأنا أنطلق معك، أنت تفعل وأنا أفعل معك.

وخبرة جدعون هي خبرة الرسل بعد القيامة. خبرة تلميذي عمّاوس يسيران في الطريق من أورشليم إلى عمّاوس. ويسوع يسير معهما. ولكنّهما لم يعرفاه. والرسل اختبأوا في العلّيقة، غاب عنهم يسوع، انتهى كلّ شيء، كلاّ، ظنّوا أنّه يجب أن يعودوا إلى عملهم السابق. كانوا صيّادين وسيعودون إلى الصيد. كانت حياة يسوع خبرًا حلوًا عذبًا، وانتهى الخبر ومات يسوع.

ويقول تلميذا عمّاوس: كنّا ننتظر، لكن هذا الانتظار غاب. غير أنّ الله كان على الشاطئ وكان ينتظرهم ليشاركوه في طعام الغداء، وفي الطعام الحقيقيّ الذي هو جسده ودمه. هذا ما فعله مع تلميذَي عمّاوس، عرفاه عند كسر الخبز. رافقهما لم يعرفاه، كلّمهما، أحرق قلبيهما، قالا: »كان قلبنا يضطرم حين كان يكلّمنا في الطريق ويشرح لنا الكتب«. ولكنّهما في النهاية عرفاه.

وهذا ما قاله الإنجيل عن الرسل: تعبوا الليل كلّه، ولم يعرفوا أنّ يسوع كان على الشاطئ. ولمّا طلع النهار رأوا يسوع. في الواقع كان يسوع معهم في النهار كما في الليل. وحين كان ذاك الصيد العجيب (يو 21)، وحده التلميذ الذي كان يسوع يحبّه عرف أنّه هو الربّ. هذا يعني أنّ المحبّة في قلوبنا هي التي تجعلنا نعرف أنّ الربّ هو هنا، أنّ الربّ حاضر. الله هو الأوّل، وهو لا يحتاج أن يقدّم نفسه كما يقدّم الغريب نفسه لشخص آخر.

5 - الله يسبقنا إلى اللقاء

نعم، الله هو الأوّل، هو الذي يبادر، هو الذي يأتي. ونحن نذهب إليه. هنا نتذكّر في الإنجيل ذاك الأبرص. يقول الإنجيل: الأبرص جاء إلى يسوع. في الواقع، يسوع هو أوّلاً من ذهب إلى الأبرص. نحن نعرف أنّ الأبرص لا يقيم في المدن، بل يقيم بعيدًا عن الناس، في الأحراج، في الغابات، في الصحراء، ومعه جرس ينبّه الناس أن لا يقتربوا منه لئلاّ يتنجّسوا، لئلاّ يصيبهم ما أصابه. إذًا يسوع أوّلاً ذهب إلى ذاك الأبرص، بعيدًا في البرّيّة. ولمّا اقترب يسوع من الأبرص، دنا إليه الأبرص.

الله هو الأوّل. لهذا لا يحتاج أن يقدّم نفسه. هو هنا، هو حاضر، يعني أنّنا نترك نظرة العينين، ونتوقّف عند نظرة القلب. بقلبنا نعرف الربّ الحاضر معنا، بإيماننا نعرف الربّ الحاضر معنا. وعندما يكون الربّ ذاك الغريب، فهو ليس بالربّ، يعني أنّنا لسنا أمام الربّ. أنّنا شوّهنا الربّ، جعلناه غريبًا عنّا، وهو حياة حياتنا، وهو القائم في أعماق قلوبنا، في أعماق نفوسنا.

فالله هو هنا، ويفرض ذاته على ذهن الإنسان وعقله بمجرّد وجوده. هذا يعني أنّنا لا ننغلق. يقول لنا المزمور: »إن سمعتم صوته لا تقسّوا قلوبكم«. يعني إذا كان قلبنا قاسيًا، لن نعرف أنّ الله هو هنا، كالأرض الحجرة التي لا يمكن أن تنزل فيها الحبّة وتعطي ثمرًا ثلاثين وستّين ومئة.

الله هو الله، وهذا يكفي. هو يكفي للمؤمن الذي يفتح قلبه على نداء الله. ونحن لا نستطيع أن نقول إنّ الإنسان يسير في طريق يوصله إلى الله. فالله أقرب إلينا ممّا نحن أقرب القريبين إلى نفوسنا. فالربّ سبقنا وسار المسيرة حتّى وصل إلينا. لهذا نقول في »النؤمن« عن يسوع المسيح: نزل من السماء. وليس: نحن صعدنا إلى السماء، كلاّ هو نزل من السماء. وحين صعد أصعدنا معه.

كلّ مرّة أقول: أنا أسير إلى الله أنا آخذ طريقًا توصلني إلى الله، يصبح الله ذاك البعيد، المتنائي عنّا. نحن لا نبحث عن الله في البعيد. فهو يبدأ ويبحث عنّا، هو يأتي إلينا، هو فينا. لهذا يقول يسوع في الإنجيل: ملكوت الله في داخلنا، حضور الله هو في داخلنا وليس ببعيد عنّا. نحسب أنّنا عرفنا الله، وهو الذي عرفنا أوّلاً. نحسب أنّنا أحببنا الله، ولكنّه هو الذي أحبّنا أوّلاً وبذل نفسه كفّارة عنّا. أجل كلّ مبادرة هي من الله، تبدأ مع الله. كلّ معرفة تبدأ مع الله. الله هو الذي عرفنا أوّلاً. وبعد ذلك نحاول أن نعرفه. هو الذي أحبّنا أوّلاً وبعد ذلك نحاول أن نحبّه.

وكيف ظهرت محبّته؟ يقول القدّيس يوحنّا في رسالته الأولى: »بذل نفسه كفّارة عنّا«. في هذا المجال نسمع المزمور 139: »أنت يا ربّ تنتظر في أعماق قلبي وتعرف كلّ شيء عنّي. تعرفني حين أجلس وأقوم، تعرف أفكاري من بعيد، تلاحظني حين أقيم في داري أو أخرج منها. وتطَّلع على جميع طرقي، على كلّ ما أعمل، على سلوكي. قبل أن يكون كلامي على لساني، أنت يا ربّي عالم به كلّه. أنت ورائي، أنت أمامي، تحيط بي، تضع يدك عليّ لتقول لي: أنت لي. تقول: بعد أن جعلت ذاتي لك، أنت لي.

7 - الله يحيط بنا

في هذا المزمور، أحبّائي، نحسّ بأنّ الله يحيط بنا كما الهواء يحيط بالإنسان. يجعله يتنفّس. نحن لا نحسّ بوجود الهواء حولنا، ولكن إن انقطع الهواء نختنق، عندئذ نعرف أهمّيّة الهواء. الله هو كالماء بالنسبة إلى السمكة. السمكة تسير في الماء وكأنّ الأمر عاديّ. ولكن لا سمح الله إذا جفّ الماء، فهذه السمكة تموت. وهذا ما نقوله أيضًا عن حضور ا؟ في حياتنا.

هو بالنسبة إلينا كالهواء إن ابتعد، إن هو غاب لا سمح الله، لأنّه لا يبتعد ولا يغيب، لكن نفترض افتراضًا غير معقول، إن هو ابتعد، إن هو غاب، متنا في الحال حتّى على مستوى الجسد. فيده تمسكنا، تمسكنا في الحياة. فإن لم يكن الله حاضرًا، يموت الإنسان على مستوى الجسد وبالأحرى على مستوى النفس. الله هو الذي يعطينا الحياة، حضوره يحيط بنا، حضوره يكوّننا يومًا بعد يوم.

علينا أن نفهم، أحبّائي، أنّ الله لم يخلقنا في الماضي واستراح، لم يخلق العالم واستراح. كلاّ. هو يخلق العالم اليوم، يخلقه الآن، يخلق الإنسان الآن، يخلقني الآن وأنا أكلّمكم، ويخلقكم أنتم وأنتم تسمعون أو تكتبون. إذًا الربّ يحيط بنا في كلّ تحرّكاتنا، في كلّ سلوكنا، في كلّ أعمالنا، في كلّ أقوالنا.

هنا يمكن أن نأخذ هذا الحضور في معنًى إيجابيّ ومعنًى سلبيّ. في معنًى إيجابيّ، هو معنا كالأب مع ابنه، كالأمّ مع ابنها، يحيطنا بالحنان، بالرأفة بالمحبّة. بالرحمة هو هنا، حاضر معنا، كأنّي به ينظر إلينا وإلى حاجاتنا.

ولكن هناك الموقف السلبيّ الذي عبّر عنه بعض المرّات أيّوب، ويعبّر عنه الأدب الحديث: ابعد عنّي حتّى أبلع ريقي فالربّ يبدو رقيبًا عليّ ينظر إلى خطيئتي حتّى يعاقبني، حتّى يحطّمني. تلك النظرة السلبيّة نُبعدها عن حياتنا. فلا نقول: الربّ إله الغضب وإله العقاب وإله الموت. بل الربّ هو إله الرحمة، إله المكافأة، إله الحياة. فيا ليتنا نتعامل معه بهذه الروح، هو أب لنا، هو أمّ لنا، فإن نسانا أبونا فالربّ لا ينسانا، وإن تركتنا أمّنا وهذا مستحيل، فالربّ لا يتركنا. فحياتنا هي حياته، وإن متنا، فموتُنا ينتهي بقيامتنا. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM