أنا هو الربّ إلهك

 

أنا هو الربّ إلهك

 

أحبّائي، نتابع قراءة سفر الخروج. وسيكون لنا أكثر من لقاء مع الوصايا العشر، في سفر الخروج فصل 20: 1 - 17.

1 - كلام إلى الله، كلام عن الله

»وتكلّم الربّ وقال أنا الربّ إلهك... لا تحلف باسم الربّ إلهك باطلاً، لأنّ الربّ لا يبرّر من يحلف باسمه باطلاً. واذكر يوم السبت وكرِّمهُ لي. في ستّة أيّام تعمل وتُنجز جميع أعمالك، واليوم السابع سبتٌ للربّ إلهك... الذي في اليوم السابع استراح. ولذلك بارك الربّ يوم السبت وكرّسه له«.

قرأنا، أحبّائي، سفر الخروج عن الوصايا العشر، وتوقّفنا خصوصًا لدى ما يتعلّق بالله. الوصيّة الأولى: أنا هو الربّ إلهك. حين نقرأ الكتاب المقدّس، لا نجد فيه مقالاً لاهوتيٌّا عن الله. لا ندرس من هو الله. كما تعلّمنا في الماضي: الله روح سرمديّ محض... فالكاتب الملهم لا يعود إلى الوراء ليتطلّع إلى مدينة تركناها وراءنا، أو إلى جبل ابتعد عنّا. الكتاب المقدّس لا يربطنا بمكان من الأمكنة ولا بزمان من الأزمنة، مع أنّه هنا يربطنا بجبل سيناء ويحدّثنا تقريبًا عن القرن الثالث عشر. في الواقع، الكتاب المقدّس لا يدعونا إلى أن نتكلّم عن الله بل أن نستمع إليه يحدّثنا. ونحن نجيب إلى كلامه حين نمجّده ونخدمه ونتعبّد له.

مهمّ جدٌّا، أحبّائي، أن نتذكّر مثلاً في سفر أيّوب، الحكماء الثلاثة الذين جاؤوا إليه، أرادوا أن يبرّروا الله. أن يبيّنوا أنّ الله على حقّ. هم تكلّموا عن الله، ولكنّهم لم يكلّموا الله. لم يرفعوا قلوبهم إلى الله. لم يُصلّوا إلى الله. لهذا، فالكتاب سوف لا يرضى عمّا قالوه لأيّوب، لأنّهم أعطوا عن الله صورة مشوّهة. هو ذاك الذي يلاحق الإنسان حتّى النهاية. أمّا أيّوب فمن قلب ألمه، كلّم الله، وسوف يأتي الله إليه، استمع إلى الله، استمع إلى حديث الله. إذًا المهمّ في حياتنا المؤمنة، لا أن نتكّلم عن الله. ممكن أن نتكلّم عنه إذا طُلب منّا. ولكن لا كلام عن الله إن لم ينبع من كلام مع الله.

2 - بدأ الله وكلّمنا

ونحن لا نبدأ بالكلام ، فالله هو الذي يبدأ بالكلام. هو يتكلّم ونحن نجيب إلى كلامه. المبادرة منه ونحن نتجاوب مع هذه المبادرة. ولا يكون جوابنا فقط كلامًا بكلام وقولاً بقول. يكون جوابنا حقيقيٌّا حين نمجّده ونخدمه ونتعبّد له. نمجّد الله بحياتنا، نخدمه بأعمالنا، نتعبّد له بكلّ حياتنا. وحين نخدمه إنّما نخدم القريب الذي معنا. الله يكلّمنا، وهو الذي تكلّم منذ القديم بواسطة الآباء. قال لنا الرسول في الرسالة إلى العبرانيّين: »بعد أن كلّم الله آباءنا منذ القديم«.

مثلاً قال لإبراهيم: »أترك أرضك وعشيرتك وتعال إلى الأرض التي أدلّك عليها«. وقال له: »أنا ترس لك أحميك، أنا أعطيك أجمل أجر«. هو الذي بادر وكلّم إبراهيم. كان إبراهيم صاحب المواشي يبحث عن الماء وعن العشب، وحين لا يجد هنا يذهب إلى هناك. وفي يوم من الأيّام، أُجبر أن يترك أرض أور أو أرض حاران، ويتوجّه نحو الجنوب إلى سورية ولبنان وفلسطين.

ولكن من خلال هذه المسيرة المادّيّة بحثًا عن الماء والعشب، سمع صوت الله. فصوتُ الله يرتبط بالحياة التي نعيشها، هو يدعونا حيث نحن. لا يُخرجنا من موضع إلى آخر، بل يذهب إلينا حيث نحن. كان إبراهيم راعي غنم وراعي إبل، فذهب إليه حيث يرعى غنمه وإبله. كان بطرس صيّاد سمك، فذهب إليه على شاطئ البحر، وهناك دعاه إلى صيد آخر. كان متّى صاحب الإنجيل الأوّل موظّفًا في الجباية، في جباية المال والضرائب. ذهب إليه في مكتبه وهناك قال له اتبعني. لا شكّ جلس معه عند المكتب وحدّثه حيث كان.

نتذكّر مقالَ القدّيس بولس في الرسالة إلى كورنتوس. كلّ واحد يبقى في الحال التي فيها دعاه الله: أنت متزوّج، أنت بتول، أنت أرمل. أو أنت موظّف، أنت حدّاد، أنت نجّار، أنت صيّاد، فالربّ يذهب إليك كما أنت. ينطلق من حياتك. إشعيا كان معروفًا لدى الملك ولدى العظماء، كلّمه الربّ من قلب الهيكل. إرميا كان من قرية عناتوت القريبة من أورشليم وارتبطت حياته بقرية عناتوت. من قلب هذه القرية وعاداتها كلّمه الربّ. إذًا الربّ هو الذي يدعونا حيث نحن، والمهمّ هو جواب الثقة.

3 - نادانا نداء الإيمان

تحدّثتُ عن إبراهيم. هي ثقة إبراهيم الكاملة بالله. نلاحظ في سفر التكوين فصل 12: قال الله لإبراهيم: »اترك أرضك، عشيرتك، بيت أبيك«. أرض ثابتة، معروفة عند الأقارب والأصدقاء والأحباب. أترك كلّ هذا. إلى أين؟ الربّ لا يقول لإبراهيم منذ البداية إلى أين؟ يقول له: تعال وامشِ معي. فمن لا ثقة عنده، من لا إيمان عنده، لا يستطيع أن يمشي. فهو يريد أن يُعمل الفكر، أن يفكّر: إلى أين أذهب؟ إلى أين أصل؟ وما تكون النتيجة، وأنا أترك العشيرة والأرض والبيت؟ فما يكون لي تجاه هذالله

قال له الربّ: أنا أعطيك أجمل أجر. وأين هو هذا الأجر؟ لا يرى إبراهيم بعدُ شيئًا. ومع ذلك يقول النصّ: »انطلق إبراهيم كما دعاه الله«. نعم جواب الإيمان هو الأوّل، جواب الثقة هو الأوّل. ومن لا إيمان عنده ولا ثقة، لا يمكن أن يسير مسيرة الله. بل يبقى هناك في بيته، بين أصحابه وأهله وأقاربه. يبقى في أرضه وعشيرته، وتنتهي حياته كما تنتهي حياة كلّ إنسان. لكنّ الربّ يريدنا للمغامرة. يريدنا للانطلاق. لا يريدنا أن نبقى حيث نحن. المياه التي تبقى حيث هي تصبح آسنة (تصبح رائحتها كريهة). أمّا المياه التي تجري فهذه تحمل الحياة.

كلّم الربّ آباءنا، كلّم يعقوب أيضًا من خلال السلّم التي جعلها بين السماء والأرض. كلّم يوسف من خلال سجنه. كلّم موسى وهو يرعى الغنم عند جبل سيناء من خلال العلّيقة الملتهبة. أجل تكلّم الله منذ القديم بواسطة الآباء، وتكلّم أيضًا بواسطة الأنبياء.

تكلّم مثلاً مع أشعيا: اذهب وقل لهذا الشعب: أرسله في مهمّة، هي حمل كلمة الله. كلّم إرميا: انطلق إلى من أرسلك إليهم، وكلّ ما آمرك به تقوله، لأنّي في فمك أضع كلامي. ما هو عظيم عند هؤلاء الأنبياء، هو أنّ الكلمة التي تصل إليهم لا تبقى عندهم، فيجب عليها أن تمضي إلى البشر.

هم يحملون الكلمة وينقلونها. هي كجمرة نار لا يمكن أن يحتفظوا بها. فعليهم أن يحملوها إلى الآخرين. إذا كان الله نارًا متّقدة تشعل قلبنا، فما أحلى على قلبنا أن تشتعل أيضًا قلوبُ جميع البشر. وقال الربُّ لموسى الذي اعتُبر أوّل الأنبياء: »انطلق وتنبّأ لشعبي«. أي قل كلمة الله لشعبي. كلّم الله الأنبياء فسمعوا صوته، وعملوا إرادته. من نداء إلى جواب. نداء الله كلّمهم. وهم حملوا كلامه.

4 - إلهنا يتكلّم، لا الأصنام

مهمّ جدٌّا، أحبّائي، أن نعرف أنّ الله يتكلّم. هو أبعد ما يكون عن الأصنام التي لها فم ولا تتكلّم، لها أذن ولا تسمع، لها عين ولا ترى. عندما نتعلّق بأصنام في جيلنا الحاضر، في أشخاص قلوبهم قاسية، نعتبرهم يخلّصوننا لأنّ عندهم بعض السلطة. يجب أن نفهم أنّهم لا يختلفون عن الأصنام. فهم وإن كانت لهم يد فلا يفعلون، وإن كانت لهم رجل فلا يتحرّكون، وإن كان لهم فم فهم لا يتكلّمون. هم شخص، تمثال، لا يتحرّك ولا يفعل شيئًا.

أمّا الله فهو يسمع صراخ المتألّمين، فهو يرى حالة كلّ واحد منّا، فهو يكلّمنا ويتكلّم عنّا. هنيئًا لنا إن عرفنا أن نسمع صوت الله، أن نتبيّن كلام الله من كلام البشر. كلّم الله الأنبياء فسمعوا صوته. هذا هو النبيّ: النبيّ هو الذي يعرف أن يسمع صوت الله. هنا نتذكّر صموئيل، صوت الله لم يتعرّف إليه الكاهن عالي. ذهب إليه صموئيل المرّة بعد المرّة وقال له: »ناديتَني«. فأجابه عالي: »كلاّ يا ابني، ما ناديتُك«. واحتاج عالي إلى ثلاث مرّات لكي يفهم أنّ ذاك الذي يكلّم صموئيل إنّما هو الله.

أجل النبيّ هو الذي يسمع صوت الله. وهكذا صموئيل. من أعماق الليل وهو بجانب تابوت العهد الذي يدلّ على حضور الله، من قلب الليل قال للربّ: »تكلّم يا ربّ فإنّ عبدك يسمع«. أي جعل هذا النبيّ صموئيل نفسه في وقفة استعداد لأن يسمع كلام الله. لا سماع الأذن بل سماع القلب. كلّم الله الأنبياء فسمعوا صوته. لا شكّ صوت الربّ ليس كصوت البشر. هو لا يُسمع بالأذن. وليس صوتُه بالصوت القويّ.

شبّهوه بالرعد، وهذه صورة، لأنّ الرعد يفعل من خلال البرق ومن خلال المطر. ولكن صوت الربّ هو خفيف، ناعم مثل النسيم. يروي الكتاب عن إيليّا أنّه ذهب إلى جبل حوريب لكي يخبر الربّ بوضعه، فجاءت الرياح ولم يكن الربّ في الرياح، وجاءت العواصف ولم يكن الربّ في العواصف، وجاءت الرعود ولم يكن الربّ في الرعود. ولكن الربّ كان من خلال النسيم، بل من خلال الصمت أسمع صوته.

5 - ادخل مخدعك

هكذا صوت الربّ لليوم أيضًا بالنسبة إلينا. يُسمعنا إيّاه في الصمت، صمت المساء، صمت الصباح، صمت العزلة، صمت المنسك. لا ضرورة أن يكون المنسك بعيدًا عن الناس. يمكن أن يكون منسكًا داخل بيتنا كما يقول الإنجيل: ادخل مخدعك وأغلق بابك عليك. هكذا تستطيع أن تكون ناسكًا كجميع النسّاك. مار شربل وغيره اليوم. إذًا نسمع صوت الله من خلال هذا الصمت، من خلال الصومعة، صومعة خاصّة نُقيم فيها.

في التقليد السريانيّ القديم، كانت هناك جماعة تسمّى أبناء العهد، بنات العهد. كانوا يعاهدون الله، وعهدهم مع الله هو أن يقيموا معه بعض الوقت كلّ يوم. كانوا رهبانًا في بيوتهم، كانوا نسّاكًا في مخادعهم. يحاولون أن يسمعوا صوت الله، فيصل إلى قلوبهم ويصل إلى حياتهم. الأنبياء سمعوا صوت الله وعملوا إرادته.

لو لم يعملوا إرادته، لكانوا يشبهون هذا المثل الإنجيليّ. الأب دعا ابنه الأوّل وقال له: »اذهب إلى الكرم«. فقال: »نعم أنا ذاهب«. ولكنّه لم يذهب. سمع وتكلّم، لكن سماعه كان خارجيٌّا، وكلامه نقل الهواء في الجوّ. لم يكن كلامه يعبّر عن أعماق قلبه، عن أعماق حياته. قال أنا ذاهب، ولكن ذهب أخوه الذي بدا أفضل منه. إنّه عمَل إرادة الله.

6 - نسمع ونعمل

قد يكون بعض الأوقات جوابنا ؟ غير ما يريده الله. هو يعبّر عن ثورة في قلوبنا، عن رفض، عن ألم، عن حزن، عن مرض، والربّ يعرف أعماق القلوب. هو لا يتوقّف عند الكلام الخارجيّ. فلو توقّف لرضي عن الأوّل الذي قال: أنا ذاهب ولم يذهب. ولكن، بما أنّه ينظر إلى القلب لم يهتمّ لما قاله الثاني: أنا لا أذهب. بل تطلّع إلى أنّه ذهب إلى الكرم، ذهب يعمل مشيئة أبيه.

ونتذكّر لمّا أراد صموئيل أن يختار ملكًا في عائلة يسّى والد داود الملك: رأى إلياب شقيق داود كبيرًا، طويل القامة، جميل العينين. قال: أمام الربّ مسيحه. أي الربّ اختار هذا ليكون الملك، وأنا سوف أمسحه بالزيت المقدّس. ماذا كان جواب الربّ في أعماق قلبه؟ الإنسان ينظر إلى العينين، أمّا أنا فأنظر إلى القلب.

وهكذا نفهم أنّ الجواب الحقيقيّ، ليس ذاك الذي يصدر من الفم، إنّما ذاك الذي يصدر من القلب ويصبح عملاً. الأنبياء سمعوا صوت الربّ وعملوا إرادته، وكانت قمّة العمل بإرادة الله مع يسوع المسيح الذي قال: ما جئت لأعمل إرادتي، مشيئتي، بل مشيئة الآب الذي أرسلني.

قال الربّ: من أرسِلُ، من ينطلق باسمنا؟ فأجاب أشعيا: هاءنذا فأرسلْني. لا شكّ في أنّ أشعيا هيّأه الله. أرسل جمرة فأحرقت شفتيه بما فيهما من خطيئة، من دنس، من عيب، من ضعف. وحين استعدّت شفتا هذا النبيّ، قال: هاءنذا فأرسلني. هو حاضر للرسالة مع أنّها ستكون صعبة جدٌّا. وكذلك إرميا أطاع نداء الربّ. وهكذا فعل موسى وسائر الأنبياء. دعاهم الربّ ربّما تأخّروا، ربّما تردّدوا، ربّما خافوا، ولكنّهم في النهاية تابعوا المسيرة. هنا نتذكّر إرميا الذي خاف. ولكن الربّ قال له: »أنت سور من نحاس، باب من حديد، يهاجمونك، يواجهونك، لكنّهم لا يقدرون عليك«.

7 - ننطلق بقوّة الله

الربّ يرسل ويعطي القوّة. هكذا أعطى القوّة لناتان النبيّ. فجاء إلى داود ووبّخه على خطيئته. كان داود قد زنى ببتشابع وقتل لها زوجها قبل أن يتزوّجها. من يجسر أن يقول لهذا الملك إنّك أخطأت، إنّك لست فوق الشريعة، لست فوق الوصايا. أنت خاضع للوصايا، خاضع لله. ذهب ناتان وهو عالم بالخطر الذي يهدّده. لقد كان بإمكان الملك أن يقطع رأسه، لأنّه وبّخه على خطيئته. وأيّ حاكم وأيّ سلطان وأيّ مسؤول يرضى أن يقبل توبيخًا. ومع ذلك ذهب ناتان وقال له: أنت هو هذا الرجل الذي يستحقّ العقاب.

كلّم الله آباءنا، كلّم الأنبياء، وفي النهاية كلّمنا بابنه الوحيد. تقول عنه الرسالة إلى العبرانيّين: الذي هو شعاع مجده وصورة جوهره. أي الكلمة الأخيرة هي كلمة يسوع المسيح. فيسوع ليس فقط الكلمة المكتوبة، الكلمة التي نقرأها، بل هو الكلمة الحيّة. من هنا قال يوحنّا في الإنجيل: الله لم يره أحد قطّ ولكن الابن الذي في حضن الآب عرّفنا إليه. هو لم يقل لنا فقط كلمة خارجيّة. قال لنا: أنا الكلمة. من رآني فقد رأى الآب.

وهكذا، أحبّائي، في النهاية، كلمة الله تصل بنا إلى الآب، تقودنا إلى الآب. عندئذ يستطيع الربّ أن يقول لنا:أنا هو الربّ إلهك لا يكن لك إله غيري. آمين

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM