محاربة العماليق

 

محاربة العماليق

1- مشروع الله

وجاء بنو العماليق، فحاربوا إسرائيل في رفيديم. فقال موسى ليشوع: »خُذْ خيرة رجالك واخرج لمحاربة العماليق، وغدًا أقفُ على رأس التلّة وعصا الله في يدي«. ففعل يشوع كما قال له موسى، وحارب العماليق، وموسى وهارون وحور صعدوا إلى رأس التلّة. فكان إذا رفع موسى يده ينتصر بنو إسرائيل، وإذا حطّ يده ينتصر العماليق. ولما تعبت يدا موسى، أقعده هارون وحور على حجر وسندا يديه...« (17: 8 - 13).

مرّة أخيرة كان الشعب وكأنّه يعارض الربّ. ونستطيع، أحبّائي، أن نطبّق هذا الأمر في حياتنا. مرّات عديدة يختار أبناؤنا طريقًا خاصّة، طريق التضحية والبذل والعطاء. ونحن نقف في وجوههم. نريدهم أن يكونوا مثلنا، أن يكونوا على صورتنا، نريدهم أن يربحوا المال، أن تكون لهم الوظائف، أن يكون لهم الشرف العظيم، أن تكون لهم الشهرة. ولكن الربّ له مخطّط من أجل كلّ واحد منّا. فمن عارض مثل هذا التطلّع، كان وكأنّه يعارض الله.

نتصوّر مثلاً شاول الذي هو بولس الرسول، ذلك العائش في هدوء وطمأنينة في بيت أبيه في طرسوس في تركيا. دعاه الربّ، أخرجه من هذه الحياة الهادئة التي تشبه حياة كلّ إنسان. ربّما والداه عارضا هذا المشروع فكأنّهما يعارضان الله. ولكن لو قبل شاول (بولس) بأن يسمع لوالديه في مثل هذه الحالة، لكانت حياته تافهة. ولو ذُكر بولس بعد ألفي سنة على موته، لكان حائكًا بين الحائكين وفرّيسيٌّا بين الفرّيسيّين ليس أكثر.

ونستطيع أن نطبّق هذا، إمّا علينا نحن حين يعارض بعض الناس مشاريعنا، أو حين نحن نعارض مشاريع الآخرين، فكأنّنا نعارض الله. إذا كان الشعب العبرانيّ خاصم موسى فاعتبر موسى أنّه يخاصم الربّ، فبنو عماليق الذين يريدون أن يسدّوا الطريق في وجه العبرانيّين، هم في الواقع يسدّون الطريق أمام أمر الربّ، يرفضون مشروع الربّ.

فقال موسى ليشوع: »خذ خيرة رجالك واخرج لمحاربة العماليق«. نلاحظ هنا تقدّمًا لدى موسى ولدى يشوع خادم موسى. في الماضي، كانوا يكتّفون أيديهم، يخاصمون موسى ويلومونه، ويتوقّفون عن الذهاب، عن الارتحال. يتسمّرون مكانهم. ولكن الربّ يريدنا أن نفعل، هو يعطينا القوّة، يعطينا النور، يعطينا الشجاعة، يعطينا الفهم، يعطينا الاتّكال عليه. لكن يبقى علينا نحن أن نمضي، أن نذهب.

في الحلقة السابقة، قال الربّ لموسى: اعبر. وعليه أن يعمل. تحدّثنا عن الأعمى. قال له يسوع: اذهب. وهنا موسى سوف يفعل هو ويشوع: لن يقفا مكتوفَي الأيدي، لن يتركا هذا العدوّ يسدّ لهم طريقهم، لا يسمحان له أن يضايق شعب الله.

2 - ندخل فيه ونعمل

قال الله لموسى (آ 9): »خذ خيرة رجالك واخرج لمحاربة العماليق«. على الإنسان أن يفعل. مهما كان ضعيفًا مهما كان محدودًا. هو يفعل والربّ يكمّل. وتابع موسى فقال: »وغدًا أقف على رأس التلّة وعصا الله في يدي«. أقف. نتذكّر عند الصخر، كان الربّ واقفًا. وهنا موسى واقف، واقف على رأس التلّة. دائمًا الصلاة إلى الله كانت على الجبل، على التلّة. وقف موسى. في الواقع، هو واقف أمام الربّ، وإلاّ ما قيمة العصا إن لم تكن عصا الله، عصا الربّ.

غدًا أقف على رأس التلّة وعصا الله في يدي. الإنسان يفعل في شخص يشوع، والله يفعل في شخص موسى. موسى هو المؤمن بقدرة الله، وعمل الله، وعناية الله. ولهذا كانت معه عصا الله التي تدلّ على هذه القدرة.

في الحلقة السابقة، أمر الربّ موسى. أمّا هنا فموسى أمر يشوع. فعل يشوع كما قال له موسى، وحارب العماليق. أطاع يشوع موسى، فكأنّه أطاع الربّ. من سمع منكم، قال يسوع، سمع منّي. من سمع من المرسَل، فكأنّه سمع من الذي أرسله. ففعل يشوع كما قال له موسى وحارب العماليق. أي انطلق إلى حرب العماليق. لم يخَفْ، لم يحسب حساب أيّ عدوّ بشريّ.

كان باستطاعته أن يقول لموسى: ألا تراهم طويلي القامات، أقوياء، مسلّحين، أشدّاء؟ كلاّ. أمره موسى، فمضى لأنّه رأى في أمر موسى أمرًا من الربّ. الشعب في السهل يقاتل. وموسى وهارون وحور يصلّون. صعدوا إلى رأس التلّة، وكانوا هناك في لقاء مع الربّ. هنا نتذكّر رأس التلّة لا يقال أي تلّة. فكأنّ الكاتب الذي كتب من بعد دخول الشعب العبرانيّ إلى أرض فلسطين، ينظر إلى التلّة الوحيدة، تلّة أورشليم، هضبة أورشليم، حيث الهيكل مركز حضور الله.

3 - قوّة الصلاة

آية 11: »فكان إذا رفع موسى يده ينتصر بنو إسرائيل وإذا حطّ يده ينتصر العماليق«. رفع موسى يده. يعني رفعها للصلاة. ومن يصلّي يتأكّد أنّ الربّ حاضر يعطيه النصر، يعطيه البركة، يعطيه الحياة. لا يعطينا الربّ ما نطلب نحن. فهو ليس يأمرنا. إنّه يعطينا ما نحن بحاجة إليه. يرفع موسى يده ليدلّ على إيمانه، ليدلّ على رجائه فيكون له النصر.

وإذا حطّ موسى يده ينتصر العماليق. حطّ يده يعني توقّف عن الصلاة. ما أراد بعد أن يصلّي. سئم، يئس، قنط. وعندما نيأس ننغلب. لا يكون لنا النصر. تكون لنا الهزيمة. هنا نتذكّر نبوءة إرميا. قاله له الربّ: »جعلناك سورًا من نحاس، بابًا من حديد، يهاجمونك ولا يقدرون عليك«. وهنا صلاة موسى هي التي ستؤمّن النصر. أمّا إذا تراخى موسى وما أراد أن يصلّي، إذا حطّ يده فدلّ على يأسه، ينتصر العماليق وينهزم شعب الله.

ولمّا تعبت يد موسى (آ 12)، »أقعده هارون وحور على حجر وسندا يديه«. أجل، أحبّائي. الراعي، الرئيس، المسؤول. هناك مرّات يحسّ باليأس، يحسّ بالتعب، يحسّ بالملل. هو يحتاج إلى إخوته لكي يسندوه. هارون وحور سندا موسى في هذا الوقت، أعادا إليه الثقة، أعادا إليه الأمل، أعادا إليه الشجاعة. فظلّ رافعًا يديه طوال النهار وحتّى غروب الشمس.

وإذا أردنا، نستطيع أن نفهم موسى بين هارون وحور: واحد من هنا والآخر من هناك. نستطيع أن نفهم أنّنا كأنّنا على جبل الجلجلة. ثلاثة هم هنا على الجبل ينظرون إلى السهل. فكانت يدا موسى ثابتتين إلى غروب الشمس. هكذا كانت يدا يسوع ثابتتين حتّى غابت الشمس. موسى صورة بعيدة عن يسوع.

فهزم يشوع بني عماليق بحدّ السيف. هناك هزيمة على مستوى الحرب، وهزيمة على مستوى الصلاة. لا شكّ في أنّ يشوع عمل مع جيشه، ولكنّ العامل الأوّل هو الله، العامل الأوّل هو صلاة موسى المتواصلة طوال النهار. نتذكّر هنا كلام الربّ في إنجيل يوحنّا: ما دام النهار نعمل، وعندما يأتي الليل نتوقّف عن العمل. وهنا موسى أراد أن يعمل، أن يكون حاضرًا حتّى غروب الشمس. عمل النهار كلّه، فكان له النصر، وكان أيضًا النصرُ ليشوع وشعبه.

4 - أعمال الله

آية 14: »وقال الربّ لموسى: اكتب خبر هذا النصر ذكرًا في الكتاب. وقل ليشوع سأمحو ذكرى عماليق من تحت السماء«. أكتب خبر هذا النصر. يجب أن تدوّن أعمالُ الله، يجب أن تعلن أعمالُ الله. يجب أن نذكر، نحن المؤمنين، جيلاً بعد جيل، ما عمله الربّ لأجلنا. مرّات عديدة، ننسى ما يفعله الربّ لنا، ونطلب ونطالب ونتأفّف ونخاصم، ونلوم ليس موسى فقط بل ربّنا أيضًا. يا ليتنا نتذكّر ما فعله الربّ لأجلنا، والربّ يفعل دومًا، ولكنّنا لا نرى ولا ننظر.

يقول الكتاب المقدّس: آذانهم غير مختونة، يعني مسكّرة. نقدر أن نقول: عيونهم غير مختونة، مسكّرة، مغلقة، لا تريد أن ترى. الأعمى يستطيع أن يرى إذا شاء، ولكن من يتمسّك بعماه لا يستطيع أن يرى أبدًا. هذا ما قاله يسوع للفرّيسيّين، في إنجيل يوحنّا الفصل 9: لو كنتم عميانًا لكنّا نفهم، ولكنّكم تجعلون نفوسكم عميانًا كي لا تروا.

ونحن أيضًا، أحبّائي، مرّات عديدة لا نريد أن نرى، لا نريد أن نتذكّر ما فعله الربّ من أجلنا. ويتابع النصّ: سأمحو ذكر عماليق من تحت السماء. يعني أنّ الربّ لا يريد من يعارض بناء شعبه وبناء كلّ مؤمن من مؤمنيه. وإذ أراد موسى أن يتذكّر ما عمله الله من أجل شعبه، بنى مذبحًا. والمذبح حتّى في نظرتنا المسيحيّة يدلّ على حضور الله، على حضور المسيح. وسمّى هذا المكان: »الربّ رايتي«. لا، ليس يشوع هو الذي سار في مقدّمة الشعب يحمل الراية، البيرق، العلَم. الربّ هو الذي سار في المقدّمة. وقال: رفع بنو عماليق أيديهم. لم يقل رفعوها على الشعب العبرانيّ بل على عرش الربّ. كأنّهم يريدون أن يقوّضوا، أن يهدموا عرش الربّ، أن يزيلوا حضور الربّ من هذه البرّيّة. هذه البرّيّة لهم وحدهم. فماذا يفعل الربّ هنا؟ ولماذا يأتي ليحاربهم في ديارهم؟ نتذكّر، أحبّائي، في إنجيل مرقس فصل 5 مجنون الجراسييّن: لمَا عبر يسوع البحيرة من أرض يهوديّة إلى أرض وثنيّة، قال له لجيون وهو مجموعة شياطين: لماذا أتيت إلى هنا؟ ما لنا ولك؟ إبقَ في أرضك، ابقَ في فلسطين، لا تأتِ إلى البرّيّة.

وبنو عماليق اعتبروا أنّ البرّيّة لهم، وأنّ لا حقّ للربّ أن يأتي إلى البرّيّة. ولكن الربّ هو في كلّ مكان يملأ الأرض والسماء. السماء عرش له، والأرض موطئ قدميه. فمن يجسر أن يحصر الربّ في مكان من الأمكنة، في شعب من الشعوب، في شخص من الأشخاص. الربّ هو ربّ الجميع، ربّ جميع البشر، وربّ جميع الأرض.

هكذا، أحبّائي، فهمنا في 17: 8 ي: محاربة بني عماليق. لا محاربة على مستوى السلاح وإن ذكر حدّ السيف في فصل 17. هناك حرب من نوع آخر: الشعب يسير لملاقاة ربّه. وهناك من يقف له في الطريق، الربّ يزيل كلّ حاجز يفصلنا عنه، لأنّه يريدنا أن نكون معه، أن نكون قرب عرشه، أن نسير وراء رايته. يا ليتنا نسمع منه، نرى أعماله، ونسير في خطاه. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM