نشيد الخلاص

 

نشيد الخلاص

1- المقدّمة

نقرأ دومًا سفر الخروج.

المرّة الماضية وصلنا إلى البحر الأحمر وعبرناهُ مع الذين عبروه كأنّهم على أرضٍ يابسة.

مرّوا وسط الموت فوصلوا إلى أرض الحياة، حيث سيلاقيهم الربّ على جبل سيناء.

فأمام هذا الخلاص العظيم، ما هو موقف الشعب العبرانيّ؟ ما هو موقف مريم النبيّة أخت هارون وموسى؟ ما هو موقف موسى؟ هو النشيد، نشيد النصر. ونحن نقرأه الآن (ف 15):

أنشدوا للربّ جلَّ جلاله،

الخيلَ وفرسانها رمى في البحر.

الربّ عزّتي وتسبيحي،

جاء فخلّصني.

أمدحُه فهو إلهي،

إله آبائي تعالى.

مركبات فرعون وجنوده،

أخفاهم في البحر.

نخبة قوّاده أغرقهم

في البحر الأحمر.

يمينك يا ربّ قديرة قادرة،

يمينك يا ربّ تحطّم العدو...

2 - مديح للربّ

هذا النشيد هو انطلاق من ردّة، من قرار، قالتها مريم. نجد هذا القرار في 15: 21. فغنّت لهنّ مريم: »أنشدوا للربّ جَلَّ جلاله، الخيلُ وفرسانها رماهم في البحر«.

في الواقع إذا عدنا إلى ثقافتنا العربيّة، إلى الأدب العربيّ، نعرف أنّه في الحروب أو بالأحرى بعد النصر، كانت النساء يُنشدن الأناشيد ليستقبلن العائدين من الحرب مُظفّرين، منتصرين. وهنا مريم سارت في المقدّمة. يقول النصّ: وخرجت النساء كلُّهنّ وراءها بدفوفٍ ورقصٍ. هي عادة شرقيّة قديمة، سواء في العالم العربيّ أو في العالم العبريّ أو في العالم الموآبيّ، أو العالم العمّونيّ أم في كلّ مكانٍ من هذا الشرق. الرجال يحاربون، وفي عودتهم تستقبلهم النساء بالنشيد. إذًا انطلق الكاتب الملهم من هذا القرار الذي أطلقته مريم، وكتب خبر الشعب العبرانيّ منذ دخوله إلى برّيّة سيناء حتّى إقامته في أرض الميعاد، في أرض فلسطين، حيث الله في جبل ملكه، حيث الهيكل الذي فيه يقيم الربّ وسط شعبه.

هناك مديحٌ للربّ، مديحٌ بشكلٍ عامّ. ثمّ يصبح المديحُ مخصّصًا، مرتبطًا بواقعٍ عاشه الشعب أو يعيشه على مدِّ تاريخه. »أُنشد للربّ«. دائمًا النشيد هو علامة الفرح، علامة البهجة، علامة النصر. النشيد هو علامة الامتنان، علامة السرور، علامة الشكر للربّ. أُنشد للربّ جلَّ جلالُه. أنا لا يحقّ لي أن أُنشد أعمال البشر. بل أهتف: الربّ عظيمٌ، الربّ بهيّ. وما صنعه الربّ يدفعني إلى النشيد. كلّ كتاب المزامير هو نشيد لله الذي فعل والذي يفعل. لماذا أُنشدلله الخيلُ وفرسانها رماهم في البحر. كما قُلنا، هناك هزيمة للجيش المصريّ الذي فعل بالعالم العبرانيّ ما فعل، فكان عقابه هذا السقوط في البحر أو بالأحرى في النهر تُجاه الجيش الحثّيّ.

3 - قدرة الربّ

إعتبر الشعب العبرانيّ أنّهُ استعاد بعض قوّته حين رأى الخيل والفرسان في البحر.

يُتابع النصّ (آ 20): »الربّ عزّتي وتسبيحي«، عزّتي يعني قوّتي. وبما أنّه قوّتي، فلهذا أسبِّحُ له، أرفعُ إليه آيات المجد والتسبيح.

جاء فخلّصني. نُلاحظ هذه السرعة. كلمتان: جاءَ فخلّصني. ما إن وصل حتّى تمّ لي الخلاص بيده.

لهذا أمدحُهُ فهو إلهي، هو إله آبائي. تعالى اسمه، ارتفع. ويتابع النصّ: »الربُّ سيِّدُ الحروب، الربُّ اسمه«. بهذه اللفظة البسيطة »سيِّدُ الحروب« يعني التاريخ، في الماضي. الحروب هي التي كانت توجِّه التاريخ. ومن المؤسف حتّى اليوم، الحروب لها دور كبير بتوجيه التاريخ، بتوجيه الشعوب وهذا مؤسف جدٌّا.

لكن يريد الكاتب أن يقول: السيّد ليس هذا الملك أو ذاك، ليس هذا الإمبراطور أو ذاك، ليس هذا الحاكم أو ذاك. سيِّد الحرب يعني الذي ينتصر في الحرب. الذي له النصر هو الربّ. وبماذا ينتصر؟ لا بالسلاح، لا بالسيوف، لا بالأسنّة والرماح. الربُّ اسمُه، اسمه ينتصر. نتذكّر المزمور عندما يقول: »هؤلاء بالعجلات، وهؤلاء بالخيل. أمّا نحن فنذكُرُ اسمَ الربّ إلهنا« وهذا يكفي. إسم الربّ وحده هو الذي يربح الحرب. الربّ سيِّدُ الحروب. هو المنتصر الأوّل والأخير. قد يحاول البشر، قد ينتصرون بعض الوقت، ولكنّ النصر النهائيّ هو للربّ. فممَّ يخاف المؤمن بعد ذلك؟ وأعطى مثلاً. مركبات فرعون وجنوده أخفاهم في البحر، نخبةُ قوّاده أغرقهم في البحر، غطّتهم مياهُ اللجح، وغرقوا في الأعماق كالحجارة. إذًا صوّر بثلاث آيات هذه الهزيمة التي جعلت الجيش المصريّ يغرقُ في المياه. ولكن بماذا فعل الربّ؟ ترد مرتين كلمة يمينُك. اليمنى هي التي تقول. في الماضي، في العالم القديم، اليمنى هي الأساس، أمّا اليسرى فهي يدٌ مضافة، زائدة، نستطيع أن نستغني عنها. اليد التي تعمل، اليد التي تُبارك، اليد التي تحامي، اليد التي تقوِّي، تشجّع، هي اليد اليمنى. الشعب هو عن يمين الربّ، فهو يُحسّ بقدرته.

4 - عين الربّ

15: 6: »يمينُك يا ربّ قديرة، قادرة«. ليست فقط قديرة. قادرة يعني هي تملك كلّ القدرة، تملك كلّ القوّة. وقدرتها تظهر حين تحطّم العدوّ. فشعب الله يريد السلام. لهذا السبب يحتاج إلى قدرة الله، لكي ينجو من الأعداء ويعيش في سلام. في بركة الله، في عطايا الله. وكيف يحطّم الربّ العدوّ؟ هناك يعطينا صورة الكاتب. تسحقُ مقاوميك بكثرة عظمتك. وترسل غيظك فيأكلهم كالقشّ. إذًا الربّ هو النار. نسميّه النار الآكلة. ويتابع: »بنفخة أنفك تكوّنت المياه، انتصبت أمواجُها كالسدّ، ووقفت اللجج في قلب البحر«. هذا الخلاص له وجهان كما قلت، هذا العبور عبور البحر الأحمر له وجهان: وجهٌ أوَّل وجه الحماية، وجهُ الخلاص. بنفخة أنفك تكوَّنت المياه وانتصبت كالسدّ، فمرَّ الشعبُ العبرانيّ كأن لا خطر يُداهمه. في آ 9 الوجه الثاني: قال العدوّ أتبعهم فألحقُهم، أقسِّم الغنيمة فتشبع نفسي وأستلُّ سيفي فتُفنيهم يدي.

إعتبرَ العدوّ أنّه هو القدير. قال المرنِّمُ في آ: 6: »يمينك يا ربّ قديرة قادرة. يمينك تحطّم العدوّ«. قال العدوّ: كلاّ. أنا أتبعُهم، أنا ألحقُهم، أنا أحطّمهم، أنا أقسّم الغنيمة، أنا أستلُّ السيف، أنا أفنيهم. كأنيّ بهذا العدوّ يملك سلطة الحياة والموت، كأنّه هو الله يميت ويُحيي. إعتبرَ نفسَهُ أقوى من الله.

ولكن جاءت آ 10: قال العدوّ: أتبعهم، أقسِّم الغنيمة، أستلُّ سيفي، أُفنيهم. »ولكن«، كلّ هذه القوّة ستسقط أمام يمين الله، بل الربُّ لا يحتاج حتّى إلى يمينه، لا يحتاج حتّى إلى أن يرفع يده. تكفي نسمة خارجة من فمه، تكفي نفخة. النفخة تعني أضعف ما يكون لدى الناس.

هذه النفخة كافية من الربّ. وبنفخة منك غطّاهمُ البحر وغرقوا كالرصاص في غمرِ المياه. لم يُرسل الربّ الثلوج، لم يُرسل البَرق والرعد، لم يُطلق صوته. كلاَّ. نفخَ نفخة بسيطة - لا شيء - كالدخان. الدخان المتصاعد من أنف الربّ كان كافيًا لكي ينتصر على من حسب نفسه إلهًا. وغرقوا كالرصاص في غمر المياه. ويعود الكاتب فيمتدح الله. نلاحظ دائمًا الرباط بين الكلام عن عمل الله ومديح الله؟ (15: 1): أنشدوا للربّ جلّ جلاله. عمليٌّا، الخيلُ وفرسانها رماهم في البحر.

الربُّ عزَّتي وتسبيحي ماذا فعل؟ جاء فخلّصني، أمدحُهُ فهو إلهي، إله آبائي تعال، لأنّه سيّد الحروب.

5 - إسم الربّ

الربّ اسمُه. مركبات فرعون وجنودُه أخفاهم في البحر. ويتابع: يمينك يا ربّ قادرة، يمينك تحطِّم العدوّ. تسحق المقاومين. ويتابع هنا: »من مثلك يا ربّ في الآلهة. من مثلك يا جليل القداسة، يا مهيبًا يليقُ به التهليل«. ثلاثة أشطار شعريّة تحدّثنا عن عظمة الله الذي صنع المعجزات، الذي رحم شعبه. أوّلاً من مِثْلك يا ربّ في الآلهة. هناك آلهة عديدون. فلمصر آلِهتها، ولبلاد الرافدين آلِهتها، وللحثّيّين آلِهتهم. لكنّ الإله الواحد هو الربّ وحده. الآخرون هم آلهة الحجر، آلهة الخشب.

وسيقول بولس في الرسالة الأولى إلى كورنتوس: »يقولون هناك آلهة عديدة، يقولون هناك أرباب عديدون. أمّا نحن فإلهنا واحد وربّنا واحد«. نتذكّر هنا كلام سفر التثنية، والصلاةَ التي يقولها العبرانيّ كلّ يوم: اسمعْ يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الربّ الواحد. لا إله إلاّ ذلك الإله، لا ربّ إلاّ ذاك الربّ الواحد، وسائر الآلهة هي خشب وهي حجر. لها عيون ولا ترى، لها آذان ولا تسمع، لها أيدٍ ولا تفعل. من مثلك يا ربّ في الآلهة، من مثلك يا جليل القداسة.

القداسة تعني الانفصال عن عالم البشر. ولماذا هذا الانفصال؟ ليدلّ على التمييز. فيقول عند هوشع وعاموس: أنا إله لا إنسان. يعني أنا لا أتصرّف كما يتصرّف الإنسان. أنا إله، قدرتي قدرة إلهيّة، وعملي عمل إلهيّ، ورحمتي رحمة إلهيّة، وغفراني غفران إلهيّ. أنت جليل القداسة. أنت ترتفع فوق كلّ الخلائق. أنت خالق الخلائق. يا مهيبًا يليق به التهليل، ويتابع النصّ: »يا صانع المعجزات، مددتَ يمينك فابتلعتهم الأرض. أفنيتَ هذا العدوّ، أمّا شعبك فهديته برحمتكَ، فديته، أرشدته، وأوصلته إلى بيتك«.

6 - الربّ في هيكله

سيكون بيت الربّ أورشليم، المدينة المقدّسة لجميع العابدين للإله الواحد. هناك وصل الشعب، وهناك في النهاية ستصل جميع الشعوب. فبعد الذي صنعه الربّ، ما هي ردّة الفعل؟ آ 14: »الشعوب سمعت فاضطربت«. سكان فلسطين الذين وصلوا منذ وقتٍ قليل، انقطع حيلهُم. زعماء أدوم الذين يقيمون قرب البحر الميت انبهروا. موآب في شرقيّ الأردنّ خاف، سكّان كنعان، يعني كلّ الشاطىء اللبنانيّ اليوم، ارتاع. الرعب والهول نزل بالجميع، وبعظمة ذراعك صمتوا كالحجارة. ما عادوا يستطيعون أن يتكلّموا.

حين رأوا آياتك الباهرة وأعمالك العظيمة، ما عادوا يقدرون أن يقولوا شيئًا أو يفعلوا شيئًا. ظلُّوا صامتين، ظلّوا حيارى، أخذتهم الرعدة، أخذهم الرعبُ والهولُ. وبما أنّهم كلّهم خافوا، فلا يبقى للربّ إلاّ ان يمرَّ بينهم. يقول النصّ: ليعبر شعبك يا ربّ، شعبك الذي اقتنيته. لم يعد من عدوّ يفصل بين شعبك وبين أرض الموعد، شعبك الذي اقتنيته. يعني: خلقته، كوّنته لنفسك، كرّسته لنفسك، كرَّستَهُ لا من أجل صالحه وخيره الخاصّ. كرّسته لكي يحمل رسالة. يحمل رسالة عبادة الله الواحد.

ويتابع النصّ (15: 17): تجيء بهم فتغرسهم في جبل ملكك، في موضعٍ أقمته مسكنًا لك يا ربّ، ومقدسًا هيّأتْهُ يداك. نلاحظ هنا الغرس، والغرس يعني أنّ الشجرة نزلت بجذورها، نقول بشلوشها، إلى الأعماق. صارت قويّة لا تحرّكها الرياح، لا تقلعُها الرياح. هي ثابتة، هي قويّة، بقوّة الله الذي أقامها. إذًا تجيء بهم فتغرسهم. لم يعودوا بدوًا رُحَّلاً ينطلقون من مكان إلى مكان. يزرعون اليوم الوتد ليقلعوه في اليوم الثاني. كلاّ بل غرستَهُم، غرستَهُم في الأرض، كما الأشجار. غرستهم في المواضع كما المدن، صرت ملكًا عليهم.

7 - الخاتمة

آ 18: »الربّ يملك إلى الأبد«. هكذا بدأ نشيدُ النصر الذي أطلقته مريم النبيّة. هناك نبيّ رجل. مثلاً موسى النبيّ، إشعيا النبيّ. وهناك مريم النبيّة. هي أيضًا تستطيع أن تتكلّم باسم الربّ، هي أيضًا تستطيع أن تُنشد عظائم الربّ. وما كانت وحدها بل كانت النساء كلّهنَّ وراءها بدفوف ورقص. ذاك هو المعنى الأوّل في هذه الحضارة الشرقيّة، حيث النساء يستقبلن القادمين من الحرب. لكن هنا بشكلٍ خاصّ ليست مريم تلك الهازجة، المنشدة، الضاربة بالدفّ. هي أكثر من ذلك. هي التي تُنشدُ عظائم الله، بعد الخلاص الذي تمَّ لشعبها. وكان نشيدها المثال الذي جعل موسى يُنشدُ وراءها، أو بالأحرى تلاميذ موسى كتبوا هذا النشيد في خطّ ما قالته مريم النبيّة.

أنشدوا للربّ جلّ جلالُه، الخيل وفرسانُها رماهم في البحر. فأخذ الشعب يُنشد جيلاً بعد جيل حتّى كان ذلك النشيد الجميل الذي أطلقته مريم العذراء حين حبلت بالابن الإلهيّ. أطلقته فقالت: تعظّم نفسي الربّ، وتبتهج روحي بالله مخلّصي لأنّه صنع بي عظائم، لأنّه منحنا الخلاص. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM