خلاص لمن يشاء وهلاك

خلاص لمن يشاء وهلاك

1- مقدّمة

الربّ يكون معنا، وإله الخلاص هو يرافقنا.

نقول له: يا مخلّص خلّصنا. فالخلاص الذي يناله إنسان من الناس يناله كلّ الناس. أنالُه أنا، وأنت، وكلّ واحد منّا.

هذا الخلاص الذي كما قلنا كان اختبارًا بسيطًا مع الأجيال ومع بناء حياة هذا الشعب، صار خلاصًا عظيمًا. ونستطيع أن نقابله بخروج الولد من حشا أمّه. هو طفل صغير نجا من الموت في حشا أمّه، ولكنّ هذا الناجي رغم صغره سيصبح شابٌّا، رجلاً - سيصبح فتاةً، سيّدة.

في المرّة الماضية تحدّثنا عن عبور البحر، يعني كيف عَبَرَ العبرانيّون البحر ونجوا من العبوديّة. واليوم نرى الوجه الثاني لهذا العبور أو بالأحرى اللاعبور. أراد المصريّون أن يعبروا البحر كما عبره العبرانيّون، فلم يستطيعوا.

فالعبرانيّون لم يعبروا البحر بقوّتهم، لم يعبروا البحر بقدرتهم ولا بعددهم ولا بآليّاتهم. عبروا البحر بقدرة الربّ: لا سلاح معهم.

نلاحظ دومًا: لا سلاح معهم. السلاح الوحيد هو عصا موسى، عصا الربّ. فيد الربّ هي السلاح الوحيد.

يقول النصّ: »فانتقل ملاك ا؟ من أمام جيش بني إسرائيل، وسار وراءهم. وانتقل عمودُ السحاب أيضًا ووقف وراءهم، بحيث دخل بين جيش المصريّين وجيش بني إسرائيل، فكان من جانب أولئك مظلمًا، ومن جانب هؤلاء ينير الليل حتّى لا يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل. ومدّ موسى يده على البحر، فأرسل الربّ ريحًا شرقيّة عاصفة طول الليل حتّى أيبَسَ ما بين مياهه، فانشقّت المياه...« (14:19-21).

2 - حدثان اثنان

أشرنا في حديث سابق إلى أنّنا هنا أمام حدثين: حدث أوّل يرتبط بالعبرانيّين الذين خرجوا من مصر على مستنقعات. وبما أنّ الماء يرمز إلى الشرّ، تحدّث الكاتب عن هذه المستنقعات وكأنّها بحر عظيم عبَرَ في وسطه الشعب العبرانيّ، بقوّة ا؟. البحر الذي كان قوّة موت، صار لهم بقدرة ا؟ قوّة حياة.

والحدث الثاني هو معركة في قادش على العاصي في سورية بين المصريّين والحثيّين. تحدّثت النصوص القديمة: أوّلاً النصوص المصريّة، ثمّ النصوص الحثّيّة، مع التذكير أنّ الحثيّين هم شعب عاش في تركيا الحاليّة، بالقرب من أنقره. مدينتهم حتوسة يعني بوغاسكوي اليوم.

إذًا الحثّيّون حاربوا المصريّين وقهروهم عند شاطئ العاصي. حشروهم عند النهر، وهناك غرق عدد كبير منهم. وهكذا لم تُحسمَ المعركة، فعادت فُلول الجيش المصريّ إلى مصر وكانت الهزيمة قاسية جدٌّا رغم ما كتب الفرعون على جدران الكرنك في أقصر اليوم: سيطر، انتصر، تغلّب.

في الواقع هناك كان مقتل عدد كبير من خيل فرعون، من فرسان فرعون، من جنود فرعون، وبقيت مركباته غارزة في رمال شاطئ العاصي. جمع الكاتب بين حدثين: حدث خلاص عاشه العبرانيّون. وحدث موت عاشه المصريّون.

والربّ هو الذي يفعل الخلاص: الربّ هو الذي يخلّص. والهلاك: الربّ هو الذي يُهلك. كما يقول الكتاب: الربّ في يده الموت وفي يده الحياة. لا شكّ نحن هنا أمام طريقة بشريّة. الربّ لا يريد الموت، لا يريد موت الخاطئ بل حياته. ثمّ لا ننسى أنّ الربّ لا يتدخّل في الأمور الصغيرة، فيترك الإنسان وحرّيّته. الحرب هي الحرب والإنسان مسؤول عن الحرب. الموت هو الموت، والإنسان هو المسؤول عن الموت. يقول مار بولس: »بإنسان واحد دخلت الخطيئة إلى العالم وبالخطيئة الموت«. يعني بالإنسان، بالبشر، بكلّ واحد منّا، دخلت الخطيئة ودخل معها الموت. لكنّ الكاتب الملهم يترُك جانبًا الأمور الثانويّة ويتوقّف عند الأساس. يترك العلل والأسباب الثانويّة، ويذهب إلى العلّة الأولى التي هي ا؟.

3 - قساوة الإنسان المتألّه

والأمثلة عديدة حتّى في هذا النصّ. أوّلاً يقول النصّ في 14: 17 من سفر الخروج: »وأنا أقسِّي قلوب المصريّين فيدخلون وراءهم«. كيف يُقسِّي الربّ قلب الإنسان؟ الإنسان هو الذي يقسِّي قلبه.

فالربّ يدعو إلى الانفتاح. يقول لنا: عودوا إليَّ فأعود إليكم، ولكنّ طريقة الكتابة، كما قُلت، تشدِّد على أنّ ا؟ هو السبب. كأنِّي به يعاقب المصريّين على عبادتهم للأوثان، على عبادتهم لأصنام بشكل حيوانات. عمليٌّا الشعب يقسِّي قلبَهُ. لكن لماذا نقول الربّ قسَّى قلبه (= قلب فرعون)؟ لمّا رأى المصريّون عجائب ا؟، عظائم ا؟، قدرة ا؟، كان بإمكانهم أن يدخلوا في هذه العظمة، في هذه القدرة. أن يسلِّموا أمورهم للربّ، لكنّهم رفضوا. وقفوا في وجه الربّ كأنّهم يريدون أن يقاتلوا الربّ. لهذا صار قلبهم قاسيًا ضدّ الربّ، كأنّي بهم يريدون أن يغلبوه.

نتذكّر في سفر التكوين الفصل 10 عندما حاول نمرود الجبّار، جبّار العراق في بلاد الرافدين، عندما حاول نمرود أن يضرب بسهامه ا؟. علّه يُصيبه في أعلى سمائه. إذًا هذه القساوة قساوة القلب تدُلّ على أنّ الإنسان يريد أن يحارب ا؟. يريد أن يتغلّب على ا؟. يرفض، لأنّ هناك كبرياء الإنسان، الإنسان يُريد أن يكون ا؟.

فمنذ البداية مع آدم وحوّاء: قالت الحيّة: تصيران مثل الآلهة. وهنا قال الكتاب: الربّ قسَّى قلوب المصريّين. عمليٌّا ا؟ أجرى المعجزات. رأى المصريّون في هذا الإله، خصمًا لدودًا، قسّوا قلوبهم، لكنّهم في النهاية سوف يتراجعون.

4 - ليت الإنسان يفهم

ويقول النصّ أيضًا في 14: 18: »فيعلم المصريّون متى أجهزتُ عليهم أنّي أنا الربّ«. إعتبروا أنّ الربّ ليس ذاك القويّ. هو لا يستطيع أن يفعل أمام أكبر قوّة ضاربة في ذلك الوقت، القوّة المصريّة. هو لا يستطيع أن يعمل شيئًا تجاه الفرعون الذي ألَّهه المصريّون، جعلوه صورة الإله على الأرض. لهذا صار قلبه قاسيًا. ولكن في النهاية سيقول لنا إشعيا الفصل 19: في الشدّة، والشدّة عرفوها من الجيش الأشوريّ، سوف يصرخون إلى الربّ، كما صرخ الشعب العبرانيّ. وكما خلّص الربّ الشعب العبرانيّ من سلطة الحاكم المستبدّ، سيُخلِّص الشعبَ المصريّ من الاجتياح الأشوريّ الذي وصل إلى العاصمة المصريّة.

ويتابع النصّ فيبيِّن لنا أنّ ا؟ هو قائد جيش. يقول هنا في الفصل 14:24: إنّ الربّ أشرَف على جيش المصريّين، نظر من فوق كيف يتوزّع الجنود، مثل الأقمار الاصطناعيّة، اليوم، حتّى يوقع الهزيمة بهذا الجيش.

وعندنا صورة ثالثة أيضًا في 14:19: وقف الربّ بين الجيش المصريّ والجيش العبرانيّ، وانتقل عمود السحاب الذي يدلّ على ا؟، ووقف وراءهم بحيث دخل بين جيش المصريّين، وجيش بني إسرائيل. وقف بين الاثنين.

كان ا؟ شرٌّا للمصريّين، كان ظلمة. هم أرادوا ذلك. وكان خيرًا للعبرانيّين، كان نورًا، كما قالت آية 20: ووقف بينهما كأنّه لا يريد الحرب بينهما، فلا يقترب أحد الفريقين من الآخر طول الليل«. مهمّ جدٌّا هنا. كأنّي بالربّ يلعب دور الحكم قبل أن يفعل.

أتُرى المصريّين سيفهمون من هو الربّ ويعودون إلى بلادهم من دون حرب؟ أم يريدون أن يحاربوا العبرانيّين؟ ولكنّهم تابعوا طريقهم، دخلوا في البحر، أرادوا أن يحاربوا، لا الشعب العبرانيّ، بل أن يحاربوا ا؟. لهذا السبب، عندما دخلوا كان لهم الموت، كان لهم الغرق. يبدو النصّ في آ 25 كأنّه يصوِّر جيشًا دخل في الرمال. يقول: عطّل دواليب مركباتهم فساقوها بصعوبة. قالوا: »نهرُب من أمام بني إسرائيل«. لا خوفًا من بني إسرائيل، بل خوفًا من الربّ »لأنّ الربّ يقاتلنا عنهم«.

رأوا بني إسرائيل بدون سلاح أبدًا. إذًا من يقاتل عنهم؟ من يدافع عنهم؟ هو ذلك الذي لا يحتاج إلى سلاح. هو الربّ.

5 - ا؟ إله الخلاص إذا شئنا

هكذا حصل مع الضربات: فهمَ السحرةُ أنّ إصبع ا؟ هي هنا. وتأخّر فرعون حتّى يفهم. الجنود فهموا أنّ الربّ حاضرٌ هنا. يا ليتهم يستطيعون أن يهربوا. ولكن فرعون لا يريد أن يتراجع. هو يهاجم ا؟ حتّى خارج أرضه، أي في البرّيّة.

يقول النصّ في آ 27: »فواجه المصريّون البحر وهم هاربون، فطرحهم الربّ في خارج البحر«. نلاحظ دائمًا الأسباب الطبيعيّة والأسباب الإلهيّة. من جهة هذا الموج الهاجم هو سبب طبيعيّ، ولكنّ النصّ يقول: الربّ طرحهم في وسط البحر، لم يقُل الموج طرحهم، بل الربّ طرحهم.

وهناك نظريّة تقول: هبّت رياح شرقيّة، هذه الرياح الشرقيّة هي التي فتحت الماء وأغلقت الماء. لكنّ النصّ يقول في 14: 21: »أرسل الربّ على البحر ريحًا شرقيّة عاصفة طول الليل«. نعرف أنّ الربّ هو الذي يفعل. هذا على مستوى الإيمان. أمّا على مستوى العالم الطبيعيّ، فالرياح تنفخ، الرياح تحرّك المياه، تحرِّك الأشجار. ولكنّنا لا نرى ا؟. من يفعل؟ هو موسى. موسى مدَّ يده، رفع عصاه فانشقّ البحر. موسى مدَّ يده على البحر فارتدّت المياه، فارتدّ البحر على المركبات والفرسان. خلاص الربّ كامل. وهلاكه أيضًا كامل. يعني أنّ الربّ لا يرضى بحلّ سيكون بين بين. من ليس معي فهو ضدّي، ومن لا يجمع يُفَرِّق. هذا ما فهمه الشعب العبرانيّ وما فهمه الشعب المصري.

ا؟ هو إله الخلاص إذا شئناه كذلك. وا؟ هو إله الهلاك إذا شئناه كذلك. وإنجيل يوحنّا يقول لنا: من يؤمن لا يمرّ في الدينونة لا يمُرّ في الهلاك. وكذلك يقول: من لا يؤمن تناله الدينونة.

6 - حرّيّة الإنسان في ممارسة دينه

وفي آ 28 نفهم قوّة الخبر حين يقول: وما بقي منهم أحد. تلك الطريقة نعرفها نحن حين نُخبر أحد الأخبار فندلّ على أنّ المعركة كانت تامّة وأن العقاب كان كاملاً. كما قلت لكم: يعود الكاتب إلى تلك المعركة في قادش، على العاصي، حيث مات عدد كبير من الجنود. لكن لا شكّ أنّ الكثير منهم أيضًا استطاع الهرب. ولكن ما يريد الكاتب أيضًا أن يقول من خلال المعنى الروحيّ: لا حاجة إلى عبادة الأصنام، لا حاجة إلى الذين يتعبّدون لها. إن لم يعرف كلّ إنسان أهمّيّة عبادة الإله الواحد، فهو خاسرٌ حياته.

هذا لا يعني أنّه يحقّ لنا أن نقتل الذين لا يعبدون ا؟ الواحد. أجل، لا يحقّ لنا أن نقتل أولئك الذين يعبدون عباداتهم الخاصّة. فالعبادة شأن بين ا؟ والإنسان، والربّ هو الذي يعرف أن يمشي مع الإنسان ويوصله شيئًا فشيئًا إلى عبادة ا؟ الواحد. لذلك قيل لا إكراه في الدين، مع إنّنا نتعامل بإكراه في الدين. والمجمع الفاتيكانيّ شدّد كثيرًا على هذه الحرّيّة الدينيّة. نحن لا نفرض على الناس أن يعبدوا الإله الذي نعبد، أو أبشع من ذلك، أن يأخذوا بديانتنا. كلاّ. نحن نشهد وهم يقبلون أو يرفضون. ويتابع النصّ (14: 29): ومرّ بنو إسرائيل على الأرض اليابسة في وسط البحر، والماء لهم سور عن يمينهم وعن شمالهم. هم في زيّاح، في تطواف، في هذه الطريق، في قلب البحر.

7 - خلاص الربّ نداء إلى الإيمان

والربّ يحميهم. هذا السور عن اليمين وعن الشمال، يمنع الأعداء من الوصول إليهم. السور صار حاميًا، والماء صار حاميًا لهم. والكلمة الأساسيّة نقرأها في 14: 30: وخلّص الربّ في ذلك اليوم بني إسرائيل من أيدي المصريّين. كانوا عبيدًا لهم فنالهم الخلاص. ورأى بنو إسرائيل المصريّين أمواتًا على شاطئ البحر. إذًا نرى من جهة خلاصًا حصل لبني إسرائيل، وهلاكًا حصل للآخرين. أريد أن أقول هنا، هذا الصراع بين المصريّين والعبرانيّين على مدّ التاريخ. لأنّ الشعب العبرانيّ لا يستطيع أن يستند إلى قوّة عظيمة، قوّة ضاربة هي القوّة المصريّة. ولكن لن يكون له الخلاص، إلاّ إذا استند إلى الربّ، إلى الإله.

فكيف يقدر بنو العبرانيّين أن يستندوا في السياسة، إلى مصر، إلى هذا الشعب الذي انتهت به الأمور إلى الموت، فلينظروا إلى من هو الحيّ، والحيّ دائمًا، إلى الذي يحمل الخلاص العظيم. وهكذا ينتهي الفصل 14، بهذه الآية الجميلة (آ 31):

»وشاهد بنو إسرائيل الفعل العظيم الذي فعله الربّ. خافوا الربّ وآمنوا به وبموسى عبده«. الخبرة الدينيّة، التعلّق بالربّ، ترتبط بما نرى كما ترتبط بما نسمع. رأوا عمل ا؟ العظيم، وبما أنّ ا؟ هو الذي عمل، فهو حاضر، وحضور الربّ يبعث في القلب الرهبة، المخافة، الخشية، لأنّ رأس الحكمة مخافة الربّ. والمخافة هي أقرب طريق إلى الإيمان. إيمان با؟ وبموسى عبده. إيمان با؟. ولكن هذا الإيمان الذي هو صفة روحيّة لا نستطيع أن نراها بأمّ العين. هكذا الإيمان يعبَّر عنه في الحياة اليوميّة بالطاعة ؟ ولعبده. بموسى عبد الربّ. آمنوا با؟ ودلّوا على إيمانهم لمّا جعلوا ثقتهم بموسى، وساروا وراءه في تلك البرّيّة.

هذا هو معنى النصّ الذي قرأناه على حلقتين، نصّ عبور البحر. من جهة العبرانيّين، هو عبور إلى الأرض أرض الربّ، إلى الخلاص. ومن جهة المصريّين هو هلاك وموت. يبقى على الشعب أن يفهم ما فعله الربّ، أن يؤمن بما فعله الربّ، أن يخاف الربّ ويسير مع موسى. الطاعة لموسى هي في النهاية طاعة للربّ، والإيمان بموسى هو في النهاية إيمانٌ بالربّ. ماذا تُرى سيفعل العبرانيّون قبل أن يدخلوا بريّة سناء ويصلوا إلى أرض الموعد؟ إختاروا الربّ الآن. ويا ليتنا نكتشف عمل ا؟، فنسير وراء من يدعوه فيكون لنا الخلاص. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM