تكريس الأبكار

 

 

تكريس الأبكار

أحبّائي ربّنا يكون معكم وكلمته ترافقنا جميعًا. هذه الكلمة كُتبت منذ القديم، منذ 500 سنة، 600 سنة قبل المسيح. ولكنّها تكوّنت شيئًا فشيئًا منذ موسى وخروج الشعب، بل قبل موسى بآلاف السنين في هذه الشعوب الذي بدأت تبحث عن الله في القديم القديم. هذه الكلمة تدوّنت مبدئيٌّا في صيغتها النهائيّة بعد العودة من المنفى أي في القرن السادس أو الخامس قبل المسيح. وهنا نقرأ الفصل 13، عنوانه: تكريس الأبكار للربّ.

1 - تكلّم الربّ، تكلّم موسى

وقال الربّ لموسى: »كرِّس (قدِّس) لي كلَّ بكر فاتح رحم من الناس والبهائم في بني إسرائيل«.

فقال موسى للشعب: »اذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر، من دار العبوديّة. بيدٍ قديرة أخرجكم الربّ، فلا تأكلوا خبزًا مختمرًا. في هذا اليوم من الشهر الأوّل، شهر أبيب، أنتم تخرجون من أرض مصر. فإذا أدخلكم الربّ أرض الكنعانيّين والحثّيّين الأموريّين والحوّيّين واليبّوسيّين التي حلف الربّ أن يعطيها لآبائكم أرضًا تدرّ لبنًا وعسلاً، فاحتفظوا بهذه العبادة في هذا الشهر.

»سبعة أيّام تأكلون خبزًا فطيرًا، وفي اليوم السابع عيد للربّ. فلا يُرى لكم خبزٌ فطيرٌ في هذه الأيّام السبعة، ولا شيءٌ مختمرٌ في جميع دياركم. وتقولون لأبنائكم في ذلك اليوم: نفعل هذا اعترافًا بما عمل الربُّ لنا حين أخرجنا من مصر، ويكون هذا كالوشم على أيديكم أو كعلامة على جباهكم بين عيونكم، تذكارًا يُبقي شريعة الربّ في أفواهكم، لأنّ الربّ بيدٍ قديرة أخرجكم من مصر. واحفظوا هذه الفريضة في وقتها سنة بعد سنة«.

قال الربّ لموسى في آ 1. في آ 3: فقال موسى للشعب. سوف نرى الشعب على جبل سيناء يطلب من موسى، يقول له: لا يكلّمنا الربّ بل كلّمنا أنت. أجل خاف الشعب وهو الخاطئ، خاف من رؤية الربّ، من منظر الربّ. خاف من سماع كلمة الربّ. وهنا خبرتنا واسعة في هذا المجال. لا نريد أن نسمع صوت الله. لا نريد أن نسكت ونترك الله يكلّمنا في أعماق قلوبنا. نتهرّب من الله. لا نريد أن نسمع حتّى لا نخضع، حتّى لا نطيع، حتّى لا نعمل. لهذا السبب قال الشعب لموسى: لا يكلّمنا الربّ بل كلّمنا أنت.

لا شكّ هنا نفهم هذه الخبرة العميقة التي عرفها موسى في حواره مع الربّ، وهي خبرة متاحة للجميع في الصمت: صمت الصباح أو المساء أو الظهر. نختلي بالربّ، نفتح له قلبنا وعقلنا وعواطفنا حتّى يكلّمنا. ولكن مع يسوع المسيح لا نحتاج بعد إلى إنسان، فيسوع المسيح هو الإله والإنسان، هو الذي يصل البشريّة با؟ والأرض بالسماء. إذًا نحن نحتاج أن نسمع صوت الربّ مباشرةً وهو يكلّمنا، يكلّمنا كما يكلّم الأب ابنه شرط أن نسمع له. يُروى عن أحد القدّيسين أنّه قال للربّ: »وهل أنت حاضر؟« فأجابه الربّ: »بل هل أنت جاهز؟ هل أنت تسمع؟ هل أنت مستعدّ أن تسمع؟«

وموسى سيقول فيه الكتاب إنّه كلّم الربّ وجهًا لوجه. ربّما في بداية حياته، ما أراد أن يسمع، وقد قال للربّ: أنا لا أستطيع أن أتكلّم، أنا لا أعرف أن أتكلّم. أمن زمان بعيد؟ كلاّ، بل من البارحة. وتلك كانت طريقة بها يتهرّب موسى من سماع كلام الربّ، وبالتالي من حمْل كلام الربّ. وخبرة موسى سيعيشها أيضًا إرميا الذي قال يومًا من الأيّام: »لا أريد أن أتكلّم عنه«.

2 - كرِّسْ لي

ولكنّه لم يستطع، لأنّ نارًا كانت في قلبه تهزّه، تحرّكه، تُشعله. وقال الربّ لموسى: »كرّس لي كلّ بكر فاتح رحم من الناس والبهائم في بني إسرائيل«. نذكّر هنا السامعين أنّ هذه الشرائع ليست محصورة في الشعب العبرانيّ. عُرفت في كلّ الشعوب، فدلّت على أنّ الأرض وما فيها هي للربّ ولهذا يكرِّس الإنسان، وخصوصًا الفلاّح، البكر، من كلّ حيوان ليقول للربّ: إنّه يكرِّس له كلّ شيء. الربّ أعطانا كلّ شيء ونحن نعيده إليه. وحين نكرّس البكر بين البهائم وبين الناس، إنّما نعني بذلك أنّنا نقدّم عيالنا لله، نقدّم بهائمنا، غنمنا، بقرنا، جمالنا، نقدّمها لله.

»كرّس لي...«. هذا العمل، كما قلت، عرفته الشعوب القديمة وعنهم أخذ بنو إسرائيل. ولكن كيف يتجاسر الكاتب الملهم أن يقول: »وقال الربّ لموسى«. في الواقع موسى سمع هذا القانون، هذه الوصيّة، هذه الشريعة من الناس، ومع ذلك كلّ شيء يعود إلى الله. وموسى سوف يطبع هذه الشريعة بالطابع الإلهيّ، فيسير في خطّ بدأ فيه إبراهيم ولم يكمّله.

كان الناس يكرّسون البكر من البهائم فيقتلونه والبكر من الناس فيقتلونه. لهذا حمل إبراهيم ابنه إسحاق وأراد أن يكرّسه، وكيف يُكرَّس؟ يُقتَل. فأخذ النار والسكين وعبدين معه. وإذ أراد أن يقتل ابنه، سمع الصوت السماويّ. إذًا ما يميّز هذه الشريعة في فم موسى بوجودها عن فم العالم المحيط بالشعب العبرانيّ، هو أنّ الإنسان لا يُقتل، فالوصيّة واضحة: لا تقتل. فالإنسان لا يقتل ابنه. وسوف يتألّم الكاتب من حيئيل الذي قتل بكره ووضعه في أساسات أريحا، وقتل الأصغر ووضعه تحت الباب. لا. في الموت لا تكون المدينة بل في الحياة. إذًا هذه الشريعة التي كانت شريعة لدى الشعوب المجاورة التي نسمّيها الشعوب الوثنيّة، ونحن نعرف ما نعني بهذه الكلمة، صارت شريعة الربّ، لأنّها انطبعت بطابع الربّ مع احترام عميق للإنسان الذي لا يمكن أن يُعامَل معاملة الحيوان.

نستطيع أن نقول بعبارة أخرى: أولادنا ليسوا لنا، فلا نقدر أن نفعل بهم ما نشاء، نقتلهم أو نجعلهم يعملون، نُتعبهم أو نمارس معهم الخطيئة. كما هو الوضع في بعض المحيطات المعاصرة. كلاّ. هم للربّ ويعودون إلى الربّ. لا نقتلهم بل نكرّسهم للربّ، كما فعلت أمّ صموئيل حين كرّست ابنها لخدمة الهيكل.

3 - أذكروا

الذِكر مهمّ جدٌّا في الكتاب المقدّس لا بل في كلّ الديانات. أوّلاً الله؟ يَذكر ولا ينسى. الله لا ينسى أبدًا. »فلو نسيت أم ابنها، الربّ لا ينساكم، لا يهملكم، لا تخافوا«. إذًا الربّ يذكر، والمؤمن يذكر. يذكر ما عمله الربّ له. لماذا يذكر؟ يذكر ليشكر أوّلاً. ويذكر ثانيًا ليجد الشجاعة والتعزية. الشجاعة بأن يتابع العمل. فالربّ في الماضي صنع وهو اليوم يصنع. هو القدير الذي صنع وما زال ذلك القدير. الربّ هو الأمين، فعل ويفعل الآن وسيفعل غدًا. وهذه الفكرة تملأنا ثقة، تملأنا شجاعة، تملأنا تعزية في ضيقاتنا.

»أذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر، من دار العبوديّة«. كان بالإمكان أن يقول: اذكروا ذلك اليوم البعيد الذي لم يعد يُذكر الآن. لا. لم يقل النصّ كذلك. هذا اليوم. هذا اليوم هو قريب جدٌّا. هذا اليوم هو الآن. اليومَ، الربّ يخرجكم من مصر كما أخرج آباءكم وآباء آبائكم. من هنا سيقول لنا: اليوم إن أنتم سمعتم صوته، اليوم. مهمّة جدٌّا هذه اللفظة »اليوم«. الربّ اليوم يفعل. الربّ ليس من الماضي، الربّ هو من الحاضر، إن فعل يفعل اليوم، إن ذكرَ، ذكرَ اليوم، إن جازى يجازي اليوم.

ولكنّ السامعين أو القارئين لهذا النصّ لم يخرجوا من مصر. فآباؤهم وآباء آبائهم خرجوا، فكأنّهم هم يخرجون. وسنرى مرّات عديدة أنّ مصر هي دار العبوديّة. ليست دارَ الحرّيّة، ليست دار الحياة مع الله في حرّيّة الأبناء. وكيف أخرجكم الربّ؟ بيد قديرة. اليد تدلّ على القدرة، تدلّ على الوسيلة. لا شكّ، أحبّائي، أنّ الربّ لا يد له مثلنا، ولكن هي صورة تدلّ على الفعل. فاليد هي التي تفعل، تجبل الإنسان، تُخرج المرأة من الرجل. اليد تفعل وكم مرّة تفعل. وهذه اليد ليست يدًا بشريّة محدودة في المكان والزمان. ليست يدًا لا تستطيع إلاّ أن تتحسّر على الخراب الذي يُصيبنا. كلاّ. هي يدٌ قديرة. لا ننسى الربّ القدير، الصباؤوت. يعني ربّ الأكوان، ربّ القوّات.

4 - عمل الربّ لنا فماذا نعمل له؟

بهذه اليد القديرة أخرجكم الربّ. بما أنّكم خرجتم من مصر بيد الربّ، بما أنّ الربّ سبق وخلّصكم، بما أنّ الربّ سبق واهتمّ بكم، فهو يطلب منكم أن تبادلوه. إذا كنّا على مستوى الملوك، الملك الكبير يحامي عن الملك الصغير فتبقى الواجبات على الملك الصغير. هناك واجبات تجاه الملك الكبير.

وكذلك نستطيع أن نتكلّم على مستوى الحبّ. إذًا كان العريس كلّم عروسه بالحبّ وقدّم لها ما قدّم، فعلى العروس أن تبادله الحبّ، تبادله تقدمة الذات. بما أنّ الربّ أخرجكم بيد قديرة فما هو واجبكم؟ لا تأكلوا خبزًا مختمرًا. نحن هنا، كما سبق وقلت في عيد الفطير الذي يمتدّ سبعة أيّام، تبدأ في الرابع عشر من شهر أبيب وتنتهي في اليوم الحادي والعشرين. بيد قديرة أخرجكم الربّ فلا تأكلوا خبزًا مختمرًا. بادر الربّ وفعل من أجلكم، فلا تخافوا ولا تتردّدوا أن تفعلوا من أجله.

في هذا اليوم من الشهر الأوّل، شهر أبيب، أنتم تخرجون من أرض مصر. إذًا، أدخلكم الربّ أرض الكنعانيّين والحثيّيّن والآموريّين والحوّيّين واليبّوسيّين. نلاحظ هنا خمسة شعوب والرقم خمسة هو رقم مقدّس في التوراة اليهوديّة وفي الحياة اليهوديّة. فلا تكون الأرض مقدّسة إذا حاول الشعب أن يفني شعبًا آخر ويحلّ محلّه. وإذا كانت جماعة موسى ثمّ جماعة يشوع دخلت إلى أرض فلسطين، فقبلها دخلت شعوب عديدة. وبعدها ستدخل شعوب مثل اليونان والرومان والعرب. فلماذا يريد شعب أن يستأثّر بالأرض ويحتفظ بها لنفسه؟

5 - عودة إلى الماضي

»التي خلقها الربّ« وأراد أن »يعطيها لآبائكم أرضًا تدرّ لبنًا وعسلاً«. حين كتب الكاتب الملهم هذا النصّ، لم يعُد هناك من استقلال للشعب العبرانيّ، فبقيت له الأرض فقط. لا سلطة سياسيّة له سوى السلطة الحاكمة: الفرس ثمّ اليونان ثمّ الرومان... خمسة شعوب كانت في أرض العبرانيّين، ولكنّها لم تعد حاضرة هنا. هذه الأرض أقام فيها العبرانيّون وسوف يخرجون منها، يُقتلعون منها على يد الأشوريّين 721 - 722 وعلى يد البابليّين 587 - 586.

الكاتب يعود إلى الوراء، يتذكّر الإقامة الأولى في الأرض التي أعطاها الربّ، ويتذكّر خصوصًا عظمة الملوك الذين سيطروا على هذه الأرض فجعلوا منها أرض السعادة، أرض الرخاء، أرض الازدهار، يسمّيها هنا أرضًا تدرّ لبنًا وعسلاً. بما أنّ فيها المراعي، فاللبن سوف يسيل حتّى على الجبال. أمّا العسل، وفي العبريّة »دبش، الدبس« فقد يدلّ على دبس الخروب الذي يكثر في الأراضي الجافّة. كما يدلّ على العسل البرّيّ. وما الذي يجعل هذه الحياة هنيئة؟ حضور الربّ مع شعبه.

بما أنّهم يقيمون في الأرض، هذا يعني أنّ الربّ أعطاهم الأرض. وإذا كان الربّ أعطاهم الأرض، فلأنّه أقسم بنفسه أن يعطيهم الأرض. هنا نلاحظ أنّ الكاتب ينطلق من الواقع ويجعله كأنّه في مخطّط الله. حلف الربّ أن يعطيها لآبائكم، ويحلف الربّ ولا يتراجع. إذا كان على مستوى البشر النعم نعم والّلا لا، فماذا يكون على مستوى ا؟؟ حلف وها هو ينفّذ وحده حلفه.

لكن في الواقع هذه الأرض ليست للشعب العبرانيّ الآن، هي تخصّ الحاكم الذي كان، الفرس ثمّ الإسكندر... فكأنّي به يقول: ذاك الذي حلف أن يعطينا هذه الأرض هو أيضًا يعطينا إيّاها اليوم. أمّا وضع الاستعباد، أمّا وضع الاستعمار الذي تعيشه أرض يهوذا وإسرائيل، فهو وضع موقّت. وفي النهاية كما في البداية، هذه الأرض تدرّ لبنًا وعسلاً.

تعني هذه العبارة شيئين: إمّا حياة من البساطة، وإمّا نظرة جديدة إلى الازدهار، إلى الغنى، إلى الرفاهيّة التي تقدّمها هذه الأرض. لا شكّ في أنّ أرض فلسطين أكثر خصبًا من أرض سيناء وبرّيّة سيناء، هذا ما لا شكّ فيه. لكن تبقى أرض يهوذا الملحيّة قليلة المطر، قليلة الخصب. ومع ذلك تُعتبر هذه الأرض وكأنّها فردوس بالنسبة إلى العبرانيّين. ما الذي يمنحها كلّ هذا الغنى؟ الربّ نفسه. هو يقيم هنا، يقيم وسط شعبه، الهيكل هو رمز حضوره وسط شعبه. الربّ حلف في الماضي وأعطى العبرانيّين الأرض ولكنّهم خسروها. وسيقول الكتاب: إنّهم خسروها بخطيئتهم. وإذ يروي الكاتب ما يروي فكأنّي به يقول: الربّ أعطاكم والربّ سيعطيكم أيضًا فلا تخافوا. هو ذاك الذي يعطي.

هذه الأرض تدرّ لبنًا وعسلاً. لا ندري من أين جاء موسى بالغنى ليعطي شعبه، المهمّ أنّ الربّ هو الذي يعطي. حلف الربّ، أعطى الربّ. فما هو واجب الإنسان؟ أن يعطي. أن يسمع نداء الله. فاحتفظوا بهذه العبادة في هذا الشهر. هنا مرّتين: هذه العبادة، هذا الشهر. هذا الشهر هو شهر أبيب (آذار - نيسان) بداية السنة، بداية الربيع. إحتفظوا بهذه العبادة لا بعبادة غيرها. هناك عبادات عديدة تحيط بالشعب العبرانيّ المقيم في أرض كنعان، بانتظار أن يُشتّت في كلّ مدن حوض البحر المتوسّط، بل في الشرق، في العراق، في إيران وفي أماكن أخرى. فعليهم أن يحتفظوا بهذه العبادة.

ونلاحظ أخيرًا تكرار هذه الشريعة بالنسبة إلى عيد الفطير. بدأنا أحبّائي بتكريس الأبكار للربّ، فوصلنا إلى عيد الفصح وعيد الفطير. وهكذا ارتبطت كلّ حياة الشعب العبرانيّ: مسيرته، صلواته، أعياده، ممارساته، ارتبطت كلّها بالخروج من أرض مصر. هذا يعني أنّ الربّ هو الذي بدأ وفعل وخلّص، فبقي على الشعب أن يسير في الطريق، طريق الخلاص التي يقدّمها الربّ له. آمين

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM