رحيل بني إسرائيل

رحيل بني إسرائيل

أحبّائي نتابع قراءة سفر الخروج الفصل 12 الذي فيه أكثر من موضوع: عيد الفصح، عيد الفطير، موت الأبكار. والآن نصل إلى عمليّة العبور. العبور من أرض إلى أرض، من أرض مصر إلى برّيّة سيناء، من أرض العبوديّة للفرعون إلى أرض الحرّيّة، حرّيّة العبادة لله، إذًا نقرأ الفصل 12: 37 وما يلي.

1 - ورحل الشعب

«.ورحل بنو إسرائيل من رعمسيس إلى سُكّوت بنحو ستّ مئة ألف رجل، ما عدا النساء والأطفال. وخرج أيضًا معهم كثيرٌ من الأغراب، وغنمٌ وبقر ومواشٍ كثيرة. وخبزوا العجين الذي خرجوا به من مصر وهو بعدُ فطير، لأنّهم طُردوا منها، فما تمكّنوا أن يتمهّلوا حتّى لتهيئة الزاد. وكانت مدّة إقامة بني إسرائيل بمصر أربع مئة وثلاثين سنة. ففي آخر يوم من هذه المدّة، خرجت جميع عشائر شعب الربّ من أرض مصر، تلك ليلةٌ سهرَ فيها الربُّ ليُخرجهم من أرض مصر، وهذه الليلة يسهر فيها للربّ جميعُ بني إسرائيل مدى أجيالهم»

يبدأ النصّ: »ورحل بنو إسرائيل«. هم يشبهون إلى حدٍّ بعيد رحيل إبراهيم. لمّا ترك إبراهيم حاران متوجّهًا إلى أرض كنعان، إلى فلسطين. وهنا بنو إسرائيل يرحلون. إبراهيم جاء من الشمال، وبنو إسرائيل جاؤوا من الجنوب، من مصر. وتُذكر هنا رعمسيس وسُكّوت. رعمسيس ترتبط بالملك رعمسيس، بالفرعون رعمسيس. هناك رعمسيس الأوّل والثاني والثالث، ويبدو أنّ الخروج من مصر تمّ بعد رعمسيس الثاني. »ومضوا إلى سُكّوت«، هي أيضًا مدينة موجودة في دلتا النيل. سنرى فيما بعد أنّ هناك قرًى نعرف أنّها بُنيت في القرن الثامن وظلّت قائمة حتّى القرن السادس. هذا يعني أنّ سفر الخروج دوّن بشكل نهائيّ في القرن السادس أو بعد القرن السادس. في أيّ حال، هذه المدن ترتبط برعمسيس، فقد يكون هناك بناء مدينة قديمة هُدمت ثمّ أُعيد بناؤها.

ويقدّم لنا النصّ هنا رقمًا كبيرًا جدٌّا: 000 600 مهاجر، 000 600 مقاتل. كيف نفهم هذا الرقم؟ أوّلاً نعرف من الوثائق القديمة أنّ أعظم جيش في ذلك الزمان - جيش مصر - كان يتألّف فقط من 20000 إلى 25000 مقاتل، هنا نقرأ: 000 600. كيف نفسّر هذا الرقم؟ أوّلاً هناك من يعتبر كلمة »ألف« في العبرانيّة مجموعة 4 أو 5 أشخاص فيكون أن 600 ألف تعني تقريبًا 3000 رجل. هذا ما يدلّ على قبيلتين أو 3 قبائل.

وهناك معنًى آخر: ينظر الكاتب إلى الذين خرجوا من مصر. هم أكثر من هذه الأعداد القليلة. هم الذين يعيشون في زمن تدوين سفر الخروج. هذا يعني أنّ أرض كنعان كان فيها تقريبًا مليون ونصف مليون شخص في الوقت الذي فيه كتب الكاتب كتابه. ويقول: ما عدا النساء والأطفال. نتذكّر هنا هذه العبارة التي ترد حتّى في الأناجيل. كان الآكلون من تكسير الأرغفة 5000 ما عدا النساء والأطفال. هذه العبارة تدلّ على أنّ النساء والأطفال لا يُحصون مع الرجال. هم عيال الرجل. يهتمّ بهم، يُلبسهم، يُطعمهم أو يرسلهم إلى العمل ليعملوا له.

2 - ومعه الأغراب

ويقول النصّ: »وخرج أيضًا معهم كثير من الأغراب«. هذه الملاحظة مهمّة جدٌّا. لا يمكن أن نقول أبدًا إنّ هناك نسلاً نقيٌّا من كلّ غريب، كلاّ. فالشعوب متداخلة، والقبائل متداخلة، والأعراق متداخلة. هناك بعض بني إسرائيل، العبرانيّين كما قلت، من قبيلة يوسف. وهناك الأغراب العديدون، هم عبيد أرادوا أن يخرجوا كما خرج غيرهم. وبما أنّ موسى هو أيضًا غريب عن العبرانيّين، هو المصريّ، فكان معه أشخاص أتَوا من قبيلة عمل معها أو من أغرابٍ تعرّفوا إليه وساروا معه في مسيرة الحرّيّة.

وخرج أيضًا معهم كثير من الأغراب، وبقر وغنم وكثير من المواشي. الفرق شاسع بين موسى لمّا ذهب إلى أرض سيناء، والشعب العبرانيّ الذي ذهب إلى أرض سيناء. موسى هرب، لم يكن معه شيء. أمّا العبرانيّون فيملكون الغنم والبقر وسائر المواشي. ولكن، كما طُرد موسى من مصر وهرب إلى سيناء، كذلك سيُطرد العبرانيّون طردًا.

هنا نجد نفوسنا أمام أمور تاريخيّة. العبرانيّون أو الساميّون إذا شئنا بطريقة أوسع، جاؤوا من سورية ربّما من تركيا والعراق، من سورية ولبنان وفلسطين، ووصلوا إلى مصر بسبب المجاعة، بسبب الجفاف الذي أصابهم. ولنا أمثلة عديدة ونصوص عديدة تخبرنا كيف أنّ الساميّين، كيف أنّ أهل فلسطين وسورية ولبنان والبلدان المجاورة، اعتادوا أن يأتوا إلى مصر، لأنّ مصر لا تتأثّر بالمطر، فالنيل هو حياتها.

3 - طُردوا أو خرجوا

أمّا خروج العبرانيّين وغيرهم فتمّ على مراحل: مرحلة أولى: طُردوا من مصر. إذا أردنا أن نعطي بعض الأرقام نقول: سنة 1750 دخل ما يُسمّى الملوك الرعاة أو الهكسوس. دخلوا إلى مصر واحتلّوا أقلّه القسم الشماليّ. ولكن خرجت ثورة من جنوب مصر وطردت هؤلاء المحتلّين سنة 1550 تقريبًا. لهذا نستطيع أن نقول إنّ خروج بني إسرائيل من مصر أو الساميّين بشكل عامّ من مصر، تمّ أوّلاً بالطرد. إمَّا طُردوا بالقوّة. كانت الثورة في جنوب مصر وانطلقت إلى الشمال وطردت العبرانيّين والساميّين.

وإمّا خرجوا منها خروجًا بشكل هروب دون أن يدري بهم أحد. وهم الذين يقيمون على حدود أرض مصر. ما كان لهم إلاّ أن يقطعوا المستنقعات المسمّاة البحيرات المرّة لكي يصلوا إلى جزيرة سيناء ويُفلتوا من ملاحقة حرس الحدود. هؤلاء العبرانيّون خرجوا مع موسى، وقبْله طُردوا. وبعد ذلك سوف نراهم يتنقّلون من مصر إلى فلسطين، ومن فلسطين إلى مصر. فيكون موظّفون كبار من مصر يعملون مثلاً مع سُليمان، ويكون من فلسطين أشخاص يعملون في مصر أو يعملون في فلسطين، من أجل ملك مصر.

ويتابع النصّ في آ 39: »وخبزوا العجين الذي خرجوا به من مصر«. نعود أيضًا إلى هذه الفكرة، فكرة الخبز الفطير الذي لم يدخله خمير. وكانت مدّة إقامة بني إسرائيل في مصر 430 سنة. نحن أمام رقم وقد يصبح في بعض النصوص 400 سنة. لا يهمّ. فنستطيع أن نحصي عدد السنين إمّا من وقتٍ وإمّا من آخر. المهمّ هو القول إنّ بني إسرائيل أقاموا مدّة طويلة في مصر قبل أن يأتوا إلى فلسطين، إلى أرض كنعان.

4 - كلّهم خرجوا

ففي آخر يوم من هذه المدّة، خرجت جميع عشائر شعب الربّ من أرض مصر. شدّد النصّ على »جميعهم«. إذًا كلّهم خرجوا. لم يبقَ أحد. إمّا طردًا وإمّا هربًا. خرجت جميع عشائر شعب الربّ. يُحصى الشعب عشائر أو قبائل. هكذا كانت المجموعات محدّدة. كلّهم خرجوا. هذا ما لم يفعله الذين كانوا في سبي بابل سنة 587 - 538. القسم الكبير بقي في الغربة وما عاد إلى فلسطين. الفقراء وحدهم عادوا. فيا ليت سامعي خبر الخروج يفهمون أهمّيّة »الخروج الجديد«.

في آ 42، نلاحظ أنّ الربّ قريب جدٌّا من شعبه. سهر الربّ في تلك الليلة. كما سهر الربّ قبل الانطلاق للانتجاع، كذلك سهر الربّ معهم من أجل العيد. هنا نفهم أهمّيّة بعض القدّاسات التي تتمّ في نصف الليل، عيد الميلاد أو العيد الكبير. وأيضًا في عيد الغطاس، عيد الدنح أو اعتماد المسيح: كيف أنّ الربّ يمرّ. هذا يعني أنّه كان ساهرًا مع شعبه، أنّه لم يَنمْ. نتذكّر المزمور الذي يقول: »إنّ حارس إسرائيل لا ينام، هو الذي يسهر«. والربّ سهر مع شعبه. سهر لكي يكون معهم، لكي يملأهم بحضوره، لكي يشجّعهم بحضوره، وسهر معهم ليخرجوا، كالقائد الذي يسهر الليل كلّه، ليستعدّ للمعركة عند طلوع الصباح. هذا ما فعله يشوع عندما هاجم على جبل جبعون أولئك الذين تحالفوا عليه. والربّ سهر تلك الليلة مع شعبه ليستعدّ للمعركة الحاسمة، معركة التحرّر والحرّيّة.

موضوع السهر موضوع واسع جدٌّا يملأ الكتاب المقدّس. فقط نتذكّر أنّ الربّ يسوع ليلة آلامه سهر في بستان الزيتون، ولكنّ تلاميذه لم يسهروا معه، ناموا. ذهب إليهم المرّة الأولى والمرّة الثانية والمرّة الثالثة: »أهكذا تنامون، أهكذا لا تستطيعون أن تسهروا معي ساعة واحدة«. وفي النهاية، حين يأتي يهوذا ومن معه، فيقول لهم يسوع: »الآن ناموا واستريحوا، فلا حاجة بعد للسهر وقد جاء من يسلّمني«. وهنا في أرض مصر، سهر الربّ مع شعبه وهو يطلب من الشعب أن يسهر معه. وهكذا يكون عيد الفصح عيد السهر، عيد الحضور مع الله عيد قضاء ليلة كاملة برفقة االله بصحبة الله

5 - بين الختان والعماد

في آية 43 نقرأ وصايا الفصح وكأنّها لم تُقل من قبل. في الواقع قيلت. ولماذا يكرّرها الكاتب؟ لأنّنا أمام أكثر من تقليد كتابيّ. هناك تقليد بركة الله وما نسمّيه في اللغة العلميّة »اليهوهيّ« ثمّ التقليد الكهنوتيّ بسبب حضور هارون قرب موسى. يكرّر إذًا النصّ هنا ما سبق وقاله، لأنّه يورد تقليدًا آخر هو التقليد الكهنوتيّ. فالكاتب لا يريد أن يضيع شيءٌ ممّا تركه الربّ من كلمة وسط شعبه. لا يترك أبدًا كلمة تسقط. هكذا كان يفعل صموئيل. يحافظ على الكلمة كما نحافظ على كسرة الخبز التي تقع من أيدينا. والكاتب الملهم الذي جمع في النهاية كلّ التقاليد، لم يُرد أن يخسر تقليدًا واحدًا.

لهذا جاءت وصايا الفصح تشدّد على أنّ ذبيحة الفصح هي عمل داخل الجماعة. الغريب لا يكون فيها، لا يحقّ له أن يكون فيها. حتّى العبد لا يحقّ أن يكون فيها إلاّ إذا خُتن، يعني إذا صار من شعب الله وحده من انتمى إلى شعب الله بالختان يحقّ له أن يشارك في الفصح. كما نقول في المسيحيّة: لا يتناول القربان المقدّس، لا يشارك مشاركة تامّة في ذبيحة القدّاس إلاّ ذاك الذي اقتبل العماد. وهنا لا يشارك إنسانٌ في ذبيحة الفصح إلاّ إذا اختتن، يعني إلاّ إذا انتمى إلى شعب الله بالعماد تنتمي إلى الكنيسة فيحقّ لنا أن نشارك في أسرارها. واليهوديّ الذي ينتمي إلى الشعب، يحقّ له أن يشارك في ذبيحة الفصح.

6 - بين حمل وحمل

ويعود النصّ في آية 47 فيقول ما قاله من قبل. لكن في آية 46 هناك كلمة »وعظمها = عظم الذبيحة لا يُكسر« أي لا يُكسر عظم من الحمل، حمل الفصح. سيُعيد يوحنّا هذا الكلام (يو 19:36) فيقول: كما أنّ حمل الفصح لا يُكسر له عظم، كذلك يسوع حمل الفصح الحقيقيّ »لم يُكسر له عظم«، كسر الجنديّ ساقَي المصلوبين مع يسوع، ولكنّه لم يكسر ساقَي يسوع، بل رأى يسوع المسيح قد مات. طعنه أحد الجنود بحربة. وهكذا وصلنا إلى قمّة المعنى الروحيّ.

الحمل الحقيقيّ ليس ذاك الذي ذُبح في أيّام موسى، وليس ذاك الذي كان يُذبح في أرض العبرانيّين، وفي بيوت العبرانيّين، وفي الهيكل. الحمل الحقيقيّ هو يسوع المسيح. وينتهي هذا الفصل الكبير بخروج بني إسرائيل من أرض مصر بجميع عشائرهم. ما يعيشونه اليوم وجد جذوره في الماضي، الماضي البعيد. ما يعلّمه إيّاهم اليوم اللاويّون، قد تعلّموه من موسى الذي وضع لهم شرائع. فكأنّي بموسى جعلهم في الخطّ، الخطّ الذي يوصل إلى الربّ في سيناء بل إلى كنعان وأرض الموعد.

بدأوا الطريق بيد الله وعصا موسى الراعي، وبقوّة هارون الكاهن، فما عليهم إلاّ أن يتابعوا المسيرة مع موسى ويوم دخولهم في كنعان، بل بعد الضربة القاضية التي فيها دُمّرت أورشليم وذهب الملك والكهنة إلى المنفى. سيتابعون العمل، يمارسون الفصح، يأكلون الخبز الفطير وهم ينتظرون يومًا بعد يوم مجيء المسيح، ذلك الربّ الذي بفصحه يعطي المعنى الجديد للفصح اليهوديّ ولجميع الأعياد البشريّة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM