عيد الفصح

 

عيد الفصح

أحبّائي نقرأ سفر الخروج الفصل 12 عن عيد الفصح. وقبل أن نقرأ النصّ، نلاحظ كيف ارتبط عيد الفصح بالخروج من مصر. سوف نفهم فيما بعد أنّ هذا العيد كان عيدًا مستقلاٌّ لم يرتبط بالخروج من مصر. ولكنّ التقليد اللاحق ربطه بالخروج من مصر. وهكذا صار الفصح رمزيٌّا عبورًا إلى الربّ في جبل سيناء، ونقرأ الخروج 12:1-14.

1 - النصّ الكتابيّ

وقال الربّ لموسى وهارون في أرض مصر: »هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور وأوّل شهور السنة. أخبرْ جميعَ بني إسرائيلأن يأخذ كلّ واحد منهم في العاشر من هذا الشهر خروفًا واحدًا عن أهل بيته. فإن كان أهل بيته أقلّ من أن يأكلوا خروفًا فليشارك فيه جارَه القريب من منزله، حتّى يجتمع عليه عدد من النفوس يكفي لأكل خروف. ويكون الخروف من الغنم أو الماعز، وتأخذونه صحيحًا ذكرًا ابن سنة، وتحفظونه عندكم إلى اليوم الرابع عشر من هذا الشهر، فيذبح كلّ جماعة بني إسرائيل معًا خرافهم في العشيّة، ويأخذون من دمه ويرشّونه على جانبي الباب، وعتبته العليا في المنازل التي يأكلونه فيها ويأكلون لحمه في تلك الليلة مشويٌّا بالنار مع خبز فطير وأعشاب مرّة. لاتأكلوا شيئًا منه نيئًا ولا مسلوقًا بماء، بل مشويٌّا بنار مع رأسه وأكارعه وجوفه، ولا تُبقوا منه شيئًا إلى الصباح، فإن بقي منه شيء إلى الصباح، فأحرقوه بالنار.

»وحين تأكلونه كونوا متأهّبين للرحيل، أوساطكم مشدودة، وأحذيتكم في أرجلكم، وعصيّكم في أيديكم، وكلوه بعجلة فهو فصح للربّ. وأنا أعبر أرض مصر في تلك الليلة، وأقتل كلّ بكر فيها من الناس والبهائم، وأُنزل عقابي بجميع آلهة المصريّين، أنا الربّ، فيكون الدم على البيوت التي أنتم فيها علامة لكم. فأراه وأعبر عنكم ولا أفتك بكم وأُهلككم إذا ضربت أرض مصر. ويكون هذا اليوم لكم ذكرًا فتعيّدونه للربّ فريضة لكم مدى أجيالكم«.

2 - أصل العيد

إذًا عنوان هذا المقطع عيد الفصح. نعود بعض الشيء إلى التاريخ. عيد الفصح عيد قديم جدٌّا جدٌّا، عيّده البدو قبل العبرانيّين الذين طلب منهم موسى أن يعيّدوه في القرن الثالث عشر، تقريبًا 1250 قبل المسيح. هذا العيد هو عيد الرعاة يعيّدونه قبل الانتجاع. والانتجاع ما هو؟

أحبّائي الانتجاع هو الانتقال من أرض شتويّة إلى أرض صيفيّة. الأراضي الساحليّة تنبت فيها الأعشاب خلال أشهر تشرين الأوّل وتشرين الثاني وكانون الأوّل وكانون الثاني وشباط. ولكن في الجبل لن يكون عشب بل يكون ربّما الثلج. وفي بداية الربيع تصعد المواشي. يصعد الرعاة إلى الجبل حيث يكون العشب، حيث يكون الماء. إذًا قبل الانتقال من منطقة إلى منطقة، اعتاد الرعاة أن يذبحوا خروفًا للإله، هذا الخروف يذبحونه كدَيْن عن الخراف لكي تبتعد الضربات عن القطيع في مسيرتها إلى المنتجع. من هنا كانت العادة أن تُمسح خيمةُ الرعاة بالدم.

يقول النصّ: »ويأخذون من دمه ويرشّونه على جانبَي الباب وعتبته العليا في المنازل«. هذا يعني أنّ النصّ حين كتب في شكله الأخير، يعود إلى القرن السادس أو القرن الخامس أو قبل ذلك الوقت بقليل. يعني ساعة بدأ يعيش العبرانيّون لا في الخيمة، بل في البيوت، في المنازل. وفي أيّ حال، هذا الدم الذي يُوضع على جانبَي الباب وعلى العتبة العليا، هذا الدم يحمي السكان، يحمي الخراف من كلّ ضربة يمكن أن تصيبهم خلال هذه المسيرة، من موضع إلى موضع.

»وقال الربّ لموسى وهارون في أرض مصر«. في الواقع، الكاتب الذي يكتب هذا الفصل هو الآن في أرض فلسطين، في أرض الموعد، في أرض كنعان، ولكنّه يربط هذا العمل، هذا العيد، بأيّام سابقة، يوم كان الشعب في أرض مصر. نتذكّر هنا أنّ الليتورجيّا أو الخدمة المقدّسة، تجعل الماضي حاضرًا، أو تعيدنا إلى الماضي، إلى الأجداد، لكي تنطلق نحو الحاضر، ونحو المستقبل. الشعب يعيش الآن في فلسطين وهو الكاتب الملهم، يعود إلى زمن الإقامة في مصر. لماذا؟ لأنّ عيد الفصح في أصله هو عيد الخلاص. والخلاص سيعيشه الشعب، أوّل ما يعيشه في مصر، وعبوره إلى سيناء أو خروجه من مصر، من أرض العبوديّة إلى سيناء أرض العبادة.

3 - أوّل الشهور

هذا الشهر يكون لكم رأس الشهور وأوّل شهور السنة. هذا الشهر اسمه أبيب (السنابل الناضجة). يوافق آذار - نيسان. يكون لكم رأس الشهور وأوّل شهور السنة. فإن كان هذا الشهر أوّل شهور السنة، فيعني أنّ الأمر لم يكن كذلك فيما مضى. في الماضي كانت تبدأ السنة في الخريف. أمّا هنا فتبدأ السنة في الربيع. وممّا يدلّ على ذلك هو أنّه حتّى اليوم تبدأ السنة العمليّة في الخريف مثل المدارس والجامعات. هي تبدأ في الخريف. في شهر أيلول أو تشرين الأوّل تبدأ السنة المدرسيّة. وتلك كانت العادة عند العبرانيّين في الخريف. لكن بعد ذلك، صارت السنة تبدأ في شهر آذار - نيسان، أي في بداية الربيع، وذلك في خطّ التقليد البابليّ.

البابليّون فرضوا هذه العادة على العبرانيّين وصارت هذه العادة معمولاً بها لدى العبرانيّين وغيرهم من الشعوب. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، التشديد على هذا الشهر الذي يعرفه الجميع، يدلّ على أنّ لهذا الشهر عظمته، لأنّه شهر عيد الفصح. هو أعظم الشهور بسبب العيد الذي يعيّدونه فيه.

»أخبرْ جميعَ بني إسرائيلأن يأخذ كلّ واحد منهم في العاشر من هذا الشهر خروفًا واحدًا عن أهل بيته«. نتطلّع منذ الآن إلى اليوم الرابع عشر من الشهر، لماذا؟ لأنّ اليوم الرابع عشر من الشهر يكون القمر بدرًا. يكون هناك نور، يكون الضوء كافيًا، لكي يعيّد الشعب طوال الليل. نحن بحاجة إلى الضوء يوم لم تكن وسائل الإنارة موجودة كما هي الحال عندنا اليوم.

نختار الخروف منذ اليوم العاشر، نعزله عن القطيع، مهمّ جدٌّا: نعزله من العاشر حتّى الرابع عشر، نعزله كأنّنا نكرّسه، لم يعد في حكم العاديّ، في حكم بقيّة الخراف أو الجداء. كلاّ. عُزل، فُرز، وُضع جانبًا. فلم يعد يخصّنا، صار يخصّ ا؟. لم يعد خروفًا من الخراف، بل صار مكرّسًا للربّ. هذا الخروف الذي يختاره ربّ البيت يصبح، قبل الوقت، مقدّسًا، قبل أن يضع الربّ يده عليه. يأخذون الخروف ويضعونه جانبًا.

ويكون الآكلون منه إمّا أهل البيت وإمّا أهل البيت مع الجيران، إذا كان عدد أهل البيت قليلاً. نقول هنا: فليشارك فيه جاره القريب من منزله، حتّى يجتمع عليه عدد من النفوس يكفي لأكل خروف. لماذا؟ لأنّه يجب أن لا يبقى منه شيء إلى الغد. وسيقول النصّ فيما بعد: إذا بقي منه شيء يُحرَق، كأنّي بهذا الخروف مكرّس للربّ، وكأنّي بهذه الليلة مكرّسة للربّ.

هذه الليلة تكون ليلة بين يومين، يوم بين يومين، يوم مكرّس بين يوم يسبقه ويوم يتبعه. لهذا يقول النصّ: إن بقي شيء منه إلى الصباح فأحرقوه بالنار. وتأتي متطلّبات هذا العيد فتتوجّه إلى كلّ جماعة بني إسرائيل. (آ3،6) »جميع بني إسرائيل«. هنا يريد الكاتب أن يشدّد على أنّه حين دُوّن هذا النصّ، كانت كلّ الجماعة تمارس هذا العيد. ولكن لم يكن الأمر هكذا في أيّام موسى.

لا شكّ، يتحدّث الكتاب في المعنى الرمزيّ والمعنى الروحيّ عن 12 قبيلة أقامت في أرض فلسطين من الجنوب حتّى الشمال وحدود فينيقية ولبنان الحديث. ولكن في الواقع، لم يكن في مصر على ما يبدو سوى ثلاث قبائل: أفرائيم وهي قبيلة يوسف، لاوي وهي قبيلة موسى وهارون، ويهوذا التي دخلت من الجنوب. أفرائيم دخل من الشرق عبر بوّابة أريحا. يهوذا دخل من الجنوب. أمّا قبيلة لاوي فظلّت في الصحراء على حدود الأرض المزروعة، وسوف تتغلغل شيئًا فشيئًا إلى أن تتسلّم أمور الكهنوت وتقدمة الذبائح كلّها في هيكل أورشليم.

يذبح كلّ جماعة بني إسرائيل معًا خرافهم في العشيّة. نلاحظ هذه الكلمات أوّلاً كما قلت: كلّ من لا يذبح يُحسب خارج الجماعة، يفصَل عن الجماعة، يحرم. هناك معنًى مادّيّ. وفي الوقت ذاته معنًى روحيّ. يعيّد المؤمنون بقلب واحد وروح واحدة ونيّة واحدة ومشروع واحد. هذا العمل الذي يقوم به الكثيرون، الذي تقوم به الجماعة، يعود إلى ذاك العمل الأوّل الذي تمّ يوم خرج الشعب من أرض مصر. إذًا كلّ جماعة بني إسرائيل معًا، متى؟ في العشيّة. ويمكن أن يقال بين غروب الشمس وبين غروب الضوء.

5 - عالم الرعاة

يتابع النصّ فيدلّنا على أنّنا في عالم الرعاة. يقول: هذا الخروف، هذا اللحم، يكون مشويٌّا بالنار. لا تأكلوا شيئًا منه نيئًا ولا مسلوقًا بماء بل مشويٌّا بنار. فالبدويّ العائش في البرّيّة، العائش في الصحراء، لا ماء له. كلّ ما له بعض الحطب، بعض الأعشاب، بعض الشوك الذي يستطيع بها أن يشوي ذاك الخروف وتلك اللحوم. إذًا نحن في الأصل في إطار الرعاة، في إطار البدو.

ثانيًا هناك خبز فطير. البدويّ لا وقت له ليجعل الخبز يختمر. خبزُه دومًا فطير. سوف نرى فيما بعد، كيف يلتقي هذا الخبز الفطير مع عيد الفطير الذي هو عيد المزارعين في أرض فلسطين. وأخيرًا هناك الأعشاب المرّة، في الصحراء، ولأنّ لا ماء هناك، فالأعشاب تبقى مرّة. سوف نفهم فيما بعد أنّ الخبز الفطير يدلّ على العجلة التي بها ترك الشعب العبرانيّ أرض مصر، والأعشاب المرّة سوف تذكّرهم بالحياة المرّة التي عرفوها في مصر وعبوديّتها وأشغالها الشاقّة.

وسبق وقلنا: »لا تُبقوا شيئًا منه إلى الصباح. فإن بقي شيء منه إلى الصباح فأحرقوه بالنار«. وهكذا يجب أن تكون هذه الليلة مغلقة على ذاتها. نستعدّ لها منذ العاشر من الشهر وتكون بين غياب الشمس وغياب الضوء. يُذبح الخروف خلال الليل. يؤكل الخروف، يؤكل كلّه، ولا يبقى منه شيء، وما يبقى يُحرق.

ويتابع النصّ فيربط أكل هذا الخروف بالوضع الذي يعيشه العبرانيّون في مصر، في أرض مصر، بالحالة التي فيها يستعدّون للذهاب. في الواقع كان هذا العيد يعيَّد كلّ سنة، وإذا كان العبرانيّون طلبوا من فرعون أن يذهبوا، فقد قالوا أكثر من مرّة إنّهم ذاهبون ليعيِّدوا للربّ. إعتادوا عليه خلال إقامتهم في مصر. ولكنّه كان عيدًا خاصٌّا في تلك السنة بسبب التحرّكات »الثوريّة«، ما جعل الفرعون يمنعهم من الذهاب إلى الصحراء.

6 - في هذه السنة

لكن في هذه السنة بالذات لم يكن العيد عيدًا مثل سائر الأعياد، ولم يعد فقط طقوسًا وشعائر عبادة، صار مرتبطًا بانطلاقة مهمّة جدٌّا بالنسبة إلى الشعب العبرانيّ. لهذا نقرأ الآية 11: يقول النصّ: »حين تأكلونه كونوا متأهّبين للرحيل«. وكيف يتأهّبون للرحيل؟ أوّلاً أوساط مشدودة. كانوا يلبسون مثل غمباز يجب شدّه جيّدًا لئلا تتعثّر رجلهم، في أثناء سيرهم. أوساط مشدودة. هناك المعنى المادّيّ. يربطون الغمباز ربطًا بحزام. وفي المعنى الروحيّ، الأوساط المشدودة تعني الاستعداد الدائم. عندما نشدّ أوساطنا يعني نبدأ بالانطلاق.

ثانيًا أحذيتكم في أرجلكم. ما كان الناس يلبسون الحذاء إلاّ في وقت الرحيل. هنا نتذكّر أنّنا لم نعد على مستوى الصحراء والناس حفاة، ولكن نحن في المدن حيث هناك الحذاء.

الثالث، عصيُّكم في أيديكم. لا يحمل الإنسان عصاه وهو في البيت بل يحمله حين يستعدّ للذهاب.

وأخيرًا الطعام. كلوا بعجلة. لا نأخذ كلّ وقتنا حتّى نأكل. فنحن ذاهبون، نحن مسرعون، نودّ أن نصل بسرعة. لهذا نأكل بعجلة.

7 - فصح الربّ

ولماذا كلّ هذا التأهّب، الأوساط المشدودة، الأحذية في الأرجل، والعصيّ بالأيدي، والطعام بعجلة؟ هو فصح للربّ، يعني كلّ اهتمامنا، كلّ انتباهنا، كلّ نظرتنا موجّهة إلى الربّ. وهنا يعود بنا النصّ إلى الضربة العاشرة حيث سيموت كما قلت بكر الفرعون. فكأنّ بكر كلّ بيت وكلّ حظيرة قد مات.

ويشدّد النصّ فيقول: »أَقتل كلّ بكر فيها من الناس والبهائم، وأُنزل عقابي بجميع آلهة المصريّين، أنا الربّ«. نلاحظ هنا آلهة المصريّين وأنا الربّ. الربّ هو القدير وهو الذي يعاقب آلهة المصريّين. ومن خلالهم يعاقب المصريّين الذين يتعبّدون لهذه الآلهة، آلهة الخشب، وآلهة الحجر.

وما كان علامةً في العالم الوثنيّ، صار علامة من نوع آخر بالنسبة إلى العالم العبرانيّ. الدم على البيوت علامة ارتباط الشعب بالربّ. يُوضَع الدم، فيعرف الربّ أنّ هذا البيت يخصّه. عندئذٍ يقول: أعبر عنكم ولا أفتك بكم، ولا أهلككم إذا ضربتُ أرض مصر. يعني أميّزكم كما يميّز الراعي الخراف من الجداء، كما يميّز الراعي الخراف التي له وتلك التي ليست له.

وينتهي هذا النصّ عند الآية 14: »ويكون هذا اليوم لكم ذِكرًا فتعيّدونه للربّ فريضة لكم مدى أجيالكم«. هذا العيد لن يعيَّد فقط تلك الليلة. وكلمة عيد ترتبط بفعل عاد. هذا العيد يعود مرّة كلّ سنة، يعيشه الشعب العبرانيّ مرّة كلّ سنة، فيتذكّر انتماءه إلى الربّ، حين يضع هذا الدم على بيوته علامة لانتمائه، لتكريسه للربّ.

وهكذا انطلق الشعب العبرانيّ من عيد مارسته الشعوب منذ زمن بعيد. فربطه بالخروج من مصر بعبور الربّ بين شعبه، بفصح الربّ في شعبه. وهكذا صارت الليتورجيّا والخدمة المقدّسة تكرارًا لما عُمل في القرن الثالث عشر، في أرض العبرانيّين، وما سيُعمل في أيّام يسوع المسيح، وما يمارسه اليهود حتّى اليوم. عيد الفصح عيد للربّ. بل يمارسه المسيحيّون في عيد الفصح المسيحيّ ويمارسه المسلمون في الأضحى. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM