الضربة التاسعة: الظلام
أحبّائي، سفر الخروج سفر مسيرة الشعب من العبوديّة إلى العبادة، من أرض مصر حيث تعبّد الشعب للفرعون وخضع له، لا بل كان عبدًا للحقول والمزارع والأبنية. وسيمضي إلى سيناء حيث يتعلّم الحريّة. وأوّل حريّة يتعلّمها: هو أن يرتاح يومًا في الأسبوع. يوم الراحة هو يوم الربّ الذي كان في العهد القديم يوم السبت، وصار في العهد الجديد يوم الأحد. ونحن نقرأ من سفر الخروج الضربة التاسعة والظلام.
»وقال الربّ لموسى: »مدّ يدك نحو السماء فيكون على أرض مصر ظلام كثيف تلمسه اليد«. فمدّ موسى يده نحو السماء، فخيّم ظلام حالك على جميع أرض مصر ثلاثة أيّام فما كان الواحد يبصر الآخر، ولا كان أحد يقوم من مكانه ثلاثة أيّام. أمّا بنو إسرائيل، فكان لهم نور في مساكنهم.
فاستدعى فرعون موسى وقال له: »اذهبوا اعبدوا الربّ أنتم ونساؤكم وأطفالكم. وأمّا غنمكم وبقركم فتتركونها هنا في مصر«. فقال له موسى: »إذًا فأعطنا ذبائح ومحرقات نقدّمها للربّ إلهنا. كلاّ لا نرضى، إلاّ أن تذهب كلّ مواشينا معنا. لا يبقى منها هنا رأس واحد، لأنّنا منها نأخذ ما نعبد به الربّ إلهنا. ونحن لا نعرف أيٌّا نختار منها لنعبد الربّ إلهنا حتّى نصل إلى هناك«. وقسّى الربّ قلب فرعون فأبى أن يطلق بني إسرائيل. وقال فرعون لموسى: »اذهب عنّي. إيّاك أن تنظر إلى وجهي بعد اليوم، فيوم تنظر إلى وجهي تموت، فقال له موسى: »حسنًا قلت، لن أرى وجهك بعد اليوم« (10: 21 - 29).
1 - كلمة الربّ
»وقال الربّ«. يذكّرنا بما في سفر التكوين 1: 1 ي، وذلك على مستوى الخلق. في عشر كلمات خلق ا؟ العالم كلّه. وسوف نسمع كلمات الربّ العشر في سفر الخروج 20، والكلام عن الوصايا، وهنا على مدّ الضربات العشر. كانت كلمة الربّ لموسى علامة على أنّ ا؟ معه، على أنّ ا؟ حاضر، على أنّه فعل، وهو سوف يفعل. »قال الربّ«. سوف نسمع هذه العبارة مرّات عديدة. فالربّ الذي كلّمنا منذ البدء لم يزل يكلّمنا، أو بالأحرى كلمتُه هي حاضرة. قالها مرّة واحدة، ولكنّها تتردّد في قلوبنا ونحن نكتشفها في ظروف حياتنا، في صعوباتنا، في سهولاتنا، في أفراحنا، في أحزاننا.
ونكتشف هذه الكلمة من خلال أقوال تصل إلينا من مرشد صديق، من رفيق، من شخص ربّما التقينا به يومًا من الأيّام وما عدنا التقيناه. نعم كلمة الربّ تطنّ في آذاننا وفي قلوبنا، منذ دخلنا هذه الحياة، في أحشاء أمّهاتنا. كلمة الربّ هي رفيقنا. والمزمور يقول: »كلمتك مصباح لخطاي«.
قال الربّ لموسى وهو سيقول له حتّى النهاية. وكما قلت، هي كلمة واحدة، أصبحت ملموسة، أصبحت منظورة، أصبحت مسموعة، وموسى سوف يتعلّم كيف يسمع كلمة الربّ. وكذا نقول عن الأنبياء وكذا نقول عن رجال ا؟ في العهد القديم، في العهد الجديد، وفي كلّ يوم من أيّام حياتنا، في كلّ تاريخنا.
نتذكّر هنا كلام الربّ لأوغسطينس. كان في تلك الحديقة. سمع صوت الربّ: خذ واقرأ. نتذكّر كلمة الربّ التي سمعها أنطونيوس: »إن شئت أن تكون كاملاً امضِ فبعْ كلّ ما تملك وأعطِه للمساكين وتعال اتبعني«. سمعها فرنسيس الأسّيزي مؤسّس الفرنسيسكان والكبّوشيّين وغيرهم. سمع صوت الربّ فترك كلّ شيء، ترك متجر أبيه، ترك الغنى الذي يحيط به، وفي وقت من الأوقات سيترك ثوبه لأبيه ليكون حرٌّا كلّ الحرّيّة بين يدي الربّ، ولينطلق الانطلاقة التامّة في الطريق التي يدلّه عليها الربّ. ونقول الشيء ذاته عن أغناطيوس ده لويّولا مؤسّس اليسوعيّين. هو أيضًا سمع صوت الربّ. كان المقاتل، كان المحارب، سيكون مقاتلاً ومحاربًا من نوع آخر.
3 - ظلام وعمى
ومن منّا حقٌّا يستطيع أن يقول إنّه لم يسمع صوت الربّ. كلاّ. وإذا كنّا لا سمح ا؟ لم نسمعه، فلأنّنا أغلقنا آذاننا، أغلقنا قلوبنا، ورفضنا أن نسمعه. ولكنّ الربّ سوف يرسل هذا الصوت. أرسل الأنبياء، وكما قال في حزقيال: »تكلّمْ، سواء سمعوا، أم لم يسمعوا، ليعلموا أنّ بينهم نبيٌّا«، أنَّ هناك الربّ، أنّ هناك كلمة الربّ. قال الربّ لموسى. وسيسمع موسى. ويا ليتنا نحن أيضًا نسمع كلمة الربّ. ماذا قال الربّ لموسى؟ »مدّ يدك نحو السماء«. في الضربات السابقة كان موسى ينبّه. يرسله الربّ إلى فرعون فيهدّده: »أطلقْ شعبي وإلاّ سأفعل«. إن لم تطلقهم سوف أُرسل البَرَد، أُرسل الوباء، وذلك إلى آخر ضربة.
أمّا هنا، في الضربة التاسعة، ضربة الظلام، فلم يهدّد موسى باسم الربّ أبدًا، بل بدأ فوضع يده. كفى ما نبّه إليه الفرعون المرّة بعد المرّة. لم تعد قوّة للكلام، فستنتقل القوّة إلى العمل: »مدّ يدك نحو السماء« قال الربّ، ففعل موسى. وكان على أرض مصر ظلام كثيف تلمسه اليد. نلاحظ هنا: تلمسه اليد. يعني الأعمى يتلمّس طريقه لأنّه يعيش في الظلام.
والفكرة الثانية: هذا الظلام كثيف كثيف جدٌّا كأنّ هناك صخرًا أو حائطًا أو جدارًا يمكن أن نمسكه بأيدينا. يعني لا نستطيع أن نرى شيئًا في هذا الظلام. سوف نرى أنّ هذا الظلام هو الذي يعيش فيه فرعون ورجاله ومصريّوه، ظلام العقل، ظلام البصيرة، لا يفسّرون، لا يفهمون، لا يقتنعون بحضور الربّ الفاعل.
نتذكّر الأعمى منذ مولده (يو 9). شفاه يسوع أوّلاً من عماه: »اذهب واغتسل في بركة سلوام«، فذهب واغتسل فعاد إليه النظر. ولكنّه احتاج إلى شفاء آخر، إلى عيون جديدة توصله خطوة خطوة إلى من هو ابن الإنسان، ابن ا؟. قال له يسوع: »أتؤمن بابن الإنسان؟« »ومن هو؟« »الذي يكلّمك«. ويقول النصّ إنّه سجد أمام يسوع وقال: »آمنت«. ترك الظلام الأوّل، ظلام العينين، وأخذ بنور الربّ، فرأى. ثمّ أخذ نور البصيرة فرأى رؤية أخرى.
تذكّروا هنا أيضًا مر 8. هذا الأعمى الذي بدأ فرأى الناس كالأشجار وبعد ذلك ستصبح الرؤية واضحة عنده. أمّا المصريّون فكان لهم ظلام العينين. ونحن نعرف ماذا تفعل الرياح الخمسينيّة في مصر. ثمّ ظلام البصيرة. لن يفهموا. وسيأتي الظلام الأخير ظلام الإيمان.
3 - ثلاثة أيّام
10: 22: »فمدّ موسى يده نحو السماء فخيّم ظلام حالك على جميع أرض مصر ثلاثة أيّام فما كان الواحد يبصر الآخر، ولا كان أحد يقوم من مكانه ثلاثة أيّام«. ما معنى عبارة: »ثلاثة أيّام« لها معنيان: المعنى الأوّل هو الثبات في الظلام. نقول نحن: »الثالثة ثابتة« يعني هذا الظلام امتدّ إلى وقت سيطر علينا فما عدنا نستطيع أن نتخلّص منه أبدًا. وهذا لبث كما قلنا ثلاثة أيّام. نتذكّر هنا مثلاً أنّ الشعب العبرانيّ يريد أن يذهب إلى البرّيّة مسافة ثلاثة أيّام. هي أيّام ظلمة، وسيتبعها لقاء بالربّ. أمّا هنا، فالمصريّون يعيشون ثلاثة أيّام ظلمة، ونرجو أن ينفتح عليهم نور الربّ.
ونقول الشيء عينه عن إبراهيم حين ذهب ليذبح ابنه إسحاق على الجبل. يقول النصّ (تك 22) إنّه سار ثلاثة أيّام، وفي النهاية كان نور الربّ عليه. في خر 10: 23 انقسم الكون قسمين: قسم يعيش في الظلام، في أرض مصر، وقسم يعيش في النور، في أرض جاسان.
يقول النصّ: »أمّا بنو إسرائيل فكان لهم نور في مساكنهم«. أجل النور هو الربّ. إبتعدنا عن الربّ فلفّنا الظلام، انفتحنا على الربّ فانغمرنا بالنور. فاستدعى فرعون موسى وقال له: »اذهبوا اعبدوا الربّ أنتم ونساؤكم وأطفالكم، أمّا غنمكم وبقركم فتتركونها هنا في مصر«. نلاحظ التدرّج: في الضربة الثامنة، تذهبون وحدكم وتتركون هنا نساءكم وأطفالكم. في الضربة التاسعة، خذوا إذا أردتم نساءكم وأطفالكم، ولكن اتركوا هنا غنمكم وبقركم، يعني يتجرّدون من كلّ شيء، يعني يموتون جوعًا. ولماذا يقول فرعون ما يقول؟ لكي يجبر العبرانيّين أن يعودوا إلى مصر فلا يذهبوا بدون رجعة.
وكان جواب موسى جوابين (10: 25): إذًا فأعطنا ذبائح ومحرقات نقدّمها للربّ إلهنا. إن كنتَ لا تريد منّا أن نأخذ ماشيتنا معنا، فأعطنا أنت من ماشيتك. ولكنّه حالاً أسرع فقال: كلاّ نحن لا نريد من هذه المواشي، لا نريد ذبائح من أملاك غيرنا. نقدّم ذبائح ممّا تملك أيدينا. لهذا استدرك. كلاّ. كأنّي به تراجع بعض الشيء. يكفي أن تعطينا ما يكفينا من ذبائح فنذبح ونعود إليك. أترى موسى لم يكن يعرف أنّ الربّ يريد لشعبه خروجًا لا عودة منه؟ في الواقع في تاريخ شعب إسرائيل، أرادوا مرّات عديدة أن يعودوا إلى مصر، إن لم يكن الشعب، أقلّه على مستوى السياسة والعلاقات السياسيّة.
أوّلاً طلب ذبائح، ولكنّه استدرك حالاً. كلاّ. لا نريد ذبائحكم. وكان الجواب الثاني: لا نرضى إلاّ أن تذهب كلّ مواشينا معنا فلا يبقى منها هنا رأس واحد، لأنّنا منها نأخذ ما نعبد به الربّ إلهنا. هنا كما سبق وقلت: نأخذ كلّ مواشينا، فيبارك الربّ كلّ مواشينا. ثمّ نحن لا نعرف الماشية التي يختارها الربّ.
ولكن في العهد القديم واضح أنّ الضحيّة التي نقدّمها يجب أن تكون كاملة. لهذا كان النبيّ ملاخي قاسيًا على الذين يأتون بذبائح فيها عاهة من العاهات. فقال لهم: »هل تقدّمونها للأمير، للرئيس عندكم؟ فهل تستخفّون بالربّ، هل تحتقرون الربّ؟« نحن نأخذ كلّ مواشينا، والربّ هو الذي يختار منها ما يريد. هكذا نعبّر عن عبادتنا للربّ. نتركه يختار من مواشينا، ولا نختار نحن باسمه.
5 - قساوة القلب
وأخيرًا قسّى الربّ قلب فرعون فأبى أن يطلق بني إسرائيل، كأنّنا عدنا إلى البداية. قساوة القلب والرفض، أبى أن يطلق بني إسرائيل. كلّ هذه المحاولات، كلّ هذه النداءات، كلّ هذه الضربات، باءت بالفشل. وبما أنّ الملك لا يستطيع أن يطرد الربّ الإله يهوه من أرض مصر، فسيطرد موسى: »اذهب عنّي. إيّاك أن تنظر إلى وجهي بعد اليوم«. يعني عليك أن تترك أرض مصر لأنّ وجه فرعون في كلّ مصر. عينا فرعون في كلّ مصر. إذا أمسكتك الشرطة فإنّك سوف تموت.
يعني أنت في خطر ولا بدّ من أخذ الإجراء سريعًا سريعًا. وكان جواب موسى: »حسنًا قلت. لن أرى وجهك بعد اليوم«. هذه العبارة تدلّ على أنّ الكتاب كُتب بعد مئات السنين من حدوثه. عاد الكاتب إلى الوراء، ورأى الواقع أنّ موسى لن يعود يرى وجه فرعون، ليس فقط في مقابلة من المقابلات كما اعتدنا أن نرى في الضربات العشر، ولكن خصوصًا لأنّ الفرعون وجيشه ورجاله سوف يغرقون في البحر ولن يعود يراهم موسى ولا غيره.
»يوم تنظر إلى وجهي تموت«، هذا ما قاله فرعون لموسى. لا ليس موسى هو الذي يموت، بل الفرعون هو الذي يموت. ففي يد الربّ الموت والحياة. في يد الربّ توجّهاتنا كلّها. هو الذي، كما يقول الكتاب المقدّس، يميت ويحيي، وهو الذي يسيّرنا في طرق ما كنّا لننتظرها. ولكن موسى قبِلَ أن يسلّم حياته بين يدي الربّ فكانت له هذه المغامرة، مغامرة تخليص شعبه من العبوديّة وحمله إلى عبادة الربّ الإله. وهكذا مع الضربة التاسعة، وصلنا إلى التهديد المباشر، تهديد فرعون لموسى وأيضًا تهديد الربّ للفرعون. صار موسى قويٌّا، واستعدّ أن يقف في وجه فرعون. وساعة تأتي الساعة سيأخذ معه شعبه. فلن يرى الفرعون وجهه من بعد، بل لن يعود يرى الشعبُ وجه فرعون. منذ الآن هم يتطلّعون إلى وجه الربّ في جبل سيناء. آمين.