الفرعون يقسو على الشعب

الفرعون يقسو على الشعب

أحبّائي، نتابع قراءة الكتاب المقدّس، ونقرأ العهد القديم والمسمّى التوراة في المعنى العامّ، وفي المعنى الخاصّ الأسفار الخمسة، أسفار موسى، يعني التكوين، الخروج، اللاويّين، العدد والتثنية. هذه تسمّى التوراة بالمعنى الحصري. وحين نقرأ الكتاب المقدّس، لا نقرأه لنربطه فقط بشعب، بل نقرأه ونجعل نحن نفوسنا محلّ هذا الشعب الذي اختبر الحياة مع الله. كلّ واحد منّا يمكن أن يكون الشعب العبراني، كلّ واحد، كلّ شعب منّا يمكنه أن يطلب هذا الخلاص من عند الربّ. وقد يختار الله كل واحدًا منّا ليكون موسًى جديدًا كما قلنا بالنسبة إلى غاندي أو إلى مارتن لوثر كينغ أو إلى غيرهما من الأشخاص الذين حاولوا أن يحملوا الخلاص إلى شعبهم.

إذًا نتابع قراءة سفر الخروج الفصل 5، وسوف نرى ردّة الفعل على لقاء موسى وهارون مع الفرعون. طلبا من فرعون وقتًا للعيد، لعيد الشعب. أمّا فرعون فسيتّخذ الإجراء المقابل. يريدون أن يرتاحوا، فنحن نُتعبهم ونزيد في أثقالهم.

»في ذلك اليوم، قال فرعون لمسخَّري شعب إسرائيل ورقبائهم: لا تُعطوا الشعب بعد اليوم تبنًا ليصنعوا اللبن، بل ليذهبوا هم ويجمعوا لهم تبنًا... وكان المسخِّرون رقباء بني إسرائيل الذين ولاّهم عليهم فرعون. ويقولون: ما بالكم قصّرتم أمسِ واليوم في صنع اللبن عمّا قبْل«.

1 - فئات ثلاث

عندنا هنا أوّلاً الفرعون. وفي الدرجة الثانية، المسخِّرون الذين هم في مصر. ثالثًا فئة الرقباء الذين هم من العبرانيّن. وأخيرًا العمال الذين هم بالأحرى عبيد.

أوّلاً المسخِّرون يخضعون للملك. ما يقوله لهم يفعلون، ما يأمرهم به يفعلون، ولا يجادلون أبدًا. هم بعيدون كلّ البعد عن هاتين القابلتين اللتين قرأنا عنهما في الفصل الأوّل. قال لهما فرعون: أقتلا الذكور ولا تتركا أيَّ ذكر حيّ. رفضتا وقالتا: كلاّ. وجدتا عذرًا. في هذا الإطار، نستطيع أن نفهم ما قاله الرسل لرؤساء الشعب: هل نسمع من الناس أم نسمع من الله؟ هل نسمع ما يقوله الناس أم ما يقوله ضميرنا الذي هو صوت الله فينا؟ المسخِّرون يهمّهم وظيفتهم فلا يتخلَّون عنها مهما كان السبب، ولو ضايقوا الناس ولو ظلموهم. المهمّ أن يكون الرئيس راضيًا. هذا هو الخنوع بالذات، هذا هو الموقف الذي فيه نخسر شخصيّتنا. ونصبح كما قال أحدهم »ظلّ الرئيس، كيفما مال نميل، نصبح آلة بيد هذا الرئيس يحرّكها كما يشاء«.

الفئة الثانية هم الرقباء. الرقباء كما قلت، هم من الشعب العبراني، وهؤلاء الرقباء ينفّذون ما يقوله المسخِّرون وإلاّ يُضرَبون. في 5: 14 كان المسخِّرون يضربون رقباء بني إسرائيل. إذًا هم يُضرَبون، يُعذَّبون إن لم يكونوا على قدر المهمّة. عليهم أن يُرضوا المسخِّرين، وبالتالي الفرعون، مهما كانوا قساة على أبناء وطنهم، على إخوانهم. لا شكّ هؤلاء الرقباء ارتفعوا درجة، بدل أن يعملوا بأيديهم، هم يجعلون إخوتهم يعملون.

والفئة الأخيرة هي الشعب، الذي يحتمل ويحتمل ويحتمل حتّى النهاية. ما هو العمل الذي يقوم به هؤلاء الشعب الذين صاروا عبيدًا، الذين يسخَّرون بقساوة؟ يصنعون اللبن يعني الحجارة، اليوم عندنا حجارة من الباطون (الترابة والرمل والبحص). في الماضي كانوا يصنعون الحجارة من أجل البناء، يصنعونها من التراب ومن التبن أو القشّ. وما زلنا نرى بيوتًا عديدة في مصر على هذا المستوى حتّى اليوم. تُصنع الحجارة للبناء من التبن ومن التراب. هذا إذًا يجبلونه، يجعلونه في النار فيصبح قاسيًا، وهكذا يبنون البيوت. وكان يُفرض على كلّ شخص عددٌ من هذه الحجارة، عددٌ من هذه اللبنات. وعملهم هو هو، يومًا بعد يوم.

2 - الفرعون وهؤلاء العبيد

ولا ننسَ أنّ الفرعون استفاد من وجود هؤلاء العبيد الذين يسخّرهم لكي يبني أكثر من مدينة، خصوصًا على حدود مصر بالنسبة إلى آسيا من جهة فلسطين، من جهة الشمال. هؤلاء العمّال يعملون من أجل فرعون، من أجل طموحاته، من أجل أعماله الحربيّة. لهذا خاف أن يتركه هؤلاء العبيد. فماذا قرّر؟ آية 9: »أَرهِقوا هؤلاء القوم بالعمل، أتعبوهم حتّى لا يفكّروا، حتّى لا يرفعوا رأسهم إلى فوق، فيبقى رأسهُم ملتصقًا بالأرض«.

هم متكاسلون، مع كلّ هذا العمل الذي يقومون به. هم متكاسلون، هم لا يعملون شيئًا: أوّلاً الفرعون لا يعرف لهم جميلاً، هم يعملون ما يعملون لئلاّ يُضرَبوا، لئلاّ يُقتلوا. هم متكاسلون. وما الذي يدلّ على كسلهم؟ يريدون أن يعيّدوا للربّ: بالنسبة إلى فرعون، العبادة للربّ، الذهاب إلى العيد وإلى الحجّ، تقدمةُ الذبيحة، صارت كلُّها تهرّبًا من العمل، دلالة على الكسل. ويقول هنا ويكمل: هي مناسبة للكلام الباطل الذي لا منفعة منه. أرهقوا هؤلاء القوم بالعمل، فيلتهوا به عن الكلام الباطل. الكلام الباطل بالنسبة إلى فرعون، هو كلام الثورة والخروج عن الطاعة، وربّما الذهاب وترك مصر وأعمالها الكبيرة.

طلب الفرعون من المسخِّرين، فنفّذ المسخِّرون والرقباء: لا أعطيكم تبنًا. اذهبوا أنتم واجمعوا. أوصَلوا »الرسالة«، أوصَلوا البلاغ الملكي إلى الشعب، والشعب لا بدّ له أن يطيع. نقرأ في 5: 12: »فتفرّق الشعب في كلّ أرض مصر ليجمعوا قشٌّا عوض التبن«. التبن يُحفظ في الأهراء. أمّا القشّ فيوجد في الحقول. إذًا على العمّال أن يبحثوا عن القشّ، أن يغسلوه، ثمّ يجعلوه مع التراب ويطبخوه. والمسخِّرون يستعجلونهم ويقولون: إصنعوا من اللبن مقدار ما كنتم تصنعون وقت تزويدكم بالتبن.

نلاحظ هنا الظلم فوق الظلم. كان ظلم أوّل: صناعة اللبن للملك ولمشاريعه. ولكن كان هذا الظلم خفيفًا بعض الشيء، لأنّهم كانوا يقدّمون للعمّال التبن. فما كان عليهم إلاّ أن يعملوا حيث يوجد التراب، ويمزجوا التبن بالتراب ويطبخوا الحجر، فتكون النهاية نسبيٌّا سريعة. أمّا الآن، فعليهم أن ينهضوا باكرًا، أن يجمعوا القشّ ويعملوا العمل الذي كانوا يعملونه فيما مضى.

3 - مسحوق يسحق الآخرين

ولكنّ النتيجة لن تكون حسب ما تأمّل به الملك أو بالأحرى المسخِّرون. خفّ الإنتاج، وكان المسخِّرون يضربون رقباء بني إسرائيل. بما أنّ المسخِّرين لا يستطيعون شيئًا تجاه الملك، فهم يتحوّلون إلى الذين هم تحت أيديهم. هكذا في مجتمعنا الحديث: عندما يكون شخصٌ مأمورًا ويُطلب منه عمل لا يستطيع أن يقوم به أو هو يفشل، فهو ينتقم من الذين هم تحت يده. كأنّي به يعوّض عن ضعفه، عن شخصيّته المسحوقة. ويعوّض خصوصًا، لا بالفهم والذكاء والكلمة الحلوة، بل بالضرب والقتل والإذلال والتحقير. وبقدر ما يحقّره الأكبر منه يحقّر هو من هو أصغر منه.

كم نحن بعيدون عن المثل الإنجيليّ، عن قائد المئة الذي شبّه نفسه بالمسيح، سيّد المرض. يكفي أن يقول: أنا عندي رؤساء وعندي مرؤوسون. أقول لهذا امضِ فيمضي، ولذاك اذهب فيذهب، أو تعال فيأتي. هنا المسخّرون يدلّون على ضعفهم وعلى خنوعهم بالنسبة إلى فرعون حين أخذوا يضربون الرقباء. والرقباء بدورهم سوف يضربون الشعب، يضربون العمّال.

وهكذا لم نعد على مستوًى بشريّ بل صرنا على مستوًى مرضيّ. كلُّ واحد يصبّ مرضه على من هو أصغر منه. وأتخيَّلُ هؤلاء العمّال الذين يصبّون مرضهم على امرأتهم وأولادهم، وعلى الحمار والثور والغنم والبقر. مثل هذا المجتمع لا بدّ أن يموت، أن يزول. ونقرأ في الآية 15: »فجاء رقباء بني إسرائيل إلى فرعون صارخين له: لماذا تفعل بنا نحن عبيدك هكذا؟ لا نعطى تبنًا، ويقال لنا: اصنعوا لبنًا. ونُضربَ ونُقهر ونحن عبيدك ورعيّتك.

4 - إنحدار في الذلّ

المسخِّرون ظلّوا خارج اللعبة. نفّذوا أمر فرعون ولم يتطلّعوا إلى نتيجة ما ينفّذون من إجراء. ولكن الرقباء، رقباء بني إسرائيل، أرادوا أن يطرحوا السؤال، أرادوا أن يعرضوا قضيّتهم على الفرعون. نُضرب ونُقهر ونُذلّ ونحن عبيدك ورعيّتك. هنا نلاحظ كيف أنّ الشعب أو الرقباء يُذلّون نفوسهم أكثر. كانوا أذلاّء وصاروا أكثر ذلاٌّ. ما أرادوا أن يرفعوا رؤوسهم، بل أرادوها ممرّغة في التراب.

نحن عبيدك ورعيّتك، نحن لا نتخلّى عن وضعنا بما فيه من ذلّ. ونحن نقبل أن نكون مع باقي الخراف، نأكل ونشرب وننام لئلاّ نموت. وبقدر ما يُذِلّ الإنسانُ نفسَه، يُذلّه رئيسه. هذا ما فعله فرعون: أنتم متكاسلون ولذلك تقولون دعنا نذهب ونقدّم ذبيحة للربّ. فانصرفوا إلى عملكم. طردهم ولم يسمع لهم، ولم يعطهم مطلبهم. فماذا يَبقى لهم؟ تبقى العودة إلى موسى وهارون. بما أنّ الشعب لا يستطيع أن يفعل شيئًا بمن يُذلّه، بمن يستعبده، بمن يقتله، فسوف يرجع إلى من يريد أن يرفعه، أن يخلّصه، أن يقدّم له الحياة.

نقرأ آية 19: »فرأى رقباء بني إسرائيل أنّهم في أسوأ حال، عندما قيل لهم لا ينقص من مقدار اللبن شيئًا، بل تقدّمونه كلّ يوم بيومه. وصادفوا موسى وهارون وهما ينتظران خروجهم من عند فرعون. فقالوا لهما: الربّ يرى ويحكم عليكما لأنّكما أفسدتما سمعتنا عند فرعون ورجاله وأعطيتماهم حجّة ليقتلونا«.

السبب في كلّ هذا موسى وهارون. أمّا هدف موسى وهارون فتحرير الشعب. الربّ يرى، نعم الربّ يرى، ويحكم عليكما. فكأنّ عمل موسى وهارون هو عمل شرّير. المهمّ سمعتنا عند فرعون ورجاله، السمعة. نريد أن يعرف أنّنا ما زلنا عبيدًا ولا نريد البتّة أن نتحرّر. وهكذا خاف الشعب من الموت. أعطيتماه حجّة ليقتلنا. وما نفع مثل هذه الحياة في العبوديّة والسخرة والظلم؟ أما يكون الأفضل أن يسير الشعب وراء موسى وهارون، ويسير وراء كلّ واحد يريد أن يحرّره، ولو كلّفه هذا السير التعب والعرق والذلّ، وفي النهاية تكون الحريّة.

5 - عودة إلى الربّ

فرجع موسى إلى الربّ وقال: يا ربّ لماذا أسأتَ إلى شعبك؟ لماذا أرسلتني؟ فمنذ دخلت على فرعون لأتكلّم باسمك، أخذ يسيء إليهم وأنت لا تعمل شيئًا لإنقاذهم. عاد الشعب إلى موسى، فعاد موسى إلى الربّ. الربّ هو الذي أرسل موسى، وموسى أوصل البلاغ، أوصل الرسالة إلى الشعب. فإذا الشعب يزداد ألمه ألمًا، يزداد ضيقه ضيقًا. وتنطلق المسيرة في الخطّ المعاكس. يذهب الشعب إلى موسى وموسى إلى الربّ.

عند ذاك يطرح موسى على نفسه السؤال. بما أنّك يا ربّ أسأت إلى شعبك، فلماذا أرسلتني؟ أأرسلتني حتّى أحمل الإساءة إلى شعبك، باسمك؟ فكأنّ الربّ هو المذنب بعد أن أرسل موسى إلى شعبه. مرّات عديدة نعيد الأمور إلى الربّ. ولكنّ مشروع الربّ مشروع طويل. الربّ صبور، طويل الأناة، ينتظر.

يقول له موسى: أنت لا تعمل شيئًا لإنقاذهم. من قال إنّه لا يعمل شيئًا؟ هو بالأحرى يهيّئ الطريق. خلاص الربّ لا يكون أبدًا سهلاً. يأخذ وقته. نتذكّر هنا مثلاً يسوع المسيح على الصليب. لماذا لم يَنزل عن الصليب؟ لماذا لم يُنزِل لصَّ اليمين ولصَّ الشمال اللذين بجانبه؟ أجل، لم يَنزل عن الصليب، مع أنّهم قالوا له. خلّص نفسك وخلّصنا. لم يخلّص نفسه، ولم يخلّص هذين اللصّين. الخلاص يتمّ لا من على الصليب بل من قلب القبر. لا يتمّ الخلاص يوم الجمعة العظيمة، بل يوم الأحد، يوم القيامة.

موسى استعجل: الشعب يتألّم، يتضايق. ولكن الربّ يعرف متى يخلّص. والمهمّ عندما يقول موسى: دخلت على فرعون لأتكلّم باسمك. هذا الاسم الذي عرفه موسى في العلّيقة الملتهبة، هذا الاسم اتّكل عليه موسى، اتّكل عليه الشعب. هذا الاسم تكلّم به. هو موسى تكلّم باسم الربّ، والشعب آمن باسم الربّ، فلماذا التراجع؟ فلماذا الجبانة؟ فلماذا الخوف؟ فلماذا البحث عن الراحة السريعة التي تجعلنا نعود إلى العبوديّة، كالمخدّر، تجعلنا ننسى بعض الوقت؟ ولكن عندما يزول أثر المخدّر، نعود إلى الألم، نعود إلى العذاب.

تلك مسيرة الشعب بعد أن كلّم موسى وهارون فرعون. إزداد الظلم ظلمًا، والتعبُ تعبًا، والضيق ضيقًا. هم لا يستطيعون شيئًا ضدّ القويّ. لا يستطيع الشعب شيئًا ضدّ الرقيب، والرقيب لا يستطيع شيئًا ضدّ المسخِّر، والمسخِّر لا يستطيع شيئًا ضدّ فرعون. وهكذا يزداد الثقل، يزداد الإرهاق من الفرعون إلى المسخّرين، إلى الرقباء إلى الشعب. فلا يبقى للشعب ولرقبائه سوى أن يذهبوا إلى موسى، وموسى أن يذهب إلى الربّ. والربّ هو الذي يفعل. لكنّه ينتظر ساعته، لكنّه لا يريد أن يكسر، لا يريد أن يحطّم. بل ينتظر شيئًا فشيئًا. ينتظر أن يقتنع فرعون، ويُطلق الشعب.

تلك هي مسيرتنا مع الربّ في صعوباتنا. يا ليتنا نعرف أن ننتظره، أن ننتظر يده التي تفعل، ننتظر خلاصه الذي هو قريب؟ فطوبى لمن يعرف أن يجعل كلّ رجائه في الربّ. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM