أنا لكم وأنتم لي

أنا لكم وأنتم لي

أحبّائي، ربّنا يكون معنا، ويُفهمنا كيف يكون الخلاص الذي يقدّمه لنا. الخلاص لن يكون سريعًا. الربّ يأخذ وقته لكي نهضم هذا الخلاص، لكي نتقبّل هذا الخلاص، فلا يعطى لنا من الخارج. فما يأتي من الخارج يبقى في الخارج. وما يأتي من الداخل هو الذي يبدّل حياتنا. فالقشرة على الشجرة ليست دليل العافية، بل الماويّة التي في قلب الشجرة هي دليل العافية. هي تعطي الورق، الزهر، الثمر. وإذا تطلّعنا إلى يسوع المسيح، لو أنّه نزل عن الصليب يوم الجمعة، لكان صفّق له بعض الناس، والآخرون مضوا وهم يبتسمون. لكنّه لم يقم يوم الجمعة، قام يوم الأحد. ولذلك فقيامته ما تزال حتّى اليوم وستبقى حتّى نهاية العالم ينبوع قيامة البشريّة وقيامة كلّ واحد منّا. والخلاص الذي يحمله الربّ بواسطة موسى إلى شعبه، سيكون نموذجًا لأكثر من خلاص يتمّ في العالم. فالعالم يحتاج إلى خلاص بعد خلاص، حتّى الخلاص الأخير، الخلاص من الموت بل الخلاص من كلّ شرّ، حين تصبح الأرضُ أرضًا جديدة والسماء سماءً جديدة. هذا هو معنى النصّ الذي سنقرأه الآن في سفر الخروج.

»فقال الربّ لموسى: الآن ترى ما أفعل بفرعون فهو بيدي القديرة سيُطلقهم، وبيدي القديرة سيطردهم من أرضه. وقال الله لموسى: أنا الربّ. تراءيتُ لإبراهيم... وعاهدتُهم... فكلّم الربّ موسى وهارون وأمرهما أن يعملا على إخراج بني إسرائيل من مصر« (6: 1 - 13).

1 - أنا أُخرجكم

بعد الصعوبات، يأتي الضيق الذي يتزايد بالنسبة للشعب الذي يعمل في بناء المدن، مدن فرعون ولا سيّما في الدلتا وعلى حدود مصر الشماليّة. في هذا الضيق، تدخّل الله وطلب من موسى التحرّك، وطلب من الشعب فعلَ إيمان.

أوّلاً عاد إلى الأساس. إذا كان موسى هنا وإذا كان موسى يقوم بمهمّة، فالمهمّة ليست منه، هي من الربّ. فعليه إذًا أن يستند إلى الربّ، ولا يستند إلى إمكانيّاته، ولا إلى فهمه، ولا إلى جيشه، ولا إلى ماله. فهو لا يملك إلاّ هذه العصا. ولا جيش له، بل أناس من الرعاع، بل أناس تعوّدوا أن يكونوا عبيدًا، ويحبّون أن يظلّوا عبيدًا. فعل إيمان من موسى، وفعل إيمان من الشعب.

أنا أُخرجكم، لا أحد غيري. نلاحظ في هذا النصّ كم مرّة ترد كلمة أنا: أنا الربّ، أنا أُخرجكم، أنا هو. إذًا الربّ هو الذي يتكلّم ويدعونا إلى الإيمان، ويعلّمنا الشجاعة والثبات والمثابرة حتّى النهاية. كما قال في الإنجيل: »من يثبت إلى المنتهى فهذا يخلص«. وتقول الرسالة: »لم تقاوموا بعد حتّى الدم«. حياتنا مقاومة لا تقبل بالوضع، لا تقبل بوضع العبوديّة مهما كان الثمن. نحن أحرار ولا نقبل أن نبقى عبيدًا. والربّ كأنّي به أرى موسى في رؤية، العملَ العظيم الذي سيتمّمه.

2 - الآن ترى

قال الربّ لموسى: الآن ترى، ترى بعينيك هذا الخلاص الذي يتمّ بيد الربّ وكلمته الآن. نحن نعرف أنّ الخلاص لن يتمّ الآن كما نقول نحن في هذه الساعة. ولكن بالنسبة للربّ، الآن وفي كلّ أوان، الربّ هو إله الحاضر. منذ الآن، رأى موسى في رؤيةٍ هذا الخلاصَ الذي تمّ. ولكن الناس سوف يرونه يتمّ بالفعل بعد سنة، سنتين، خمس، عشر سنوات. أمّا بالنسبة إلى الله، فكلّ وقت هو الآن.

وماذا سيكون عمل الله؟ هو سيحطّم قدرة الفرعون. هو القدير، يقول النصّ: »بيدي القديرة« ويقولها مرّتين: يد الربّ هي اليد القديرة مع فعلين: يطلقهم، يطردهم. يطلقهم يعني بإرادته يقول لهم: الله يكون معكم، اذهبوا ثلاثة أيّام وعيّدوا في البريّة للربّ إلهكم. ولكن سيطردهم لأنّهم صاروا عليه شرٌّا وبالاً، صاروا عليه ضربة. بما أنّهم هنا، فهم لا يحملون له إلاّ الشرّ، إلاّ الموت، إلاّ الهلاك. وعندما يموت ابن الفرعون، يعتبر الفرعون أنّ هذا عقاب من قبل الربّ بسبب الظلم الذي جعله على هؤلاء الناس، على هؤلاء العبيد الذين يعملون له.

الآن ترى. وفي الواقع سوف يرى موسى وسوف يرى الشعب. وهناك مقطع جميل جدٌّا في الفصل 14 قبل عبور الماء، قبل الانطلاق من مصر إلى بريّة سيناء. يقول موسى للشعب: »اسكتوا، تكتّفوا، وسوف ترون ماذا سيفعل الله«. نعمة فريدة لموسى: هو رأى قبل أن يرى الشعب هذا الخلاص الذي يحمله الربّ. سيُطلقهم، سيطردهم من أرضه. كان الفرعون متمسّكًا بهؤلاء العبيد، يريدهم أن يعملوا له، هم لا يكلّفونه سوى الطعام والشراب فقط. أمّا الآن فهو سيطلقهم، سيطردهم.

3 - أنا الربّ فعلتُ وأفعل

وقال الله لموسى: »أنا الربّ«. حضوره، وجوده، كلامه، عمله، تدخّله كلّه حاضر في هذه الكلمة. نتذكّر هنا، لمّا كان التلاميذ في الإنجيل، في السفينة والأمواج، جاء يسوع ماشيًا على البحر، خافوا. أنا هو، أنا الربّ. ما قاله الله لموسى قاله يسوع للتلاميذ. هذا يعني أنّ يسوع هو الربّ الذي يسود على المياه، يسود على قوى الشرّ. وهنا قال الله لموسى: »أنا الربّ«. وجودي معك يكفي لكي يطمئنك، لكي يشجّعك. فلا تحسب حساب البشر.

لا شكّ القوى غير متكافئة. من جهة، الفرعون ومركباته وخيله وجنوده ورجاله وأرضه الغنيّة. ومن جهة ثانية، موسى وضعفه. لكن »أنا الربّ « تقلب موازين القوى. في سفر الرؤيا، نجد الشيء ذاته. رومة، الإمبراطوريّة الرومانيّة بكلّ جيوشها وأموالها والأرض التي تسيطر عليها. ومقابل كلّ هذا، الحمل ينتصر في النهاية. وهنا الربّ سينتصر في النهاية بواسطة موسى. لهذا كانت هذه الكلمة »أنا الربّ« نداء إلى الإيمان، نداء إلى الاستسلام التامّ بين يديّ الربّ. وكانت عودة إلى التاريخ. أوّل خطوة: تراءيت لأبراهيم وإسحق ويعقوب، إلهًا قديرًا. أتُرى زالت قُدرتي؟

هنا ربط موسى نفسه، وربط الشعبَ بالآباء، إبراهيم وإسحق ويعقوب. هذا الذي كان مع الآباء هو اليوم مع موسى ومع الشعب، وسيبقى مع الشعب حتّى النهاية. هذا الإله هو الإله الأمين. بدأ يعمل وهو يتابع العمل. تراءيتُ لإبراهيم وإسحق ويعقوب: اسم »يهوه«. يعني الله الذي هو. يعني الربّ. ومع موسى لا يكتفي الربّ بأن يكرّر ما عمله في الماضي، بل يعمل شيئًا جديدًا. عاهدتهم أن أعطيهم أرض كنعان التي تغرّبوا فيها، مع أنّهم لم يعرفوا اسمي يهوه. فأنا وعدتهم وأنا أفي بوعدي. والآن بعد أن عرفتم اسمي، وهذا الاسم ليس فقط اسمًا مجرّدًا: »الله« أو »الربّ« أو »القدير« أو »العليّ« أو »العائش في الغيوم« أو »الراكب على السحاب«.

4 - الله الأمين

هذا الإله هو القدير لا شكّ. وهو الذي يعرف أن يتنازل: »سمعت أنين بني إسرائيل«، بكاءهم. البعيدُ لا يسمع بكاء الناس. هذا يعني أنّ هذا الإله وإن كان رفيعًا، قديرًا، قويٌّا، فهو قريب: يسمع أنين بني إسرائيل، يسمع أنين كلّ شعب مظلوم، كلّ شعب متألّم، كلّ امرأة متألّمة، كلّ رجل مظلوم. كلُّ ولد يُسحَق، الربّ يسمع صراخه. من أين يأتي أنين بني إسرائيل؟ إستعبدهم المصريّون. إذًا هو أنين العبوديّة. وكم من عبوديّة لا نشعر بها، ولكنّها تحطّ من حياتنا، تحطّ من قدرتنا، تحطّ من عظمتنا كمخلوقين على صورة الله ومثاله.

»فذكرتُ عهدي لهم«. هنا لا يقول إلى من تعود كلمة لهم. لهم يمكن أن تكون لإبراهيم وإسحق ويعقوب. عاد إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب، وهو هنا يذكر عهدهم. ولكن هنا هذه »لهم« تعود أيضًا إلى بني إسرائيل. كأنّي بالربّ جدّد عهده مع بني إسرائيل، وهو العهد الذي بدأ به مع إبراهيم وإسحق ويعقوب.

عاد الربّ إلى الماضي ليُفهم شعبه أنّ ذاك الذي فعل في الماضي يستطيع أن يفعل في الحاضر وفي المستقبل. الله إله الأمانة، الله هو الذي فعل في الماضي، ويفعل الآن، وسيفعل فيما بعد. كما يقول القدّيس بولس: »لا ندامة في عطايا الله«. ولو أخطأنا نحن، ولو ابتعدنا عنه، ولو تغرّبنا، ولو رفضنا عهده، هو لا يمكن أن يخون. إن خان خان نفسه، أنكر ذاته. هو الله يقولها في سفر هوشع: »أنا إله لا إنسان«.

الإنسان متقلّب، اليوم قويّ وغدًا ضعيف. اليوم يرأف وغدًا يظلم. اليوم يفعل وغدًا لا يفعل شيئًا، يكتّف يديه ويبقى صامتًا لا يقول كلمة ولا يعمل عملاً. أمّا الربّ فهو هو، هو أمس، واليوم وإلى الأبد. هو الإله الأمين الذي بدأ وهو يتمّم، كما يقول بولس الرسول: »ذاك الذي بدأ فيكم الأعمال الصالحة يتمّمها إلى يوم ربّنا«. وهنا هو الذي بدأ مع إبراهيم وإسحق ويعقوب، لن يتوقّف عندهم، بل يصل إلى الشعب، يصل إلى الملوك، يصل إلى الأنبياء، وفي النهاية يصل إلى يسوع المسيح.

5 - الربّ يخلّص

فصل 6: 6: فقل لبني إسرائيل: »أنا الربّ«. ما قاله لموسى يقوله للشعب: »أنا الذي هو«. لست كالأصنام التي لا تفعل شيئًا »وأنا أُخرجكم«. يقول في أشعيا: »أنا وليس سواي«، لا أحد غيري. لا نستطيع القول: أنا عندي إلهي، والشعب الثاني عنده إلهه. كلاّ ليس هناك إله، ليس هناك خمسة آلهة. ليس هناك ألف إله، بحيث يكون لكلّ شعب إلهه. كلاّ. هنا الإله الواحد. أنا الربّ. والربّ هو الذي بحضوره يفعل. لنأخذ الشمس. الشمس تعطي الدفء بحضورها، تعطي النور بحضورها، تجعل الشجر يثمر، الطبيعة تنمو، وجودها كامل، حضورها كامل. والربّ الحاضر هنا لا يمكن أن يكون الإله الذي يكتّف يديه وينظر من دون رحمة ولا شفقة إلى شقاء أبنائه. كلاّ. أنا الربّ، يعني أنا الذي أُخرجكم. إن لم أُخرجكم فلست الربّ، إن لم أُنقذْكم فلست الربّ. نحن نعرف الربّ عندما نضعف. وهكذا نكتشفه في حياتنا اليوميّة: هو يفعل، أكيد يفعل فالله يفعل بواسطتنا. لكن نحن مرّات عديدة لا نرى عمل الربّ لأنّ الإيمان ينقصنا. لا نرى عمل الربّ، فنحسب أنّ البشر هم الذين عملوا لنا. ولكن البشر أضعف من أن يعملوا. والأبشع من هذا، لا نرى عمل الربّ، لأنّنا نعتبر أنّنا بيدينا، بقوّتنا، عملنا ما عملنا، نجحنا هذا النجاح العظيم. أمّا الربّ فهو الذي يعمل. يبقى أن نطلب من الربّ الإيمان حتّى نكتشف عمله، نسمع كلمته، نرى ما يفعله من أجلنا.

وعمله سلبيّ وإيجابيّ. سلبيّ إذ يعاقب المصريّين. نقول هنا: »أرفع ذراعي وأُنزل بهم أحكامًا رهيبة«. إذا كان ابننا بين يدَي الخاطئ، نضرب الخاطئ حتّى نأخذ ابننا منه. وهكذا يفعل الربّ حين يكون المظلوم بيد الظالم، والضحيّة في يد المقتدر، فهو يضرب المقتدر، يجعل القويّ يتخلّى عن ذاك الذي صار رهينة بين يديه. أرفع ذراعي وأُنزل بهم أحكامًا رهيبة.

»وأتّخذكم لي شعبًا وأكون لكم إلهًا. وتعلمون أنّي أنا الربّ إلهكم«. إذًا، ستتركون سيّدًا وتأخذون سيّدًا آخرًا. تتركون سيّدًا يستعبدكم، يُذلّكم، يسخّركم، يحتقركم، وتتّخذون سيّدًا تتعبّدون له، سيّدًا هو مستعدّ أن يكون لكم كما أنتم له. أكون لكم إلهًا: هو لكم وأنتم له: تبادلٌ عجيب، تبادل رائع. وتتذكّرون أنّ الربّ أخرجكم من أرض مصر، من تحت نير المصريّين.

6 - الربّ يختار

هذا ما يتذكّره الشعب حتّى النهاية فيعرف أنّ الربّ هو الربّ، هو الذي اختار له شعبًا. ونشدّد على هذا الاختيار. الاختيار هو نداء وجواب. ولا يصبح الاختيار اختيارًا إلاّ إذا جاء الجواب. فالربّ يدعو جميع الشعوب، يدعوها إلى عبادة الله الواحد، إلى حياة العدالة والمحبّة، إلى حياة التآخي والتعاون. هو ينادي وينتظر الجواب. هو يدعو، وينتظر منّا أن نقبل دعوته. حينئذ نصبح المختارين. قال يسوع في الإنجيل: »المدعوّون كثيرون والمختارون قليلون«. فالذين اختاروا أن يمشوا وراء الربّ، أن يسيروا في خطى الربّ، هؤلاء صاروا مختارين. وإذا قلنا عن هذا الشعب العبراني هو الشعب المختار، فليس لأنّه أخذ امتيازًا من الامتيازات، وإن حسب ما تسلّمه امتيازًا. بل تسلّم رسالة، تسلّم عملاً بأن ينشد عظائم الربّ، بأن يعلن الله الواحد. فصلاته اليوميّة تُعلن ذلك: »اسمع يا إسرائيل، الربّ إلهنا هو الربّ الواحد، فأحبّ الربّ إلهك بكلّ قلبك وكلّ نفسك وكلّ قدرتك. ولتكن هذه الكلمات التي أضعها أمامك، في حياتك، تكتبها، تقولها لأبنائك، تردّدها، فتصبح هذه الكلمة حياتك لأنّ الإنسان لا يحيا بالخبز فقط بل بكلّ كلمة تخرج من فم الربّ«.

هذا هو النداء الذي أطلقه الربّ إلى موسى ساعة يئس في أوّل لقاء له مع فرعون. وهذا النداء أطلقه لشعبه: تكونون لي شعبًا وأكون لكم إلهًا. وهكذا تمّ الزواج بين الله وبين البشريّة، بين الله وشعب من الشعوب، بانتظار زواج المسيح مع كلّ الشعوب في هذه الكنيسة التي أرادها واحدة، جامعة، مقدّسة، رسوليّة. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM