أطلق شعبي ليعيّدوا لي

أطلق شعبي ليعيّدوا لي

أحبّائي، الربّ يكون معنا، ونحن نسمع له، بل هو يسمع لنا ويرانا، وهو الذي رأى شعبه، بل يرى جميع الشعوب المتألّمة في العالم فلا يريد لها أن تبقى كما هي. فهو لذلك يرسل من يخلّص البشر. مثلاً أرسل أشخاصًا مثل غاندي فحرّر الهند، أو مارتن لوثر كينغ فحرّر العبيد في أميركا. وهناك محرّرون عديدون. مثلاً أوسكار روميرو في أميركا الوسطى.

إذًا الربّ ما زال يرسل أشخاصًا مثل موسى كي يحملوا الخلاص إلى الشعب. يبقى على الشعب أن يقبل. هناك خلاص على المستوى الفردي. وكلّ واحد منّا عاشه ولا شكّ. رأى في شخص من الأشخاص، علامةً عن حضور الله في حياته. وهنا تبدأ مسيرة الخلاص حين يأتي موسى إلى فرعون ومعه هارون أخوه.

نقرأ سفر الخروج فصل 5: 1-5: »وبعد ذلك دخل موسى وهارون على فرعون وقالا له: قال الربّ إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيّدوا لي في البريّة. فقال فرعون: من هو الربّ حتّى أسمع له وأُطلق بني إسرائيل؟ لا أعرف الربّ، ولا أُطلق بني إسرائيل... فكيف إذا أرحتماهم في أثقالهم«.

1 - رسالة واحدة رسالة ناجحة

أوّلاً موسى كما قلنا هو الناجي من الماء. هو أوّل المخلَّصين، وسوف يعمل من أجل خلاص شعبه. وهارون هو الكاهن. يصوّره الكاتب أخًا أو الأخ البكر لموسى. فرعون يعني البيت الكبير. نذكّر هنا الباحثين أنّ كلمة فرعون لا ترد أبدًا في النصوص المصريّة، ولكنّها ترد في الكتاب المقدّس وترد مرارًا عديدة جدٌّا. حين يريد الكاتب أن يتحدّث عن ملك مصر، يسمّيه فرعون أو القصر الكبير أو البيت الكبير.

يقول النصّ: »وقالا له«. يعني هما يتكلّمان معًا. ما يقوله الواحد يقوله الآخر: فإن كان هناك اتّفاق في الرسالة، فالرسالة تنجح. وإن أراد كلّ واحد أن يُظهر نفسه لا أن يُظهر الرسالة، عندئذ تفشل. بدل أن يكون الربّ الواحد، يكون هناك إبليس المقسّم. قالا له: هما معًا. يتكلّمان معًا، يفعلان معًا، يروحان ويجيئان معًا. وحين يكون العمل على مستوى الجماعة، اثنان أو ثلاثة، يكون الربّ في قلب هذا العمل. قالا له: قال الربّ إله إسرائيل.

الربّ يعني يهوه هذا الذي اكتشف موسى حضورَه في العليقة، وسمع اسمه للمرّة الأولى بحسب التقليد الذي يسمّى تقليد يهوه. يعني الربّ الذي هو. الربّ إله إسرائيل. يعني الربّ هو الذي يحمي شعبه، بل يحمي جميع الشعوب. الربّ يريدنا أن نتوجّه إليه. فإن نحن توجّهنا إليه، استطعنا أن ندرك أنّ الربّ هو إلهنا.

الربّ هو العطاء، فيجب أن نفتح قلبنا لعطائه. الربّ هو الخلاص، فيجب أن نفتح قلبنا لخلاصه، أن نمدّ يدنا لنعمل. في الكتاب المقدّس عندما نقرأ النصّ نلاحظ أنّ الربّ يبدو وكأنّه يعمل وحده. في الواقع لا يريد الربّ أن يعمل وحده. أمّا الخلاص الذي يحمله فيتجسّد في أيدينا. إذا ما كنّا مع الربّ، فهو لن يخلّص. نتذكّر هنا كلام القدّيس أوغسطينس »الربّ الذي خلقك بدونك، لا يخلّصك بدونك«.

2 - الشعب الحرّ يعيّد

الربّ هو إله إسرائيل، لأنّ شعب إسرائيل قبِل أن يسير مع الربّ مهما رافق هذه المسيرة من ضعف وتشكّك وتردّد وهرب وعذاب وموت. فهو مع ذلك تابع المسيرة. لهذا السب كلّ الشعب يستطيع أن يقول: الربّ هو إلهي. قال الربّ إله إسرائيل: أطلق شعبي ليعيّدوا لي في البريّة. أطلقْ. لأنّ شعبي سجين، لأنّ شعبي أسير، لأنّ شعبي شعب عبيد يعيش في العبوديّة. هو لم يعد شعبًا، لم يعد إنسانًا، لم يعد حرٌّا، أتركه ليكون حرٌّا، وهو الإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله. هذا الإنسان لا يمكن أن يكون عبدًا. فكيف نستعبد من حرّره الربّ؟ كيف نستعبد من خلقه الربّ حرٌّا؟ هي أكبر خطيئة.

في الوصايا العشر كلمة لا تسرق تُطلق عادة، تُقال عادة، عندما نسرق ولدًا من الأولاد ونجعله عبدًا لنا. وهذا مؤسف ما يحصل حتّى اليوم، يُسرق الأولاد من السودان أو من غيرها من البلدان، ويُباعون بيع العبيد. أطلق شعبي، اتركه حرٌّا، اتركه يذهب أينما يريد. فشعبي ليس لك. فهو لي. أطلق شعبي ليعيّدوا لي في البريّة.

هنا عندنا العيد، العيد هو حياة من الفرح ننسى فيه كلّ شيء، العيد هو بعض ضياع الوقت بالنسبة إلى الإنتاج، إلى الغلّة، إلى العمل. الإنسان يعمل سبعة أيّام على سبعة أيّام، وثلاثين يومًا على ثلاثين يومًا، وسنة كاملة على سنة كاملة، وينسى العيد. أمّا الربّ فيريد لنا أن نعيّد، أن نعيش العيد، أن ننسى أعمالنا، أن نرتاح، أن نرفع رؤوسنا إلى العلاء، أن نعيش عيشة العائلة، نعيّد.

أمّا الفرعون فلا همّ له إلاّ العمل. يقول هنا في الآية 4 من الفصل 5: تعطّلان الشعب عن الأعمال. بالتأكيد في العيد نعطّل عن العمل. أمّا الربّ فيريد لشعبه أن يعيّد، يريد لكلّ واحد منّا أن يعيّد، أن يعيش العيد. والحمد لله في مجتمعنا: هناك أعياد نتوقّف فيها عن كلّ حركة، عن كلّ عمل، عن كلّ تعب، عن كلّ ركض، عن كلّ سعي، لنعيش فترة من الراحة، فترة من السعادة. وما أطيبه العيد حين يكون حول الربّ. حين يعيّد الأولاد حول آبائهم. أطلق شعبي ليعيّدوا لي في البريّة. البريّة يعني الحريّة. يجب أن يخرجوا من مصر، أرض العبوديّة، أرض النار والحديد، ويذهبوا إلى البريّة حيث الحريّة.

3 - من هو الربّ

فقال الفرعون (5:2): »من هو الربّ حتّى أسمع له؟« الكلمة لها معنيان: المعنى الأوّل: أنا لا أعرف الربّ. هذا يعني أنّه يجهل الربّ. ولكن يعني الكلام أيضًا: أنا وإن عرفت الربّ، وإن سمعت صوته، فلا أريد أن أعرفه ولا أريد أن أسمع له. من هو حتّى يأمرني بأن أفعل ما تطلبان منّي أن أفعل؟ لماذا تريدان أن أسمع للربّ؟ هل هذا الربّ أقوى من آلهة مصر؟ من إيزيس؟ من أوزيريس؟ من حورس؟ من رع؟ من كلّ هؤلاء الآلهة؟ إذا أردتُ أن أسمع أسمع من آلهتي، وأنا صورة عنهم.

ولكنّ هذه الآلهة هي قريبة من الحجر ومن الخشب. وسوف نرى في النهاية بأنّ فرعون سيُجبر على أن يسمع ؟. من هو الربّ حتّى أسمع له؟ يعني أسمع له بأذنيّ، أفهم كلامه بقلبي، وأطيعه. وكيف أطيعه؟ عندما أطلق بني إسرائيل من عبوديّة مصر. إذًا بدأ بقول الرفض: من هو الربّ؟ ثمّ: لا أعرف الربّ، كأنّه يقول: لا أريد أن أعرفه، ولا أريد أن أعرف أوامره، ولا أريد أن أعرف ما يطلبه منّي. إذًا لن أطلق بني إسرائيل.

4 - وسيعرف فرعون الربّ

نلاحظ هنا هذا الرفض لنداء الربّ، وهذا الرفض يأتي من أقوى ملك في العالم، في ذلك الزمان. لكن الربّ هو الأقوى، هو الذي يسود في القلوب، وسوف نرى تراجع فرعون شيئًا فشيئًا. في البداية هي قساوة القلب، بعد وقت قليل سيقول لموسى وهارون: تشفّعا إليّ. وفي النهاية سيستمع إلى الربّ ويُطلق الشعب.

من هو الربّ حتّى أسمع له؟ الربّ هو الربّ القدير. ومن هو الربّ؟ أنا لا أعرفه. سوف تعرفه، سوف يعرف فرعون الربّ من خلال الأعمال التي يعملها موسى وخصوصًا من خلال الطبيعة. سوف نرى في المعجزات ما يسمّى «الضربات»: كما يضرب الأب ابنه هكذا يضرب الربّ الفرعون. سوف يعرف الفرعون الربّ من خلال الطبيعة، من خلال الجراد، من خلال البَرَد، من خلال الظلمة، من خلال المياه. كلّ هذا يمكن أن يوصل الإنسان إلى ا؟، كما قال سفر الحكمة: » رأوا أعمال الله، رأوا خلائق الله كم هي جميلة فليتعرّفوا إلى من هو أجمل منها، هي قويّة فليتعرّفوا إلى من هو أقوى منها».

ما كان جواب موسى وهارون؟ قالا: «إله العبرانيّين قابلنا». كانت لنا مقابلة مع الربّ، كان لنا لقاء مع الربّ، هذا يعني أنّ موسى لم يأتِ باسمه الخاصّ. الرسالة إمّا تنطلق من الله وإمّا ليست برسالة .هي كذب، هي ضلال. ظنّ الفرّيسيّون واليهود أنّ التلاميذ، تلاميذ يسوع بعد القيامة والصعود، يقومون برسالة ليست لهم. فقال جملائيل: «إذا كان هذا العمل من الله لا تستطيعون عليه. وإن قاومتموه كنتم كمن يقاوم الله. أمّا إذا كان هذا العمل من البشر فهو يزول سريعًا كما يزول البشر».

هنا موسى وهارون يقولان: إله العبرانيّين قابلنا. كانت لنا مقابلة، وهو الذي طلب منّا ما نطلبه منك. لا شكّ يحتاج فرعون إلى فعل إيمان لكي يقبل بأن يكون هذان الرجلان آتيين من عند الله. إله العبرانيّين قابلنا، وهنا قوّة موسى وهارون، وهنا السبب الذي جعل موسى وهارون يقولان ما قالاه. فدعنا الآن نسير مسيرة ثلاثة أيّام في البريّة ونقدّم ذبيحة للربّ إلهنا.

5 - ذبيحة في البريّة

نلاحظ أنّ العبرانيّين، أنّ موسى وهارون، لا يريدون أن يشاركوا شعب مصر في ذبائحهم. فشعبُ مصر يعبد الأصنام، يعبد الأوثان. سيقول لنا مار بولس في رسالته الأولى إلى كورنتوس: أيّ شركة بين الله والأصنام؟ أيّ شركة بين الله والشياطين؟ لأنّه في النهاية، عبادة الأصنام هي عبادة الشياطين. نحن نريد أن نقدّم ذبيحة للربّ إلهنا في البريّة. وهكذا لا نشارك الشعب المصريّ في ذبائحه.

عندنا كلمة: «ثلاثة أيّام». هذه العبارة ترد مرارًا عديدة في الكتاب المقدّس. مثلاً: إبراهيم ذهب ليذبح ابنه. سار ثلاثة أيّام. وهنا الشعب العبراني يريد أن يسير ثلاثة أيّام قبل أن يقدّم ذبيحته. إذا ذهبنا أبعد فوصلنا إلى الأنبياء، نسمع ما يقول هوشع: «بعد يومين تحيينا وفي اليوم الثالث تقيمنا». وفي النهاية، مع يسوع الذي قام بعد ثلاثة أيّام أو في اليوم الثالث. لا شكّ هناك بالنسبة إلى يسوع، هناك يوم الجمعة ويوم السبت ويوم الأحد. ويكفي أن يبدأ يومُ الأحد حتّى يُحسب يومًا من الأيّام. لكن عبارة ثلاثة أيّام أصبح لها معنًى روحي: يوم اللقاء بالربّ.

فإبراهيم التقى بالربّ عندما وصل إلى الجبل بعد ثلاثة أيّام. وينتظر الشعب العبراني أن يلتقي بالربّ على جبل سيناء بعد ثلاثة أيّام. وبالنسبة ليسوع، يوم الأحد الذي يشير إلى القيامة، هو يوم لقاء النسوة، يوم لقاء التلاميذ بيسوع. ثلاثة أيّام في البريّة ونقدّم ذبيحة للربّ إلهنا، لئلاّ يعاقبنا بوباء أو بحدّ السيف.

هنا نحن على مستوى الديانة الناقصة التي لم تصبح بعد كاملة. نحن نتعبّد للربّ خوفًا من أن يعاقبنا. لم نصل بعدُ إلى تعبّد للربّ يدلّ على حبّنا له،على تعلّقنا به. نخاف من وباء يأتي علينا، من وباء يصيبنا. هكذا يسيطر عامل الخوف. وهذا العامل، عامل الخوف، ليس ببعيد عنّا. كم نسمع من الناس: صلِّ من أجلنا حتّى الربّ يحفظنا ويحفظ أولادنا. أو إذا كانت مصيبة: لماذا أخذ الربّ منّا ابننا؟ لماذا هذا المرض؟ لماذا هذا الفشل؟ ماذا فعلنا با؟ حتّى ضربنا؟

هذه الفكرة التي انطلقت من العالم الوثني ومرّت في الكتاب المقدّس، في التوراة، لا تزال حيّة عند الشعب المؤمن حتّى اليوم. يجب أن نفهم مرّة أخيرة أنّ الربّ لا يعاقب. قد يكون وباء، قد تكون حرب بفعل البشر هذا مؤكّد. ولكن الربّ ليس هو الذي يشعل الحرب، الربّ ليس إله العقاب بل إله المحبّة، هو الإله الذي يريدنا أن ننمو، أن نكبر، أن نكون حقٌّا أولاده.

6 - الإنسان والراحة

طلب موسى وهارون ثلاثة أيّام حتّى يعيّدوا في البريّة. هل يرضى ملك مصر بذلك؟ هنا نقرأ 5: 4 - 6: فقال لهم ملك مصر: »لماذا يا موسى وهارون تعطّلان شعبكما عن أعماله«. هو يعمل. أتركوه يعمل 365 يومًا في السنة على 365 يومًا. العمل يجعلهم ينسون حالهم، ينسون أنّهم بشر. العمل يجعلهم شبيهين بالحمار والثور، شبيهين بالعبد والأمة اللذين كانا يُحسبان على مثال الحيوان. ولكنّ الربّ لا يريد هذا.

فهو يقول في الوصايا العشر: قدّس يوم الربّ، قدّس يوم السبت. لا تعمل عملاً أنت وابنك وابنتك، بل ثورك وحمارك والعامل في أرضك يجب أن يرتاحوا كلّهم. الربّ إله الراحة، والراحة في المعنى البشريّ تهيّئنا للعمل. أمّا هنا على مستوى فرعون، على مستوى مجتمعنا الحديث، على مستوى استغلال الناس، فلا مجال للراحة. عندما نرتاح نصبح بشرًا. بل يجب أن يبقى الإنسان حيوانًا، بل آلة في »ماكنة« كبيرة، في مؤسَّسة كبيرة جدٌّا.

عندما ينشغل الإنسان في العمل فهو لا يعود يفكّر، لا يعود يصلّي، لا يعود ينظر إلى العلاء، يضيّع هويّته، يضيّع عائلته، يضيّع أولاده ولا يبقى شيء له.

هذا هو معنى اللقاء الأوّل بين موسى وهارون من جهة، وفرعون من جهة ثانية. جاء موسى وهارون باسم الربّ. قالا: قابلنا الربّ، كنّا في لقاء معه، هو الذي أرسلنا.كان موسى قد قال لهارون: الربّ أرسلني. الآن الاثنان هما مرسلان، مرسلان باسم الربّ. كلمتهما من عند الربّ، عملهما من عند الربّ وهما ينتظران مع الشعب لقاء مع الربّ بعد ثلاثة أيّام. ولكن تجاه منطق العيد، تجاه منطق الحياة مع الله هناك منطق العمل، العمل المتواصل الذي فيه لا نعطّل يومًا ولا نتوقّف ولا نرتاح. أترى الربّ يريد هذا؟ كلاّ. فهو يدعونا إلى العيد، يدعونا إلى الحريّة، يدعونا إلى الانطلاق مهما كلّفنا ذلك من صعوبات ومضايقات. فيا ليتنا نسلّم حياتنا وأعمالنا ومشاريعنا في يد الربّ. هو يعلّمنا متى نعمل ومتى نرتاح، فيكون عملنا عيدًا وراحتنا حريّة. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM