موسى وهارون يعلمان الشعب

 

موسى وهارون يعلمان الشعب

أحبّائي، الربّ يكون معنا. نتابع قراءة سفر الخروج وهو السفر الثاني من أسفار موسى الخمسة، الخروج الذي يحدّثنا عن خروج الشعب العبراني من مصر إلى سيناء بانتظار الوصول إلى فلسطين. ولكن المسيرة ستكون طويلة جدٌّا. وبداية المسيرة هي بداية مسيرة موسى. لكن موسى الذي خرج من مصر وذهب إلى سيناء، يعود من سيناء إلىمصر ليحاول أن يُخرج شعبه من أرض العبوديّة، أرض الحديد والنار، كما سُمّيت. ونقرأ الفصل الرابع.

»وبينما موسى في الطريق لاقاه الربّ. وقال الربّ لهارون: اذهب إلى البريّة للقاء موسى... ثمّ صنع موسى المعجزات أمام عيون الشعب، فآمنوا... ثمّ ركعوا ساجدين« (4: 24 - 31).

1 - ختانة موسى وابنه

نتذكّر هنا أنّ موسى تلقّى نداء من الربّ من خلال العليقة الملتهبة. وبعد أن استأذن حماه يترو، والد امرأته صفّورة، عاد إلى مصر. قال الربّ لموسى: »أنت راجع إلى مصر« (4: 24). هنا نحن أمام حدث مهمّ جدٌّا، ختانة ابن موسى. لا نعرف في الواقع ماذا حدث. ولكن نعرف شيئًا واحدًا هو أنّ صفّورة زوجة موسى ختنت ابنها. والختانة سوف تدلّ فيما بعد على ارتباط الإنسان بشعب من الشعوب. وفي كلّ مرحلة من مراحل الشعب هناك تتمّ الختانة. في الدخول إلى أرض الموعد، نلاحظ أنّ يشوع ختن الجميع.

والختانة أمر قديم جدٌّا. نقرأ هنا: »أخذت صفّورة امرأته صوّانة«. يعني الختان موجود، ويمارَس قبل استنباط النحاس والبرونز والحديد، يوم كانت السكاكين وسائر الأدوات من الحجر الصوّان. إذًا أوّل شيء: إذا أراد موسى أن يبدأ خلاص شعبه، فليبدأ بخلاص ابنه. »عريس دم لي«. وهذا الخلاص يتمّ عبر الدم. فكأنّي بالكاتب يريد أن يُفهم موسى أنّ الخلاص لا يكون بالأمر الهيّن، بالأمر السهل. فهو يتمّ في الدم، في الصعوبات، في العوائق، في التذمّرات. وسيأتي يوم يقول موسى للربّ: »خذني يا ربّ فموتي أفضل من الحياة«.

ثمّ نلاحظ في آية 24: »لاقاه الربّ في مكان للمبيت«. أراد إذًا موسى الذاهب من سيناء إلى مصر والطريق طويلة تطلب يومين أو ثلاثة أيّام، أراد أن يبيت. عندئذ حاول الربّ أن يُميته. ماذا يعني هذا الموقف؟ قد نكون أمام مصيبة، مرض أو وحش. الأسباب عديدة، ولكن المهمّ هو أنّ الكاتب لا يهتمّ بالأمور الخارجيّة، لا يهتمّ بما حدث لموسى، من مرض أو أمر آخر. فالمهمّ، يجب على موسى أن يموت قبل أن ينطلق في خلاص شعبه، يجب أن يتبدّل، أن يصبح إنسانًا جديدًا. فكأنّي هنا قبل الوقت أمام قراءة مسيحيّة. نتذكّر أنّ الذي يعتمد يموت مع المسيح ليقوم معه. فلا بدّ إذًا لموسى أن يموت قبل أن يبدأ في خلاص شعبه، يعني أن يتبدّل تبدّلاً كليٌّا. مار بولس يتكلّم عن الإنسان العتيق الذي يموت والإنسان الجديد الذي يحيا. وكيف يتمّ هذا الموت في نظر موسى؟ بالختان. ختن ابنه ويبدو أنّ ختان الابن أثّر على الأب، فكأنّ موسى خُتن من خلال ختانة ابنه. يقول هنا النصّ: »ومسّت بها رجلي موسى فكأنّها ختنته«. هذا النصّ يبيّن لنا بداية الطريق، الذي يكون فيها الموت، تكون فيها التضحية، يكون فيها الدم، قبل أن يبدأ الخلاص.

2 - اللقاء بين الأخوين

قال الربّ لهارون: »اذهب إلى البريّة للقاء موسى« (آ 27). نرى هنا هذا اللقاء. فالربّ هو الذي هيّأه. يجب أن يكون عندنا إيمان كبير لنفهم أنّ الصدف والمناسبات لا وجود لها في مخطّط الله على مستوى البشر نقول الحظّ والصدفة. أمّا عند الربّ فلا. هو سيّد حياتنا. يوجّه حياة كلّ واحد منّا. فكأنّي به هو الذي ألهم هارون لأن يذهب إلى لقاء موسى. فموسى له عدد من السنوات ولم يلقَ أخاه هارون، فلماذا في هذا الوقت بالذات؟

الربّ هو الذي أرسل موسى، وأرسل هارون إلى لقائه. يقول النصّ: فذهب ولقيَه في جبل الله، فقبّله. نحن هنا أمام لقاء، وهذا اللقاء لن يكون في أيّ مكان ما. لا يكون مثلاً على الطريق، لا يكون مع الغنم، لا يكون في البيت، بل في جبل الله هو لقاء تحت نظر الله. وهذا مهمّ جدٌّا. لقاءاتنا تكون تحت نظر الله خصوصًا إذا كان المشروع، مشروع الخلاص، هو من النوع الذي سيعيشه الشعب العبراني.

فقبّله هنا قبلة السلام وليس فقط قبلة الأخ لأخيه. قبّله قبلة السلام، قبلة التعاون، قبلة المسيرة معًا. وسيبيّن لنا الكاتب فيما بعد وخصوصًا في تقليد الكهنة أنّ موسى لم يعمل وحده، لكنّه عمل مع أخيه هارون، فكأنّنا نستطيع أن نقول: السلطة السياسيّة والسلطة الدينيّة أو الكهنوتيّة يعملان معًا من أجل خير الجماعة. وكيف لهارون أن يدخل في هذه الخبرة التي دخل فيها موسى قرب العليقة الملتهبة؟ يقول النصّ (4:28): أخبر موسى هارون بجميع ما كلّمه به الربّ حين أرسله، وبجميع المعجزات التي أمره بها.

موسى هو الذي تقبّل الوحي، وهو بدوره يبدأ. فيحمل هذا الوحي إلى أخيه هارون. تلقّى كلمة، وهو بدوره يوصل هذه الكلمة. إنّنا نهتمّ بشكل خاص فنفهم أنّ الظهورات عادة أو أنّ الوحي، لا يأتي إلى مجموعة من عشرة آلاف شخص بل هو يُعطى لشخص واحد. وهذا الشخص يحمله إلى الآخرين. نتذكّر هنا كلام إنجيل يوحنّا: »طوبى للذين لم يروا وآمنوا«. فهارون لم ير شيئًا. فطوبى له إن عرف أن يؤمن بما يقوله له موسى.

الايمان لن يكون فقط على مستوى السماع، بل على مستوى القبول. أخبر موسى هارون بجميع ما كلّمه به الربّ حين أرسله. يعني اعتقد هارون بأنّ موسى هو حقٌّا مرسل من لدن الله، وعلامة هذه الرسالة هي المعجزات التي أمره بها الربّ. يعني قوّة الله وصلت إلى يد موسى. صارت يدُ موسى يدَ الله، ويدُ اللهيد موسى.

3 - من أجل عمل مشترك

وهكذا اجتمع الأخوان. واحد رأى والثاني سمع، وكلاهما فهما أنّهما أرسلا. ونقرأ آية 29: »فذهب موسى وهارون، وجمعا شيوخ بني إسرائيل كلّها«. بدأ العمل. هما اثنان. نتذكّر هنا يسوع المسيح لمّا أرسل تلاميذه. لم يرسلهم واحدًا واحدًا بل اثنين اثنين أمام وجهه إلى كلّ مدينة وقرية أزمع أن يمضي إليها. وهنا موسى وهارون هما معًا يشهدان الشهادة الواحدة، ويعملان الأعمال الواحدة. ذهب موسى وهارون وجمعا شيوخ بني إسرائيل كلّها. إذا لن تتوقّف الكلمة عند موسى، لن تتوقّف الكلمة عند هارون، بل تصل إلى شيوخ بني إسرائيل كلّهم. بانتظار أن تصل هذه الكلمة إلى الشعب.

الشيوخ هم رؤساء القبائل، رؤساء العشائر. هم مسؤولون نوعًا ما عن الشعب. باسمه يتكلّمون، عنه يدافعون، إيّاه يحفظون... وخاطبهم هارون بجميع ما كلّم الربّ به موسى. نلاحظ أنّ الكلام هو عمل هارون، وكأنّ الربّ قد قال، وسوف يقول أيضًا لموسى: أنا أخاطبك وأنت تخاطب هارون، وهارون يخاطب الشعب. كما أنّ موسى هو نبيّ الله، يعني يتكلّم باسم الله، صار هارون نبيّ موسى: هو يتكلّم وكأنّ موسى أعطاه الكلام. وهارون قدّم فمه وشفتيه لكي يتكلّم. قال موسى للربّ: أنا ثقيل اللسان لا أعرف أن أتكلّم. فأعطاه هارون. نتذكّر أيضًا بولس وبرنابا، برنابا اعتُبر الرئيس، وبولس اعتُبر المتكلّم. وهنا موسى هو الرئيس وهارون هو المتكلّم.

4 - المعجزة والإيمان

ثمّ صنع موسى المعجزات أمام عيون الشعب، فآمن. الشعب يحتاج إلى أن يرى. وسوف نفهم أنّ هذه المعجزات قريبة بعض الشيء من السحر. نتذكّر عندما تكون معجزة، عجيبة من العجائب. لا نتوقّف فقط عند الشيء الخارجيّ، عند الشيء الذي نراه، فهناك تفسير المعجزة.

هناك هدف المعجزة. إذا لم يكن لها من هدف، فنحن أمام السحر وأمام الشعوذة. أمّا الهدف فهو الذي يعطي المعنى للمعجزة، بل يعطي المعنى لأمور عديدة في حياتنا: نحسبها بسيطة، عاديّة، ولكنّ الربّ يحمّلها أمورًا غير عاديّة، لأنّ المعجزة هي طريقة من طرق الربّ لكي يكلّمنا بها. المعجزة ليست فقط للدهشة، للتعجّب، وإن يكن فيها عنصر الدهشة والتعجّب. المعجزة هي أساسًا الطريقة التي يكلّمنا بها الله. وهو هنا كلّم الشعب. فيقول النصّ: صنع موسى المعجزات أمام عيون الشعب. رأوا المعجزات، اندهشوا، وما توقّفوا عند الدهشة.

نقرأ في الآية 31: فآمنوا. يعني قبلوا بأن يكون الربّ هو الذي يتكلّم بفم هارون والذي يفعل بيد موسى. آمنوا، يعني استسلموا إلى الله. قالوا له: يا ربّ نحن نسلّم لك مصيرنا وحياتنا وتاريخنا وصعوباتنا، هذا هو الإيمان. والإيمان هو الخطوة الأولى في مسيرة تمتدّ وتمتدّ حتّى الموت.

فالإيمان ليس عاطفة عابرة، ولا شعورًا يمرّ ولا يعود، ولا إحساسًا داخليٌّا لا ينتقل، لا يتجسّد في الحياة اليوميّة. الإيمان هو إذا شئنا عاطفة لكن هو موقف، ارتباط بالله وبداية مسيرة معه. فكأنّ الشعب حين سمع هارون يخاطبه، وحين رأى موسى يصنع المعجزات، سلّم أمره إلى الربّ في مسيرة لم يكن يعرف إلى أين ستقوده. ربّما ظنّ الشعب أنّ القضيّة قضيّة ذهاب إلى المعبد القريب، تُقدّم هناك الذبيحة ويعودون إلى مصر وتنتهي الأمور. ولكن الربّ لا يقبل بمثل هذه الطريقة. فهو إن دعانا إلى الإيمان، ونحن إن آمنّا به، ستكون الطريق طويلة معه.

5 - بداية الطريق

والطريق التي عاشها الشعب سوف تمرّ في أرض سيناء، في بريّة سيناء القاحلة الجرداء التي لا طعام فيها، التي لا ماء فيها، التي فيها الأخطار العديدة. ولكنّ الانطلاقة هي انطلاقة الربّ. وسوف ينطلق الربُّ ومعه شعبه. والربّ لا يرينا كلّ الصعوبات دفعة واحدة، بل هو يربّينا. لا يصدمنا، بل شيئًا فشيئًا يفهمنا كيف نصبح كما يقول مار بولس: ذاك الإنسان بالكامل على ملء قامة المسيح. أو نصبح الشعب الكامل، الرعيّة الكاملة، الجماعة الكاملة على ملء قامة المسيح.

ويتابع النصّ: »ولمّا سمعوا أنّ الربّ تفقّد بني إسرائيل ورأى ما يعانونه من الذلّ«. جميلة هذه الكلمة، هنا يصبح الله كأنّه إنسان. كما الطبيب يتفقّد المريض، كما الأمّ تتفقّد ابنها، كما الملك يتفقّد شعبَهُ ورعاياه، ومدينته. هكذا فعل الربّ: تفقّد، جاء يزور شعبه في أعماق الذلّ والعبوديّة وصعوبات الحياة، وهو لا يزال يتفقّد كلّ واحد منّا، كلّ بيت من بيوتنا، كلّ عائلة من عائلاتنا. ولمّا سمعوا أنّ الربّ تفقّد بني إسرائيل. سمعوا. من أخبرهم؟ موسى وهارون أخبراهم.

إذًا سمعوا وسوف يرون بعيونهم. ولكن السماع هو الخطوة الأولى. سمعوا أنّ الربّ تفقّد، أنّ الربّ رأى. إلهنا ليس كالأصنام. هو يرى.له عينان وتريان، له أذنان وتسمعان، له فم ويتكلّم. هو بعيد كلّ البعد عن الأصنام الصمّاء، عن الأصنام العمياء، عن الأصنام البكم. رأى ما يعانونه من الذلّ. أجل، الربّ ليس في أعلى سمائه، الربّ هو معنا، يعرف وضعنا، أفراحنا وأحزاننا، صعوباتنا وسهولاتنا. يعرف حياتنا كلّها.

ولمّا اختبر الشعب من خلال كلام هارون وأعمال موسى، حضور الربّ، يقول النصّ: »ركعوا ساجدين«. هو الإله الواحد ولا إله سواه. نحن نعبده ولا نعبد سواه، ولا ننتظر خلاصًا إلاّ منه. والركوع والسجود هما علامة الموافقة. آمين.

يعني ما قلتَ، يا ربّ، نؤمن به، وما فعلتَ نصدّقه، وما تطلبه نفعل. بدأت المسيرة بفعل إيمان. وفهم الشعب أنّ الربّ تفقّد. ورأى، فما بقي لهم سوى أن يركعوا ساجدين ويسلّموا حياتهم للربّ.

يا ليتنا نتعلّم في صعوباتنا هذه الطريق. نسمع ما يفعله الربّ، نرى ما يعمله، فنركع ساجدين. آمين.

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM