موسى يرجع إلى مصر

 

موسى يرجع إلى مصر

أحبّائي، الربّ يكون معنا ويرافقنا حتّى تكون كلمته سراجًا لخطانا ونورًا لطريقنا. ونتابع قراءة سفر الخروج مع عنوان جديد: موسى يرجع إلى مصر.

فرجع موسى إلى يترو حميه وقال له: »دعني أرجع إلى بني قومي الذين في مصر...«. فأجابه يترو: »اذهب... وبينما موسى في الطريق، لاقاه الربّ في مكان للمبيت وحاول أن يميته... فانصرف عنه. كانت قد قالت: »عريس دم، من أجل الختان« (4: 18 - 26).

1 - موسى وعائلته

نتذكّر هنا أوّلاً عائلة موسى. موسى ترك مصر، هرب من الملك خوفًا،  ولجأ إلى مِدْيان قرب شبه جزيرة سيناء، وهناك تزوّج. وكان حموه يترو وزوجته صفّورة. ويقول النصّ: كان له ولدان. رجع موسى إلى يترو حميه وقال له: دعني أرجع إلى بني قومي. نرى هنا أنّ موسى بدأ فأطاع الله. نفّذ ما طُلب منه. فإذا كان يريد أن يُخرج الشعبَ من مصر، فعليه أن يعود إلى مصر.

ويتابع النصّ: »«لأرى هل هم أحياء بعد»؟ كلمة قاسية. أمّن موسى على نفسه، هرب إلى البريّة من غضب فرعون، وترك شعبه يتألّم. وربّما يموت هذا الشعب وموسى في سلام. تشبّه موسى أقلّه في فترة موقّتة بالأجير الذي هو بعيد كلّ البعد عن الراعي. الأجير عندما يرى الخطر يذهب، يمضي، يترك الخراف لأنّه أجير. أو يكون ذلك الذي يترك الذئب فيأتي ويخطف ويقتل.

ولكن هذا اللقاء مع الربّ بدّل نظرة موسى. نستطيع أن نقول بدأ يغيّر له الأمور العديدة. أعطاك الربّ ما أعطاك من مواهب، وأنت تترك إخوتك وحدهم في الضيق والعذاب والعبوديّة. هذا ما يسمّى الأنانيّة. وهنا يشبه هؤلاء الناس الغني ولعازر (لو 16). الغني بكلّ ماله لم ينظر إلى لعازر الفقير، لعازر الذي اسمه العون، الله يعينني، الله عوني. إذًا تركه، واهتمّ بأن يتنعّم في المأكل، في المشرب، في اللباس وغيرها، هو وإخوته. وربّما كان إخوته مثله يعيش كلّ واحد وحده في أنانيّة منغلقة.

وموسى أيضًا كما نقول في العاميّة، دبّر أمره، وتركهم في حالهم. هذا ما حدث في أيّ حال ويحدث في الحروب. الأغنياء، الأقوياء، أصحاب الصحّة، يهربون ويتركون الفقراء، يتركون الضعفاء، يتركون الذين لا يستطيعون أن يهربوا، يتركونهم وشأنهم. ولكن هذا اللقاء مع موسى بدّل موسى. إتّخذ قراره: أرجع إلى بني قومي، أرى بني قومي، هل هم أحياء بعد أم لا. فأجابه يترو:»إذهب بسلام«. بمعنى ليرافقك سلام الربّ، لترافقك بركة الربّ.

2 - كلام الربّ في الواقع اليوميّ

وهذا النداء الذي أرسله الربّ إلى موسى في عمق قلبه، صار تجسيدًا في الواقع. ماذا حدث؟ جميع الذين يريدون قتلك ماتوا. خاف موسى من فرعون، خاف من أحد الفراعنة، والآن هذا الفرعون مات. فكأنّ الربّ يتبيَّن من خلال الواقع اليوميّ والحياة اليوميّة، أنّ الطريق مفتوحة أمام موسى ليرجع إلى مصر. من هنا يقول المزمور: يرسل ملائكته فيحملونك لئلاّ تصطدم رجلك بحجر. هناك صعوبة الفرعون: أزلنا هذه الصعوبة.

نلاحظ قبل ذلك الصعوبات العديدة التي أزاحها الربّ. بدأ يقول: لا يصدّقونني، لا يستمعون لكلامي، فأعطاه المعجزات. بدأ يقول: أنا لا أعرف أن أتكلّم، فأعطاه الفم واللسان. بدأ يدلّ على أنّه خائف، فأعطاه هارون. الربّ هو الذي يسهّل الأمور. يكفي أن نستسلم له. أن نقبل بالمشروع الذي يقدّمه لنا. وهنا الصعوبة، الصعوبة التي كان يخاف منها موسى، زالت. الفرعون الذي طلب نفس موسى بعد أن فعل ما فعل حين قتل ذلك المصريّ، الصعوبة الكبرى زالت. جميع الذين يريدون قتلك ماتوا، يعني الفرعون وحاشيته.

والربّ هو الذي حدّث موسى. لا شكّ على المستوى البشريّ. عرف موسى وهو الذي يتنصّت للأخبار، وهو الذي يبحث عن الأخبار، عرف بموت فرعون. ولكن الربّ جعله يفهم أنّ الخطر، خطر فرعون زال. يعني جاء الربّ يؤكّد لموسى ما عرفه من البشر. وهكذا لا يكون موسى عاد إلى مصر انطلاقًا من حسابات بشريّة. ولكن بناء على نداء الربّ. بناء على إرسال الربّ لموسى كما قلنا.

الربّ هو الذي سيرافق موسى حتّى النهاية، سيرافقه خطوة خطوة، سيمشي معه، مع ضعفه، مع تلكّئه، مع معارضته، مع تراجعه. سيبقى معه. الظروف دلّت على أنّ الطريق مفتوحة أمام موسى، والربّ هو الذي كلّمه في داخله. ونلاحظ آية 19: »وقال الربّ لموسى في مِدْيان«. يعني هو بعيد جدٌّا، لا يسمع شعبه، لا يسمع صراخ شعبه، لا يرى مسخّريهم يضربونهم. هو لا يرى، وإذا كان لا يسمع ولا يرى، فقلبه لا يفهم ولا يحسّ. ولكن الربّ أوصل صوته إلى موسى في مِدْيان، في الأرض البعيدة عن مصر. وإذا كان الربّ سمع صراخ العبرانيّين، فسيعلّم موسى كيف يسمع.

3 - وترك موسى مِدْيان

عند ذاك قطع موسى كلّ العلاقات بمِدْيان. ونقرأ في الآية 20: »أخذ موسى امرأته وولديه وأركبهم على الحمير ورجع إلى أرض مصر«. نعم في الأصل، كان موسى قد أراد أن يذهب إلى مصر ويترك امرأته وولديه عند حميه يترو. وهكذا يكون ذهابه رحلة صغيرة، مشوارًا، يزور إخوته ويعود. أمّا الآن وبعد أن أفهمه الربّ ما أفهمه، فقطع كلّ العلاقات بالأرض التي ارتاح فيها وما عاد ينظر إلى الوراء... وعلى الشعب أن يفعلوا مثله حين يتركون مصر.

أخذ امرأته وولديه. كأنّي به لن يعود إلى مِدْيان. وفي الواقع قد يمرّ في مِدْيان ويتابع الطريق حتّى موآب، حتّى الأرض المقدّسة. وأركبهم الحمير ورجع إلى أرض مصر. هنا نستطيع أن نقول ما فعله يوسف عندما أخذ مريم والطفل وذهب إلى مصر خوفًا من هيرودس. ولكن عند موسى زال الخوف بعد أن مات جميع الذين يريدون قتله. أمّا عند يوسف، فالخوف حاضر من خلال هيرودس. ويتابع النصّ في الآية 20: وأخذ موسى عصا الله السحريّة بيده. في الواقع كلمة سحريّة أضيفت إلى النصّ، هي غير موجودة.

أساسًا أخذ موسى عصا الله بيده. بيده، يعني هو الربّ يمسك بيد موسى، والربّ حاضر مع موسى. أراد موسى أن يمضي، وكلّ ما أراده  هو أن يزور إخوته، أن يرى حالهم، كأنّي به قبِلَ بنصف المهمّة. ولكن الربّ هو حاضر ولن يقبل بنصف المهمّة. من لم يعطِ كلّ شيء لم يعطِ شيئًا. وإن أراد الربّ منّا أن نقوم بالمهمّة، فهو يطلبها حتّى النهاية.

»وقال الربّ لموسى: أنت راجع إلى مصر« كأنّه يقول له: أهنّئك، عافاك. ولكن لا تبقَ عند العبرانيّين بسلام، وتنسَ الشهادة المطلوبة منك. فاصنعْ أمام الفرعون جميع العجائب التي جعلتك قادرًا على صنعها. إذًا لا تفعل هذه العجائب فقط أمام شعبك. هذا لا يكفي، بل عليك أن تذهب أمام الفرعون. فكما أنّ على شعبك أن يسمع بعد أن يرى، كذلك على الفرعون أن يسمع بعد أن يرى. فيلاحظ الجميع العجائب التي جعلتك قادرًا على صنعها.

4 - الربّ سيّد الأحداث

أنا جعلتك قادرًا على صنعها، بقدرتي تصنعها، لا بقدرتك، لأنّ الإنسان مرّات عديدة يحسب نفسه أنّه صار كلّي القدرة. لا سمح الله صار مثل الله كما نقول «بنتوكراتور»«: يمسك كلّ شيء بيديه. لا. فنحن أبعد ما نكون عن خاتم لبّيك الذي به نصنع ما نريد. نحن أبعد ما نكون عن عالم السحر. أنا جعلتك قادرًا على صنعها.

ومنذ البداية، ينبّه الربّ موسى إلى ما سينتظره. هكذا سبق له ونبّه أشعيا «هاءنذا أرسلْني». وأفهمه أنّهم سوف ينظرون ولا يرون، سوف يسمعون ولا يفهمون، سوف تكون قلوبهم قاسية. نبّه الربّ مسبقًا أشعيا، وهنا ينبّه مسبقًا موسى. عندما تصنع هذه المعجزات، يصبح قلب فرعون قاسيًا. لكن التعبير هنا، يدلّ على أنّ الله هو سبب كلّ شيء، هو أساس كلّ شيء. يقول: وأنا أقسّي قلبه فلا يطلق شعب إسرائيل من البلاد.

في الواقع عندما يرى الفرعون قدرة تجاه قدرته، قوّة بوجه قوّته، لن يقبل. وإذا كان سيسمح برحلة قصيرة، فهو الآن لن يسمح بشيء أبدًا. الكبرياء البشريّة تقف عائقًا في وجه الله سنقرأ فيما بعد أنّ فرعون قسّى قلبه. أمّا هنا فالربّ قال: »أنا أقسّي قلب فرعون فلا يطلق شعب إسرائيل من البلاد«. تعبيران مترادفان. الربّ عندما يصنع العجائب يكون السبب في ردّة فعل فرعون. وفرعون، وفي قلبه ما في قلبه من كبرياء، يرفض أن يسمع ؟ خصوصًا لموسى هذا الراعي الذي لا يحمل من السلاح إلاّ العصا. ولو كان موسى ملكًا حثّيٌّا (الحثّيّون كانوا في تركيا) لفكّر فرعون. لو كان موسى ملكًا من ملوك الآشوريّين في العراق، لفكّر فرعون. لو كان من الملوك البابليّين لفكّر فرعون. أمّا الآن، فمن هو هذا الذي يأمرني، الذي يريدني أن أطيعه؟ لهذا تقسّى قلبه.

5 - قل لفرعون

أرسل الربّ موسى: قل لفرعون: هذا ما قال الربّ. فمتى يقول الأصغر للأكبر، ماذا عليه أن يفعل أو بالأحرى يأمره بأن يفعل؟ لكن موسى لا يتكلّم باسمه.  قل لفرعون: هذا ما قاله الربّ. الربّ هو الذي يقول، وموسى هو صوته، هو باللغة المحكيّة مكبّر للصوت، مجسّد الصوت، هو يتكلم باسم الله. الربّ يأخذ فم موسى ويتكلّم به كما أخذ فم الأنبياء، أشعيا، إرميا، وتكلّم بها، كما يأخذ كلّ فم من أفواهنا ويتكلّم بها. هنا يبقىعلينا أن نكون طائعين.

قل لفرعون: »هذا ما قال الربّ. إسرائيل ابني البكر. أقول لك أطلق ابني من مصر ليعبدني. وإن رفضت أن تطلقه أقتُل ابنَك البكر«. هنا نلاحظ أنّ الكاتب رجع إلى الوراء. هذا النصّ كُتِب مئات السنين بعد الخروج. إنطلق الكاتب الملهم من موت ابن الفرعون، واعتبر أنّ الربّ هو الذي قتل ابن الفرعون البكر لأنّ الفرعون يرفض أن يعطي الحياة والحريّة لابن الربّ البكر الذي هو شعب إسرائيل، بما عنده من مهمّة تهيئة مجيء يسوع المسيح. فالكتاب المقدّس يقرأ تاريخ البشريّة حتّى يصل إلى يسوع المسيح.

أطلقْ ابني من مصر ليعبدني. فالعبادة هي لله. ليست العبادة للبشر بل العبادة لله. العبادة يعني التعلّق، العبادة لله تجعلنا كبارًا. أمّا العبادة للبشر فتُذلّنا، تجعلنا صغارًا. هو الربّ يهدّد فرعون. والربّ بقدرته يستطيع أن يهدّد أكبر ملك في ذلك الزمان وفي كلّ زمان. على المستوى البشريّ، الكاتب الملهم عاد إلى الوراء. أمّا على المستوى الإلهيّ فالله هو الذي ينظر إلى الأمام. له مخطّطه، له مشروعه، وهو ينفّذه شيئًا فشيئًا بواسطتنا، بواسطة أيدينا الضعيفة، بواسطة موسى، بواسطة كلّ واحد منّا، لأنّ الربّ لا يريدنا عبيدًا بل أحرارًا، لا يريدنا مستعبَدين، بل عابدين للربّ الإله، عاملين من أجل ملكوته. هذا هو معنى النصّ الذي عنوانه موسى يرجع إلى مصر كما في سفر الخروج (4: 18-23).

،رجع موسى إلى مصر، لم يكتفِ بأن ينظر إلى حال إخوته. بل أرسله الربّ إلى فرعون، وحمّله قدرته، ووعده بحضوره. أترى موسى سيخاف أم يتقوّى بقوّة الربّ؟ هذا ما قاله بولس رافضًا الضعف البشريّ قال: «أنا قويّ بالذي يقوّيني». وهذا ما نقوله نحن أيضًا كلّ مرّة ينادينا الربّ: نحن أقوياء بالربّ الذي يقوّينا. فهو قادر، إن شئناأن يفعل بنا عظائم. آمين.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM